الرؤية إلى الماضي.. انطلاقا من "لسان الحال"

بقلم عبد السلام بنعبد العالي

لو استعملنا لغة رياضية لقلنا إن كل تأريخ للأفكار، مثل إحداثيات نقطة، يتوقف على المرجعيات التي نسنده إليها. إلى هذه المرجعيات تنسب الأحداث، مثلما تنسب الإحداثيات، فتتخذ معناها وقيمتها. لكن غالبا ما تُنسى نسبية هذه المرجعيات وجوازها، كي تتخذ صبغة ضرورية وتغدو معلمة المعالم، فتصبح الحجر الأساس الذي عليه يقام كل تأريخ، وإليه تُسند كل الأحداث، ونسبة إليه تتخذ قيمتها. ليست قليلة الأمثلة الدالة على ذلك، ولكي لا نحشر أنفسنا في تاريخ الأحداث السياسية والإجتماعية، لنكتف بمجال تاريخ الأفكار. ففي مجال الفلسفة على سبيل المثال أرخت الفلسفة القديمة نسبة إلى سقراط. هناك من قبله، ثم هناك من بعده. هناك ما قبل سقراط، ثم هناك من بعدَه من كبار السقراطيين، ثم صغارهم. هذا شأن الفلسفة الحديثة أيضا، هناك كل ما قبل ديكارت ثم من جاء بعده، إلى أن نصل إلى هيجل حجر زاوية الفلسفات المعاصرة.

الأمر ذاته نلحظه في تواريخ الأدب. ما يثير الإنتباه في هذا المجال هو أن المرجعيات كانت تؤخذ في مجال خارج تاريخ الأدب ذاته. ذلك ما نلمسه في تحقيبات أدبنا العربي التي كنا نتخذ فيها مرجعا الأحداث السياسية وقيام دول وانهيار أخرى.

السمة ذاتها طبعت الأدب الغربي. هذا ما سبق لرولان بارط أن أشار إليه عندما بين المكانة الرئيسية التي اتخذتها النزعة الكلاسيكية في تأريخ ذلك الأدب. وهو يرى أنه يكفينا، دلالة على ذلك التمركز، التنبيه إلى الفضاء الذي ما زالت معظم رسائل الدكتوراه، يتم الدفاع عنها داخله. إنه قاعة لوي ليار في جامعة السوربون: "علينا أن نحصي عدد الصّور التي تعجّ بها جدران تلك القاعة. إنها الآلهة التي تهيمن على المعرفة الفرنسية في مجموعها: هناك كورني وموليير وباسكال وبوسويي وديكارت وراسين، وكل هؤلاء تحت رعاية ريشوليو".

كل حركة تقاس، وكل حدث يوزن نسبة إلى هذا المركز، فما يتقدم المركز أو يلحقه يعتبر تمهيدا له أو تخليا عنه: "من يتقدم الكلاسيكية يمهد لها، ومن يلحقها يستعيدها أو يتخلى عنها".

قد يقال إن الزمان التاريخي محتاج دوما لمرجعيات يسند إليها، وهذه المرجعيات يمكن أن يستعاض عنها بغيرها. فاتخاذ سقراط حجر الزاوية عند التأريخ للفلسفة الإغريقية، لم يمنع مؤرخي الأفكار من أن يزحزحوا هذه المركزية فيما بعد. فقد ينظر إلى سقراط كنقطة انحدار وليس كقطب محوري. ذاك ما سيقوله نيتشه على سبيل المثال.

غير أن المسألة لا تكمن في ضرورة اتخاذ مرجعيات بعينها، وإنما في الإستكانة إلى تلك المرجعيات واعتبارها مرجعيات مطلقة، ومعلمة المعالم. وهذا بالضبط ما وقع للنزعة الكلاسيكية في الأدب والفكر الفرنسيين حسب رولان بارط، لذا فهو يدعونا، ضد هذا التمركز حول النزعة الكلاسيكية، إلى إقامة تاريخ أدب تراجعي يقلب هذه النزعة التي طبعت تاريخ الأدب الفرنسي، بل طبعت كل أشكال التأريخ مع ما اقتضته من تنويع ضروري للمراكز. لا يعني قلب "نزعة التمركز حول الكلاسيكية" إهمال تواريخ الأدب، إلا أنه لا يعنى كذلك الاستغناء عن كل تمركز، وإنما استبداله، ولكن، ليس بمركز آخر، وإنما بـ"زحزحة المركز" الذي يجعل ذلك التاريخ نفسه يحوم حوله. يتعلق الأمر بإقامة تاريخ تراجعي "ينير فيه الحاضر الماضي"، أو على حدّ تعبير بارط نفسه: "عوض النظر إلى تاريخ الأدب من خلال منظور تكويني مغلوط، ينبغي أن نجعل من أنفسنا نحن مركز هذا التاريخ. سننطلق من القطيعة المعاصرة الكبرى ونجعل هذا التاريخ ينتظم حول تلك القطيعة. وعلى هذا النحو سنتكلم عن الأدب الماضي انطلاقا من لغة الحاضر، بل انطلاقا من لسان الحال".

ها هنا تغدو العلاقة بالمرجعيات التقليدية علاقة انفصالية "تجعل التاريخ برمته ينتظم حول القطيعة المعاصرة"، وتجعلنا نرتبط بماضينا بمقدار ما ننفصل عنه. وهذا يعني أن التاريخ "التراجعي" تاريخ انتقادي تقويضي. إلا أن هذا الانتقاد يظل هو السبيل الوحيد لتقديس من ينظر إليهم "تاريخ المرجعيات الكبرى" على أنهم "آلهة الفكر"، والأهم من ذلك أنه هو الطريق الممكن لرصد "الحدث" الفكري في وحدته وتفرّده. ذلك أن التاريخ التقليدي، إذ يجعل كل حدث عالقا بالمركز، إما تمهيدا أو عودة واسترجاعا، فإنه يذيبه في حركة مستمرة، ويحشره ضمن الكلّ الموحّد المتمركز في المرجعية المحال عليها. أما التاريخ التراجعي فإنه، إذ يحاول خلخلة المركزية، ينظر إلى الأصول من حيث هي مشتقات الفروع، ويرى إلى "الأحداث" الفكرية والأدبية كتحولات تعمل كتأسيس وتجديد للتأسيس.

المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A4%D9%8A%D8%A9-%D...

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك