مشروع كانط للسلام الدائم: الفلسفة والآثار

قيصر الجليدي

تزداد حاجة البشر للسِّلم كلّما ازداد شعورهم بأنهم مهدّدون في وجودهم وفي كينونتهم، وأن حياتهم في خطر دائم، بفعل تأصّل العدوان فيهم وأسبقية الحرب عندهم على السلم، فالحرب طبعية في الإنسان، والسِّلم اصطناعي يُبنى بناء، "الحرب بحد ذاتها ليست بحاجة إلى سبب خاص؛ بل يبدو أنها متجذّرة في الطبع البشري، لا؛ بل تعدّ عملا نبيلا ينزع إليه الإنسان حبا في المجد، بمعزل عن أيّ دافع مصلحي"(1)، لذلك سيرى الكثير من الفلاسفة المحدثين أن غريزة الحفاظ على البقاء من ناحية (توماس وهوبس) والرغبة في البقاء من ناحية ثانية (باروخ سبينوزا) وإرادة الحياة من ناحية ثالثة (فريديريك نيتشه) هي الثابت الأساسي في الهوية البشرية، وشرط إمكان وجود الإنسان بما هو كائن بيولوجي أولا وبما هو كائن يسعى -بلا هوادة- لتحقيق الإنسانية الكاملة فيه. فالإنسألا يولد إنسانا عند كانط(2)؛ بل يصبح كذلك بفعل التربية والقيم الأخلاقية والسياسية والجمالية، فـ"لا يستطيع الإنسان أن يصير إنسانا إلاّ بالتربية، فهو ليس سوى ما تصنع به التربية"(3)، وهو عند الولادة كائن متوحش بامتياز، يفتقد للانضباط افتقاده لبشريته، ولذلك كتب كانط منذ الجملة الأولى (المقدمة) من كتابه "تأمّلات في التربية": "الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يجب تربيته. ونقصد فعلا بالتربية الرعاية والانضباط والتعليم...؛ لأن الانضباط يحول الحيوانية إلى الإنسانية"(4).

إذا كان الفيلسوف القرطبي العربي ابن طفيل قد بيّن في قصته الفلسفية "حي بن يقظان" أنه بإمكان الإنسان أن يتعلّم دون معلّم، وأن يكتسب -بالتجربة أولا وبالتأمل والتفكير ثانيا- مختلف أشكال المعرفة من أكثرها بساطة (المعرفة الحسية) إلى أكثرها تجريدا (المعرفة العقلية) إلى أكثرها تعقيدا (المعرفة الحدسية)؛ فإن كانط يبيّن أن المعرفة عند البشر لا يمكن أن تكون دون معلّم، فالإنسان "يأتي إلى العالم وهو في حالة خام"، ولذلك وجب أن يقوم آخرون بتعليمه، فـ"كل جيل يربي الجيل الآخر"(5) في نوع من المراكمة التربوية والأخلاقية والقيمية التي تهدف بلوغ مرتبة الإنسانية الكاملة، ففن التربية يستدعي من المربي أن يحسن وضع مخطّطات تربوية تتجاوز الوضع الراهن للتربية نحو وضع أفضل: "يجب ألا يربى الأطفال فقط بحسب حالة النوع البشري الراهنة؛ بل بحسب الحالة الممكنة التي تكون أفضل منها في المستقبل؛ أي وفق فكرة الإنسانية وغايتها الكاملة"(6).

إن هذا المدخل التربوي والأخلاقي والقيمي الذي اخترناه لأنفسنا للنظر في أثر كانط "مشروع سلم دائم" يهدف إلى التأكيد على أمرين أساسين، سيكون لهما عظيم الأثر في التفكير الكانطي حول قضايا الحرب والسلم والعنف القاتل المدمّر، الأمر الأول (وهو أمر محبط ومأساوي ومرعب في آن) يتمثل في التسليم مع كانط في أن الأصل في الإنسان هو التوحش الذي يهدد الإنسانية باستمرار، "فالانضباط لا يتمثّل إلاّ في ترويض التوحّش"(7)، فالإنسان كما يقول هوبس "ذئب للإنسان"، وهو "عدواني بطبعه" عند فرويد، و"ماكر بطبعه" عند ماكييفيل، و"يَعْرِفُ الأفضلَ ولكنه يأتي الأرذل" كما يقول سبينوزا. أما الأمر الثاني فهو يتعلق بالأفق الذي يفتحه كانط للبشرية لتحقيق الخلاص من هذا الوضع المأساوي الذي وجدت نفسها فيه، ومن هذه الواقعية المرّة التي تنذر بفناء النوع البشري، إنه أفق التربية والسعي الدائم لتحقيق أفضل ما يمكن أن تصل إليه الإنسانية، فالإنسان مشروع أخلاقي كوني مفتوح، والإنسانية عند كانط فكرة تعديلية متغيّرة باستمرار؛ بحيث لا يمكننا أن نجزم أن الإنسان -في لحظة من لحظات التاريخ- قد انتهى إلى تحقيق إنسانيته الكاملة التي تظل هدفا يسعى إليه باستمرار ولا يمكن لجيل من الأجيال استنفاذه، لذلك "لا بد من الحرص على التنشئة الخلقية، فينبغي ألاّ يكون الإنسان مؤهّلا لشتى أنواع الغايات فحسب؛ بل ينبغي أيضا أن يكتسب إحساسا يجعله لا يختار إلاّ الغايات الحسنة، وهي التي يتبناها بالضرورة كل شخص ويمكن أن تكون في الوقت ذاته غايات كل إنسان"(8).

لماذا كتب كانط "مشروع سلم دائم"؟ هل بمستطاع الإنسان المتوحّش أصلا أن يطمح إلى تحقيق سلم دائم، بل أن يحقق ولو نوعا من السلم العابر؟ هل تستطيع التربية الأخلاقية لوحدها أن تأتي على ما في الخزّان البشري من توحش وعنف وقدرة على إلحاق الأذى بالآخرين؟ لو كانت التربية الأخلاقية كافية فلماذا ابتكر الإنسانُ الدولةَ وحصّنها بالقوانين، وزوّدها بكل أشكال العنف الشرعي الردعي والقمعي في آن واحد؟ هل يستطيع مشروع كانط نحو سلم دائم أن يساعدنا على التفكير في واقع الحروب المعاصرة العنيفة بشكل غير مسبوق؟ هل ما زال مشروع كانط راهنيا اليوم؟ هل يمكن لمهندسي الحروب اليوم وتجار الأسلحة وناهبي الشعوب أن يعيروا أدنى اهتمام للسلم الدائم الكانطي؟ هل تستطيع البشرية اليوم -وقد أظهرت أشكالا بشعة من القتل والتدمير والعنف المعمّم- أن تصنع السلم باسم الحق من ناحية والتزاما بالقانون من ناحية ثانية؟ هل تستطيع الشعوب -بما تتميز به من اختلافات عرقية ودينية ولغوية وثقافية، وما يشقّها من تضارب في المصالح الاقتصادية والأمنية والعسكرية -أن ترقى فوق ما يفرّقها لتحقيق التقارب والتعارف والسكن في العالم سويا وتحقيق العدل والحرية بينها؟ كيف نحقق سلما دائما في ظل انتشار مروّع لكل أشكال العنف والقتل؟(9) كيف يستطيع الإنسان أن يتوقّف عن استضعاف الآخر ما دام يقدر على فعل ذلك، ومادام يجد من الفلاسفة والمفكرين من يبرّر له ذلك؟(10)- هل بمستطاعنا أن نقنع الأقوياء بأن يتخلّوا عن قوتهم، أو أن يكبحوا نزواتهم، أو أن يتنازلوا عن طيب خاطر عمّا يمكنهم الاستحواذ عليه بيسر؟ هل بمستطاع العقل أن يثني الأقوياء عن الإخلاص لغرائزهم من أجل الالتزام بأوامر العقل وحده؟ أيّ حكمة فجئية يمكنها أن تصيب الأقوياء حتى تقنعهم بعبثية شهواتهم وآثارها التخريبية على الجنس البشري؟ هل لنا أن نأمل في أن يتحوّل المستبد حكيما وفيلسوفا في لمح البصر ليصبح من دعاة العدل والحق والقانون والسلم؟ ألا يكشف لنا التاريخ الإنساني من ناحية والتحليلات الفلسفية المختلفة من ناحية ثانية مدى طوباوية هذه "الأحلام الصبيانية"؟ هل للواحد منّا أن يأمل في تحقيق سلامه الداخلي حتى يكون بإمكانه أن يأمل في وقت لاحق في تحقيق السلام داخل دولته وفي علاقة دولته بالدول الأخرى؟ ما الذي يسوغ لنا الحديث عن سلم يكون كونياً ويشمل كل الدول ومع ذلك يكون دائماً؟ من أين لنا حتى نأتي برجال حكماء وعقلاء ومتخلقين كالقديسين والأنبياء حتى يشاركوا في تأسيس هذه السلم الدائم؟(11) أليس هذا النوع من الأمل هو مبالغة في حسن الظن بالبشر واعتقاد واهم في إنسانية سامية ورفيعة خلقيا؟ أليس من المعقول والواقعي أن نعمل على الحد من الحروب عوض التفكير في تحقيق السلم الدائم؟ هل هناك مكان على وجه الأرض يمكن أن نجد فيه طينة من البشر راضية تمام الرضى عن وضعها؛ بحيث لا تفكّر البتّة في تغيير وضعها وتعيش في سلام دائم؟ أليست الرغبات والنزوات وحب التملّك والإكثار منه هو ما يؤدّي إلى الحرب باستمرار؟ ولكن أليس الصراع بين البشر هو ما أدى ومازال يؤدي إلى نوع مخصوص من التقدّم؟ هل هناك لحظة سلم باعتبارها لحظة مثالية -عصر ذهبي- عشناه فيما مضى أو نريد أن نعيشه لاحقا؟ أليس من حق الإنسان أن يطمح إلى تحقيق مثل هذه اللحظة؟ ما هو السلم الذي نريده والتاريخ البشري يصدمنا يوميا بما يقدّمه من صور مرعبة للتقتيل والتدمير والتهجير الجماعي والقسري والتجويع؟

كيف يكون السلم مشكلا فلسفيا وهو الذي نستدعيه ليحل كل مشاكلنا في علاقتنا بعضنا ببعض؟ هل السلم هو مجرد غياب للحرب (حالة اللاحرب) أو هو شيء آخر أكثر من ذلك؟ ألا يمكن أن تكون حالة اللاحرب استعدادا متواصلا للحرب، فحرب الكل ضد الكل التي تسم حالة الطبيعة كما يصوّرها هوبز في كتاب "التنين" لا تعني فقط الحرب الفعلية؛ بل تعني أيضا وبالخصوص الحرب النفسية، والاستعدادات المتواصلة للحرب -"الحرب الباردة"- وهي لعمري أقوى من الحرب الفعلية؟ ألم تكن هذه "الحرب الباردة" سيفا سلّطه الأقوياء (الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي) على كل الدول الأخرى في العالم واضطروها لتصطف وراء واحدة منها لتتقّي شر الأخرى؟ أليس ما عاشته المعمورة طوال فترة "الحرب الباردة" هو نوع من "توازن للرعب" تكون بمقتضاه الحرب هي ما نخاف منه، وهي ما يمكن أن يندلع في أيّ لحظة باعتباره إمكانية من إمكانيات عدّة؟ لكن هل اندلعت الحرب فعلا بين القوتين العظميين اللتين اقتسمتا السيطرة على العالم طوال القرن العشرين؟ هل حالة "الحرب الباردة" هي حالة حرب أو حالة سِلْم أو هي في منزلة بين المنزلتين فلا هي بالحرب الحقيقية ولا هي بالسلم الفعلي؟

 عندما ندعو إلى السلم فهل ندعو الأصدقاء أم الأعداء؟ أليس السلم هو ما يتم الاتفاق بشأنه بين الأعداء؟ وهل يسمى سلما عندما نمضيه مع عدو؛ إذ كيف نتفق مع عدو على السلم وهو لا يزال عدوا؟ أليس بقاء العدو على عدائه إنذارًا بإمكانية اندلاع الحرب في أي لحظة؟ لكن إذا لم نُمض اتفاق السلم مع العدو هل نستطيع أن نتحمّل تبعات حرب لا تنتهي؟ هل هناك حرب دائم؟ هل هناك سلم دائم؟ هل بمستطاع الفيلسوف أن يفكّر في السلم دون أن يفكّر في الحرب؟ أليست البشرية محكومة بأن تعيش حالات تناوب متّصل بين الحرب والسلم، وأن السلم الدائم هو ما نظل نسعى إليه دون أن ندركه؟ هل بإمكان البشرية أن تتغلّب على العنف بوسائل أخرى غير العنف؟ هل يمكن مغالبة العنف بالسلم مثلما يدعو إلى ذلك غاندي؟

1-      لماذا "مشروع سلم دائم"؟(12).

ما الذي تستطيع فلسفة الأنوار الإنسانوية أن تقدّمه لحل مشكل الحرب وبناء السلم الدائم؟ هل مشكل الحرب والسلم هو مشكل فلسفي أو مشكل قانوني فقهي أو مشكل أخلاقي أو مشكل سياسي أو هو كل هذا في آن واحد؟ بما أن مقاربتنا للموضوع ستكون فلسفية بالأساس فإننا سنركز النظر على هذا الجانب بالذات، ولكن دون أن نهمل بقية الجوانب الأخرى؛ لأنه ليس بإمكاننا أن نتصوّر الفلسفة -باعتبارها تفكيرا في العالم- تظل بمعزل عن القضايا القصوى للجنس البشري، وما يمكن لمثل هذه القضايا أن تثيره من إشكالات تتعلّق بالأبعاد الإنسانية في تنوّعها واختلاقها. للحديث عن السلم كمسألة فلسفية سنعود إلى "التتمّة الثانية" من كتاب "مشروع سلم دائم"، والتي تحمل عنوانا غريبا للغاية: "بند سرّي لمشروع سلم دائم"، وغرابته تأتي من طابعه المتناقض؛ إذ كيف يمكن الحديث عن مفاوضات بين شعوب أو بين دول تراهن على تأسيس السلم العالمي أن تظل ذات طابع سرّي؟ سرّية هذا البند تعود إلى كون من يقترحه لا يريد أن يعرّض كرامته للشبهة حسب كانط؛ لكن أيّ شبهة يمكنها أن تلحق بأي إنسان يريد المشاركة في إقامة السلم العالمي؟ ينص هذا البند على الأمر التالي: "ينبغي على الدول المتأهّبة للتحارب أن تأخذ بعين الاعتبار الشروط التي يحدّدها الفلاسفة كأسس لإقامة السلام الدائم بين البشر"(13)لا يوافق كانط على النظرية الأفلاطونية التي يمكن بمقتضاها "أن يصبح الملوك فلاسفة أو الفلاسفة ملوكا"(14)؛ بل إنه يدعو ألا يتمنّى أحد الجمع بين السلطتين: سلطة الحكمة وسلطة الحاكم؛ "لأن ولاية السلطة تفسد -حتما- على العقل رأيه الحر"(15)؛ فالسلطة تسلّط وتحكُّم، وهو ما يتناقض مع الحكمة/الفلسفة كممارسة نقدية حرّة ومستقلّة، ولكن ذلك لا يعني أن يستقيل الفيلسوف من الانهمام بالشأن العام، ولا يجب على الحاكم أن ينسى الاستفادة من مواهب بعض محكوميه؛ بل إنه من الحكمة أن يسترشد الحاكم (السلطة التشريعية بالخصوص) بتوجيهات الفلاسفة فيما يتعلّق بالمبادئ التي يجب اتباعها في التصرّف تجاه الدول الأخرى، بل يجب على الدولة أن تبادر بالتوجّه للفلاسفة لتستحثّهم على الإدلاء بآرائهم علنا وبكل حرية ليعبّروا عن "المبادئ العامة التي يتحتّم الاهتداء بها في معالجة موضوع الحرب والسلم (ولن يتوانى الفلاسفة عن القيام بهذا الدور إذا لم يُمنعوا منهـ)"(16)، خاصة وأن الفلاسفة يتقدّمون لمجتمعاتهم فرادى؛ لكونهم عاجزين -حسب كانط- على تشكيل جمعيات ونوادٍ، يمكنها أن تصبح جماعات ضغط كبيرة على المجتمع وعلى السلطة، بل هم في حِلٍّ من كل انتماء، وليس لهم رهانات من أي نوع، باستثناء كونهم يريدون أن نهتدي برأيهم فيما يُصلح حال الإنسانية ويُجنبها الحرب المدمّرة، لذلك عدّهم كانط "فوق شبهة الأعمال الدعائية المغرضة"(17) التي تراهن على سلطةٍ ما، أو ربح ما، أو حظوة ما. ولذلك فإنه عندما يتحرّر الفيلسوف من كل الرهانات السلطوية بإمكانه أن يفكّر في الحق من أجل الحق، وأن يلتزم بالواجب من أجل الواجب، وتلك هي مبرّرات انشغال الفلسفة بمشكل الحرب والسلم.

وفي المقابل لا يجب على الفقيه في القانون أن يخاف على منزلته داخل الدولة باعتباره ممثل السلطة العامة، وباعتباره مكلّفا بالحفاظ على "ميزان الحق"باستعمال "حربة العدالة"؛ ولكن الفقيه وحده لا يكفي في معالجة القضايا المصيرية التي تخص الشأن الإنساني الدولي، لذلك فإن "المطلوب من الدولة فقط هو أن تستمع للفيلسوف"(18)، وتهتدي بحكمته وإرشاداته؛ لأنه في الوقت الذي يحرص فيه فقيه القانون على فرض احترام القوانين الجاري بها العمل مستندا في ذلك لحربة العدالة -أي للعنف القانوني الردعي والعقابي في آن واحد، دون أن يلقي بالا يذكر لميزان الحق- فإن الفيلسوف لا يكتفي بالتأكيد على ضرورة فرض احترام القوانين؛ بل إنه يفكّر في فلسفة هذه القوانين وفي مدى احترامها لحقوق الإنسان وحقوق الشعوب. ففي الوقت الذي تكون فيه عينا الفقيه ملتفتة في كلّيتها للقانون، حريصة على احترامه، تكون عينا الفيلسوف موزّعة بين العمل على احترام القوانين والسعي الدائم إلى إصلاحها بما يستجيب للحقوق الإنسانية المتجدّدة؛ لأن غاية الفلسفة عند كانط هو العمل على تحقيق الإنسانية الكاملة في الإنسان عبر التاريخ: "تلك هي أخطر تجربة يتعرّض لها الفقيه عندما لا يكون فيلسوفا؛ لأن مهمّته تقوم فقط على تطبيق القوانين السارية المفعول، لا على البحث عمّا إذا كانت هذه القوانين في حاجة إلى إصلاح"(19)أين يجب أن نضع الفلسفة داخل الدولة: هل نضعها في المقدمة لتنير السبيل للسياسي واللاهوتي والطبيب وفقيه القانون؟ أم نضعها في المؤخّرة وفي مرتبة متدنّية جدا مثلما درج الألمان على فعل ذلك؟

عندما اندلعت الثورة الفرنسية في 1789 كان كانط قد بلغ الخامسة والستين من عمره، ولهذا يمكننا القول: إنه إذا كانت هناك فلسفة قد وجدت نفسها وجها لوجه مع أكبر حدث تاريخي من أحداث العصور الحديثة فهي فلسفة كانط(20)، التي استفادت أيّما استفادة من الثورة الكوبرنيكية ومن فيزياء قاليلي ونيوتن ومن كتابات الفلاسفة العقلانيين والنقديين ومن فلسفات العقد الاجتماعي؛ لتبني صرحا فلسفيا متماسكا يجمع بين العقل النظري والعقل العملي وملكة الحكم الجمالي الذوقي، ويؤسس لعصر جديد هو "عصر الأنوار" الذي شارك فيه كانط بكتاباته الرفيعة مثل مقاله "ما هي الأنوار؟" ففي ملاحظة من ملاحظات كتاب "نقد ملكة الحكم" -وهو الكتاب الثالث بعد "نقد العقل الخالص" و"نقد العقل العملي"- يقدّم كانط رؤية تأليفية لفلسفته في التاريخ، منوّها بالشعب الفرنسي وثورته التي استطاع بفضلها أن ينتقل من نظام استبدادي قديم إلى بناء منظومة سياسية وقانونية جديدة، تقطع مع كل أشكال القسر والإكراه الغاشم، وتفتح عهدا جديدا من الحريات والحقوق والتنظيم: "على هذا النحو، وبمناسبة تحويل شامل لشعب كبير إلى دولة؛ فقد جرى استعمال متكرر لكلمة تنظيم، وذلك بشكل ملائم جدا، وذلك لإقامة القضاء، إلخ؛ بل وهيئة الدولة بأكملها أيضا. وبالطبع يجب على كل عضو أن يكون في كلٍّ كهذا ليس فقط وسيلة؛ بل في الوقت نفسه غاية، وبما أنه سوف يعمل مع غيره من أجل إمكانية الكل، فإنه سيكون بدوره -من حيث موقعه ووظيفته- محددا من فكرة الكل"(21)فالإنسان ليس كائن العنف والحرب والقتل والتدمير فقط؛ بل هو أيضا كائن العقل والتدبير والتفكير والتنوير، وبقدر ما يمكننا أن نلاحظ تقدم البشر في وسائل القتل يمكننا أن نلاحظ تقدمهم في التحرر من الاستبداد والاضطهاد، فهل لنا أن نثق فيمن يدعو إلى السلم، ونحن نعلم ما يُخَبِّئه لنا البشر من قدرة على الإيذاء؟ أليست الدعوة لإقامة مشروع سلم دائم هو نوع من الفلسفة الصبيانية الحمقاء؟ أم أنه من حقنا المراهنة على العقل البشري الحر المشبع بالأخلاق الكانطية القطعية الذي يعدنا بالتقدم نحو التحرر الدائم؟ لماذا التفكير في "سلم دائم"؟

إن السلم والحق والعدل والحرية قيم عالية لا يمكنها أن تتحقّق إلاّ في ظل دولة يحكمها القانون، ولكن ليس أيّ قانون، إنه القانون الذي ينبني على العقل، القانون الذي سيأتي بعد ثورة على الظلم والقهر والاستبداد، فإذا كان الحيوان قد وجد من يرتّب له حياته بشكل خارجي وبشكل مسبق فإن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي تُرك لذاته، وليس له من حل للخروج من حالة التوحّش إلاّ التعويل على نفسه، فخلاصه لا يأتيه من الخارج أبدا، وليس لأيّ سلطة غير بشرية أيّ قدرة على تنظيم حياته، "فالحيوان بغريزته هو سلفا كل ما يمكن أن يكون؛ إذ سبق لعقل خارجي أن رتّب له كل شيء. أما الإنسان فلا بد له من استعمال عقله الخاص.. وعليه أن يحدّد لنفسه مسار سلوكه"(22) بشكل فردي عندما يتعلّق الأمر بحياته الخاصة وبشكل جماعي عندما يكون داخل الجماعة أو داخل الدولة. ولكن بما أن الأمر هنا يتعلّق بالدرجة الأولى بحياة الإنسان في علاقته بغيره من البشر فإن تنظيم الحياة العامة -اجتماعية كانت أو سياسية أو أخلاقية- يرتقي إلى مرتبة الواجب الذي يفرضه العقل العملي على كل كائن عاقل، وهو ما يتّضح لنا بشكل لافت من خلال الثورة الفرنسية التي كان كانط شاهدا عليها وكانت هي بالنسبة لكانط مصدر إلهام وفرصة لرأب الصدع بين عالم الضرورة وعالم الحرية، فرصة تمكّن شعبا من الشعوب بأن يكتب لنفسه دستورا ليس له من أساس هذه المرة غير الحق والعدل والنزوع إلى التقدّم لتحقيق أرقى أشكال الحرية، فما هو الحق إن لم يكن التحقّق الأقصى للحرية لكل مواطن داخل الدولة؛ أي ضمن تنظيم مدني يضمن الحرية لي بقدر ما يضمنها لكل فرد آخر: "ثمّة مبدأ من مبادئ السياسة الأخلاقية يقضي بأن ينتظم كل شعب في دولة وفق المفاهيم القانونية المتمثّلة في الحرية والمساواة؛ ولا يقوم هذا المبدأ على الحذر إنّما يبنى على الواجب"(23).

الغريب فيما كنا بشأن التفكير فيه هو أن كانط الذي ينتصر لدولة الحق والعدل والحرية والقانون والسلم ينتصر في آن واحد للعنف؛ أي للثورة الفرنسية، التي جاءت لتغيير هيئة دولة قائمة باستعمال كل الوسائل العنيفة، فهل يعني ذلك أن الحق لا يقوم إلاّ على القوّة، وأن إحلال حالة السلم والسعي إلى جعله دائما يشترط المرور ضرورة بحالة الحرب أو العنف؟ الثورة كما هو معلوم هي نوع من التعطيل المؤقت لكل قانون ولكل قيمة ولكل حرية ولكل حق، فكيف يمكننا أن نثق في ثورة تدّعي تحقيق الحرية للشعب وهي تتمرّد على كل القوانين والأعراف والقيم؟ أليست الثورة نوعا من "حرب الكل ضد الكل" حسب عبارة توماس هوبس عند حديثه عن حالة الطبيعة التي تسبق حالة الدولة وحالة المجتمع المدني؟ هل يمكن تأسيس دولة الحق ونحن على وعي أن البشر -وبقدر ولعهم بالحرية- هم ذوو ولع طبعي بممارسة الهيمنة على الغير؟(24) من يستطيع أن يقنعنا حقا بأن الثورة تأتي لوضع حد لكل أشكال التسلّط والعنف؟(25) فإذا كان "الإنسان حيوانا يحتاج إلى سيّد"(26) مثلما يقول كانط، فمن يضمن لنا ألا يتحوّل هذا السيد (الدولة الثورية الجديدة) إلى مستبد وهو حيوان في أصله؟ هل يمكن لفكرة الحق أن تغيّر من شأن هذا السيّد الجديد الذي سيكف على أن يكون فردا أو ملكا مستبدا ليصبح دولة قائمة بمؤسساتها وقوانينها التي تراقب المواطنين بقدر مراقبتها لمن هم في الحكم؟ أليس الحاكم في الدولة الحديثة خادماً لدى الشعب مثلما يبيّن بول ريكور؟

إن المشكل الأساس الذي يطرحه كانط على نفسه منذ كتاب "الأصول الميتافيزيقية لفلسفة الحق" هو كيف يمكن "ألاّ تقوم حرب البتّة، لا بيني وبينك، في حالة الطبيعة، ولا بيننا كدول مبنية"، ولذلك فإن السلم الذي يسعى كانط إلى جعله دائما ضمن فلسفته الأخلاقية والسياسية ليس مجرد مقولة منطقية أو فرضية فلسفية؛ بل هو هدف ينبغي أن نعمل لجعله قابلا للتحقّق فعلا في التاريخ بإقامة نظام دستوري ينهي مرّة وإلى الأبد هذه "الحروب القذرة" -كما يقول كانط- تلك التي استنزفت كل مقدرات الشعوب البشرية والمادية والروحية. لا شك أن السلم قيمة من أسمى القيم وشرط تحقّق كل المطالب الأخرى فلا حرية ولا حق ولا سعادة ولا أمن دون سلم، ولذلك فإن البشر حتى ولو عجزوا على تحقيق السلم الدائم فإنه ليس بمقدورهم أن يمتنعوا على أن يجعلوا منه "أمنية غالية ومبدأ نصبو إليه دون كلل؛ لأن هذا هو الواجب"، وكانط يدعونا دائما أن نفعل الواجب من أجل الواجب. لكن الاستجابة لنداء الواجب الذي هو نداء العقل -كما يبيّن كانط في كتابه "أسس ميتافيزيقا الأخلاق"- يمكن أن يكون مكلفا جدا؛ بل هو مكلف إلى أبعد الحدود، فقد بيّن كانط في كتاب "مشروع سلم دائم" -في الملحق الأول منه وهو بعنوان "فيما يتعلّق بالحق العام"- أن هناك مسألة صعبة الحل، مسألة على غاية كبيرة من الأهمية؛ لكونها لم تفقد إلى يومنا هذا كامل راهنيتها، وهو يصوغها على هذا النحو الإشكالي والتساؤلي: "هل يمكن عدّ العصيان وسيلة مشروعة بالنسبة إلى الشعب الذي يعتمدها في إسقاط السلطة القهرية التي يمارسها الحاكم الطاغية المفترض؟ لا ريب في أن حكم الطغيان ينتهك حقوق الشعب، وليس في إسقاط الطاغية عن عرشه أيّ ظلم؛ إلاّ أن سعي الرعية وراء حقوقها وفق هذا الأسلوب يعني أنها تتصرّف بطريقة أبعد ما تكون عن العدل، ولن يجوز لها التظلّم إذا ما لاقت الخذلان نتيجة لهذا الصراع العنفي ضدّ الطاغية وذاقت على يده -فيما بعد- أمرّ صروف العقاب"(27).

إذا كان ماركس قد تبنّى الموقف القائل بأن الصراع بين البشر ينتهي بانتهاء الطبقات, والقضاء على تغول طبقة على أخرى مستعملة في ذلك الدولة كأداة سياسية للقمع؛ فالدولة عند ماركس ليست دولة كل المواطنين؛ بل دولة الطبقة المهيمنة اقتصاديا واجتماعيا؛ فإن كانط يرى العكس من ذلك تماما؛ فالدولة عنده هي الضامن الوحيد لانتهاء كل أشكال العنف والصراع. إن حل مشكل العنف عند ماركس مشروط بانتهاء الدولة وانحلالها، في حين أن حل مشكل العنف عند كانط مشروط بقيام دولة الحق والقانون واستمرارها، بل إن مشروعية دولةٍ ما تقاس بمدى قدرتها على الحفاظ على سلم وأمن مواطنيها من كل ما يمكن أن يتهدّدهم في الداخل وفي الخارج؛ لأن مثل هذا السلم هو عنوان كل تحضّر وسمة كل عيش مشترك، ولذلك غالبا ما تمثّل الحرب الأهلية -التي توشك على الاندلاع في أمّة من الأمم أو تلك التي تندلع فعلا داخل دولة من الدول- تعبيرا عن فشل تلك الدولة في الحفاظ على سلم وأمن مواطنيها، وعجزها على إدامة السلم ونزع فتائل الحرب الممكنة والمحتملة. على هذا النحو يمكننا القول: إن السلم هو شرط ضروري من شروط السياسة؛ بل هو شرط ضروري لكل حياة مشتركة. فإذا كانت الحرب -باعتبارها أرقى أشكال العنف وأوحشها- تعبّر عن اختلال التوازن في العلاقات البشرية، وانسداد التواصل أو تعليقه ضمن حالة الطبيعة؛ فإن السلم يعبّر عن نوع من التوازن الضروري لاستمرار البشر ولتحقيق سعادتهم وخيرهم السياسي الأسمى شيئا فشيئا ضمن الحالة المدنية التي هي انتصار مستمر على حالة الطبعية، وعلى الطبيعة برمتها(28).

يتنزل كتاب "مشروع سلم دائم" كامتداد لفلسفة كانط العملية والقيمية؛ فالقيم التي عمل كانط على بنائها لا تتوقف عند حدود ماذا يمكنني أن أعرف؟ بل إنها تتجاوز للتفكير في ماذا يجب عليّ أن أفعل؟ وما الذي يجوز لي أن آمل؟ وإذا كان الإنسان يأمل في تحقيق السعادة دون أن يدركها في الحياة الدنيا ما دامت "السعادة هي مثل أعلى للتخيّل لا للعقل"(29)؛ بل إن كانط ينفي في موضع آخر أن تكون السعادة أولية الأولويات: "السعادة هي آخر الأمنيات؛ لكنها لا توجد على أيّ صعيد من أصعدة الطبيعة: ليس من الطبع في شيء أن يشعر المرء بأنه سعيد ومكتف في أيّ حال من أحواله"، ومع ذلك يظل من حق الإنسان أن يأمل في إنجاز مشروع سلم دائم حتى ولو بدا الأمر طوباويا وحالما للوهلة الأولى. إن ما يطمح إليه الإنسان هو أن يحقق أولا سلامه الداخلي على الطريقة الرواقية بأن يكون حكيما ونزيها وعادلا مكتفيا بذاته(30)، وأن يحقق سلامه الخارجي في علاقته بالآخرين داخل دولة تأتمر بأوامر القانون وتحتكم لنصوص الدستور. لذلك يرى كانط أن الهدف الأول من تأسيس الدولة هو تحقيق السلم، وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلاّ إذا أوجب كل واحد على نفسه أن يتخلّى "عن نوع من الحرية هي حرية المتوحّش، والبحث عن الطمأنينة والأمان في كنف نظام دستوري قانوني الصفة"(31).

لا تستقيم الدولة إلاّ بتحقيق السلم، فالعداء الطبعي بين البشر ورغبة كل واحد منهم في تملّك ما يرغب فيه الآخرون وسيطرة الخوف من الموت العنيف -كما يقول توماس هوبز-(32) هي العوامل المختلفة التي تجعل البشر يرتقون فوق نزواتهم الخاصة، ويتجاوزون مصالحهم الآنية لإقامة منظومة قانونية حقوقية توفّر الحماية والرعاية والأمن والسلم للجميع، لذلك تأتي الدولة كشكل من أشكال الأبنية الثقافية التي يتجاوز بفضلها الإنسان حالة القصور الطبيعية التي لا يمكنها إلاّ أن تؤدّي -في حال استمرارها- إلى هلاكه المحتّم، لذلك يبدي الإنسان استعدادا لا مثيل له للتخلّي عن كامل حريته الوحشية المهددة باستمرار بحرية الآخرين الوحشية بدورها من أجل حرية مدنية قوامها الحق والقانون والقسر الذي يشارك الإنسان في تشريعه والخضوع إليه، فالكائن الحر ليس ذاك الذي يفعل ما يشاء أو ذاك الذي يستجيب لما تمليه عليه نزواته دون قيد أو شرط، الكائن الحر هو ذاك الذي يسهم في وضع قانون المدنية ويسهم في الخضوع إليها، فليس غير العقد ما يسمح للبشر بالعيش سويا في كنف القانون والاحترام، وقد جاء في البند 41 من كتاب "فلسفة الحق" لكانط قوله: "إن الفعل الذي يتحوّل به الشعب إلى دولة، أو بالحري مجرّد فكرة هذا الفعل هي العقد الأصلي الذي يتنازل بموجبه جميع أفراد الشعب عن حرياتهم الخارجية ليستعيدوها على التو بصفتهم أعضاء جمهورية؛ أي أعضاء في شعب منتظم كدولة، ولا يمكن القول: إن الدولة، أو أن الإنسان في الدولة قد ضحّى في سبيل غايةٍ ما بقسم من الحرية الخارجية التي يتمتّع بها بالفطرة؛ إنما تخلّى كلّيا عن الحرية المتوحّشة والفوضوية ليعود فيجد في كنف حال من الخضوع الشرعي -أي في ظل الحال القانونية- حريته سليمة بوجه عام؛ لأن هذا الخضوع ناجم عن إرادته المشرعة الخاصة" إن ما بدأه كانط في فلسفته في الأخلاق -التي تدعو إلى أن يكون الإنسان مشرّعا كليا للفعل الأخلاقي القطعي- يعمل على إتمامه في فلسفته في السياسة بأن يكون المواطن (إرادة الشعب العامة) مشرّعا للقانون ومنفّذا له في الوقت نفسه(33).

الدولة -كما يتمثّلها كانط- هي دولة كل المواطنين، تنشأ بفضل تعاقدهم، وتستمر في الوجود بقدر ما تضمن لهم ما تعهّدت به من حق وعدل وحرية في التفكير والتعبير، لذلك كان السلم شرطا تتقوّم به ومن خلاله كل الحقوق الأخرى، ولذلك كان بإمكاننا القول: إن الغاية الأولى للدولة هي تحقيق السلم الداخلي في علاقة المواطنين بعضهم ببعض، وتحقيق السلام العالمي في علاقة الدول بعضها ببعض، وفي غياب السلم يصبح من اللغو أن نتحدث عن العدل في العلاقات بين المواطنين وفي العلاقات بين الدول، والعدل في تنفيذ القوانين واحترامها من الجميع على قدم المساواة بعيدا عن المحاباة والمحسوبية والعِرْق والدين واللغة، فضمان السلم بين المواطنين داخل الدولة الواحدة يظل دائما مشروطا بمساواة الجميع أمام القوانين، وكذلك الشأن في علاقة الدول بعضها ببعض. فكل اعتداء على القوانين تحت أيّ ذريعة مهما كان نوعها من شأنه أن يهدد السلم الأهلي داخل الدولة الواحدة، كما يمكنه أن يهدد السلم العالمي في علاقة الدول بعضها ببعض.

هناك إذن داخل الدولة سلطة عليا تتمتّع بالسيادة التامّة التي يعطيها الحق في فرض القانون على الجميع لتجنّب كل شكل من أشكال العنف؛ لأنه في غياب مثل هذه السلطة يصبح السلم ممتنعا، وتصبح الدولة في خطر، ونعود من حيث لا نرغب إلى حالة التوحش من جديد، لذلك كان كانط على غاية كبيرة من الحرص فيما يتعلّق بمسألة العصيان المدني أو التمرّد على السلطة أو مقاومتها أو الانقلاب عليها والعمل على تحدّي سلطتها وتغييرها بالقوّة، مثلما يقع عادة في الثورات. فالأصل في الدولة أن يتم الالتزام قطعيا بأوامر صاحب السيادة، بل إن كانط يذهب بعيدا في تحذيرنا من مغبّة التفكير في مدى مشروعية السلطة التي نخضع لها وفي الأساس الذي قامت عليه، فالتفكير فيما إذا كان هناك عقد واقعي تم بين السلطة والشعب؟ وما إذا كانت السلطة قد تولّدت بفضل العقد أم جاءت قبله؟ وما إذا كانت سابقة على القانون أو لاحقة له؟ كل هذه الأسئلة يعدّها كانط "فارغة بالنسبة إلى الشعب الذي يرى نفسه الآن خاضعا للقانون المدني، كما أنها أسئلة خطرة بالنسبة إلى الدولة؛ ذلك أنه لو قام فرد وغاص بحثا عن أصل هذه المسألة ومن ثَمّ شاء أن يعاند السلطة الحاكمة حاليا لحقّ كل الحق لقوانين هذه السلطة أن تعاقبه: أن تحكم عليه بالموت أو بالنفي...ولو تصرّف المسؤول عن السلطة خلافا لمقتضيات القوانين لحق لأفراد الرعية كل الحقّ أن يعترضوا على هذا الظلم بشكاواهم، لكن لا بالمقاومة العاصية"(34).

إن عدّ السلم عند كانط حالة استعجالية لا يستقيم النظام والحق والحرية والحياة إلاّ بتحققها الفوري يعني أن السلم يتحدّد أولا كعمل ناف سالب يسعى إلى استبعاد كل شكل من أشكال العنف، بما في ذلك أخطرها (الحرب)، فالدولة التي تعجز عن الحفاظ على سلم وأمن مواطنيها هي دولة فاشلة، ولكيلا تفشل الدولة في تحقيق ما به تكون دولة (السلم) يجب على كل شخص -كما يقول هوبز- أن يتنازل عن حقّه في سياسة شؤونه بنفسه، وأن يقبل كل فعل صادر عن صاحب السيادة، سواء أكان رجلا فردا أم مجلسا يتكوّن من مجموعة من الأفراد، فـ"مشكل نشأة الدولة ليس مشكلا لا حل له ولو تعلّق الأمر بشعب من الشياطين (شريطة أن تكون لهم مسكة من العقل). ويصاغ هذا المشكل على النحو التالي: "تنظيم جمهور من الكائنات العاقلة يطلبون جميعا -وقد حصل بينهم اتفاق- قوانين عامة تهدف إلى ضمان بقائهم، وإن كان كل واحد منهم يميل ميلا خفيفا إلى استثناء نفسه منها، وتنظيم جمعهم على نحو يكون فيه هؤلاء الناس الذين يعارض بعضهم بعضا من جهة مشاعرهم المخصوصة قد كبتوا تلك المشاعر حتى يبلغوا في سلوكهم العام نتيجة مماثلة لما كانوا يحصلون عليه لو لم تكن لهم هذه الاستعدادات السيّئة" فمثل هذا المشكل يُفترض أن يجد حلاّ؛ لأنه لا يتطلّب التحسين الأخلاقي لدى البشر؛ بل إن الأمر لا يعدو مجرّد أن نعرف كيف يمكن استخدام آلية الطبيعة بالنسبة إلى البشر حتى نوجّه الصراع بين الاستعدادات العدائية في شعب من الشعوب، على نحو يُجبر الناس أنفسهم ويجبر بعضهم بعضا على الخضوع لقوانين ملزمة، فتنشأ بذلك حتما حالة السلم التي تتوفّر فيها قوّة القوانين"(35).

الدولة هي الحكَم الذي ليس بعده حكم كما يقول ريكور؛ ولكن كيف للدولة أن تضمن تحقيق السلم وهي تعي أن ولع البشر بالهيمنة بعضهم على بعض قد يفوق التزامهم بقوانين تحدّ من ممارسة هذا الولع؟ ماذا يفعل المواطنون في دولة كانط عندما يجدون أنفسهم في ظل دولة تمارس كل أصناف القهر وهي التي تولدت عن تنازلهم الخاص في أن يسوسوا أنفسهم بأنفسهم، ونشأت عن تعاقدهم وتوافقهم على تفويض أمرهم لحاكم يحكمهم باسم القانون والحق والعدل؟ هل من حق المواطنين أن يعلنوا عصيانهم للدولة إذا تجاوزت السلطة صلاحياتها الموكولة لها باسم القانون؟ كثر هم الفلاسفة الذين يحذروننا من مغبّة العصيان والتمرّد والانقلاب المسلّح على الدولة، فالدولة تضمن لك حرية التفكير والتعبير والنقد وإبداء الرأي، ولكنها لا تضمن لك حرية الانقلاب عليها؛ لأنه "ليس بإمكان أحد في الحقيقة أن يتصرّف تصرّفا مناقضا لقرار صاحب السلطة دون أن يكون في ذلك خطر على حق صاحب السلطة؛ ولكنه يستطيع أن يبدي الرأي، وأن يحكم بكامل الحرية، وبالتالي أن يتكلّم أيضا على شريطة ألاّ يتجاوز مجرّد القول أو الإرشاد، وعلى شريطة أن يدافع عن رأيه بالعقل وحده وليس بالخدعة أو الغضب أو الحقد أو قصد تغيير أيّ شيء في الدولة بقوّة قراره الخاص"(36).

 ولكننا نسأل سبينوزا في هذا المقام -وهو الذي يولي عناية لمصير صاحب السلطة أكثر مِمَّا يوليها لمن تمارس عليه السلطة- ماذا يفعل المواطنون إذا استنفذوا كل الوسائل السلمية في الكلام والتفكير والتعبير والتقييم لرد السلطة عن تسلّطها وانحرافها عن العقد الذي أمضته مع مواطنيها والذي يستدعي احترام القوانين وتوفير السلم والحق والحرية؟ ماذا يعني أن يتخلّى المواطنون حتى "يعيشوا في سلام" (والعبارة لسبينوزا) عن حقهم في التصرّف وفقا لما يقرّره فكرهم وألاّ يحافظوا إلاّ على حقهم في "إعمال العقل أو في إبداء الرأي"؟ هل يستطيع إعمال العقل وإبداء الرأي وحدهما ردع السلطة الظالمة والمستبدة التي تتغوّل على المجتمع لتلتهمه؟

 إن موقف كانط(37) من هذه المسألة ليس أقل محافظة من موقف سبينوزا؛ فكانط يخاف على الدولة من الانهيار أكثر من خوفه على المواطنين من الاضطهاد، وكأن مصلحة الدولة ليست في مصلحة كل مواطنيها، ولذلك فمهما فعلت السلطة السياسية فإنه لا يحق لمواطنيها الانقلاب عليها؛ إذ "يقوم الواجب الذي يقتضي من الشعب أن يتحمّل إسراف السلطة السياسية في استعمال سلطانها -حتى ولو بدا هذا الإسراف غير محتمل- على كون المرء لا يحقّ له أبدا اعتبار وقوفه في وجه سيادة القانون إلاّ بمثابة عمل غير شرعي؛ بل مناقض لكل دستور شرعي؛ لأن حق الشعب في المقاومة يستلزم -مسبّقا- وجود قانون عام يتيح المقاومة؛ أي يجب أن يكون القانون السائد متضمّنا بندا يقضي بعدم سيادته، مِمَّا يعني أن الشعب الرعية هو سيّد من هو راعٍ له، وهذه مناقضة"(38)لكن كانط يذهب في هذا الاتجاه مذهبا أكثر مغالاة وتطرّفا عندما يشدّد على أن كل مواطن في الدولة مسؤول أمام رئيسها ما عدا الرئيس فهو يَسْأَلُ ولا يُسْأَلُ، فكل مواطن يخضع للقوانين باستثناء رئيس الدولة الذي يتعالى على هذه القوانين: فـ"كل عضو في الدولة له حقوقه مفروضة على كل عضو فيها، ما عدا رئيس الدولة (لكونه ليس عضوا في الدولة؛ إنما هو منشئها وحافظها) الذي له وحده الحق في الفرض من دون أن يكون ملزما بتلقّي أيّ فرض" فهل يعني ذلك أنه باسم الشرعية الدستورية والقانونية يجب على المواطنين أن يتحمّلوا إلى ما لا نهاية له إسراف السلطة في استعمالها لهذه الشرعية؟ ماذا تعني الشرعية إذا أصبحت استبدادا؟ هل تعاقد المواطنون مع السلطة لتستبدّهم أم لتوفّر لهم الأمن والحرية والعدل والحق والسلم؟ كيف يمكن لدولة عادلة أن تفتكّ لنفسها كل الصلاحيات دون أن يكون من حق المواطنين مساءلتها أو حتى تنحيتها إذا أصبحت سلطة فئوية لا تخدم إلاّ مصلحة ضيّقة لبعض المتنفّذين من أهل المال أو الجاه؟

 في الملحق الأول من كتاب "مشروع سلم دائم" يعود كانط لمناقشة حق الشعب في مقاومة الحاكم المستبد والنظر في مدى صلاحية تضمين الدستور لهذا الحق الخطير والمربك، فهل من المعقول سياسيا أن نضع في دستور الجمهورية -وبشكل صريح- أن "حق العصيان"(39)حق لا يمكن القفز عنه في بعض الحالات؟ كيف يمكن أن نضع في دستور لدولة غايتها العليا والسامية تحقيق السلم مبدأ يجيز للمواطنين حق استعمال العنف ضد الحاكم في "بعض الحالات"؟ ما هي هذه الحالات؟ من الذي يضمن ألا يتم انحراف عنها؟ من هي الجهة التي تضبط هذه الحالات؟ هل هناك سلطة قانونية في العالم تسمح باقتسام ممارسة العنف مع مواطنيها؟ أليست الدولة هي الوحيد التي لها حق ممارسة العنف الذي يسمى عنفا شرعيا؟ كيف ستكون هذه السلطة السياسية المهددة باستمرار بحق العصيان؟ ألا يؤدّي ذلك إلى استمرار نوع من الحرب: الحرب النفسية الدائم التي تمارسها الدولة على المواطنين والتي يمارسها المواطنون على الدولة؟ ألا يهدّد مثل هذا النوع من الدولة استقرار الوطن برمته؟

هنا يجيب كانط بكل وضوح: "إنه لو أُدرج هذان الشرطان (شرط اللجوء إلى العنف وشرط التحكّم في الحاكم) في دستور الدولة لا يعود من الممكن وضع أيّ دستور، مع أن مقصد الشعب المنتظم في دولة أن يحظى بذلك"(40)، ولكن كانط سيفاجئنا من حيث لا ننتظر، فهو ولئن كان ضد تضمين "حق العصيان" في الدستور، وضد الإعلان عن ذلك صراحة وأمام الملأ، فإنه لا يعترض أن يظل هذا الحق مكتوما، فلا يوضع في الدستور؛ ولكن يمكن أن يظل آلية أخيرة تعطي للشعب حق الثورة على الدولة المستبدّة، فعندما تتضارب السياسة مع الأخلاق والقيم العليا والسامية فإن على الإنسان أن يفعل الواجب، وليحدث ما يحدث كما يقول كانط، والواجب يقتضي أن نعامل الإنسانية دائما في شخصنا وفي أشخاص الآخرين كغاية لا كوسيلة، وإذا ما استباحت الدولة لنفسها تحويل مواطنيها إلى مجرد وسائل فإنه من حق المواطنين أن يثوروا على هذا الامتهان والتحقير، يقول كانط: "خلاصة القول: ألا شرعية العصيان تتبدّى في كون علانية المبدأ الذي تقوم عليه من شأنه أن يجعل هدفها بالذات مستحيلا. إذا ينبغي إبقاء فكرة اللجوء إلى العصيان مكتومة، بالمقابل ليس رئيس الدولة مضطرا إلى التكتّم على الإجراءات التي قد يتّخذها؛ بل يستطيع أن يعلن بحرّية عزمه على إنزال عقوبة الموت بجميع مرتكبي العصيان..(أما) إذا نجح الشعب في ثورته، لا يسوغ للملك أو للرئيس المخلوع الذي عاد إلى صفوف الرعية أن يجدّد العصيان بغية الارتقاء إلى سدّة الحكم من جديد؛ لكن من ناحية أخرى لا يسوغ الاقتصاص منه واعتباره مسؤولا عن سياسته السابقة وعليه أن يؤدّي عنها الحساب"(41).

إن اتخاذ قرار عصيان مدني أو عصيان مسلّح لا يقل خطورة عن القرار الذي يمكن أن تتّخذه الدولة في إعلان حرب على بعض الجماعات المتمردة عليها أو على دولة أخرى صغيرة كانت أو كبيرة، قريبة منها أو بعيدة عنها، ففي كلتا الحالتين نحن أمام قرار حرب ستكون له تبعات وخيمة على كل الأطراف، والدولة التي تتجرأ عليها جماعات من داخلها، فتهز سيادتها، أو الدولة التي يتم غزوها واستعمارها من دولة أخرى، تكف على أن تكون دولة بمجرّد أن تفرّط في حالة السلم التي كانت عليها؛ لأن مَنْ انتقل من حالة السلم إلى حالة الحرب ومن حالة الاستقلال إلى حالة التبعية فَقَدَ قراره الوطني واستقلاله الوطني. إن الدولة التي تقتل مواطنيها أو التي تسمح لدولة أخرى بغزوها وقتل مواطنيها قد أخلّت بأول شرط من شروط الدولة، وهو أن تحافظ على سلامة أراضيها وسلامة مواطنيها، وقد أكّد كانط منذ البند التمهيدي الثاني من كتابه "مشروع سلم دائم" أنه "لا يسوغ لأيّ دولة مستقلّة (صغرت أو كبرت، فهذا لا شأن له في هذا المجال) أن تستحوذ على دولة أخرى لا بالميراث ولا بالمبادلة ولا بالشراء ولا بالهبة"(42)

الدولة عند كانط ليست قطعة أرض يمكن تبادلها بيعا وشراء وهبة، ولا يمكن دمجها بدولة أخرى فنقضي على ما فيها من "شخص معنوي" ونحوّلها إلى"مجرّد شيء" من الأشياء؛ لأن ذلك يتناقض صراحة مع العقد الذي يبنيه المواطنون فيما بينهم من جهة، وفيما بينهم وبين دولتهم من جهة أخرى، وهو عقد يسميه كانط بـ"العقد الانتسابي"، فَمَنْ يتعاقد على الانتساب إلى دولة معيّنة لا يمكنه أن يوافق أن يتم دمج دولته في دولة أخرى؛ لأنالدولة "مجتمع بشري" وليس لأيّ أحد كان الحق في أن يتصرّف فيه وكأنه ريع خاص. الدولة شأن كل المواطنين، ووحدهم المواطنون من لهم الحق في تغيير بنود هذا العقد أو تعديلها وفسخها عندما تخون الدولة ما تم التعاقد بشأنه، ونعني السلم والحرية والعدل والحق والقانون. فالمدينة سلام أو لا تكون مثلما يبيّن "كاليكيلاس" في نهاية محاورة "القورجياس" الأفلاطونية، ولكن السلام الذين يريده "كاليكيلاس" هو ذاك الذي يصنعه الأكثر كفاءة لا سلام العاجزين، ولكن من هم الأكثر كفاءة؟ وما هي المعايير التي تحدّد الأكثر كفاءة؟ هل الأكثر كفاءة هم الأقوياء أو الأغنياء أو أصحاب الجاه والسلطان أو الأذكياء؟ ألا يجرنا ذلك مرّة أخرى إلى سلام مغشوش، سلام يصنعه البعض لفائدة فئة قليلة وتحرم منه الفئات الواسعة بتعلّة قلّة الكفاءة؟ هل يمكن لهذا النوع من السلام أن يكون سلاما دائما وعادلا؟ أليس سلام الأكْفاء هو سلام الأقوياء؟ وهل يرجى خير من سلام الأقوياء؟

إن سلام الأقوياء يمكنه أن يحوّل المواطنين إلى مجرّد أشياء، ولتوضيح ذلك يقدّم كانط مثالا حيّا عما تتعرّض له أوروبا في أيامه؛ إذ تعمد العديد من الدول الأوروبية -بضرب من التحايل- إلى التزاوج فيما بينها، عبر إقامة تحالفات عائلية ملكية دون استشارة مواطنيها؛ حتى تتمكّن من اكتساب قوّة مفرطة وتوسّع رقعة ممتلكاتها، وهو ما يستنكره كانط عندما يقول: "يجب ألاّ تجيّش دولة من الدول جيوشها لصالح دول أخرى بقصد مجابهة عدو ليس عدوّا مشتركا؛ لأن مثل هذا الأسلوب يؤدّي إلى استعمال المواطنين وكأنهم أشياء يسوغ استخدامها واستثمارها حسب الأهواء"(43)، فتجييش جيوش دولة لصالح دولة أخرى هو ممارسة يستنكرها كانط ليس فقط لأن العدو الذي تتم مواجهته ليس عدوا مشتركا (وهذه مسألة سياسية وأمنية وعسكرية، فكيف أُدخل جيشي في حرب ضد جيش آخر لا تربطني به علاقة عداوة من أي صنف؟ ومن يفعل ذلك إنما يضع استقلال قراره الوطني موضع خطر، ويفتح على نفسه وعلى مواطنيه أبواب حرب هو في غنى عنها؛ بل إن ذلك لا يمكن إلاّ أن يعبّر عن غباء استراتيجيّ)، بل ولأن هذا النوع من الصنيع إنما يوقع الدولة في محظور أخلاقي، وهو أنها تعامل مواطنيها كوسائل وكأشياء لا ككائنات بشرية فعلا؛ بل إن هذا الصنيع يتعارض مع الهدف الأسمى لكل دولة، وهو أن تعمل على الانخراط في تحقيق مشروع السلم الدائم، وأن تبدأ بذلك على المستوى الأوروبي، فهل من المعقول أن "نرى رئيس كل دولة يفاخر بقدرته على التصرّف بالألوف المؤلفة من الرجال ممّن يضحّون بأنفسهم في سبيل قضية لا تعنيهم، في حين هو شخصيا بمنأى عن أيّ مخاطرة"؟(44).

لا شك أنه لا رعب يفوق رعب الحرب (ووضعية الحرب يسميها ريكور بالوضعية القصوى شأنها شأن الموت)، وكانط كما أسلفنا كان شاهدا على حروب عديدة عاشها العالم الحديث وعاشتها أوروبا في القرن الثامن عشر وقبله(45)، لعل أهمها الثورة الفرنسية، ولذلك ليس هناك من مناسبة أفضل من الحرب للتفكير فلسفيا في السلم وفي شروط تحقّقه وعوامل استمراره ودوامه، ولذلك جاء كتاب "مشروع سلم دائم" كاستجابة حقيقية للوضع الرهيب الذي كانت تعيشه أوروبا في ذلك العصر. فما هي الشروط الضرورية لتحقيق السلم إذن؟ يخصّص كانط الباب الأول من كتابه/المشروع للنظر في الشروط السالبة؛ أي للنظر فيما لا يجب القيام به أو فيما يجب تجنّبه حتى يتم تحقيق السلم. في البدهية الأولى من الباب الأول يشترط كانط ألاّ تتضمّن معاهدة الصلح بين دولة وأخرى إمكانية اللجوء إلى حرب جديدة؛ لأن هذا لا يساعد على تحقيق السلام الدائم، ولا يمكنه أن يمنحنا غير هدنة مؤقتة تعود على إثرها الأعمال القتالية وربما بشكل أكثر ضراوة. البدهية الثانية تمنع استحواذ دولة مستقلة على دولة مستقلة أخرى، مهما كان نوع الاستحواذ هذا. وفي البدهية الثالثة(46)، يفاجئنا كانط بالدعوة إلى إزالة الجيوش النظامية إزالة نهائية حتى يصبح من الصعب تقنين الحرب وإعداد العدة لها بشريا ولوجستيا وعسكريا؛ لأنه بقدر ما تستمر الجيوش النظامية في الوجود بقدر ما يستمر الحاكم في العناية بها ودعمها وتدريبها وتسليحها بأبشع أنواع الأسلحة تحسّبا لحرب قادمة، ثم ما معنى أن يتم حشد آلاف من البشر ليقاتلوا آلافا أخرى لا أحد فيهم يعرف أحدا وكأنهم "مجرّد آلات بأيدي الآخرين (الدولة)" وهو انتهاك صارخ للحق في الحياة واعتداء سافر على الإنسانية. فعندما يتم الجمع بين قوّة الجيوش وقوّة الأحلاف وقوّة المال فاعلم أننا أمام إمكانية حرب لا تبقي ولا تذر، لذلك يطالب كانط الدولة بالامتناع عن الاقتراض الخارجي لتمويل حرب معيّنة، فهناك فرق بين الاقتراض "بغية تحسين الطرقات وإنشاء المستوطنات وإقامة الإهراءات تحسّبا للمواسم العجاف"(47) والاقتراض الذي يهدف إلى الحرب. في البند الخامس ينص كانط أنه ليس من حق أيّ دولة أن تتدخّل بالقوّة في دستور دولة أخرى أو في نظام حكمها. في البند السادس والأخير يحدثنا كانط عمّا يجب ألاّ تقع فيه الدول المتحاربة من محظورات أخلاقية تجعل السلام بينها ممتنعا في المستقبل، ولهذا يجب الحفاظ على "الثقة في نفوس الأعداء إبّان الحرب"(48)؛ لأن غياب الثقة بينهم من شأنه أن يحول الخصومات إلى حرب إبادة تدمّر الطرفين تدميرًا كاملاً.

في الباب الثاني يقوم كانط بضبط قائمة الشروط الضرورية والنهائية لتحقيق السلم الدائم بين الدول. قبل الحديث عن هذه الشروط لا بد أن نشير إلى أن السلم ليس حالة طبعية بل الحرب هي الحالة الطبعية، وأن السلم هو ما يجب علينا "إنشاؤه" "إنشاء" (العبارتان لكانط)(49) ضمن ضمانة قانونية؛ لأنه في غياب هذه الضمانة لا أحد بإمكانه أن يضمن عدم عودة الأعمال العدائية بين العدوين، وليست هذه الضمانة القانونية غير الدستور المدني للدولة الذي ينص ضرورة على ثلاثة حقوق لا يمكن الفصل بينها أبدا؛ لأن أيّ استثناء لحقٍّ من هذه الحقوق يعني صراحة ظهور حال الحرب من جديد(50): أولا: الحق المدني للناس الذين يؤلّفون شعبا. ثانيا: حق الشعوب الذي ينظّم علاقات الدول بعضها بالبعض الآخر. ثالثا: الحق العالمي الذي يضمن التعايش السلمي بين البشر باعتبارهم "مواطني دولة عالمية".

ما هي الآن الشروط النهائية لإقامة السلم الدائم؟ يقدّم كانط ثلاثة شروط متكاملة دونها لا يمكن تحقيق السلم الدائم:

- الشرط الأول: "يجب أن يكون الدستور المدني لكل دولة دستورا جمهوريا"(51)، والدستور الجمهوري هو الدستور الذي يجب أن ينبثق عن عقد أصلي بين المواطنين، ويشترط بدوره ثلاثة شروط: حرية أعضاء المجتمع، وخضوعهم جميعا للقانون نفسه، والمساواة بينهم، و"الحقيقة أن الدستور الجمهوري يمتاز بكونه يتيح لنا الأمل في السلام الدائم"(52)، باعتباره أفضل ما يمكن أن يعبّر عن فكرة الحق، والحق عند كانط يستمد مشروعيته من تعاقد المواطنين فيما بينهم تعاقدا حرا، وهو ما يسمح لكل مواطن بإبداء رأيه في قضايا الحرب والسلم، فكل مواطن سيفكّر مرّات عديدة قبل أن يوافق على أن تخوض بلاده مغامرة شديدة الخطر مثل مغامرة الحرب. فاتخاذ قرار الحرب يعني أن يخوض المواطن المعركة بنفسه وأن يتكبّد تكاليفها المالية وأن يتحمّل عواقب ما تلحقه من تدمير في الأجساد والأرواح والأنفس والأملاك. الحرب في الجمهوريات الدستورية شأن جَلَلٌ، أما في الملكيات والأنظمة غير الجمهورية فإن الملك يتّخذ قرار الحرب -مثلما يقيم حفلة ترفيهية- لأسباب تافهة، فالحرب عند مالك الدولة هي من أبسط الأمور؛ لأنها لا تهدّد مائدته أو صيده أو قصوره أو متعه أو حفلات بلاطه، لذلك يعهد إلى دبلوماسييه بأن يبتكروا ما شاءوا من الأسباب أو التعلاّت الواهية لخوض الحرب لتسويقها لدى الرعية وعند الأصدقاء والأعداء، وينتهي كانط إلى الإقرار بـ"أن غياب الحكم الجمهوري يجعل كل حكم آخر (أيّا كان دستورهـ) حكما استبداديا واعتباطيا"(53)؛ لأن "النظام الجمهوري -وهو الوحيد المنسجم تماما وحقوق الإنسان- هو أصعب الأنظمة السياسية إنشاء، كما أن صعوبة الحفاظ عليه تتجاوز كل حد"(54).

الشرط الثاني: "يجب أن يتأسّس حق الشعوب على اتحاد دول حرّة"(55)إن تجاور الشعوب أو الدول في ظل غياب أيّ قانون خارجي يؤدي لا محالة إلى تآذيها فيما بينها نفسها كما يقول كانط، ولذلك فإنه مثلما يلزم المواطنون بعضها ببعض داخل الدولة بقانون أو دستور أو ميثاق ينظّم علاقاتهم المتبادلة، فإن الشعوب أو الدول في علاقتها ببعضها البعض تشترط ميثاقا يسميه كانط "نظام الاتحاد بين الشعوب"(56)، ولا يقصد كانط بهذا الاتحاد"دولة اتحادية" بل دولا مختلفة تنظم علاقاتها فيما بينها حتى لا تبغي منها واحدة على أخرى، وحتى تتم الاستعاضة عن "الحرية المجنونة" عند المتوحشين والهمجيين(57) -والتي لا ضابط لها- بـ"حرية عاقلة" خاضعة لقيد شرعي يسنّه البشر بالتوافق فيما بينهم مثلما تستدعي الحياة المدنية عند الشعوب المتمدّنة(58) هنا ينتقل بنا كانط من فكرة الحق الشخصي إلى فكرة الحق السياسي، الحق الكسمو-سياسي أي حق الشعوب في العيش بسلام بعيدا عن أهوال الحرب وتكاليفها الباهظة ماديا وروحيا ونفسيا، ولكن ذلك لا يستقيم عند كانط إلاّ عندما يتم الجمع بين السياسة والأخلاق؛ أي عندما يتم جعل السياسة أخلاقية بامتياز(59) لذلك هناك عند كانط نوعان من الحق: "الحق الطبعي" وهو حق يقوم على القوة والمكر والخداع والخبث؛ الحق كما عرّفه الأمير الغالي عندما قال: "الحق هو الميزة التي تمنحها الطبيعة للأقوى بغية إخضاع الأضعف لمشيئته"(60)الحق القائم على العنف والقسر، حق الشعوب في أن يبيد بعضها بعضا باسم "حرية متوحشة فوضوية"(61) تنتهي بالجميع إلى "السلام الأبدي في رحاب المقابر التي تطويهم وتطوي معهم أهوال العنف كافة"(62)، مثلما يقول كانط بشكل ساخر وحانق في آن واحد.

 ولكن في مقابل هذا الحق هناك الحق الذي يدعو إليه كانط، الحق القائم على القيم الأخلاقية السامية: فـ"الاحترام الذي تحيط به الدول فكرة الحق (أقلّه بالكلام) يبرهن على وجود استعداد أخلاقي متنام لدى الإنسان ينزع إلى السيطرة على المبدأ الشرير فيه، وهو مبدأ لا يستطيع الإنسان نكرانه"(63)، ولذلك فإن ميل الإنسان للعدو ألا يمكنه الحد منه إلاّ بتقوية الجانب العاقل والاستماع أكثر لنداء الواجب فيه الذي هو نداء العقل، حتى يصبح بالإمكان تأسيس الحق على العقل، العقل باعتباره عقلا مشرّعا في الميدان العملي، العقل الذي يستطيع أن يتحوّل إلى إرادة فاعلة في الواقع لا العقل النظري الخالص الذي يريد أن يفرض نفسه فرضا على الواقع: فـ"العقل هذا المصدر الأعلى لكل تشريع قانوني، يعلن من فوق منبره الرفيع عدم التسليم بكون الحرب تشكّل السبيل إلى استخلاص الحق، ويدين هذه الوسيلة إدانة مطلقة، ويفرض بالمقابل الحال السلمية كواجب فوري"(64)؛ لكن تحقيق السلم الفوري يستدعي اتفاقا متبادلا بين الشعوب وعقد تحالف مخصوص يسميه كانط بـ"تحالف السلام" الذي يختلف جذريا عن "معاهدة الصلح"؛ لأن الأول يسعى إلى إنهاء كل الحروب مرّة وإلى الأبد والفوز بالحرية الإنسانية العاقلة والمتعقلة، في حين أن الثانية ليست أكثر من إيقاف حرب واحدة يمكن أن تعقبها حروب أخرى.

إن تحالف السلام هو تحالف تقيمه "دولة الأمم" التي يجب أن تشمل جميع شعوب الأرض، وهو نوع من "جمعية الأمم" التي تجد فيها الكل أمنها وسلمها بما في ذلك الدول الصغيرة. وهنا يمكننا أن نحيّي كانط على نباهته وقدرته الخلاقة على الابتكار وعلى التخيل السياسي المثمر، فما دعا إليه كانط في هذا النص إنما هو استباق لما ستعمل البشرية على إنشائه بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها (عصبة الأمم)، وهو ما ستعمل إلى تحسينه وتطويره (منظمة الأمم المتحدة) بعد أن خلّفت الحرب العالمية الثانية أكثر من أربعين مليون قتيل. وإذا كان ما دعا إليه كانط في القرن الثامن عشر هو من باب المثالية الفلسفية فإن ما حققه التاريخ البشري يفيد أن بإمكان البشرية أن تتقدّم نحو الأفضل شريطة ألاّ تتوقّف أبدا عن ابتكار أكثر أحلام اليقظة خيالية ولامعقولية. إذن إذا كانت "الحرب لا تحسم ما هو مطلوب أصلا -أعني حق كل دولة"(65)فإنه على العقل البشري أن يكون على درجة عالية من الفطنة التي تمكّنه من أن يحسب الحاضر ليضمن المستقبل؛ أي أن ينظر فيما يمكن أن تكلّفه الحرب من خسائر، وفيما يمكن أن يغنمه من السلم الدائم لينتهي إلى الاعتراف أن بناء الحق على العقل والقانون أفضل بأشواط من بنائه على القوّة والعنف.

الشرط الثالث: "يجب أن يتوقف الحق العالمي (الكوسموبوليتيقي) عند شروط حسن الضيافة العالمية"(66)، وليست الضيافة المقصودة نوعا من الإحسان؛ بل هي نوع من أنواع الحق، فكل من ينتقل من دولته إلى دولة أخرى لا يستحق أن يعامل كعدو ما دام يلتزم بالسلوك السلمي، لذلك لا يجوز إلحاق الأذى بمن تقطّعت بهم السبل بحرا أو برا في الصحاري، فليس من الحق في شيء تحويل التائهين في الصحراء أو غرقى البحر إلى عبيد عند دولة من الدول، ولكن في مقابل ذلك من الواجب أن تعمل الدول على عقد علاقات صداقة فيما بينها للحصول على "حق الضيافة"(67) في البلدان الغريبة، وهو ما من شأنه أن يحول العلاقات العارضة إلى علاقات دائم ورسمية وشرعية، فيساعد الجنس البشري على الاقتراب شيئا فشيئا من "الوحدة العالمية" لتحقيق السلام الدائم بينها؛ ذلك أن بقاء شعب واحد خارج هذه الوحدة العالمية ورفضه الانخراط في مشروع السلم العالمي من شأنه أن يؤثّر سلبا على كل الشعوب الأخرى بسبب العلاقات المتشابكة التي أصبحت تشدّ البلدان اليوم بعضها إلى بعض. هناك إذن "حق مدني" يخص مواطني كل دولة على حدة وضمن حدودها الخاصة، وهناك من ناحية أخرى "حق عالمي" يجمع بين "حق كل الشعوب" كلّما عملت على دعم التقارب بينها، وأدارت ظهرها ما استطاعت لكل أصناف الأعمال العدوانية والعنيفة والحربية.

2-      السلم الدائم: هل هو ممكن؟

السلم الدائم ليس مجرد اختيار. فعلى الرغم من تأكيد كانط طوال الصفحات السابقة من كتابه أن الفطنة البشرية المتمثّلة في العقل العملي المشرّع للفعل الأخلاقي والفعل السياسي هي من يختار السلم على الحرب والسلم الدائم على الهدنة أو الصلح، فإن ما ورد في "التتمّة الأولى" من الكتاب يفاجئنا إلى أبعد الحدود؛ لكونه يؤّكد أن السلم -حتى وإن لم يختره البشر لأنفسهم؛ فإن الطبيعة التي لا يمكنها أن تأتي شيئا باطلا- ستختاره الطبيعة لهم، ولذلك هناك ضمانة أسمى لتحقيق السلم الدائم حتى عندما يتخلّى البشر عن تحقيق مشروعهم الدائم في السلم: فـ"لا أحد يوفّر لنا هذه الضمانة غير هذه الفنّانة الكبيرة التي نسميّها الطبيعة التي يشف من خلال حركتها الآلية أن تولّد بين البشر -وعلى الرغم من إرادتهم- انسجام المختلف. فلهذا السبب، ولئن سمّي فعل الطبيعة قدرا من حيث هو فعل حتمي صادر عن علّة ما زالت نواميس إجراءاتها غير معروفة، إلاّ أنه يسمّى أيضا "العناية الإلهية"؛ نظرا إلى القصدية التي تتجلّى في سياق سيرورة العالم، والتي تعبّر عن حكمة عميقة ناجمة عن علّة عليا، تتابع الهدف النهائي الموضوعي للجنس البشري، وترتّب مجرى الأمور مسبقا"(68).

هل يعني ذلك أن البشرية تساق رغما عنها إلى السلم الدائم، وأنه لا يمكن للعناية الإلهية أن تسمح للبشر بالاحتراب إلى ما لا نهاية؟ على الرغم من محاولة تدارك كانط لهذا الموقف اللاهوتي من التاريخ الإنساني بإخضاعه إلى أسباب تتعالى عليه، ببيان احتفاظ الإنسان بحريته في الفعل -فعل الحرب وفعل السلم بما يمليه عليه عقله العملي- فإنه يعود ليؤكّد أن الطبيعة تسوقنا رغم أنوفنا للسلم، أو تأتي لتنجز السلم بدلا عنّا "عندما أقول عن الطبيعة: إنها تريد أن يحصل هذا الأمر أو ذاك؛ فلست أعني أنها فرضت علينا واجبا؛ (لأن العقل العملي وحده -وهو المتحرر من أيّ إكراه- يستطيع أن يملي علينا الواجب)؛ إنما أعني أنها تفعل هي نفسها ما تريد أن ترغمنا عليه شئنا أم أبينا"(69)ويضيف كانط في الصفحة ما بعد الموالية: "يصحّ -إذن- القول هنا: إن الطبيعة تريد -بصورة لا تقاوم- أن يكون النصر أخيرا للحق. إن ما يهمل البشر القيام به نرى الطبيعة تقوم به بنفسها في نهاية المطاف"(70) فهل يعني ذلك أن الطبيعة تأتي لتقوم مقامنا، وتوجّه التاريخ وجهة تراكمية نحو التقدّم الدائم حتى لا تغرق الإنسانية في الحروب؟ ألا يعبّر هذا الموقف عن تصور لاهوتي ومتعالٍ وميتافيزيقي لمسألة التقدّم اللامتناهي؟

 إن ما يريد أن يؤكّد عليه كانط هو أن البشرية مجبرة على التقدم على الرغم من كل الشرور والحروب والثورات والآلام التي تحيق بها؛ بل إنها تتقدّم بفضل كل ما يمكن للعقل الساذج أن يعدّه عوائق، فالسلم الدائم لا يمكنه أن يتحقّق في التاريخ إلاّ بنقيضها، وهو ما لا يعيه البشر في معظم الأحوال؛ فالطبيعة قد أعدّت البشر وهيّأتهم للعيش في كل مكان بل وفرضت عليهم ذلك في أحيان كثيرة ورغم أنوفهم، وفرّقتهم على الأرض بفعل الحروب التي يشنّونها على بعضهم على بعض، وجعلت عيشهم نكدا وعرا ليتكاتفوا ويتعاونوا ويعقدوا العلاقات فيما بينهم ويعيشوا في سلام رغم أنوفهم؛ لأن مواجهة الطبيعة لا تتم بشكل فردي، ولأن انشغال البشر بمحاربة الحيوانات الضارية أنساهم محاربة بعضهم بعضا؛ بل أجبرهم على العمل في جماعات للإيقاع بهذه الحيوانات والاستفادة من لحومها وشحومها وعظامها وفرائها.

 عندما انتقل الإنسان من الرعي إلى الزراعة ومن الزراعة إلى التجارة (الملح والحديد) -التي تفرض التنقل للأماكن البعيدة- وجدت الشعوب نفسها ملزمة على إقامة علاقات فيما بينها، وعقد الصفقات والروابط الاجتماعية، وهو ما يؤدي حتما إلى العيش في سلام، فالتبادل -الذي حكم علاقات البشر البدائيين الذين كانوا يعيشون في شكل قبائل وجماعات وعشائر وزمر وبطون- لم يكن تبادلا للمنافع والسلع والخيرات والمنتجات فقط؛ أي لم يكن تبادلا اقتصاديا وتجاريا صرفا؛ بل كان تبادلا شاملا للولائم والآداب والطقوس والنساء والأطفال والرقصات والاحتفالات والمعارض والهبات والهدايا، وهو ما يستدعي أن يركن البشر بعضهم إلى بعض؛ ليعيشوا سويا في سلام، وهو ما بيّنه عالم الاجتماع الفرنسي "مارسال موص" بمناسبة تحليله لمسألة الهبة في المجتمعات التقليدية(71) لكن المشكل لم يحل كلّيا في اعتقادي، فالطبيعة تهندس لنفعل (السلام) من حيث لا نعي ما تريد هي أن تحقّقه في التاريخ من خلالنا، وهنا يطرح مشكل علاقة النظرية بالتطبيق في الفلسفة الكانطية، ومشكل علاقة الضرورة (الطبيعة) بالحرية (الفعل الأخلاقي البشري المؤتمر بأوامر العقل العملي) واستتباعات هذين المشكلين على الحياة القانونية والحقوقية والسياسية للبشر. إن الإنسان الذي تتمثله فلسفات العقد الاجتماعي (هوبس، روسو، سبينوزا، لوك) هو الإنسان التعاقدي الذي أخذ زمام أمور بيده، وعقلن حياته السياسية، وأسسها على الحق والقانون والعدل والحرية والسلم، هو إنسان الثورة الفرنسية أيضا؛ أي هو الإنسان كما نحتته النظريات الفلسفية؛ ولكنه أيضا الإنسان كما صنعه التاريخ السياسي بكل دمويته وعنفه. فكيف تفكّر الفلسفة في العنف والحرب بعد أن انتصرت الثورة الفرنسية وأعدم لويس السادس عشر (1793) وعاد الرعب إلى المدينة من جديد؟ هل يجب على الممارسة السياسية أن تهتدي -مثلما قال كانط في بنده السرّي- بالنظريات الفلسفية وبالأخلاق الفلسفية أم أن ما يكون صحيحا في النظرية لا يكون كذلك في التطبيق؟ أليست النظريات الفلسفية بشأن الممارسة السياسية مجرد إيطوبيا حالمة؟

كلنا يعلم أن العقل عند كانط ليس تأمليا فحسب؛ بل هو أيضا عملي، ومثلما يشرّع في ميدان النظر يشرّع بالمثل في ميدان العمل، فالعقل نظر؛ ولكنه أيضا إرادة، ولذلك يصبح عملا وممارسة ما هو ممكن بفضل الإرادة، وإذا كان بعض الفلاسفة يحلمون بتأثير النظرية على الممارسة السياسية فإن كانط يعمل على جعل الممارسة تؤثّر في النظرية فتعيد تشكيلها من جديد وتوجّهها الوجهة التي تشاء، وهو ما سيعمل كانط على تحليله في ملحق كتاب "مشروع سلم دائم". ولذلك يمكننا القول: إن نظرية كانط حول السلم تقوم أساسا على الممارسة وعلى موقف كانط من التاريخ البشري. إن الدول -عند كانط، مثلما بيّنا سلفا- لا تباع ولا تشترى، ولا توهب ولا تعطى، فهي ليست شيئا؛ بل شخصية معنوية وكيان سياسي وأخلاقي، لا يتّجر به، وذلك شأن الجندي الذي لا يمكن أن يكون نظاميا، ولا يمكن تسويغه وتدريبه لإعداده للقتل، فذلك ليس غير اعتداء على الإنسان قاتلا كان أو مقتولا.

كيف يمكن تحصين السياسة حتى لا تنقلب إلى مُلْك جائر؟ كيف يمكن الجمع بين السياسة -باعتبارها ممارسة- والأخلاق باعتبارها نظرية؟(72) يعترف كانط في الملحق الأول من كتاب "مشروع سلم دائم" بوجود خلاف أو تعارض بين الأخلاق والسياسة وعنوان الملحق الأول يعبّر عن ذلك صراحة؛ ولكنه يقر في المقابل بأنه "لا يمكن حصول نزاع بين السياسة -من حيث هي ممارسة تقوم على تطبيق الحق- والأخلاق، من حيث إن الأخلاق هي القوام النظري للسياسة (وبالتالي ليس ثمّة نزاع بين النظرية والممارسة)"(73)، فإذا كانت السياسية تدعو أن نكون "حذرين كالثعابين"، فإن الأخلاق تضيف مقيّدة الفعل السياسي بالحكمة القائلة و"ودعاء كالحمام"؛ ليتم الجمع بين المثل الأعلى للعدل القائم على الحق (السياسة) والمثل الأعلى للفضيلة القائم على الخير (الأخلاق). من هنا يجب على الأخلاق -باعتبارها "علما عمليا"- أن تجنّد العقل ليكون في خدمة ما نرغب في تحقيقه أو ما نطمح لبلوغه (السلم)، وذلك على الرغم من قصوره وحدوده في كثير من الأحيان، فـ"العقل لا يتمتّع بالمعرفة الكافية التي من شأنها أن تتيح له التنبّؤ الأكيد بالنتائج الإيجابية أو السلبية المترتّبة على الفعل الذي يقوم به البشر، أو على امتناعهم عن القيام بالفعل...لكن العقل لا يقصّر قط في تزويدنا بالإرشادات الضرورية للنجاح في تحقيق ما نعتزم القيام به...ولا يتوانى عن إرشادنا إلى هدفنا النهائي"(74).

لكن هل يستطيع العقل العملي -على الرغم من حرصه على إرشادنا؛ لنتوخّى أفضل السبل لتحقيق السلم- أن يتخطّى تلك الصعوبة التي يرفعها أهل الممارسة من السّاسة، والتي مفادها أن الطبع الإنساني مفطور على ألاّ يريد أبدا ما هو ضروري لتحقيق هدف السلم الدائم؟ لا شك إن الإرادة الفردية وحدها لا يمكن أن تبني دولة، ولا يمكنها بالتالي أن تؤسّس حقا أو أن تحقّق عدلا أو سلما، وإذا كان فلاسفة العقد الاجتماعي يؤمنون جميعا بأن الدولة هي من نتاج تعاقد أفرادها؛ فإن كانط يبيّن لنا في هذا السياق أن "الجماهير المتوحّشة" لا يمكنها لوحدها أن تنتظم في دولة، وأن الدولة هي التي تجبر الأفراد على الانتظام، والانتقال بهم من مستوى "الحق الخاص" في التملّك وما يمكن أن ينجر عن الرغبة في التملّك من عنف وعدوان واعتداء على الآخرين، إلى مستوى "الحق العام" باعتباره إرادة كونية تضمن العلاقات بين المواطنين وتنظّمها وفق القانون، إلى مستوى "الحق بين الشعوب" أو "الحق الكوسموبوليتيقي".

إن الوحدة الجماعية -التي هي نتاج للإرادات المتّحدة- هي التي من شأنها أن تجعل البشر يعيشون وفقا لمبادئ الحرية وفي كنف نظام شرعي، وهو ما يعطينا إمكانية حقيقية للجمع الفعلي بين السياسة والأخلاق في شخص "سياسي أخلاقي"؛ أي في شخص رجل الدولة الذي لا يقبل من المبادئ السياسية غير تلك التي تكون متوافقة مع ما تدعو إليه الأخلاق(75)، وإذا كان من الممكن أن يجمع رجل الدولة بين السياسة والأخلاق فإنه من الصعب -حسب كانط- أن نجد "رجل أخلاق سياسيا" يمكنه أن يضع لنفسه منظومة تشريعية أخلاقية تكون صالحة لرجل الدولة. بناء على ذلك نستنتج إذن أن الممارسة (السياسية) هي التي يمكنها أن تبتكر لنفسها نظرية ('أخلاقية) تهتدي بها في حين يصعب على النظرية الأخلاقية أن تحدّد ما يجب على الممارسة السياسية أن تفعله.

على هذا النحو يعمل "السياسي الأخلاقي" على تصحيح ممارسته السياسية باستمرار كلّما اكتشف أن هذه الممارسة تشكو بعض مواطن الخلل؛ فلا يمكن سياسيا الإطاحة بدستور دولةٍ ما بجرّة قلم، وإحداث فراغ قانوني ودستوري يمكنه أن يعود بنا إلى حالة الطبيعة المتوحشة وحالة حرب الكل ضد الكل؛ وإنما يجب على صاحب السيادة أن يشتغل على تعديل دستور دولته أو إعداد دستور أفضل يمكنه أن يحل محل النظام القائم، فالانتقال من نظام حكم استبدادي إلى نظام حكم ديمقراطي لا يمكن -مثلما تعلّمنا الحكمة والفطنة السياسية- أن يتم بشكل فوري وفجائي؛ وإنما يقتضي ذلك إعداد الناس (الشعب) لتقبل الحكم الديمقراطي القاضي بالامتثال للقانون والخضوع لسلطانه: "تستطيع الدولة أن تعتمد نظام الحكم الجمهوري على الرغم من كون دستورها الساري المفعول ما زال ينص على السلطة الاستبدادية الفردية، وذلك بانتظار اليوم الذي يصبح فيه الشعب مؤهّلا لاستيعاب فكرة القانون والامتثال لسلطانه"(76).

إن الآفة التي تحدّق بالفعل السياسي وبرجل السياسة مضاعفة، فهي تتمثّل أولا: في أن يستجيب رجل الدولة بشكل متسرّع لما يمليه عليه المنظّرون الأخلاقيون الاستبداديون في تدبير الشأن العام، وهو ما من شأنه أن يوقعه في أخطاء تتعارض كلّيا مع ما تدعو إليه الفطنة السياسية، أخطاء تكشف التجربة والممارسة أنه لا بد من العدول عنها نحو النهج الأفضل. ثانيا: أن يعمد السياسيون الأخلاقيون إلى تزيين المبادئ السياسية المنافية للحق متذرّعين بأن الطبيعة البشرية هي أعجز من أن تحقّق فكرة الخير التي يفرضها عليها العقل(77) فيتهرّبون من إصلاح ممارستهم، ويؤجّلون إلى ما لانهاية له إيقاف كل الممارسات التي تنتهك الحق، متعلّلين (بكل غرور) بأنهم يدركون تمام الإدراك -وبشكل قبلي لا تجريبي(78)- مَنْ يكون الإنسان، مدّعين أنهم يلمّون بمقتضيات مبادئ النظام السياسي القائم على مفاهيم الحق، ولكن الحق لا يمكن أن يتأسس على القوّة أو على العنف أو الخداع والكذب؛ لأن "مفاهيم العقل تقتضي أن يكون القسر القانوني مبنيا فقط على مبادئ حرّة تستطيع وحدها إضفاء الصفة الشرعية"(79).

إن التعارض الذي يظهر بين السياسة والأخلاق -وعلى الرغم مِمَّا يمكن أن يثيره في نفوسنا من تحفظ وخوف، بفعل ما يمكن أن تتحوّل إليه السياسة من ممارسة براغماتية تعطي أولوية للنجاعة والتأثير على القيم الأخلاقية الرفيعة والسامية- ينظر إليه كانط بتفاؤل كبير؛ بل وبإيجابية من شأنها أن تحوّل التعارض بين الأخلاق والسياسة إلى عنصر تكامل وفرصة حقيقية للسمو بالفعل السياسي إلى مرتبة الفعل الأخلاقي القطعي، فمن الناحية الموضوعية -أي من حيث المبدأ- ليس هناك تعارض بين الأخلاق والسياسة، ولكن من الناحية الذاتية، أي بالنظر إلى الطبيعة البشرية وسيطرة النزعة الأنانية عليها "سوف يوجد دائما تعارض بين الأخلاق والسياسة؛ لأن هذا التعارض يعمل لصالح الفضيلة"(80).

وبما أن الفضيلة شجاعة دائم حسب كانط لكونها تعمل بالقول المأثور الذي يدعوها ألا تستسلم للشر، وأن تقاوم بشجاعة فإنها ستعمل على "اكتشاف مكمن الشر في أنفسنا، واجتثاثه منها، وهو شر متولّد من المبدأ السيئ الذي تدفعنا أكاذيبه الخطرة وسفسطاته الخادعة إلى الاعتقاد بأن ضعف الطبع البشري يسوّغ جميع الانتهاكات"(81)ومن هنا فإن شجاعة الفضيلة في مواجهة الشرور الكامنة فينا والعمل على استئصالها -على الرغم من صعوبة مثل هذا الفعل- هي التي بمستطاعها أن تصل بنا إلى تحقيق ما نصبو إليه من سلم دائم، ولذلك يثق كانط بشكل غريب جدا في قدرة الجنس البشري على الوصول إلى الحق والخير والعدل والسلم، فالتجارب البشرية المميتة والحروب الماحقة التي خاضتها الإنسانية عبر تاريخها الطويل -ولا تزال من المؤسف تخوضها هنا وهناك في مواقع مختلفة من الأرض- يمكنها أن تكون عبرة من السلف إلى الخلف، فتجعله أكثر حكمة ودراية وفطنة وحذرا، ومن حسن حظ البشرية أن العناية الإلهية لا تتخلّى عنها حتى في أحلك التجارب وأكثرها قسوة، فـ"في هذا ما يسوّغ العناية الإلهية التي تنظّم مسيرة العالم؛ ذلك لأن المبدأ الأخلاقي لا ينطفئ أبدا في ضمير الإنسان، ويجوز القول -من الناحية العملية-: إن العقل الذي يزداد غنى بفعل الثقافة المطّردة النماء، يجعل الإنسان قادرا على أن يحقّق -وفقا للمبدأ الأخلاقي- الأفكار الحقوقية"(82)، لذا يجب على الشعب ضمن الدولة -وعلى الدول في علاقاتها بعضها ببعض- أن تتصرف بموجب هذه المبادئ، مهما كانت الاعتراضات التي يمكنها أن تعوق السياسة العملية وتمنعها من السير في هذا الاتجاه.

فمن اللحظة التي يعدّ فيها الإنسان "الحق بمثابة شيء مقدس"؛ أي من اللحظة التي يوضع فيها الحق فوق كل اعتبار، وفوق كل منفعة كائنة ما كانت، فإنه لم يعد بإمكان السياسي أن يسلك سلوكا إلاّ وفْق ما يمليه عليه نداء الواجب الذي هو نداء العقل، على الرغم مِمَّا تبدو عليه السياسة كفن صعب؛ ولكن "السياسة الحقيقية لا تستطيع أن تحقّق خطوة واحدة قبل أن تنحني إجلالا للأخلاق...بل يتوجّب على أيّ سياسة كانت أن تخضع للحق(83)" فتلك هي الوسيلة الوحيدة التي تمكّنها من السمو ومن المجد الخالد حتى ولو أدركت كل ذلك ببطء، فتحقيق السلام الدائم مهمّة تتحقّق رويدا رويدا، وإن كانت قد بدأت تتسارع أكثر فأكثر مثلما ينهي كانط بكل تفاؤل(84)، وإذا كان الإنسان بمفرده غير قادر على تحقيق السلم الدائم؛ نظرا لقصر عمره وسيطرة النزعات الأنانية عليه وميله للانعزال على الرغم من كونه لا يستطيع العيش بمفرده؛ فإن الإنسان كشعوب وكدول يمكنه أن يحقّق الحرية باعتبارها الهدف الأعلى للتاريخ البشري، مع التأكيد أن تحقيق الحرية وما يتبعها من سلم لا يمكن أن يتم إلاّ في التاريخ وعبر الزمن؛ لأن الانتقال بالإنسان من الأنانية والعنف إلى الغيرية والسلم هو مسار أخلاقي شاق وطويل يحتاج إلى زمن مديد وقد تسهم الثورات أحيانا في تحقيق هذه الأهداف مثلما وقع مع الثورة الفرنسية، على الرغم من تحفّظ كانط الكبير على الثورة باعتبارها انقلابا على الدولة، ذلك أن أسوء ما يمكن أن يحدث لثورة من الثورات هو أن تفشل(85)؛ لأن فشلها يعني إعدام كل من شارك فيها والرد على عنفها بعنف أكبر، وهو ما من شأنه أن يطيل في عمل الحرب ويؤجّل السلم، ولكن نجاح الثورة الفرنسية قد أسهم في إقرار الحق وبناء السلم والدفع نحو الحرية.

الخاتمة:

لكن يظل سؤال ديمومة السلم مطروحا؛ إذ هل يمكن أن تنجح البشرية في تجاوز كل خلافاتها وصراعاتها وتضارب مصالحها؟ من يستطيع أن يغيّر من شأن الطبع العدواني في الإنسان؟ لماذا لم تنجح الأخلاق في الحد من التنافس الطبعي (آدم سميث) المتأصّل في الإنسان؟ كيف فشلت الأديان في جعل البشر شعوبا وقبائل متعارفة؟ لماذا لم تنجح الدولة -مهما كان نوعها ديكتاتورية أو ديمقراطية- في تحقيق السلم الدائم؟ ما الذي يعوق البشر على التقدّم في مجال القيم الإنسانية السامية على الرغم من تقدّمهم في السيطرة على شروط وجودهم المادي؟ لماذا تقدمت البشرية في عالم الأشياء وتخلّفت في عالم القيم الأخلاقية والجمالية والسياسية والروحية؟ هل ما يزال من حقنا أن نأمل (وكانط يسأل ما الذي يجوز لي أن آمل؟) في تحقيق السلم الدائم أمام ما يشهده عصرنا من حروب دموية لا تزال تنبئ بالأسوأ؟ هل الحرب لعنة لا يمكن للبشرية أن تتخلّص منها لا الآن ولا مستقبلا؟ متى تصل البشرية إلى الاقتناع بأنه لئن مددت يدك لتقتلني ما أنا بمادِد يدي لأقتلك؟

من غرائب الأمور أن الحروب الحديثة -(خاصة الحربين العالميتين الأولى والثانية) التي طحنت أوروبا وأزهقت ملايين الأرواح البشرية البريئة التي أُلقي بها في أتون المعارك دون أن يكون لها لا ناقة ولا جمل- لم تتوقّف؛ ولكنها غيّرت من مواقعها الجغرافية والاستراتيجيّة، فنُقلت خارج أوروبا نحو بلدان عربية وإسلامية ونحو بلدان ما يسمى "العالم الثالث"؛ أي البلدان التي عانت طويلا -ولا تزال تعاني- من نير الاستعمار والتفقير والتجويع والتشريد والترحيل الجماعي والقتل الممنهج تحت يافطات "إنسانية" مختلفة، مرّة باسم محاربة الإرهاب، ومرّة أخرى باسم الحيلولة دون امتلاك بلد من بلدان العالم الثالث لأسلحة الدمار الشامل، ومرّة ثالثة باسم حماية المدنيين من فظاعات حكامهم، ومرّة رابعة باسم نشر السلام في العالم والقضاء على دول محور الشر، ومرّة خامسة باسم صراع الحضارات والأديان والثقافات (صمويل هنتنجتون). وكلّما ابتعدت البلدان الغربية عن خوض حروب فوق أراضيها واستطاب المواطن الغربي بعيش كريم ومسالم داخل اتحاد أوروبي متضامن في السراء والضراء منذ 1945؛ غرقت بلدان "العالم الثالث" من العرب والمسلمين والأفارقة في حروب أكثر فأكثر بشاعة، حروب اتخذت أشكال التصفيات العرقية والدينية والقبلية، فهل لنا أن نأمل أن الحروب ستنتهي ضرورة إلى السلم مثلما بيّن لنا كانط أم أن هذا الحلم الناعم سرعان ما ينقشع ليترك مكانه لبشاعة الواقع الدموي ومرارته؟ لماذا لم تنجح "الأمم المتحدة" في القضاء على الحرب؟ هل يمكن لهذه الهيئة العالمية -التي يكون أعضاؤها خصما وحكما في الكثير من الأحيان- أن تنجح في تطبيق فصلها الأول الداعي إلى تطوير علاقات صداقة بين الأمم، والقائمة على مبدأ المساواة في الحقوق الإنسانية وحق الشعوب في تقرير مصيرها؟

يبدو أن بشاعة العالم التي نعيشها لا يمكن أن يعالجها القديسون ولا الأنبياء ولا حتى الفلاسفة مثلما يدعو إلى ذلك كانط، فمن من السياسيين والعسكريين والاقتصاديين المتعطشين للسيطرة على موارد الطاقة في العالم بإمكانه أن يصغي لما يقول رجال الدين أو رجال الأخلاق أو الفلاسفة؟ فلا صوت يعلو اليوم فوق صوت المنفعة والمصلحة والنجاعة، إننا في حضارة "الإنسان ذي البعد الواحد" كما يبيّن هربرت ماركوز، حضارة تسلب الذات الإنسانية من كل دور أخلاقي وسياسي وجمالي لتختزلها في العد والحساب والنجاعة، حضارة تعبّر عن "أزمة العلوم الأوروبية" (إدموند هوسرل)، بل وأزمة الضمير الإنساني والقلق الماحق (فرويد، قلق في الحضارة)، حضارة تغولت فيها الميكانيكا على التصوف، وعمقت الهوة بين الجسد والروح، وبين المطالب الروحية والمطالب المادية (برقسون، منبعا الأخلاق والدين)، فهل من حقنا والحال تلك أن نأمل في تحالف جديد بين الإنسان والعالم وبين النجاعة والقيم (بريقوجين وستنقرس)؟ هل كل حرب هي حرب قذرة؟ ماذا نسمّي الحروب التي تخوضها الشعوب من أجل التحرر والاستقلال؟ هل العنف الذي يلجأ إليه من كان مستَعْمَرا هو عنف مذموم؟ ماذا نسمّي عنف المُسْتَعْمِر إذن، هل نسميه عنفا محمودا؟ ألا يمثل اللجوء إلى العنف أحيانا ضرورة لا محيد عنها بل أمرا مشروعا لأبعد الحدود خاصة عندما نجد أنفسنا أمام مجرم محترف أو أمام نظام قهري واستبدادي ودموي أو أمام قوّة غازية ومستعمِرة؟ لكن رغم هذه اللوحة السوداوية التي يرسمها عالمنا المعاصر؛ فإننا ما زلنا نثق في الإنسان وفي قدرته على بناء السلم، وبناء السلم يمر من خلال التأكيد من جديد 1- على أهمية التربية على القيم الأخلاقية والروحية والدينية التي ترى أن من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنّما أحيا الناس جميعا. 2- على الثقة في العقل الإنساني الذي لا يتوقّف عن دعوتنا أن نعامِل الناس مثلما نحب أن نعامَل، وأن نعامل الإنسانية في شخصنا وفي أشخاص الآخرين دائما كغاية لا كوسيلة. 3- أن ننفر الناشئة من كل أشكال العنف، وأن نصور لهم بأبشع الصور إراقة الدماء، وأن نكرّه في نفوسهم العدوان، وأن نزيّن لهم مساعدة الآخرين ونجدتهم والتعاون معهم؛ لأن السعادة تكمن في التواصل والتبادل والحب. 4- أن نضع من القوانين الرادعة أولا والزجرية ثانيا ما من شأنه أن يردع كل من تحدّثه نفسه بالاعتداء على الآخرين(86).

لا تبدو الدعوة اللامشروطة لنبذ العنف دعوة واقعية، فحتّى المهاتما غاندي -الذي كان يدعو شعبه إلى استعمال اللاعنف والمسيرات السلمية والاعتصامات الحاشدة في مقاومة الاستعمار الإنجليزي- نجده يقول: "حيث لا اختيار إلاّ بين الجبن والعنف أنصح بالعنف...فأنا أدعو إلى شجاعة هادئة، شجاعة الموت دون القتل؛ ولكن من لم تكن له هذه الشجاعة فأنا أود أن يعنى بفن الاقتتال، فذلك أولى من أن يفر من الخطر بصورة مشينة"(87)فإظهار الاستعداد بأننا قادرين حقا على العنف وعلى إرجاع الصاع صاعين، وأننا لن ندير خدّنا الأيسر لمن صفعنا على خدّنا الأيمن، وأننا نملك القدرة على حمل السلاح بل وعلى استعماله؛ يمكنه أن يثني الكثيرين ممن يفكرون في الاعتداء علينا، فلئن كنا ضد الظلم فإن ذلك لا يعني أن نقبل بأن نكون موضوعا للظلم، وإذا كان الله قد حرم الظلم على نفسه وجعله بين الناس محرما ودعانا ألاّ نتظالم فإن ذلك لا يعني أن نقبل الظلم، فالساكت على الظلم شيطان أخرس، ونحن لا نريد أن نكون شياطين ولا أن نكون خرسى. فالعنف الدفاعي ضرورة حياتية وأخلاقية؛ ولكن لا يعني ذلك أن نعطي لأنفسنا الحق فيما يسميه كانط بالعنف الاستباقي ولا العنف الاعتدائي؛ لأن من شأن ذلك أن يؤسّس لعنف كنّا نحسب أنفسنا بأننا نحاربه؛ ولكن علينا أن نقبل في المقابل التعايش مع أشكال خفيفة من الاعتداء والضغط والصراعات والمناكفات من هنا وهناك؛ لأنه ليس هناك مجتمع طاهر تماما من العنف مثلما يتوهّم الطهريون؛ فالأخلاق وحدها لا تكفي لتسيير مجتمع من المجتمعات، ولذلك كان علينا أن نتملّك بأفضل ما يكون هذا الفن الصعب الذي هو فن السياسة الذي يستدعي الدخول في حوارات وتسويات وتنازلات من جهة، وقدرة على فرض الذات وفرض مواقفها من جهة أخرى، فالسياسة بفنّها تجنبنا "أهوال العنف" كما يقول كانط، وأهوال العنف ليست الموت فقط؛ بل الخراب والنهب والفقر والاستعباد وفقدان الحرية وانتشار الأخلاق الهمجية والبربرية ونشر الإشاعات المغرضة وانتشار الجواسيس والقتلة والقناصة المحترفين، وأخيرا السقوط تحت الهيمنة الخارجية(88).

مع أنه لا يمكننا أن نختم دون أن نبيّن أن ما لم يكن بإمكان كانط أن يدركه في القرن الثامن عشر هو أن أشكال العنف اليوم أصبحت تختلف بشكل جذري عمّا كانت عليه في السابق، وأن العنف المعاصر لم يعد حكرا على الدولة الديكتاتورية؛ وإنما أصبح القاسم المشترك بين كل الدول ديكتاتورية كانت أو ديمقراطية، فتطور التقنية وتطور وسائل الاتصال الجماهيرية وتقنيات الصورة وتطوّر العلوم الإنسانية قد أعطى للسلطة الحاكمة ما لم تكن تحلم به من قدرة على التحكّم والتسيير والتوجيه الناعم، وجاءت "السلطة الميكروفيزيائية" و"التكنولوجيا السياسية للجسد" لتحل محل "السلطة الماكروفيزيائية" وحل نوع من الاستعباد الخفي محل الاستعباد العنيف(89)، لذلك أصبح من الجائز الحديث اليوم عن اضطهاد خاص بالشعوب الديمقراطية، وهو اضطهاد لا يشبه في شيء ما عرفته المجتمعات البشرية سابقا، إنه اضطهاد المجتمعات الرأسمالية الجديدة القائم على الاستهلاك ومزيد الاستهلاك، وإغراق الناس في المتع واللذات والسعادات المادية العابرة التي لا يمكن إشباعها أبدا؛ لكونها تتجدّد باستمرار، أو يعمل النظام على تجديدها مثلما يعمل على تأبيدنا في مرحلة اللذة إلى مالا نهاية، ويحوّل المواطنين إلى مجرد قطيع من الحيوانات الوديعة والنشطة التي تصبح الدولة له بمثابة الراعي (ألكسيس توكفيل، في الديمقراطية في أمريكا).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1)      إيمانويل كانط، مشروع سلم دائم، محاولة فلسفية، ترجمه وقدّم له الدكتور نبيل الخوري، دار صادر، بيروت، 1985، ص64.

2)      كانط فيلسوف ألماني ولد ومات في مديتة كونقزبارق (KÖnigsberg) الألمانية (1724-1804).

3)      إيمانويل كانط، تأمّلات في التربية، تعريب محمود بن جماعة، دار محمد علي الحامي للنشر، صفاقس-تونس، 2005، ص14.

4)      المرجع السابق، ص11.

5)      المرجع السابق، ص12.

6)      المرجع السابق، ص19.

7)      المرجع السابق، ص22.

8)      المرجع السابق، ص22-23.

9)      يقول جان جاك -روسو الذي سيكون له الأثر الكبير على كتابات كانط في التربية وفي السياسة واصفا حالة البشر المزرية، مشككا في إمكانية تحقيق السلم في ظل دول تدعي العدل، وتمارس الظلم باسم القانون-: "أتصفّح كتب القانون والأخلاق، وأستمع إلى العلماء وإلى فقهاء القانون، فأحزن - متأثّرا بخطبهم المنمّقة- لما عليه الطبيعة من بؤس، وأُفتن بالسلام والعدل الذين أقرهما النظام المدني، وأحمد حكمة المؤسسات العمومية، وأتعزّى -عندما أرى نفسي مواطنا- بأنني إنسان، فإذا فقهت واجباتي وسعادتي، وطويت الكتاب وبارحت قاعة الدرس ونظرت حواليّ؛ رأيت شعوبا بائسة تئن تحت نير حديدي، ورأيت الجنس البشري تسحقه حفنة من الطغاة، ورأيت طائفة من الجياع يكبّلها الشقاء والجوع، ويشرب الثريّ - مرتاح البال- دمها ودموعها، ورأيت القوي -في كل مكان- متسلّحا ضد الضعيف بسلطة القانون الرهيبة...أشخص ببصري وأنظر بعيدا، فأرى نيرانا وشعَلا وأريافا مقفرة ومدنا منهوبة. أيّها الرجال العتاة إلى أين تجرّون هؤلاء التعساء؟ وأسمع صخبا مروّعا، يا لها من جلبة، ويا لها من ضوضاء. وأدنو، فأرى ساحة موت قد ذبح فيها عشرة آلاف رجل، وتكدس الموتى أكواما، وقد ديس الجرحى تحت سنابك الخيل، وحيثما نظرت رأيت صور الموت والاحتضار. تلك هي إذن ثمرة هذه النظم السلمية. وتثور في أعماق قلبي الرحمة والنقمة. أيها الفيلسوف القاسي، اذهب فاقرأ كتابك في ساحة وغى. أثمة أفئدة بشر يمكن ألاّ تهتزّ لهذه الأمور المحزنة؟ غير أنه لم يعد مباحا للمرء أن يكون إنسانا وأن يدافع عن قضية الإنسانية؛ إذ يجب إخضاع العدل والحقيقة لمصالح من هم أشد قوّة: إنها القاعدة".

(Jean Jacques Rousseau, L’état de guerre, Paris, Gallimard, Pléiade, T.3, p608).

10) لقد كان نيتشه أفصح من عبّر من فلاسفة الغرب المحدثين عن رغبة الإنسان الجامحة في الاعتداء والتعنيف، فقال في كتابه "ما بعد الخير والشر": "أن يمتنع المرء عن إهانة الآخر، وعن تعنيفه وعن نهبه، وأن يقرّ المرء بأن إرادة غيره من الناس معادلة لإرادته، كل ذلك يمكن أن يمثّل -إجمالا- قاعدة حسنة لسلوك الأفراد فيما بينهم، إذا ما تحقّقت الشروط الضرورية (وأعني أن تتماثل القوى وتتماثل المعايير لدى الأفراد تماثلا حقيقيا، وأن ينسجموا داخل نفس البناء الاجتماعي). ولكن ما إن نسعى إلى سحب تطبيق هذا المبدأ؛ أي إلى جعله المبدأ الأساس الذي يقوم عليه المجتمع، حتى ينكشف على حقيقته، فإذ هو نفي للحياة، وإذا هو مبدأ انحلال وانحطاط. وينبغي أن نلمس هنا أعمق أعماق الأمور، وأن نمتنع عن كل ضعف عاطفي؛ فالحياة إنما هي في جوهرها سلبُ ما للضعيف والغريب، وجرحه وتعنيفه، واضطهاده، وهي أن يفرض القوي بالغلظة والفظاظة أشكاله الخاصة، وأن يدمجه أو على الأقل (وهو الحل الأرفق) أن يستغلّه...؛ لأن الحياة هي بالتحديد إرادة القوّة...فليس الاستغلال صنيع مجتمع فاسد وناقص أو بدائي؛ بل هو ملازم لطبيعة الحياة نفسها، وهو الوظيفة العضوية الأولى والأساسية، وهو نتيجة إرادة القوّة في حدّ ذاتها التي هي إرادة الحياة نفسها. وقد نكون بإزاء نظرية مستحدثة، غير أننا في الحقيقة إزاء المعطى الأول والأساسي للتاريخ بأكمله. فليكن لنا من النزاهة ما يجعلنا نقر به".

(F.Nietzsche, Par-delà le Bien et le Mal, Paris, Gallimard, 1971, § 259).

11) ليس من السهل أن يختار البشر التنظم في دولة، وخاصة إذا كانت هذه الدولة تحتكم لنظام جمهوري، لذلك "نرى الكثيرين يزعمون أن الشعب الذي يريد أن ينتظم في جمهورية ينبغي عليه أن يرتقي أفراده إلى مصاف الملائكة؛ لأن البشر -بما هم عليه من ميول أنانية- أعجز من أن يشكّلوا نظاما على هذا المستوى من الرفعة". (إيمانويل كانط، نحو السلام الدائم، ص65).

12) كتاب "نحو مشروع سلم دائم" كتبه كانط سنة 1795 أي بعد صدور النسخة الأولى من كتاب "نقد العقل المحض" (1781) وصدور النسخة الثانية من نفس الكتاب (1787) وبعد كتاب "تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق" (1785) وكتاب "نقد العقل العملي" (1787) وأخيرا كتاب "نقد ملكة الحكم (1790)، أي أن كتاب "نحو مشروع سلم دائم" لم يظهر إلاّ وقد اكتملت فلسفة كانط النقدية بالنظر في مجالات المعرفة والأخلاق والجمال، وقد قسم كانط كتابه مدار نظرنا في هذا المقال إلى: - تنبيه يؤكّد فيه كانط على قيمة أقواله. - قسم أول: يحتوي على ستة مقالات هي بمثابة "البنود التمهيدية المقترحة قصد إقامة السلام الدائم بين الدول". - قسم ثان: و"يتضمّن البنود النهائية الضرورية للسلام بين الدول"، وهي ثلاثة. - تتمة أولى: في ضمان السلام الدائم. - تتمة ثانية: بند سرّي مقترح بقصد السلام الدائم. – ملحق. - أولا: في الخلاف بين الأخلاق والسياسة حيال السلام الدائم. - ثانيا: في التوافق بين السياسة والأخلاق حسب المفهوم المتسامي للحق العام. (انظر: إيمانويل كانط، مشروع سلم دائم، محاولة فلسفية، ترجمه وقدّم له الدكتور نبيل الخوري، دار صادر، بيروت، 1985).

13) كانط، نحو السلام الدائم، ص70.

14) المرجع نفسه، ص71.

15) المرجع نفسه، ص71-72.

16) المرجع نفسه، ص70.

17) المرجع نفسه، ص72.

18) المرجع نفسه، ص71.

19) المرجع نفسه، ص71.

20)    André Tosel, Kant Révolutionnaire Droit et politique, PUF, 1990, p11.

21) إيمانويل كانط، نقد ملكة الحكم، ترجمة غانم هنا، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت-لبنان، 2005، الهامش 2، الفقرة 65، ص320.

22) إيمانويل كانط، تأمّلات في التربية، ص11-12.

23) كانط، مشروع سلم دائم، ص85.

24)    Thomas Hobbes, Léviathan, Paris, Sirey, 1971, p175.

25) إن من الثورات حسب كانط ما يمكنه أن يأتي بنظام يكون أكثر استبدادا وعنفا من النظام الذي كان سائدا، ومع ذلك يرى كانط أنه من الأفضل ألا يعمد من قامت عليهم الثورة إلى ثورة ثانية تعيد الشعب إلى نظامه السابق: "لو افترضنا أن ثورة ما حدثت بدافع من مخطّطات سيّئة، وقضت بوسائل عنيفة وغير شرعية على نظام هو أفضل ممّا جاءت به، فلن يكون من المستحسن إعادة الشعب بعد ذلك إلى نظامه السابق، على الرغم من حق الذين يتولون أمور الدولة في معاقبة جميع من أسهموا في الثورة المغلوبة، سواء ارتدت إسهاماتهم طابع العنف أو اندسّت تحت ستار الحيلة". (كانط، مشروع سلم دائم، ص76-77).

26)    Emmanuel Kant, La philosophie de l’histoire, Idée d’une histoire universelle du point de vue cosmopolitique, Traduction Piobetta, Aubier, 1947, p68.

27) إيمانويل كانط، مشروع سلم دائم، ص91.

28) إن الطبيعة كما يحدثنا عنها كانط قد تفننت في جعل الإنسان شقيا حتى يستحق أن يكون سعيدا بفضل ما يبذله من عمل ومن جهد، وفي هذا السياق يقول كانط: "قضت الطبيعة أن يستمد الإنسان من ذاته كلّيا كل ما يتجاوز الانتظام الآلي لوجوده الحيواني وألاّ ينال أيّ سعادة أو كمال غير ما أبدعه هو نفسه بواسطة عقله الخاص بمعزل عن الغريزة. وفعلا فإن الطبيعة لا تأتي شيئا عبثا، وهي لا تسرف في استخدام الوسائل لتبلغ أهدافها. فلما زوّدت الإنسان بالعقل وحرّية الإرادة المستندة إلى ذلك العقل فإنها قد وضّحت بجلاء غايتها مما حبت به الإنسان. فما كان يجب أن تحمه الغريزة وألاّ تعضده معرفة فطرية أو ترشده، بل يجب عليه أن يستمد كل شيء من ذاته. فالعناية التي يوليها لاختراع وسائل عيشه ولباسه وسلامته وأمنه الخارجي (وهي أمور من أجلها لم تمنحه قرني ثور ولا مخالب أسد ولا أنياب كلب بل يدين فقط)، وكل المسلّيات التي قد تجعل حياته ممتعة؛ بل ذكاؤه وحكمته ذاتها وحتى طيبة إرادته إنما يجب أن يكون كل ذلك من صنيعه الخاص؛ إن الطبيعة لتبدو هاهنا وكأنها استعذبت الشدّة في الاقتصاد، وقدّرت ما منحته من تجهيز حيواني، وحدّدته بأدنى مقدار وأحوجه إليه وفقا لأكثر الحاجات إلحاحا لوجود مازال في بداياته. وكأنها كانت تريد للإنسان -وهو يجتهد يوما ليتخلّص من الخشونة الأكثر بدائية حتى يبلغ التقنية الأكثر تطوّرا ويرتقي إلى الكمال الباطني لأفكاره، ومن ثمّة إلى السعادة (بقدر ما يكون ذلك ممكنا على وجه الأرض)- ألاّ يعود الفضل في ذلك إطلاقا إلاّ له وحده، وألا يكون مدينا فيه إلاّ لذاته، وكأنها أولت -في الإنسان- احترامه لذاته احتراما حكيما أهمية أكبر من تلك التي أولتها لرفاهته؛ ذلك أن مجرى الأمور الإنسانية تنتصب فيه محن كثيرة تتربّص بالإنسان. ويبدو جليا أن الطبيعة ما قصدت قط إلى أن تمنحه حياة سهلة بل على العكس (قصدت إلى) أن تلزمه بأن يسمو بما يبذله من جهود حتى يصير أهلا للحياة والرفاه بفضل سلوكه".

(Emmanuel Kant, La philosophie de l’histoire, p62-63).

29)    Ecant, Fondements de Métaphysique des mœurs, Traduction Victor Delbos, Paris, Delagrave, 1965, p131.

30) انظر: أبيقور، الرسائل والحكم، رسالة إلى منيسي، دراسة وترجمة جلال الدين سعيد، الدار العربية للكتاب، 19991، ص205-207.

31)    Kant, La philosophie de l’histoire, Idée d’une histoire universelle du point de vue cosmopolitique, chap VII.

32) لكن بقدر خوف الإنسان من الموت العنيف بقدر ما يقبل على الموت بإقباله على الحرب؛ لأن الذهاب إلى الحرب كان ولا يزال علامة من علامات الفحولة والرجولة والشجاعة وعدم الخوف من الموت، فالذهاب للحرب يبدو كأنه حجّة على كون المحارب لا يهاب الموت بل يذهب إليها برباطة جأش، ولنا في أدبيات ونصوص العصور الوسطى الأوروبية وفي أشعار العرب القدامى (قبل الإسلام خاصة) تقريظ للحرب وامتداح لها، بل إن النشيد الوطني الرسمي الفرنسي(La Marseillaise) الذي كتب نصّه الضابط Claude Joseph Rouget de Lisle (1760-1836)لا يزال منذ 1792؛ أي قبل أن يكتب كانط كتابه حول السلم الدائم (1795) إلى اليوم يتغنّى بالحرب والقتال، ويحث فيالقه على الاقدام عليها وحمل السلاح (انظر: في الأنترنت الموقع التالي:  http://www.aidenet.eu/chants01.htm

(انظر أيضا:   Roland Quilliot, Une paix perpétuelle est-elle concevable, in Analyses et réflexions sur Kant, Vers la paix perpétuelle, ouvrage coordonné par Hervé Guineret, Ellipses Éditions, Paris, 2002, p18.

 (كما يبيّن ماكييفيل في كتابه "الأمير" أن الغزو والحرب أمران عاديان بل وضروريان: "إن الرغبة في الغزو أمر عادي جدا، وهي متوافقة مع الطبيعة، وفي كل مرّة يخوضها الرجال الذين يستطيعون فعل ذلك سيتم امتداحهم، أو على الأقل لن يتم توبيخهم...فلا يجب أن يكون للأمير من اهتمام آخر ومن تفكير آخر، ولا أن يعنى عناية خاصة غير عنايته بالحرب، وبالتنظيم وبالفن العسكري".   is, Gallimard, 1971, § 259).

(Machiavel, Le Prince, Livre de poche, p29).

بل إن هيجل يتحدّث عمّا يسميه بـ"اللحظة الإيتيقية للحرب".

(Hegel, Principes de la philosophie du droit, § 324)

أين نحن إذن من الحضارة ومن العلم ومن التقدّم التقني ومن العقلانية والتدبير المعقول للعالم وللعلاقات بين البشر؟ هل الحضارة والمدنية ليست أكثر من طلاء خارجي، وهل وراء قناع العقلانية يختفي غول التدمير والغرائز "التناتوسية" المرعبة، وهل الإنسان "المتحضر" لم يتقدّم كثيرا من الناحية النفسية عن أجداده البدائيين وهل لا يزال قادرا على اقتراف أقسى البشاعات وهل تقدّمه الوحيد هو في تطوير آلات القتل لتقتل أكثر وبشكل أعنف وأوحش؟ هل الحضارة هي سبب بؤسنا كما يتساءل فرويد في كتابه "قلق في الحضارة"؟

33) يقول كانط في البند 45 من كتاب "فلسفة الحق" في إطار التفريق بين السلطات والتمييز بينها: "كل دولة تحتوي في ذاتها ثلاث سلطات؛ أي أن الإرادة العامة تتوزّع فيها إلى ثلاثة أشخاص: السلطة العليا القائمة في شخص المشرّع، والسلطة التنفيذية المتمثّلة في الشخص الذي يحكم (وفق للقانون) والسلطة القضائية (التي تعطي إلى كل ذي حق حقّه، حسب القانون)، وتتمثّل في شخص القاضي". وما دمنا بشأن الحديث عن المواطن باعتباره مشرّعا للقانون، نسوق قول كانط بشأن السلطة التشريعية النابعة من الإرادة العامة: "لا يمكن لهذه السلطة أن تصدر إلاّ من إرادة الشعب العامّة. وفعلا فبما أن كل حق يجب أن ينبثق من الشعب، لا يمكن للشعب أن يوقع -بفعل القانون الذي يصدر عنهـ/ أيّ ظلم على أيّ كان. في حين أن الفرد عندما يقرّر شيئا تجاه فرد آخر، يظل من الممكن دائما أن يوقع به بعض الظلم؛ لكن من المستحيل أن يقع أيّ ظلم عليه من جرّاء ما يقرّره لنفسه. لذا فليس غير إرادة الجميع المتوافقة، الجماعية، من حيث إن كل فرد يقرّر الشيء نفسه للجميع، والجميع لكل فرد، ليس غير إرادة الشعب الجماعية من يستطيع أن يشّرع". (البند 45 من كتاب "فلسفة الحق").

34) كانط، كتاب "فلسفة الحق"، البند A، ص144.

35) إيمانويل كانط، مشروع سلم دائم.

36)    Spinoza, Traité théiligico-politique, Paris, Garnier-Flammarion, 1966, p329-330.

37) لا يختلف كانط البتة عن سبينوزا في هذه المسألة؛ بل إنه يحذو حذوه حذو النعل بالنعل عندما يقول، فقد جاء في فصل "العلاقات بين النظرية والتطبيق" من كتابه "الأخلاق والسياسة" (ص 102): "يجب أن يمنح المواطن -بإذن من رئيس الدولة نفسهـ/ حق إبداء الرأي علنا بخصوص ما يراه ظلما بحق الدولة في المراسيم التي تصدرها السلطة. فحرية الرأي -مقرونة بحرية النشر- تؤلّف الحصن الوحيد الذي يحمي حقوق الشعب". فحق إبداء الرأي لا يستمده المواطن من نفسه مباشرة بل هو حق يعطيه رئيس الدولة لمواطنيه كما يمكنه أن يمنعه عنهم، وهنا نسأل ماذا يفعل المواطنون حتى عندما يُمنعون من حق إبداء الرأي؟

38) كانط، كتاب "فلسفة الحق"، البند A، ص144.

39) والعبارة من استعمال كانط، مشروع سلم دائم، ص91.

40) المرجع نفسه، ص92.

41) المرجع نفسه، ص92.

42) المرجع نفسه، ص31.

43) المرجع نفسه، ص32.

44) المرجع نفسه، ص48.

45) عندما يقارن كانط بين الدول الأوروبية (وما اقترفته من جرائم في حق الشعوب الأخرى) بالدول الآسيوية المضيافة تظهر الفروقات كبيرة بين الشعوب في تعاملها مع غيرها من الشعوب الأخرى: "إذا قارنا التصرّف الجفائي الذي تبديه الدول المتمدّنة لا سيما الدول التجارية في قارتنا الأوروبية، نلاحظ أن الظلم الذي يبدر من هذه الدول في زياراتها إلى البلدان والشعوب الغريبة (وهي زيارات ترادف لديهم كلمة الغزو) يتّخذ أحجاما مرعبة. فأميركا والبلدان التي يقطنها الزنوج، وجزر التوابل، ورأس الرجاء الصالح، الخ...اعتبرها مكتشفوها بمثابة أراض لا يملكها أحد؛ فلم يقيموا أيّ اعتبار لسكّانها. أما في بلاد الهند الشرقية (بلاد الهندوستان)، وبذريعة إنشاء مكاتب الصرافة ليس إلاّ أدخلوا جيوشا أجنبية استخدموها في قهر السكان الأصليين، وأثروا حروبا طويلة عريضة بين مختلف الدول في تلك البلاد، وأشاعوا فيها الجوع وحركات العصيان وأعمال الخيانة وما إليها من الشرور التي ترهق البشر بالويلات. أما الصين واليابان فبعد أن اختبرا معدن هؤلاء الضيوف تصرفا تصرف الحكيم الذي تقتضيه هذه الخبرة". (المرجع نفسه، ص54-55.)

46) يقول كانط: "يجب أن تزول الجيوش النظامية كلّيا مع مرور الوقت". ص32.

47) المرجع نفسه، ص33.

48) المرجع نفسه، ص35.

49) المرجع نفسه، ص39.

50) المرجع نفسه، الهامش 4، ص39-40.

51) المرجع نفسه، ص40. (في ص44) يقدم كانط تعريفا للنظام الجمهوري بمقارنته بالنظام الاستبدادي فيقول: "الجمهورية هي النظام السياسي الذي يقرّ الفصل بين السلطة التنفيذية (سلطة الدولة) والسلطة التشريعية. أما النظام الاستبدادي فيقوم على التنفيذ الكيفي، الاعتباطي، من قبل رئيس الدولة للقوانين التي استنّها هو نفسه".

52) المرجع نفسه، ص42.

53) المرجع نفسه، ص46.

54) المرجع نفسه، ص65.

55) المرجع نفسه، ص47.

56) المرجع نفسه، ص47.

57) إن تقسيم البشر إلى متوحشين وهمجيين وحيوانيين من ناحية وإلى مدنيين ومتحضرين وإنسانيين من ناحية أخرى تقسيم نجده سائدا عند العديد من فلاسفة الغرب في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وهو يعبّر عن نظرة استعلائية وعن موقف إتني-مركزي أوروبي، يجعل الآخر بربريا في الوقت الذي يجعل فيه من ذاته متمدنا ومتحضرا، ولكن الدراسات الأنتربولوجية المعاصرة تؤّكد مدى تهافت مثل هذه المواقف العنصرية المتحاملة، وقد بيّن كلود لفي شتراوس في كتابه "العرق والتاريخ": "أن البربري هو قبل كل شيء من آمن بوجود البربرية".

58) في سياق آخر يبيّن كانط أن تحقيق العدالة بين الشعوب "يتطلّب قيام اتحاد بين الدولة المعنية والدول الأخرى المجاورة لها، أو حتى البعيدة (أي ما يشبه الدولة العالمية) من أجل حل الخلافات بينها حلاّ شرعيا". (المرجع نفسه، ص86).

59) لكن الأخلاق وحدها لا تكفي لجعل السياسة فعلا نبيلا "لذا ينبغي ألاّ نعتمد على الأخلاق للحصول على النظام الصالح في الدولة؛ بل بالحري ينبغي توخّي اكتساب الشعب الثقافة الأخلاقية الصالحة من هذا النظام بالذات". (المرجع نفسه، ص66).

60) المرجع نفسه، ص49.

61) المرجع نفسه، ص52.

62) المرجع نفسه، ص52.

63) المرجع نفسه، ص49.

64) المرجع نفسه، ص50.

65) المرجع نفسه، الهامش 8، ص52.

66) المرجع نفسه، ص53.

67) المرجع نفسه، ص54.

68) المرجع نفسه، ص56-57.

69) المرجع نفسه، ص64-65.

70) المرجع نفسه، ص67.

71)    Cf. Marcel Mauss, Sociologie et Anthropologie, Paris, PUF, 1966, p150-153.

72) في الملحق الأول من كتاب "مشروع سلم دائم" والذي جاء تحت عنوان "في التعارض بين الأخلاق والسياسة حيال موضوع السلم الدائم"، يكتب كانط مميزا بين الأخلاق والسياسة: "من الثابت أن الأخلاق تشكّل -بحدّ ذاتها- علما عمليا، بالمعنى الموضوعي لهذه الكلمة، من حيث هي مجموعة من القوانين المطلقة التي تفرض علينا ما يجب فعله". (ص 72).

73) كانط، مشروع سلم دائم، ص72.

74) المرجع نفسه، ص73.

75) المرجع نفسه، ص75.

76) المرجع نفسه، ص76. الأمر نفسه يسعى كانط إلى التأكيد عليه في هامش في الصفحة الموالية، فوجود دولة مستبدة أفضل بكثير من الفراغ المؤدي إلى الفوضى والاقتتال والحرب: "تخوّل لنا إحدى نتائج قوانين العقل السماحة القول: إنه بإمكاننا الحفاظ على شكل من أشكال الحق العام مشوبا بشائبة من الظلم ريثما يكون كل شيء قد تهيّأ تلقائيا للتطوّر التام. أو ريثما تكون الوسائل السلمية قد أفضت إلى النضوج. ذلك أن نظاما حقوقيا ما، حتى ولو كان قليل الانسجام مع الحق، يظل أفضل من فقدان الدستور فقدانا تاما، أو من حال الفوضى التي لا بد أن تعقب المحاولات الاصلاحية إذا جاءت متسرّعة. لذا ينبغي على الحكمة السياسية في الأوضاع الراهنة أن توجب على نفسها إعداد عمليات إصلاحية متطابقة مع مثال الحق العام؛ إنّما لا يجوز لها التذرّع بالثورات التي تولّدها طبيعة الأمور لفرض المزيد من التدابير القمعية على الناس، بل بالعكس، يجب أن تغتنم مثل هذه الأوضاع وتعدها تحذيرا من قبل الطبيعة، يحثّ الحاكمين على أن يقيموا -بواسطة إصلاحات جذرية- نظاما شرعيا مبنيا على مبادئ الحرية؛ لأن الحرية هي وحدها التي تدوم". (المرجع نفسه، الهامش 13، ص77).

77) كما يبيّن كانط أنه مهما تنكّر البشر للحق فإنهم "لا يتجاسرون على رفض كل أشكال الامتثال لفكرة الحق العام (وهذا ما يبدو خصوصا في مضمار حق الشعوب)، بل بالعكس، فالبشر يحيطون فكرة الحق بكل شعائر التكريم التي تستحقّها، حتى ولو كانوا في الحين نفسه يبتكرون كل ضروب الاحتيال، ويلبسون مختلف الأقنعة للابتعاد عن الحق على صعيد الممارسة ولانتهاج العنف المقرون بالخداع، جاعلين منها عمليا مصدر ودعامة كل حق". (المرجع نفسه، ص82).

78) إن ممارسة السياسة عند كانط فن يخضع للتجربة والتصحيح والتعديل، ولا يمكن لأيّ نظرية مهما بلغت من الكمال أن تحدد بشكل مسبق ما يجب على السياسي فعله في الميدان السياسي، فـ"لئن كانوا يتوهّمون من جرّاء هذه البراعة أنهم أصحاب كفاءة تخوّلهم الاضطلاع بكل المهمّات، ويغترّون أيضا بأهليتهم للحكم على مبادئ النظام السياسي العام حسب مفاهيم الحق (وبالتالي بطريقة قبلية، لا تجريبية) ولئن ادعوا المعرفة بالبشر (الأمر الذي يجب أن يتحلوا به فعلا؛ نظرا إلى تعاطيهم مع الكثير من الناس) لكن من دون معرفة الإنسان وكيف يمكن تطويره (لأن مثل هذه المعرفة تتطلّب من صاحبها النظر في الطبيعة البشرية من نقطة أكثر رفعة)". (المرجع نفسه، ص78-79).

79) المرجع نفسه، ص79.

80) المرجع نفسه، ص87.

81) المرجع نفسه، ص87.

82) المرجع نفسه، ص88.

83) المرجع نفسه، ص88-89.

84) المرجع نفسه، ص99.

85)    Michèle Crampe-Casnabet, Kant Vers la paix perpétuelle, Esquisse philosophique, 1795, p100, in Analyses et réflexions sur Kant, Vers la paix perpétuelle, ouvrage coordonné par Hervé Guineret, Ellipses Éditions, Paris, 2002.

86)    Cf. Roland Quilliot, Une paix perpétuelle est-elle concevable, p26.

87)    Gandhi, Déclarations et écrits de 1920 et 1921, réunis par Romain Rolland in Mahatma Gandhi, Stock, 1924, p54-55.

88)    Jürgen Habermas, La paix perpétuelle, Le bicentenaire d’une idée kantienne, Les ditions de Cerf , Paris, 1996, p11-12.

89)  Michel Foucault, Surveiller et punir, Gallimard, Paris, 1976, p30-31.

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك