من يستحق الحكم.. ومن يجب عليه أن يحكم
أضافه الحوار اليوم في
ريناس بنافي
بعد إدانة (سقراط) وإجباره على تجرع السمّ الزعاف راح (أفلاطون) يطرح العديد من التساؤلات: كيف يمكن لحكومة منتخبة ديمقراطياً أن تقتل أفضل البشر؟! ألا يعني ذلك أن هناك مشكلة في تصورها للحكم، ثم بشكل أخص: للخير والشر؟ أليس من الشر أن نقتل الفيلسوف الحكيم، الذي كرس حياته لتوعية البشر وتربيتهم وتثقيفهم؟ ألم يكن قلب (سقراط) مفعماً بحب الخير للدولة، والمجتمع، وكل أبناء الشعب، دون استثناء، فلماذا قتلوه إذن؟
هذه الأسئلة وغيرها هي التي قادت (أفلاطون) إلى الاهتمام بالسياسة. ويعد (أفلاطون) أول من وضع نظاماً سياسياً فلسفياً، صاغه في (الجمهورية)، وفي (النواميس) لاحقاً، إذ - حسب تصوره - إن المشكلة الفلسفية الحقيقية، إنما هي مشكلة سياسية تقع في صميم المجتمع، وحياته المدنية، التي تحتاج إلى إعادة بناء جذري، بغية قيام نظام مثالي(1).
وهذا التصور الفكري له صلة بحياته وخبرته، سياسياً واجتماعياً، وبالمرارة النفسية التي ذاقها، منذ إعدام أستاذه (سقراط) بدوافع سياسية. تلك الأمور والقضايا خلقت عند (أفلاطون) رؤية سياسية فلسفية مميزة، قدم من خلالها الحل الأمثل لمشكلة السياسة داخل المدينة (أو الدولة) الفاضلة.
وبما أن الحياة السياسية، عبر كل العصور، فيها شرور وبطش وفساد، لذا شيد (أفلاطون) جمهوريته النظرية، القائمة على أسس العلم والمعرفة، من ناحية، والمحكومة بقيادة العقل والفلسفة، من ناحية أخرى.
من هنا كان (أفلاطون) يدحض مزاعم السفسطائيين، القائلين بإنكار قوانين الأخلاق وقوانين الدولة، بدعوى أنها من اختراع الضعفاء، من أجل حماية أنفسهم من جبروت الأقوياء. فالسلطة - حسب رأيهم - هي حق شرعي للأقوى دائماً، بينما يرى (أفلاطون) أن إحراز السلطة إنما يكون بقوة العقل، لا بقوة الغاب الوحشية، وهذا الرد رفع أكثر من شأن السياسة، كونها علماً متصلاً بالأخلاق وقوانينها.
وكانت مسألة العدالة في صلب الفلسفة السياسية لـ(أفلاطون)، فهو لا يريد أن تصدر الدولة قراراً ظالماً بحق أي شخص، بعد كل ما حصل لـ(سقراط) العظيم، إنه يريد دولة تعاقب المجرم لا البريء، وتكافئ الإنسان الخيّر لا الشرير، وإذا لم يتم فعل ذلك فإن المقاييس تفسد في الدولة، والمجتمع، وتصبح الأمور عاليها سافلها. وبالتالي فالعدل هو أساس الحكم عند (أفلاطون).
ولقد قسم (أفلاطون) الدول التي تضاد دولة العدل إلى أربعة أقسام، هي:
1 ــ الدولة الدينية: وهي حكومة الطبقة الوسطى، التي تسمح بالملكية الخاصة، وما يصيب النظام من اختلال بسبب ذلك، فتجعل العسكر في هذه الطبقة هم الأفضل، مما يؤدي إلى العنف والحرب.
2 ــ الدولة الإقطاعية: ناتجة عن الدولة الدينية، حيث يعتاد الأفراد على جمع المال بأية وسيلة كانت، وبسبب ذلك تضمحل وتنتهي الفضيلة، حيث لا يبقى غير الأثرياء، الذين قد يكونوا جمعوا أموالهم بطرق مشروعة أو غير مشروعة.
3 ــ دولة الشعب: وهو الحكم الديمقراطي الفوضوي، حيث يثور الفقراء على الأغنياء، بسبب الحرمان والتعسف، ويصبح الحكم شائعاً للجميع، لا نظام ولا قائد مُسيطر، بل الشعب يحكم نفسه بنفسه.
4 ــ الدولة الاستبدادية: وهو حكم الطغيان والمصالح الشخصية، إذ بعد أن تعم الفوضى لحكم الشعب، تفرز هذه الحالة فرداً من المجتمع، يوهم الجميع بأنه سوف يبني الدولة بلا ضرائب ولا ظلم.
وينص (أفلاطون) على أن الحاكم لا يصلح ولا يكون إلا فيلسوفاً، ويسميه (المثل الأعلى). والسبب الرئيس في ذلك هو أن الفيلسوف، أو الفلاسفة الحكام، هم وحدهم الذين يدركون التصور المثالي للحكم، لا سيما وأنهم لا يبغون السلطة من أجل المال أو الجاه أو التسلط، بل غايتهم المصلحة العامة فقط.
المعارضة الشرسة للديمقراطية في كتابه (الجمهورية)! لماذا؟
لأن الشعب لا يستطيع أن يحكم نفسه بنفسه، فهو في حاجة إلى قائد يعرف كيف يميز العدل من غير العدل، والخير من الشر، والصواب من الخطأ. وقد أوضحت له إدانة (سقراط)، من محكمة شعبية، كم بإمكان الشعب أن يضل، ويفقد البوصلة. والحل بالنسبة إليه: ملك – فيلسوف، أو فيلسوف – ملك، يمكنه حكم المدينة، ذلك أنه الوحيد الذي يستطيع تحديد الحقيقة.
إن اهتمام الفلاسفة الذين كتبوا مدناً فاضلة انصب على قضية تربية حاكم المدينة، ووجوب تميزه بخصال علمية ثقافية وأخلاقية، تمكنه من إدارة البلاد على الوجه الأكمل.
ويعتقد (أفلاطون) أن الإنسان يميل بطبعه إلى الظلم والتعدي أكثر من العدالة، وأن الدولة ينبغي أن تُعلّم الأفراد حب العدالة. ويقسم الإنسان إلى: (الرأس، وفيه العقل، وفضيلته الحكمة)، و(القلب، وفيه العاطفة، وفضيلته هي الشجاعة)، و(البطن، وفيها الشهوات، وفضيلتها هي الاعتدال). والنظام (الديمقراطي) يستهوي العقول، لكن الواقع أن الناس ليسوا أكفاء بالمعرفة والتهذيب، ليتساووا في اختيار الحكام، وتعيين الأفضل، وهنا منشأ الخطر. ويقول (أفلاطون) إن أفضل دولة هي التي يكبح فيها العقل جماح الشهوات والعواطف، والناس إذا لم يهدهم العلم كانوا جمهوراً من الرعاع من غير نظام، كالشهوات إذا أُطلق العنان لها، فيحل الدمار بالدولة حين يحاول التاجر، الذي نشأت نفسه على حب الثروة، أن يصبح حاكماً، أو حين يستعمل القائد جيشه لفرض ديكتاتورية حربية. فالعدالة هي ليست القوة المجردة، وهي ليست حق القوي، إنما هي تعاون كل أجزاء المجتمع، تعاوناً متوازناً فيه الخير للكل(2).
والمجتمعات في رأي (أفلاطون) تُسعد إذا ما حكم الملك الفيلسوف، وإذا كان من الصعب أن يكون الملك فيلسوفاً، فلا بأس، أن يتفلسف الملوك، وهذا يعني أن يتزود حكام المدينة بالحكمة، كي يديروا شؤون الدولة على الوجه الأكمل.
هكذا نجد أن الفيلسوف هو نواة عصره، وخلاصة الحضارة الإنسانية، يأخذ بمقدار ما تيسر له من الإطلاع على الثقافات، ويعطي ما يقدر على إعطائه، بحسب ما تزوده معارفه، وتقدر عليه طاقاته الإبداعية، من خَلق وعطاء. ولا شك أن كل المدن الفاضلة، التي كُتِبَت بعد جمهورية (أفلاطون)، قد تأثرت بهذا الكتاب، بكثير أو قليل.
لقد اهتم الفلاسفة، الذين كتبوا مدناً فاضلة، بتربية حاكم المدينة، ووجوب تميزه بخصال علمية وثقافية وأخلاقية، تمكنه من إدارة البلاد على الوجه الأكمل. ويعتقد (أفلاطون) أن الملك هو كالنهر الأعظم، تستمد منه الأنهار الصغار: فإن كان عذباً عذبت، وإن كان مالحاً ملحت.
والعدالة لدى (أفلاطون) تأتي من كونه لا يريد أن تصدر الدولة قراراً ظالماً بحق أي شخص، بعد كل ما حصل لـ(سقراط) العظيم. إنه يريد أن تعاقب المجرم لا البريء، وتكافئ الإنسان الخيِّر لا الشرير. وقد رأى (أفلاطون) أنه حتى الديمقراطية يمكن أن تحمل في طياتها بذور الطغيان والتعصب والظلم، إذا لم تقدها القوانين العادلة والحكيمة. وأكد (أفلاطون) بصريح العبارة، أن العبيد واهمون حينما يعتقدون في المساواة، لأن العدالة لا يمكنها أن تكون كذلك أبداً، لأن الناس خلقوا غير متساوين بطبعهم، فالعدالة عند (أفلاطون) مرتهنة بالقدرة على الحكم، وفرض الأمر الواقع.
والفضائل عند (أفلاطون) أربعة وهي: الحكمة - الشجاعة - العفاف - العدالة.
ويرى (أفلاطون) أن الغرض من الدولة هو إسعاد الأفراد للوصول إلى الحكمة والفضيلة والمعرفة، وأن خير وسيلة لإعانة الأفراد للوصول إلى تلك الغايات، هي التربية، فالتربية هي من أهم واجبات الدولة.
وسيطر على أذهان فلاسفة السياسة، وعلماء الاجتماع، وفقهاء القانون، موضوع قديم متجدد، ألا وهو: لمن يكون الحكم؟ هل لصالح فئة محددة، تتحقق فيها شروط الكمال؟ وبالتالي يتحقق في ظلها العدل والأمان في المجتمع، أم يكون ذلك عن طريق حكم القانون، الذي يضمن العدل والمساواة بين الناس؟
لقد شغل هذا الموضوع الفلاسفة منذ أقدم العصور، فتحدثوا منذ (أفلاطون)، وربما قبله، عن مدينة مثالية، لعب الخيال فيها دوراً كبيراً. وكانت هذه المدن في حقيقة الأمر بديلاً للظلم والقهر المتحقق فى دنيا الواقع، ومن ثم لجأ الفلاسفة إليها، أملاً في أنموذج أفضل، ربما يأتي بعد ذلك من يسعى إلى تحقيقه(3)، وذلك لأن هذا الأمر هو أحد أهداف الحياة السياسية. من أجل هذا، فإن حلم الإنسان بواقع أفضل لم ولن يتوقف يوماً من الأيام، وسوف يظل يداعب الخيال، ما بقي على ظهر الأرض إنسان.
وإن الأفكار والخيالات المختلفة، كانت تعبيراً عن الرغبة في تغيير الواقع القائم وتجاوزه، والحلم بحياة ومجتمع أفضل وأكثر عدلاً. إنها كانت صرخة احتجاج على أوضاع وظروف اجتماعية ظالمة وفاسدة، وقد شغل (أفلاطون) نفسه بهذا الموضوع، وظل بمثابة الظل الذي لازمه طوال حياته، وانعكس ذلك بوضوح في أعماله الفلسفية كلها، وذلك من خلال محاولة الإجابة عن سؤال: لمن يكون الحكم؟ مال (أفلاطون) في معظم حياته إلى حكم الفيلسوف، وظل يحلم به طوال حياته، فسعى إلى رسم صورة لطبيعة الفيلسوف السياسي، أو السياسي الحكيم، الذي يقود شعبه وأمته، وجاء ذلك في محاورتي (الجمهورية) و(رجل الدولة). لكنه فيما يبدو تخلى عن هذا الحلم في أخريات حياته، بعد أن تجاوز السبعين من عمره. وهذا ما تعكسه بوضوح أعماله الأخيرة، ومنها (القوانين)، حيث نادى بحكم القانون، حتى يضمن العدل والاستقرار بين الناس، ربما نتيجة ليأسه من وجود تلك الشخصية الفريدة، التي يرى أنها لا تتوافر إلا في القليل من الناس، وبالتالي لم يجد بداً من اللجوء إلى القانون، الذي يستطيع وحده، في غيبة نموذج الفيلسوف الحاكم، أن يحمي الجماهير من بطش المستبدين.
وكان لحديث (أفلاطون) عن الفيلسوف السياسي، أو السياسي الحكيم، أثره في الفكر الفلسفي عموماً، فحاكاه ونسج على منواله كثير من الفلاسفة، وظلت (الجمهورية) هي النموذج الذي يسعى إليه المفكرون، هرباً من واقعهم البائس، وتطلعاً إلى واقع أفضل، حتى ولو في عالم الخيال.
يميلُ (أفلاطون) إلى حكم الفرد، إذا كان ذلك الفرد فيلسوفاً شبيهاً بـ(سقراط)، أما إذا كان ذلك الفيلسوف الحاكم، أو تلك الشخصية النمطية، غير موجودة في الواقع، فحينئذٍ لا مناص من حكم القانون؛ لأنه في هذه الحالة يضمن على الأقل حداً أدنى من المساواة بين الناس في الحقوق والواجبات(4).
وإذا كان (أفلاطون) يؤكد على قدرة الفيلسوف الحاكم، أو رجل الدولة، على قيادة الجماهير، وتوجيه شؤون الدولة، فإنه حدد مجموعة من الصفات النفسية والعقلية لهذا الفيلسوف، تؤهله للقيام بمثل هذه المهام الصعبة. وقد جاءت هذه الصفات في العديد من مؤلفاته، وخصوصاً (الجمهورية)، ثم ظهرتْ هذه الصفات نفسها، بعد ذلك، في محاورة رجل الدولة.
وتنقسم هذه الصفات إلى صفات فطرية، وأخرى مكتسبة. أما الصفات الفطرية، فهي التي يُولد الفيلسوف مزوداً بها، مثل أنْ يكون شجاعاً نبيهاً، شديداً مع الأعداء، ليناً وديعاً مع الأصحاب. وبالإضافة إلى هذه الصفات الفطرية، التي يولد بها، يجب أنْ يتمتع بمجموعةٍ أخرى من الصفات المكتسبة، مثل:
المعرفة وحب الاطلاع؛ فالفيلسوف هو ذلك الإنسان الذي يعشق الحكمة كلَّها، وليس وجها من وجوهها.
أن تُروض نفسه على سماع الموسيقى والقصص والحكايات التربوية، التي تُولد لديه إحساساً بالجمال والهدوء، بعيداً عن التهور والعنف.
أن يُعوّد - أيضاً - على اقتباس الفضائل، كالصدق ومحبة الحق، واجتناب الرذائل، كالكذب والخداع.
أنْ يؤمن بثبات القيم وأزليتها؛ فالثبات مقدس، والتغير شر.
أن يملك القدرة على التوحيد بين المتناقضات في المدينة الفاضلة.
أن لا يخشى الموت.
الدول عند (أفلاطون)، وترتيبها حسب أفضليتها:
الدولة المثالية: التي يحكمها فيلسوف يملك المعرفة الكاملة.
الدولة التيموقراطية: التي تحكمها أقلية عسكرية، وتمثل مرحلة الفساد في الدولة المثالية.
دولة الأقلية الغنية، أو الاوليجاركية: وتمثل مرحلة الفساد في الدولة التيموقراطية.
الدولة الديمقراطية: وتمثل مرحلة الانحطاط في دولة الأقلية الغنية.
دولة الفرد الطاغية: وهى تجسد أقبح نظم الحكم على الإطلاق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) إشراف: فيليب رينو وستيفان ريالس، قاموس الفلسفة السياسية، المطبوعات الجامعية الفرنسية، باريس، 2006.
(2) أحمد المنياوي، جمهورية (أفلاطون)، دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع، 2010.
(3) عزمي عبدالوهاب، صورة الحاكم الفيلسوف، الأهرام العربي.
(4) عادل سالم عطية، الحاكم الفيلسوف بين (أفلاطون) وفلاسفة الإسلام، صحيفة (الوطن الجزائري).
http://www.elwatandz.com/bibl/nak/6433.html
المصدر: http://alhiwarmagazine.blogspot.com/2015/02/blog-post_33.html
الحوار الداخلي: