في مقاربة العدوانيّة والعنف والإرهاب
العدوانية والعنف والإرهاب ثلاث مقولات مختلفة، تدل على ثلاث نزعات مختلفة، على الرغم من اشتراكها في بعض الحقول الدلالية، وفي بعض العوامل والشروط الذاتية والموضوعية التي تؤدي إليها اشتراكاً يوحي بتشابهها. ولعل اختلاف جذورها اللغوية، ومظاهرها، ومجالات استعمالها، ينفي أن تكون بينها علاقات ضرورية. بل يرجح أن تكون العلاقات المتبادلة فيما بينها تصادفية، إذ ثمة أشكال من العدوان لا تقترن بالعنف والإرهاب (الماديين) اقتراناً ضرورياً، كالتجاوز على الملكية الخاصة والملكية الفكرية، ونهب المال العام، والاختلاس، والسرقة، والتلصص، والتحرش الجنسي وانتهاك الخصوصية، ... إلخ، وكلها وغيرها ممّا يقع في دوائرها نزعات عدوانية. كما أنّ العنف القانوني، بمعنى الجزاء أو القصاص، المعترف به أخلاقياً للدولة، كالعنف الأسري، بقصد التهذيب و"التأديب"، والعنف الرمزي لا تندرج في بابي العدوان والإرهاب. وأنّ هذا الأخير عدوانية منفلتة من أي قيد عرفي أو قانوني أو أخلاقي، فهو عدوان كلي، مطلق وشامل، وعنف كلي، مطلق وشامل، يصدر عن نزعة تدميرية وعدمية. الكليّة والمطلقيّة والعدميّة والشمول هي خصائصه النوعية، بخلاف عرضية العدوانية والعنف وظرفيتهما ونسبيتهما. فالفارق النوعي بين العنف والإرهاب يكمن في أنّ الأول يحافظ على موضوعه، في حين ينزع الثاني إلى تدميره. لذلك يمكن أن يتحول العنف عند حده الأقصى إلى إرهاب.
خصائص الإرهاب، بما هو نزعة تدميرية وعدمية، تنطبق أيضاً على النظام الشمولي (التوتاليتاري) أو التسلطي، بما هو استبداد كلي، مطلق وشامل، تستجيب له "النخبة" ورعاع الريف وحثالة المدن[1]. وهذا ما يحدد من البداية شكلين متكاملين من الإرهاب الشمولي، مثالهما النظم التسلطية والتنظيمات السلفية الجهادية.
ومن ثم، هنالك معياران رئيسان للتفريق بين العدوانية والعنف والإرهاب، أولهما معرفي ـ أخلاقي قوامه الموقف من الآخر المختلف أو الأخرى المختلفة، على اعتبار الذات الإنسانية دوماً أنا وآخر، أو "كليّة عينية"، والفرد الإنساني هي أو هو النموذج الكامل للإنسان، والأخرى أو الآخر دالَّة على متغير هو الذات. والثاني اجتماعي ـ سياسي قوامه الموقف من المجتمع والدولة. وإذ لا حياة إنسانية، حتى يومنا، إلا في كنف المجتمع والدولة، فإنّ الموقف منهما يغدو حاسماً، انطلاقاً من العلاقة الجدلية بينهما، على اعتبارهما قطبين متعارضين في "كلية عينية" أو وحدة جدلية، هي الصيغة العامة لوحدة الفرد والنوع. فإنّ ما يسم الإرهاب هو السعي إلى تدمير سائر الانتظامات والمنظمات والمؤسسات، مع أنّ أداته الرئيسة هي "التنظيم الحديدي"، القائم على مبدأي الطاعة المطلقة والولاء المطلق.
تنبثق النزعات التدميرية، عند فرويد من غريزة الموت المقابلة لغريزة الحياة، على أنهما غريزتان متساويتان وموهوبتان بيولوجياً. ويردّها إريك فروم إلى ما يسميه البيوفيليا (محبة الحياة) والنكروفيليا (محبة التدمير)، ويرى أنّ "النكروفيليا ظاهرة نفسية مرَضية، تظهر نتيجة النمو المعرقَل، والشلل النفسي، وهي نتيجة لحياة غير معيشة (إنسانياً)، والإخفاق في تجاوز النرجسية وعدم الاكتراث"[2].
"الغريزة" عند فرويد، و"المحبة" عند فروم، قاسم مشترك بين "الضدين"، وفقاً للتعبير الذي يستعمله فروم (بيوفيليا / نكروفيليا). ما يوحي بنوع من التطابق بين الغريزة والمحبة، وهذا مشكوك فيه. لذلك نميل إلى التفريق بين الغريزة المشتركة بين الكائنات الحية، على اختلافها، أو الفطرة المشتركة بين "بني آدم" و"بنات حواء"، وبين الطبيعة البشرية، بصفتها هبة الحياة الإنسانية، في إطار جماعة أو مجتمع، مع عنصر طبيعي (غريزي) غير مرفوع[3]. ونرى، من ثم، أنّ المحبة خصيصة أساسية من خصائص الطبيعة البشرية، لا يَحسُن أن ترد إلى الغريزة، ولا سيما أنّ المحبة عند الفلاسفة أسمى من العدالة؛ وهذه وتلك منتجات اجتماعية؛ لأنّ جميع خصائص الكائن الإنساني لا تتحول من القوة إلى الفعل، أي لا تتفتح، ولا تنمو إلا في إطار حياة اجتماعية، تمنحها سماتها الخاصة، التي يمكن ملاحظتها وقياسها كمياً و/ أو كيفياً.
الاجتماعي في مقاربتنا حاكم على البيولوجي، لا العكس، على الرغم من كونه مؤسَّساً عليه، والطبيعة البشرية حاكمة على الغريزة، لا العكس، ما يعني أنّ ثمة علاقة جدلية بين البيولوجي والاجتماعي وبين الغريزة الطبيعية والطبيعة البشرية لا يمكن نفيها، ولا يجوز تجاهلها أو أهمالها، لأنها عامل تحسُّن الطبيعة البشرية وتمدنها. الطبيعة البشرية مستقلة عن الغريزة، استقلالاً نسبياً قابلاً للنمو، حتى ليمكن التنبؤ باضمحلال السلوكات الغريزية وتلاشي آثارها في حياة الإنسان، بما في ذلك ما يُسمى الغريزة الجنسية، للحط من قيمة المعاشرة الجنسية وتحريم الحب الجنسي (الإيروس). نستدل على ذلك بتنامي سيطرة الإنسان على الطبيعة من جهة، وتنامي قدرته على بناء عالمه أو تدميره من جهة أخرى، لذلك نحيل النزعة التدميرية على انهيار شروط الحياة الإنسانية، وتنامي اغتراب الإنسان وتغريبه عن عالمه وعن ذاته.
لقد راجت الفكرة القائلة إنّ "السلوك العدواني للإنسان، كما يتجلى في الحرب، والجريمة والمشاجرات الشخصية، وكل أنواع السلوك السادي والتدميري ناجمة عن غريزة فطرية مبرمجة حسب تتابع النشوء، تسعى إلى الانطلاق وتنتظر الفرصة المناسبة لتعبر عن نفسها"[4]. تقبع هذه الفكرة حتى اليوم في أساس تبرير العدوانية البشرية، ولا تفضي إلى تفسيرها، إذ تبدو العدوانية نوعاً من حتمية غريزية أو بيولوجية، لمن يتذرعون بالبيولوجيا، لا تبرهن شيئاً لأنها تحتاج إلى البرهنة على صحتها وصحة مقدماتها. أليس في كل جماعة أو مجتمع كثرة من الأفراد المسالمين والمحبين والمتسامحين ممّن لا يعتدون ولا يميلون إلى العنف؟ فلم لا تفعل الغريزة المبرمجة بيولوجياً فعلها فيهم؟
حتى تبرير اللجوء إلى العنف دفاعاً عن النفس يستند إلى حجة ضعيفة، من وجهة نظر الغريزة الحيوانية ذاتها، لأنّ العنف ليس الإمكان الوحيد للرد على العدوان، فثمة المراوغة والإنهاك والفرار والاحتماء، ... مع أنّ ما يُسمى عدوانية وعنفاً لدى الحيوان، يرجع إلى حكم قيمة بشري، لا إلى الغريزة الحيوانية.
تعلمنا فكرة الاحتماء حفاظاً على الحياة، بدءاً من اللجوء إلى الكهوف وبناء المنازل وصولاً إلى بناء القلاع والحصون وإقامة الأسوار والخنادق ..، تعلمنا أنّ سعي الإنسان إلى تلافي العدوان والعنف وصدهما مقدّم على العدوان والعنف منطقياً وتاريخياً، لأنّ الاحتماء آلية دفاع ذاتي نابعة من الخوف ومن جهل ما وراء الحدود، تفترض هجوماً فعلياً أو وهمياً وخطراً قائماً أو محتملاً، وأنّ فكرة التسوير والتحصين نفسها متغيرة الدلالة لاقترانها بمعنى القوة سلباً، فالقوة الاقتصادية والثقافية والأخلاقية اليوم تتخطى الأسوار والحصون (المادية)، وقوة الجيوش. لذلك تقيم الجماعات والشعوب في وجهها أسواراً وحصوناً من أنواع مختلفة، كالحماية الجمركية والتعامل بالمثل وتعزيز الثقافة القومية .. إلخ، ناهيك عن الحصون الأيديولوجية.
ويمكن إدراج السعي إلى توازن القوى و"توازن الرعب" في باب التحصين والتسوير لردّ العدوان، لا للعدوان. فالنزعة العدوانية التي يؤكدها توفير مستلزمات العدوان تنقلب إلى نزعة دفاعية عندما تتكافأ الشروط، كالتكافؤ في إنتاج أسلحة الدمار الشامل. وقد بات شن الحرب وتنظيم الدفاع خاضعين لحسابات معقدة واحتياطات كثيرة، هي ذاتها قيود على العدوانية. ومن ثم فإنّ الآخرية من أهم هذه القيود، وهذا مما يؤكد أنّ دوافع العدوانية دوافع اقتصادية وسياسية ورمزية معقلنة أو معقَّلة تنأى عمّا هو فطري وبيولوجي.
أطروحة "الغريزة المبرمجة" المشار إليها أعلاه أطروحة تبريرية تستند إلى نوع من حتمية بيولوجية. والنظرية السلوكية وحيدة الجانب لا تكفي لتفسير العدوانية؛ إذ تهتم بكيفية السلوك، بصرف النظر عن دوافعه، وتندرج في باب الهندسة الاجتماعية أو هندسة السلوك الاجتماعي. فإذ تبني كل منهما نموذجاً (برادايم) للسواء والسلوك السوي، وآخر للمرض والسلوك غير السوي كالسلوك العدواني فإنها تشتق معايير الأول من الثاني، على سبيل تعريف الشيء بنقيضه. والحكم بالسواء أو عدم السواء، أي الانحراف عن النموذج أقرب إلى حكم القيمة في نهاية التحليل، ذلك لأنّ أي نموذج لا يطابق الواقع الذي ينمذجه؛ الواقع الفعلي يقع دوماً على أحد جانبي النموذج، ويوصف بأنه استثناء يؤكد القاعدة، مع أنّ الاستثناء لا يؤكد القاعدة، بل ينقضها جزئياً أو كليّاً. وبهذا يغدو النموذج مجرد نظيمة معيارية، اتساقها الداخلي لا يعني مطابقتها للواقع، مع أنّ الفكر لا يستغني عن النماذج، ربما بحكم الطابع المنظومي للتفكير.
[1]- حنة أرندت، أسس التوتاليتارية، ترجمة أنطوان أبو زيد، دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى، 1993، ص 79
[2]- إريك فروم، تشريح التدميرية البشرية، ترجمة محمد منقذ الهاشمي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 2006، الجزء الأول، ص 16، (نسخة إلكترونية).
[3]- الاجتماع البشري أول ثورة جذرية في تاريخ النوع الإنساني، تلتها الثورة النيوليتية، ثم الثورة الصناعية التي ما تزال مفتوحة.
[4]- فروم، ص 36
المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D9%81%D9%8A-%D9%85%D9%82%D8%A7%D8%B1%D...