في الحاجة إلى استئناف مشروع الإصلاحية الإسلامية

عبد الإله بلقزيز

-1-

أَجِدني في غنًى عن بيان الأهمية الفائقة لأي حديث في شأن الحركة الإصلاحية الإسلامية، الذي تَجَدَّدَ اليوم بمناسبة مئوية العلاَّمة والمجتهد الكبير علاّل الفاسي. فالإصلاحية الإسلامية التي نشأت منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر -واستمرت موجتُها الأولى في المشرق العربي إلى مطالع عشرينيات القرن العشرين- وفّرت -من داخل منظومة الإسلام- أجوبة فكرية رصينة على معضلات عدّة(#))، أثمرها ذلك الانقلابُ الكونيُّ الهائل الذي أحدثه صعودُ المدنية الأوروبية الحديثة وزَحْفُها على العالم محمولة على صهوة الغزو الكولونيالي: معضلة التأخر عن مستوى العصر وإيقاعه، التحدّي الاستعماري الدَّاهم والواقع على ديار العرب والمسلمين، تحدّي الإصلاح وإقامة الدولة الوطنية الحديثة، تحدّي الاجتهاد في قراءة نصوص الدين وتكييفها مع مقتضيات التطوّر... الخ. وهي أجوبة حققت التوازن الضروري في وعي المسلمين للعالم الجديد الذي قُذفوا إليه منذ الهزيع الأخير من القرن الثامن عشر.

والإصلاحية الإسلامية التي وعدتْ بالكثير لتطوير نظرة المسلمين إلى العالم، وإلى تاريخهم والعصر الذي يعيشون فيه، يتعرض تراثُها الفكريّ اليوم إلى التبديد بعد أن بلغت كبوة العقل الإسلاميّ مداها، فأنجبت موجة جديدة من الأدب السياسي الإسلامي (إيديولوجيا الحركات الإسلامية) لا تربطه صلةٌ فكرية أو فقهية بتراث الإصلاحية.

وتكاد هذه الموجة الثانية -وقد بلغت من العمر ثمانين عامًا (أَحَدُّها الخمسين عامًا الأخيرة منها)- تحتكر "تمثيل" الإسلام والنطق باسمه، وتُقَدِّم أسوأ رواية عنه للمسلمين وللعالم أجمعين.

في أيّ حديثٍ عن الإصلاحية النهضوية ليس من أَخْذ هذين العامليْن من بُدّ: البدايات الواعدة، المجتهدة والمنفتحة، لفكر تلك الإصلاحية، ثم المآلات الدراماتيكية للفكر الإسلامي منذ الربع الثاني للقرن العشرين، وخاصة منذ ستينياته وسبعينياته. والمسافة بين البدايات والمآلات وإن كانت زمنية تُحْسَب بالسنوات والعقود؛ فإنها -في وجْهٍ آخر منها- مسافة معرفية تُحْسَب بمقاييس زمن الأفكار، وهو غير زمن الحوادث والوقائع في كثافته الكمية؛ إذْ هو قد يأخذ من الزمن الماديّ المحسوس مُدَدًا تُحْسَب بالقرون. وعلى ذلك يَصِحّ تمامًا أن يقال: إن الفاصل بين إصلاحية الأمس وإحيائية اليوم ليس فاصل قرنٍ من الزمان فحسب؛ إنما هو فاصِلُ عصرٍ كامل.

انتهت الإصلاحية النهضوية كفكرة وكحركة عمليًّا في بدايات العشرينيات من القرن العشرين لأسباب عدّة: سياسية وفكرية. السياسيُّ من تلك الأسباب يتعلق بحدثيْن كبيريْن: الاحتلال الأجنبي للبلاد العربية والإسلامية، الناشئ من تفوّق أوروبا ومن إخفاق محاولات الإصلاح التي أقدمت عليها البلدان العربية والإسلامية(مصر، تونس، الدولة العثمانية، المغرب، إيران) من جهة، ثم سقوط الإمبراطورية العثمانية وتفكُّكها من جهة ثانية. أمّا الفكريُّ من تلك الأسباب -وهو أكثر ما يهمّنا في هذا المعرض- فيتمثل في أن الإتيان على فكر الإصلاحية بالهَدْم إنَّما أتى من داخل الإصلاحية الإسلامية نفسها، وعلى يَدِ أحدِ متأخِّري رجالاتها: محمد رشيد رضا. فقد انعطف الأخير انعطافًا حادًّا نحو الدفاع عن فكرة الخلافة(#)) في كتابه "الخلافة أو الإمامة العظمى"(#)) ضدًّا على كل تراث الإصلاحية الذاهب إلى الدفاع عن فكرة الدولة الوطنية الحديثة: منذ رفاعة رافع الطهطاوي حتى عبد الرحمن الكواكبي.

غير أن الفكرة الإصلاحيةَ الاجتهاديةَ التي تعرَّضت لذلك الإجهاض الذاتي، ثم تعرَّضت محاولةٌ منها للقمع هي محاولة الشيخ عليّ عبد الرَّازق إعادة التفكير في الصِّلَة بين الدين والسياسة في الإسلام(#)) بعيدًا عن فرضية الخلافة (في كتابه: الإسلام وأصول الحكم)(#))، سرعان ما نهضت من تحت رماد الحريق في منطقة أخرى من البلاد العربية هي منطقة المغرب العربي بدءاً من عشرينيات ذلك القرن. وإذا كانت اجتهادات الطاهر بن عاشور والثعالبي قد مثلت مفْصَلًا في نظرة علماء المغرب العربي ومفكريه إلى الإسلام وقضايا العصر؛ فقد بلغت هذه النظرة ذورتَها الاجتماعية والجريئة عند كلّ من الشيخ الجزائري عبد الحميد بن باديس والعلاّمة المغربي علاّل الفاسي. وعلى ذلك يَصِحّ أن يُطْلق على هذه اللحظة الإصلاحية في الفكر الإسلامي اسم الإصلاحية المستأنَفَة(#)).

إن الأفكار التي ازدهرت في أوساط الإصلاحية النهضوية في القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين هي عينها التي ستزدهر مجددا وتتردد في كتابات الإصلاحية المستأنَفَة في المغرب العربي، بين الثلاثينيات والستينيات من القرن العشرين، وأوُّلها فكرة الدولة الوطنية الحديثة القائمة على الحريات والدستور والنظام التمثيلي، والتي بدت لهؤلاء المفكرين-شأن سابقيهم في مصرَ وبلاد الشام- منسجمة تمامًا مع تعاليم الإسلام ومبادئه في الحكم كالشورى والعدل. وإذا كان إسهام عبد الحميد بن باديس الأساس إنما يتمثل في دحضه أزعومة الخلافة(#))، وحاجة الدين إليها لاستقامة أمره، وفي ذلك الدحض دفاعٌ مُضْمَر عن نظام الدولة الوطنية الحديثة، فإن التأصيل الفقهي لهذه الدولة إنما تم من طريق اجتهادات نظرية قام بها كلّ من الطاهر بن عاشور(#)) وعلاّل الفاسي انطلاقًا من قراءةٍ جديدة لفقه المقاصد عند الإمام أبي إسحاق الشاطبي في كتابه "الموافقات في أصول الأحكام"(#))، مقترنة بانفتاح واسع على الفكر السياسي الحديث ونظريات الدولة وخاصة عند علال الفاسي.

من يقرأ كتاب "مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها"(#))(1964) لعلاّل الفاسي يَعْثر على شواهد كثيرة على ذلك التأصيل الفقهي؛ على قراءة يقظة وانفتاحية غير مغلقة لتاريخ الفقه الإسلاميّ من جهة، وعلى استثمارٍ فكريّ خصب لمنظومة المقاصد وتَحْيينٍ لها أو تكييف مع ضرورات العصر من جهة أخرى. وآيُ ذلك أن الفاسي -وإنْ كان مالكيًّا- لم يتحزَّب لمذهبه ولم يَرَ فيه دائمًا الحقَّ كلَّه، وكثيرًا ما آثَرَ العملَ برأي الشافعية أو الحنفية في مسألةٍ ما من دون أن يجد ضيْرًا في الخروج بذلك عن مأثور الالتزام الحَرْفي بأحكام المذهب. وتلك علامةُ المجتهد التي لا يُخطِئ اللبيبُ قراءتَها. أمّا مقاصدية الشاطبي وكلّياتها الخمس فحرَّرَتْهُ-مثلما حرَّرت الشاطبي قبله ومحمد عبده- من الارتهان لآلية القياس الحاكمة للتفكير الفقهي الإسلاميّ منذ الإمام الشافعي في القرن الثاني الهجري (=الثامن الميلادي)، وأسعفَتْهُ-لذلك السبب-في سَعْيِه إلى النظر بعين المصلحة والوقت إلى مسألة السياسة ونظام الحكم، والانفتاح على معارف عصره.

على أن كتابه "النقد الذاتي"(#)) هو المصدر الأوسع غنًى والأكثر خصوبةً في مضمار نظريته الإصلاحية المجتهدة والمنفتحة على العصر. كُتِبَ الكتاب في عام 1948 أو 1949، وصدر في طبعة أولى في عام 1952، ولقد أراده علال الفاسي نصًّا يؤسّس فيه لرؤية المجتمع (المستقبل) المنشود، ودليلَ عمل لإقامة مثل ذلك المجتمع يضعه تحت تصرف النخبة المثقفة والسياسية الوطنية لاشتقاق البرنامج الاجتماعي والسياسي المناسب للمغرب المستقل. على أن الرؤية التي قَصَدَ أرادها شاملةً: فكريةً واجتماعية وسياسية، ولذلك أتى كتابه يتناول قضايا عدّة تتصل بالفكر والاجتماع الديني والسياسي والاقتصاد، الفرد والأسرة والطبقة الاجتماعية، الحزب والنقابة، الدولة والدين، الحرية والقانون، التربية والتعليم، النوازع الفردية والوعي الاجتماعي، ملكية الأرض وعلاقة الدولة بالاقتصاد، حقوق المرأة ومسائل التشريع في الإسلام، الهويّة والمعاصرة... الخ. وبكلمة، أراده رؤية إلى المجتمع وإلى الدولة على السواء. لكن أهمّ ما طبعه -إلى جانب بنائه النسقيّ المترابط والمتناسب مع طبيعته كنصّ رؤيويّ- نزعتُه العقلية والاجتهادية الحادة-التي عُرِف بها علاّل الفاسي في كتاباته الفكرية- وانفتاحُه الرّحب على معارف عصره، والانتهالُ منها من غير تردّد، واستضافةُ الكثير من نظرياتها وأطروحاتها في كتابه دعمًا للأفكار التي عَرَضها فيه.

برحيل علاّل الفاسي في عام 1974، تنتهي هذه الموجة من الإصلاحية المستأنفة، التي أعقبت انحسار الموجة الإصلاحية الأولى في المشرق العربي في نهاية الربع الأول من القرن الماضي. في مقابل ذلك، كانت الإحيائية الإسلامية - التي بدأت ظهورًا مع الشيخ حسن البنّا و"الإخوان المسلمين" في نهاية عشرينيات القرنِ عينِه- قد أخذت سبيلَها إلى الظهور في بلدان المغرب العربي في اللحظةِ نفسها التي رحل فيها علاّل الفاسي. ومثلما استفادت الإحيائية الإسلامية من زوال لحظة الإصلاحية ومن تراجُع الإسلام السنيّ التقليدي ومؤسساته العلمية كالأزهر، كذلك استفادت إحيائية المغرب العربي الإسلامية من انصرام عهد الإصلاحية المستأنَفَة ومن تراجع دور الإسلام التقليدي العالِم ومؤسساته (القرويين، الزيتونة، المجالس العلمية...). وكما أنه لم تكن بين إحيائية البنّا وإصلاحية النهضويين علاقَةَ قرابة واستمرار، كذلك لم تكن بين إحيائية عبد السلام ياسين(#)) وعبّاسي مدني صلة قرابةٍ واستمرار بإصلاحية علاّل الفاسي وعبد الحميد بن باديس. أعلنتِ الإحيائيةُ الإسلامية-في المشرق والمغرب-قطيعتَها منذ الميلاد مع الإصلاحية النهضوية: في الإشكالية كما في المرجعية الفكرية. وحين استفحل أمرُها في النصف الثاني من القرن الماضي، وخرجَتِ النزعة الصحوية من أحشائها، أعلنت قطيعتَها معها في النهج وأساليب الدعوة والعمل أيضًا.

-2-

إذا دقَّقْنا اليوم في الفارق بين إشكالية الحركة الإصلاحية الإسلامية -منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر- وإشكالية الحركة الإحيائية الإسلامية -منذ ثلاثينيات القرن العشرين- لتبيَّن لنا أنه فارقٌ نوعيٌّ لا دَرَجيّ؛ أي فارقٌ في نوع الإشكالية وطبيعتِها. إشكالية الإصلاحية يختصرها السؤال الفكريّ المركزي الثاوي في خطابات مفكّريها كافة: كيف نتقدَّم؟ أمّا إشكالية الإحيائية، فيختصرها سؤال شيوخها ومرشديها ودعاتها: كيف نحمي الهوية؟(#)) ولِكُلٍّ من السؤالين طبيعة خاصة، بالمعنى الأرسطي، ويقود الفكرَ إلى نمطٍ مختلف من التقدير والحكم والاستنتاج والرؤية.

من المفيد أن ننتبه-ابتداءً-إلى أن سؤال التقدم يضع صاحبه في موقع الباحث عن طريقٍ إلى الانتماء إلى عصرٍ سِمَتُهُ التقدُّم؛ وهو -لذلك- سؤالٌ حركيّ، آفَاقيّ، مستقبلي (أو تَطَلُّعيّ نحو المستقبل). ويختلف الأمر في حالة سؤال الهُوية؛ فهذا سؤالٌ دفاعيّ، نكوصيّ، وتراجعيّ؛ لأن مَدَارَهُ على ممانعةِ ما يجري حوله من تحوُّلات عاصفة. وموْطن المفارقة هنا أن الفريقيْن يفكّران في سؤاليْهما من داخل مرجعية مشتركة هي الإسلام، ولكن مع اختلافٍ شديد في الرؤية والأهداف؛ ففيما دعتِ الإصلاحيةُ إلى اقتحام العصر والتاريخ والانتساب إلى حركته وإيقاعه باسم الإسلام، دعت الإحيائيةُ إلى الانسحاب منه واللَّوْذ بالماضي والتشرنُق على الذات بذريعة صونها من التبدُّد والمسْخ باسم الإسلام أيضًا! والفارق بين الموقفين فارق بين خياريْن في الحياة والاجتماع الإسلامي، وبين نظرتين إلى الحاضر والمستقبل، ثم بين فهميْن مختلفين.

وشأن كلِّ سؤالٍ إشكاليٍّ يحدّدُ نطاقَ موارد الجواب عنه، يختلف السؤالان في تعيين مواردهما. عند الإصلاحية، لا سبيل إلى التقدُّم إلاّ توسُّل الأدوات عينِها التي توسَّلَها مَن حقّقوا التقدم، وهُم الأوروبيون. وإذا كان في تعاليم الدين، وفي تراث الإسلام الفكريّ والسياسيّ، ما يُسْعِف قصد السَّعْي في تحقيق هذا الهدف، فليس فيه ما يمنع المسلمين اليوم (=في القرن التاسع عشر) من استعارة تلك الأسباب من غيرهم من الأمم الأخرى وإن لم تشاركهم في الدين(#)). أما عند الإحيائية، فلا سبيل إلى حفظ هُوية الأمّة من الخطر إلاّ بالانفصال الكامل عن مصدر ذلك الخطر؛ وهو المدنية الأوروبية وقِيَمها. ولا إمكان لتحقيق ذلك الانفصال إلاّ بالعودة إلى "الأصول" والماضي والموروث، والتمسُّك بها، والاعتصام بحقائقها دفعًا لمكاره العصر...، وتوكيدًا للذات المسلِمة و"أصالتها". لا يكون التقدُّم -في خطاب الإصلاحية- إلا متى أَمْكن للمسلمين أن يقيموا الدولة الوطنية الحديثة: دولة العدل والحريات والدستور، وأن يجتهدوا في فهم تعاليم دينهم فلا يضعوها حجابًا بينهم والتطوّر ونواميس الحياة... إلخ. ولا يكون صوْنُ الهُوية -في خطاب الإحيائية- إلاّ متى أمكن إقامة "الدولة الإسلامية" وتطبيق الشريعة، وإلا متى حوفِظَ على تراث الإسلام من التأويل الذاهب بالمسلمين إلى فُرقةٍ وشِقاق، وصِيرَ إلى اليقين بأن تعاليم الإسلام صالحة لكلّ زمان ومكان، وأن المسلمين في غَنَاءٍ في أمور دنياهم عن غيرهم من الأمم...

نحن، إذن أمام مقالتيْن تقفان من فكرة المستقبل على طرفيْ نقيض، وكلّ منهما إلى الإسلام يُحيل ومنه يَنْهل. وقد يثيرُ الاشتراك بينهما في المرجعية (=الإسلامية) سؤالاً عن الأسباب التي تدفع إلى حالةٍ من الاختلاف في النتائج على الرغم من تشابُه المقدمات. والحقّ أن وحدة المقدمات (=المرجعية الإسلامية المشتركة) ليست أكثر من وحدةٍ في المبدإ الديني؛ لكنها ليست من النوع الذي تتولّد منه وحدةٌ في منطلقات التفكير وفي الإشكالية ومنظومة المفاهيم. إنها تشبه الوحدة العامة التي جمعت بين المعتزلة والأشاعرة، ولم تمنع من الاختلاف الجذري بينهما في أصول الدين (=علم الكلام)، أو التي جمعت بين الحنفية والحنابلة ولم تمنع من الاختلاف بينهما في أصول الفقه، أو التي جمعت بين الفقهاء والفلاسفة فما منعت خلافًا بينهما في النظر إلى موقعية العقل من الدين، أو بين السنة والشيعة وما منعت خلافا بينهما في مسألة الإمامة ولِمَن تكون وكيف تكون... إلخ. وعليه، لا مناص من التدقيق في معنى المرجعية، بإخراجه من الحيِّز العَقَديّ إلى الحيز الفكريّ.

في وسعنا أن نسوق دليلاً ثانيًا على أنّ وحدة المرجعية الدينية (=الإسلام) لا تقود -حكمًا- إلى وحدة الأهداف والوسائل. مَرَّ معنا أن الأهداف مختلفة عند الحركتين الإصلاحية والإحيائية (الدولة الوطنية والأمّةُ مصدر السلطة فيها في مقابل الدولة الإسلامية القائمة على مبدإ تطبيق الشريعة). غير أن ما هو أَبْعَد في الاختلاف والتبايُن بين الحركتيْن إنما هو تصوُّر الوسائل المعتَمدة لبلوغ تلك الأهداف؛ إذْ هو-هنا-يتجاوز كونه اختلافًا وتباينًا ليصبح تعارُضًا تامًّا بين نهجَيْن. وسائل الإصلاحية تنوعت من التأليف الفكري، إلى إصدار المجلات والصحف ونشر مقالات تثقيفية فيها، إلى صوغ مشاريع للإصلاح السياسي والإداري والتعليمي وتقديمها للنخب السياسية الحاكمة. وبالجملة، ظل رهانُها مستمرًّا على نشر الوعي الجديد عبر التأليف والمدرسة والصحافة لترقية الفكر وتأهيله، وعلى النضال الديمقراطي لتمكين المجتمع من الحريات والمؤسسات التي توفّر له أسباب المشاركة السياسية في صنع مصيره وإصلاح أحواله. وإذا ما استثنينا سنوات الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، حيث كان حسن البنّا ميَّالاً إلى العمل السياسي السلميّ: معترفًا بالدستور ومشاركًا في الحياة الانتخابية، فإن الجِيل الثاني من الإحيائية نَحَا منحىً مختلفًا في النهج والوسائل، فلجأ إلى العنف في العمل السياسي بعد أن أسبغ عليه المشروعية الدينية بوصفه إيّاهُ "جهادًا" ضد "الجاهلية" الجديدة(#)) وسبيلاً إلى إنفاذ شرع الله في الأرض. وحين عادت الحركات الإسلامية إلى العمل السياسي السلمي، وإلى أسلوب المشاركة في الانتخابات، خاصة بدءًا من سنوات الثمانينيات من القرن العشرين، كان مَارِدُ العنف قد أَفْلَت من رَصْده في القُمقم، وطَفِق يُهْدر في أرواح الناس واستقرار الوطن وسِلْمه الاجتماعي، وباتَتِ السياسةُ تقترن-في وعي الأجيال الجديدة من "الصحوة الإسلامية" -بالسلاح والقتال.

ما أغنانا عن القول: إن هذا التباين الشديد في النهج والوسائل بين الحركتين يرتدّ إلى جملة أسباب تاريخية واجتماعية وثقافية. فاللحظة التاريخية التي وُلِدت فيها الفكرة الإصلاحية وتطورت -بين ثلاثينيات القرن التاسع عشر وستينيات القرن العشرين- هي غير اللحظة التي في رحمها نشأت الفكرة الإحيائية وتطورت: الأولى لحظة بناء الدولة الوطنية، والثانية لحظة أزمتها وإخفاق مشروعها. والحوامل الاجتماعية للفكرتين والحركتين مختلفة؛ ارتبطت الإصلاحية بصعود الطبقة الوسطى وانتشار ثقافتها الحديثة في المجتمع، فيما اقترنت الإحيائية بانهيار مركز هذه الطبقة في النظام الاجتماعي وتنامي واتساع نطاق فئات اجتماعية هامشية ومسحوقة(#))، ولَّدها التطوّر الرأسمالي المشوَّه الذي دَمَّر الزراعة والإنتاج، وقذف بالقوى المنتجة إلى العطالة وأحزمة البؤس. على أنّ عاملاً ثالثًا -لا يقل أهميةً عن عامليْ اللحظة التاريخية والبيئة الاجتماعية- لا ينبغي تجاهُلُه في هذا المعرض هو الفارق بين الخطابين والفكرتيْن: كانت الإصلاحية الإسلامية حركة فكرية في المقام الأول، وإنْ خرجت من جوفها الحركات الوطنية، فيما ظلتِ الإحيائية حركة سياسية حزبية(#)) في المنشأ والتطور، وافتقرت إلى التأصيل النظري لدعوتها. من الطبيعي إذن أن تكون النظرة إلى وسائل العمل مختلفة بين عالمِ الدين أو المفكِّر وبين الداعية والمناضل الحزبي... والمقاتل.

من البيِّن إذن أن مسألة المرجعية "المشتَركة" ليست بالبساطة التي يوحي بها بعض المتحدثين عنها؛ فالإسلام مرجعية دينية للأمّة كافة، بتياراتها المختلفة. لكن الإسلام عقيدة وليس فكرةً سياسية يجتمع عليها الجميع فيكون مرجعيةً واحدة للناس كافة. ولو كان كذلك لما حصل بين المسلمين على امتداد تاريخهم -كلّ ذلك التراث من الانقسامات والفرق(#)) والفتن والحروب الأهلية. وعليه، فإن على التفكير في مرجعية الإصلاحية ومرجعية الإحيائية أن يسلك سبيلاً آخر غير سبيل الدين. وتلك مسألة أخرى ليس هنا مجال التفصيل فيها.

-3-

ليس من شكّ في أن استعادة سياقات التدهور المروِّع للفكر الإسلامي -منذ ثلاثينيات القرن العشرين، وخاصة في الأربعين عامًا الأخيرة- والتنامي المطَّرد للخطاب الصَّحوي في امتداد توسُّع نطاق تأثير التنظيمات السياسية الإسلامية الحاملة له(#))، معطوفًا على جنوح قسمِ كبير منها لاستخدام العنف في العمل السياسي، وتعريض السلم المدني للتهديد، وفتح الاجتماع السياسي العربي والإسلامي على سيناريوهات الفتنة والحرب الأهلية... يعيد إلقاء الضوء على اللحظة الفكرية الخصبة التي مثَّلتْها الإصلاحية الإسلامية في فكرنا الحديث والمعاصر، ويرفع من معدَّل الشعور بالحاجة إليها مجدَّدًا بما هي تعبير أصيل ومتحضر ومشرق لصورة الإسلام التي تتعرض اليوم للتزييف والتشويه باسمه!

لا تنتمي هذه الرغبة إلى نوستالجيا فكرية تَحْمل عليها حالُ اليأس والحُبوط السائدة اليوم، ومنذ شُرِعَ في اختطاف الإسلام والسَّطو عليه من قِبَل جماعات سياسية صادرت ملْكيته والنطق باسمه، وإنما هي تنتمي إلى حاجة تاريخية: فكرية واجتماعية، لا مَهْرب من تحقيقها. وهي حاجةٌ بمعنيَيْن على الأقل: بمعنىً اضطراريّ، ودفاعيّ أو تكتيكي، هو الردّ على الغارات المتلاحمة على الإسلام بوصفه-عند مهاجميه- عقيدةً تدعو إلى العنف والكراهية، وتنغلق على يقينياتها انغلاقًا يمنع معتنقيها من الانفتاح على الغير واكتساب أسباب التقدّم. ثم بمعنىً ضروريّ ولازم، واستراتيجي، هو الذهاب بالاجتهاد إلى مداه، بعد تخليصه من الحبْس الدوغمائي المديد، وتمكين الإسلام والمسلمين من الأدوات الفكرية والسياسية والاجتماعية الكفيلة بفتح فرص التقدم أمامه. وما أغنانا عن بيان ما في وسْع تراث الإصلاحية الإسلامية الفكريّ أن يقدّمه على سبيل تحقيق تينك الحاجتين.

وقد يُوجَد-ووُجِدَ فعلاً-من يدعو إلى إصلاحية سلاميةٍ جديدة أو متجدّدة في ضوء كل هذه الأوضاع المحبطة التي أشرنا إليها. والدعوةُ وجيهة من غير شك، ونقبلها من دون كبيرِ تردُّد؛ لكنَّا نبغي أن نُجْريَ على صيغتها بعضَ تعديلٍ لا يذهب بجوهرها ومضمونها؛ لكنه يحاول أن يعيد وعيها في سياقها التاريخي الصحيح. وهكذا بدلاً من الدعوة إلى حركة إصلاحية جديدة، نُؤْثر الحديث عن حاجتنا إلى استئناف مشروع الإصلاحية الإسلامية الذي توقّف منذ رحيل آخر ممثليه (=علاّل الفاسي)(ت:1974)؛ لأن الاستئناف -فيما نزعُم- هو التعبير المناسب عمّا نحن في حاجةٍ إليه ونحن نتحدث عن الإصلاحية الإسلامية.

لماذا استئناف المشروع وليس البحث عن آخر جديد؟

لسببين على الأقل: أوّلهما أن الدعوة إلى إصلاحية جديدة هي من قبيل الينبغيّات التي لا تكون شروطُها مهيَّأة دائمًا وممكنة التحقيق لمجرَّد أن هناك رغبة أو إرادة في أن تكون. وثانيها أن فكرة الاستئناف مبرَّرة تاريخيًّا بعدم تحقّق كامل المشروع الذي خاضت فيه الإصلاحية منذ قريبٍ من قرنين، حتى لا نقول: إنه تعرَّض للإجهاض. لنشرح ذلك قليلا: 

ما زال الفكر الإسلاميّ -حتى إشعارٍ آخر- محكومًا بالأفق المعرفيّ والإشكاليّ الذي حدَّد خطابُ الإصلاحية الإسلامية أُطُرَهُ منذ القرن التاسع عشر: الاجتهاد في فهم النصّ وتكييفه مع متغيرات الواقع، والاجتهاد في فهم الواقع من منظور إسلامٍ منفتح. وليس في الوسع أن يقال: إن هذا الاجتهاد استنفذ أغراضه وانتهت الحاجة إليه لكي نَخْرُجَ من عصر الإصلاحية الفكريّ؛ فإلى أن الاجتهاد مفتوح على الجديد والطارئ والمتجدّد، فإنه اغتيل في تاريخنا المعاصر حين جَنَحَ مَن جَنَح ثانية للنصوص وحرفيتها يَلُوذ بها ويعتصم، ويتخذ منها سياجًا يعزله عن العالم وعن الحاجة إلى التقدم. لعلّه -بهذا الحسبان- بات أَوْكَدَ من أيّ وقتٍ مضى وأدْعَى إلى الاستئناف ورفْع الحجْر عنه.

هذه واحدة. الثانيةُ أن البرنامج الاجتماعي والسياسي الذي حمله مشروع الإصلاحية الإسلامية -منذ مائة وثمانين عامًا- لم يَلْقَ تحقُّقًا تاريخيًّا حتى تنتهي الحاجة إليه(#))، ولم يعتوره نقصٌ حتى ندعو إلى إصلاحية جديدة. لو أخذنا ثلاثة أهداف منه فقط، هي الأمَّات فيه -وهي: نشر التعليم من خلال المدرسة الوطنية، وإنجاز الإصلاح الديني، وبناء الدولة الوطنية الحديثة: دولة الحريات والدستور والمؤسَّسات- لَتَبيَّنَا أنها ما برحت تُمثّلُ -حتى اليوم- أهداف الحاضر والمستقبل التي على تحقّقها تتوقف نهضةُ العرب وخروجُهم من حال التأخر التاريخي. وهي أهداف ليس فقط لم تتحقق؛ بل تعاظمَتِ الموانعُ المادية والفكرية في وجه تحقيقها. فالرهان الإصلاحيّ الإسلامي على المدرسة الحديثة -إطارًا للتعلّم واكتساب المعارف العصرية- يصطدم اليوم -وبعد وقرنٍ ونصف منه- بانهيار التعليم وبتنامي معدّلات الأمية في أوساط الشعب، وبهجمة التعليم الأجنبي ولسانه. والإصلاح الديني -الذي دشَّن فيه محمد عبده القول من طريق تفنيده دعوى السلطة الدينية ودفاعه عن مدنية السلطة في الإسلام- يصطدم اليوم باتساع نطاق الأفكار التي تنادي بالربط الماهوي للسياسة والدولة بالدين وبإقامة الدولة الإسلامية المحكومة بالشريعة. والدولة الوطنية -التي صاغ الإصلاحيون ملامحها بدفاعهم عن الحرية والدستور والنظام التمثيلي وتوزيع السلطة- تصطدم اليوم بالإخفاق والامتناع، فينقلب حالها إلى الاستبداد، وتتحول فيها السلطة إلى مزرعة لنفوذ الخاصة والنخب الصغيرة المغلقة.

لم يشهد هذا المشروع الكبير تحقيقًا تاريخيًّا كي يستنفذ نفسَه أو ترتفع الحاجة إليه، وما كان تشخيصه خاطئًا حتى تنشأ الحاجة إلى دعوة إلى آخر جديد. إنه هو نفسُه الذي يفرض نفسَه علينا اليوم ويتطلب استئنافًا له. لكن مشكلته أنه دورٌ ينتظر "بطلاً" يؤدّيه، و"البطل" هذا ليس موجودًا، ومكانه الطبيعي يحتله "ممثلون" آخرون هامشيون، ولا سبيل إلى إصلاحية من دون إصلاحيين. كما لا سبيل إلى نجاح المشروع الإصلاحي من دون حاملٍ سياسيّ يمكّنه من التحقُّق الماديّ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1) راجع رأينا مفصّلاً في: عبد الإله بلقزيز، الإسلام والسياسة، بيروت؛ الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط 2، 2008، و: أزمة الفكر السياسي العربي (عبد الإله بلقزيز ورضوان السيد)، دمشق: دار الفكر، 2001.

2) عبد الإله بلقزيز، الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط 2، 2004، ص81-101. انظر أيضا: وجيه كوثراني، الدولة والخلافة في الخطاب العربي إبّان الثورة الكمالية في تركيا: دراسات ونصوص. بيروت، دار الطليعة، 1996. (سلسلة التراث العربي المعاصر).

3) محمد رشيد رضا، الخلافة أو الإمامة العظمى: مباحث شرعة سياسية اجتماعية إصلاحية. القاهرة: مطبعة المنار (1922).

4) بلقزيز، الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر. م م س، ص107-117. وانظر أيضا: عبد الإله بلقزيز، العرب والحداثة-دراسة في مقالات الحداثيين. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2007، ص125-145.

5) علي عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم. بيروت: منشورات دار مكتبة الحياة، 1978.

6) بلقزيز، الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر.

7) م ن، ص117-122

8) الطاهر ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية. تونس: الشركة التونسية للتوزيع، 1978.

9) أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الأحكام. دار الفكر (د ت). 4 أجزاء، 2 مج 

10) علال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها. الرباط، مطبعة الرسالة، ط 2، 1979

11) علال الفاسي: النقد الذاتي. الرباط: منشورات مؤسسة علال الفاسي. ط 8، 2008.

12) راجع نقده للإصلاحيين الإسلاميين، ومنهم محمد عبده، في: عبد السلام ياسين، الإسلام والقومية العلمانية. ط 2، طنطا: دار البشير للثقافة والعلوم الإسلامية، 1985.

13) عبد الإله بلقزيز ورضوان السيد، أزمة الفكر السياسي العربي، م م س. انظر أيضا: رضوان السيد: سياسيات الإسلام المعاصر: مراجعات ومتابعات. بيروت: دار الكتاب العربي، 1997

14) فكرة شدّد عليها خير الدين التونسي في: أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك (ط 2. تونس: الدار التونسية للنشر؛ الجزائر: المؤسسة الوطنية للكتاب، 1986)، ص156.

15) راجع في هذا "المفهوم": سيّد قطب، معالم في الطريق. ط 10، القاهرة؛ بيروت: دار الشروق، 1993. ومحمد قطب/ جاهلية القرن العشرين. بيروت، دار الشروق، 1994.

16) راجع تحليلا لذلك السياق الاجتماعي في: علي أومليل، الإصلاحية العربية والدولة الوطنية. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي؛ بيروت: دار التنوير، 1985.

17) بلقزيز، الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر. ص264-274.

18) Henri Laoust, Les schismes dans l'Islam, Paris, Payot 1965.

19) من أجل فكرة تفصيلية عن جماعات التطرف والعنف يُرَاجَع: رفعت سيّد أحمد، النبيّ المسلح. لندن: رياض الريّس للكتب والنشر، 1991، جزءان (ج 1: الرافضون، ج 2: الثائرون).

20) مركز دراسات الوحدة العربية، المشروع النهضوي العربي (بيروت: م د و، ع، 2010).

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/8/175

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك