داعش هل هو استجابة للواقع الاجتماعي أم انحراف عنه؟!

عبد اللطيف ياسين

تتضارب المعلومات والتأويلات والتفسيرات حول كثير من الظواهر والأمور البشرية، وحتى النصوص الدينية، وقد كثُر الحديث عن (داعش)، بحيث أصبح هذا الاسم الأكثر تناولاً وتفسيراً وتداولاً، على الصعيد السياسي والفكري والاقتصادي والاجتماعي، وقد لا يكون هذا أمراً مبالغاً فيه، بقدر ما تـم مجانبة الصواب في التعريف الحقيقي لهذا الاسم المنتشر عالمياً على صفحات الويب، والمطبوعات، حتى أنتج الكثير من الكتب حول هذه الظاهرة.

لقد كتب الكثيرون عن هذه الظاهرة، وبأساليب متنوعة، تسهم كلها في تضليل ماهية هذه الظاهرة، بقدر إسهابها في تعريفها..!!
بعد سقوط الخلافة العثمانية، في العقد الأول من القرن الماضي، دخل، أو سقط، بقايا هذه الأمبراطورية في أجندة بعيدة المدى، بحيث تعكس هذه الأجندة سيناريوهات متعددة في المنطقة.

ومنذ ذلك الحين دخل العالم الإسلامي في مرحلة الطوارئ والارتجالية والفوضوية من أوسع أبوابها، ولا تنفك هذه التحولات عن المرحلية القلقة، دون الركود إلى راحة، ولو لعقد من الزمن، بدءاً من تشرذم العالم الإسلامي بعد سقوط الدولة العثمانية، وإلى استغباء القبائل العربية كحركات وطنية، بحيث زُج بها إلى طرح حلول وهمية في أنفاق مظلمة، وآل الأمر إلى إجلاء الاستعمار مشاهدة، وبقائهم - في قلوب تلامذتهم وتابعيهم - إلى الآن. وقد ذاقت الشعوب، بعد عهد الاستعمار، أسوء ما ذاقته على أيدي الاستعمار، فلم يكن استبداد حكام العرب أقل بطشاً وتنكيلاً بشعوبهم من الاستعمار، ومع هذا اختارت شعوب بقايا العالم الإسلامي بني جلدتهم، وفضلوهم على غيرهم. ورغم كل التنازلات التي حدثت من قبل الشعب عامة، إلا أن طغيان واستبداد الحكام طال الأخضر واليابس، والأهم من هذا أن بقايا العالم الإسلامي لم تر مرحلة الاستقرار، إلا فترات وجيزة، لم تك تسعف أوليات التمكين والإبداع والتقدم. وهذا التخلف الفكري والثقافي والتقني، الناتج عن هذه التحولات والاضطرابات والمطبات، أدى إلى تأصيل أحقية (الأقليات) بالمطالبة بحقوقهم الربانية والطبيعية في الحياة. وكانت العقود الغابرة تغلي غلياناً كبيراً، من أثر كل تلك المعاناة التي أصابت أقوام المنطقة، جراء اتفاقية (سايكس بيكو)، في 1916م، وقد تم ترسيم خريطة سياسية جديدة للمنطقة، دون مراعاة العرق والإثنية واللغة والتاريخ والثقافة السائدة في المنطقة، بهذا وُضعت الدول المستحدثة على طاولة مصطنعة من قنابل موقوتة جاهزة للانفجار.. وقد تم تفجيرها..!! ولم تأت هذه التفجيرات جزافاً، وإنما كانت تتمة لسيناريوهات متنوعة ومتعددة.

قبل سقوط النظام البعثي في العراق، كان هناك غبن وحيف واضطهاد ذاقه العراقيون قاطبة، ولكن كان الأمر أمرّ على الكورد والشيعة، وذلك لأسباب موضوعية. وقد تناول (بريمر) هذا الموضوع بجدية بالغة، بحيث أصبح جزءا كبيراً من خارطة عمله، وقد عمل جاهداً على إبراز مظلومية الشيعة، في مواضع كثيرة من كتابه الموسوم (عام قضيته في العراق)، وفي مقابلاتة مع التيارات الشيعية، حسب ما فصله في كتابه المذكور. ومن جانب آخر، كل من عاشر العرب العراقيين يعلم أن لهم غيرة وشهامة على أعراضهم ونسائهم، وقد استغلت القوات الأمريكية هذا الأمر، وقاموا بنشر صور تنتهك فيها أعراض العراقيات، وحتى الرجال منهم، في (أبوغريب)، وغير ذلك من الصور المستفزة، ولا أستغرب أن تكون هذه الصور مفبركة، وذلك لتحريك مشاعر العراقيين، وزجهم في صراعات واقتتال بينهم، من جانب، ومن الجانب الثاني مع الأمريكان، وكان حل وزارة الإعلام والدفاع، وغيره من الأمور المشبوهة، بداية لتكملة المشهد العراقي الجديد في الأيام المقبلة.
ونشأ جيل جديد، عاطل عن العمل، متشائم في مستقبله، مطعون في شرفه، وعرضه، ومهدد من سلطة مذهبية متطرفة في بغداد، لذا لو قمنا باختزال الواقع العراقي، ولكن بعيدا عن دور الكورد في هذا المجال، وذلك لاعتبارات سنذكرها لاحقاً، نراه كما يأتي:
1-       كان هناك بقايا من البعثيين الحاقدين على الأوضاع في المنطقة، لأنهم خسرو السلطة والهيبة والمال.
2-       عدد كثير من الذين لم يكونوا بعثيين، ولكن كانوا موظفين في الوزارات المنحلة، قد حرموا من أبسط حقوقهم المعاشية والحياتية.
3-       جيل جديد نشأ محروماً، وعاطلاً عن العمل، ومسلوب الشخصية، خاصة في المثلث السني.
4-       وكان هناك فلول من بقايا الحركات المتطرفة والمتشددة.
5-       ولا يسعنا أن نهمل حالة اليأس الذي أصاب (القاعدة)، في العراق وسوريا، وخاصة بعد مقتل قاداتهم.
6-       وجود جيل يحب الإسلام، دون التعمق في مفاهيمه.
7-       وجود الفوضويين، والانتهازيين، أمر وارد في كل المجتمعات.
8-       عرض مشاهد اغتصاب وهتك أعراض العراقيات، والعراقيين.
9-       حصر السنة في دوائر ضيقة.
ومن جانب آخر، كانت القيادة الغربية على علم كامل بوجود هذه الشرائح في المجتمع العراقي. أي: كانوا ملمين ببنية الشخصية العراقية، وعالمين بمكامن الضعف الذي واكب تركيبة الشخصية العراقية، لأن الغرب يتعامل مع السلوك الإنساني على أساس المعايير النفسية، والشخصية العراقية من السهل التأثير فيها، وتوجيهها، وخاصة فيما يتعلق بالعرض والحمية والشهامة.
ولا يخفى على كل ذي بصيرة أن هناك رقما خياليا من المسلمين المتشددين، يقيمون في أوروبا، وهم متجنسون، أو ولدوا في الغرب، ولا تستطيع الأنظمة الغربية أن تقوم بأي إجراء للحد من نشاطهم، أو مخاطرهم، على حد فهمهم لهم، فكان من الواجب أن ينقوا دولهم من هؤلاء الأشخاص، وهذا غير مسموح لهم وفق قوانينهم الإنسانية (داخلياً)، فكان لا بد من مخرج للتخلص من هذا الكم الهائل من الإسلامين المتشددين، وليس هذا فحسب، بل أصبح التخلص منهم ملحمة ومشهدا دراميا، ولكن في ساحة أخرى من الملحمات، وعلناً على الشاشات، نفس الأشخاص الذين كان على الدول الغربية أن تحميهم وتؤويهم، والذين كانوا يعرفون بالتشدد، اليوم يقتلون، وعلى الشاشات تبث المشاهد، والمجتمع الدولي يبارك هذا على أنه تخلص من الإرهابيين..!!
عندما حلت ساعة الصفر لتفعيل إحدى السيناريوهات، وتغيير خارطة المنطقة، بعد مائة سنة، بستايل جديد، والأمور مهيئة بشكل جيد للبدء بتوجيه الواقع العراقي نحو الاتجاه المرسوم، وتغيير خارطة المنطقة، وهنا نرى أن المجتمع العراقي مقتنع وموقن، ويحس بأنه يحتاج إلى محررين وفاتحين، للتخلص من هذا الواقع المتردي، والكل يبكي على ليلاه، فالعاطل عن العمل، والمنتقم لشرفه، والمغدور في مذهبه، فكل الشرائح التي ذكرتها، والواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، كان مهيئاً لولادة (داعش)، أو أي شيء من هذا القبيل، يعبر عن تطلعات وآمال ورغبات هذه الشرائح، مع اختلاف وجهات نظرهم، والكل وجد ضالته في هذه الحركة، لذا كانوا يُستقبلون كفاتحين ومنقذين. لذا لم تكن الإشكالية في المسميات أبداً، سواء أكان داعش، أو أي اسم آخر، ولكن الأهم هو التعبير عن رغبات وتطلعات وآمال هذه الشرائح.
إذاً وجود، أو صناعة، أو خلق أي حركة أو جماعة تتمتع بهذه الأوصاف، كان مطلبا ملحا لهذه الشرائح ..!!
فعندما تتوافق الرغبة الدولية، والمطالب الاجتماعية، والحاجة الاقتصادية، والمصالح السياسية، يكون من السهل خلق أي شيء، وتحت أي مسمى كان. فإلى هنا أصبح اسم (داعش)، مطلباً شعبياً يعبر عن معاناة ومظالم شعوب المنطقة، باستثناء الكورد، وذلك لاعتبارات موضوعية.
لماذا الكورد لا يحتاجون إلى (داعش)..؟؟
لقد سبق ربيع الكورد ربيع العرب بسنوات، عندما قامت الانتفاضة ضد الحكومة العراقية، وذلك لأسباب غنية عن التعريف والبسط والعرض، ولا يزال الكورد، حتى الآن، مهددون من قبل دول الجوار، وبالنسبة لبقية الأسباب الأخرى المؤدية إلى ظهور (داعش)، فكلها تقريباً معدومة في كوردستان، فمثلاً هناك إعمار وأعمال في كوردستان، وهناك تنمية وحركة اقتصادية، والحزبان اللذان كانا منغلقين على أنفسهم، أصبحا اليوم أكثر انفتاحاً من ذي قبل، مع وجود ملاحظات وانتقادات حادة، ولكن لا تبلغ حد اليأس والبطالة والضيم الذي يعيش فيه العراق. وكذلك بعد كوردستان عن متناول أيدي السلطة الطائفية المتشددة في بغداد، والأمان الذي يتمتع به الإقليم في مناخ أمني قوي ...إلخ . وهنا لا ننكر وجود بعض الأفكار المتشددة في كوردستان، وهذا متزامن مع وجود متشددين علمانيين لا يرون مسوغاً لبقاء المقابل.

 

فالحال في العراق لا يسر الكثيرين، والعراق اليوم - وبعد قرن من ولادته القسرية- يحتاج إلى صياغة جديدة، تتوافق مع إرادة شعوبه، وعندما اعترف (البشير) بجنوب السودان، فإنه بذلك قد خدم (السودان) أكثر من أي شخص آخر، فالسودان – الآن- بصدد الإعمار والتنمية، والذي يزور السودان الآن، وبعد وقف حرب الجنوب، يرى تطورا ملحوظاً. فالعراق صنع بأيدي منتصري الحرب العالمية الأولى، وخلال المائة سنة بعد ولادته، لم يفلح في تحقيق العدل بين شعوبه وأقوامه، وقد آن الآوان أن يوضع حد لهذا الواقع المر، وذلك بالاعتراف بالكورد كدولة مستقلة، وليست إقليماً، وكذا السنة في كيان مستقل، وكذا الشيعة. والواقع يؤكّد أنه لم تفلح أي دولة في ضمّ مجتمعاتها قسرياً. وكان الأحرى أن لا يطالب الكورد بالانفصال، ولكن الأمر كان على العكس من ذلك، لأن أنظمة الحكم المتعاقبة في العراق ظلمت الكورد، وقتلت أبناءهم، وسبت نساءهم، وحرقت أرضهم، وجففت منابع آبارهم، وحاربت وجودهم، وتاريخهم. وعلى العقلاء أن يستوعبوا هذا، ويقروا بفشل وحدة العراق المزعوم، لأنه لم يكن ثمة عراق بهذا الشكل، ولن يكون. وقد آن الآوان أن تعيش شعوب المنطقة، بكل أعراقها وأديانها ومذاهبها، بسلام آمنين، في ظل عدالة إنسانية، وليس على معيار القومية أو المذهبية أو الدينية.
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك