فيخته: أساس الحقّ الطبيعي

محمد تحزيمة

يقدم فيخته نفسه كمفكر أعطى الرسالة الملائمة لروح الفلسفة الكانطية، في وقت بدت فيه هذه الأخيرة كثورة تتجاوز صاحبها، محاولا وضع شكل جديد لثورة قلبت القديم. فكانط يقول بشكل موضوعي بأولية الذات بالنظر إلى الموضوع، وحيث أن الشكل والمحتوى يترابطان كان لابد من أن يبين الشكل الجديد فكرا جديدا يعيد تجديده هذا الأخير؛ وهو ما يضمن للعقلانية الفيختية أصالتها مقارنة بالعقلانية الكانطية. إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو كيف استطاع فيخته تناول فكرة الحرية والحق من خلال العقلانية الكانطية؟ وماذا أضاف لهذه الأخيرة حتى يجعلها أكثر حداثة ووضوحا؟ وأخيرا، كيف استطاع فيخته الفصل في العقلانية الألمانية بين ما هو طبيعي وما هو أخلاقي؟.

1- "الحقّ الطبيعي" أو خلط الحق بعلم الأخلاق:

لن تكون أقل مفاجئات قارئ كتاب "أساس الحق الطبيعي(1)" بالتأكيد عثوره على عدم وجود حق طبيعي، إذ يوضح فيخته أنه "ليس هناك معنى حيث أخذ مصطلح الحق الطبيعي(2)". ويعتمد فيخته هنا المعنى المألوف والمتداول(3)، المأخوذ من التقاليد الفلسفية المعاصرة، لمفهوم الحق الطبيعي، إذ يتعلق الأمر بمفهوم حق مختلف جوهريا عن كل حق وضعي أي عن النظام القانوني، كما هو فعلا معمول به كشرط أي تفاعل إنساني عبر التاريخ.

يلاحظ فيخته منذ البداية أن المفهوم التقليدي للحق الطبيعي يقوم على خلط الحق بعلم الأخلاق. فبمجرد غض النظر عن انتماء إنسان لتجمع ما لا يبقى أبدا كحجة فرعية معيارية لـ"الطبيعة" و"الوعي" أو "العقل"، لم يعد بالإمكان أبدا التكلم عن ماذا يجب على الإنسان فعله (في كل زمان ومكان بمعنى بلا قيد ولا شرط)، الشيء الذي يفقد الحق حتى معناه. ففي الواقع، يعين الحق ما هو مسموح بفعله، وبعبارة أخرى، يكشف الحق عن الأفعال النسبية التي من خلالها لا تقوّم الحجة الفرعية "للطبيعة" شيئا. فعندما يتعلق الأمر بتحديد ما يسمح لي بفعله أو ما أملك الحق بفعله، فلن يعد بإمكاني البتة غض النظر عن أي سياق خاص بينما يجب علي الاستمرار في المكان والزمان.

وبالمقابل فكل ما أملك الحق في فعله يجب أن يكون محددا هنا والآن، مثلما يقول فيخته (بعد كانط(4): "لا تظهر الإباحة مريحة في القانون، بل هي فقط مستنتجة بالتأويل من هذا الأخير(5)". والحال أنه لا يمكن لهذا التأويل أن يتم خارج أي سياق اجتماعي وتاريخي يريد "الحق الطبيعي" غض النظر عنه، فالقانون الذي يسمح هو قانون يمنح الحق، وليس بالضرورة قانونا يتحكم بلا قيد ولا شرط كما هو الأمر بالنسبة للقانون الأخلاقي، الذي لا يمكن له السماح إلا تحت بعض الشروط التي يكون حضورها كضرورة مرجعية. إن الصعود الجديد من جانب كل شرط تاريخي واجتماعي خاص، نحو وجهة الحجة الفرعية المعيارية "المطلقة"، ألغى مفهوم الحق، محولا بذلك الأمر من المعيارية إلى علم الأخلاق. فبمجرد إثبات الفعل، تعبئ تقاليد الحق الطبيعي مفهوما أخلاقيا وليس قانونيا للواجب (معين كمطلق) وللقانون (مفهوم كلا مشروط). 

يمكن لفيخته البرهنة على أن تصور الحق الطبيعي نفسه يحمل تناقضا، إذ حتى يكون هذا الحق هو كذلك حقا، يجب أن يكون مؤسسا وليس طبيعيا. وحتى يكون هذا الحق طبيعيا فلن يتعلق الأمر بحق بل بعلم الأخلاق. وهنا يتضح أمران: الأول، هو أن البشر يتصرفون عفويا وبشكل مطابق لما يأمرهم وعيهم (أو العقل العملي) بفعله، بحيث يتلاءمون عفويا مع بعضهم البعض. وفي حالة مماثلة "لا تمارس السلطة القانونية أي فعل وليس لها أي قرار تتخذه، لأن ما يجب أن يحصل من خلالها يحصل بدونها، وكل ما تمنعه لا أحد يريده(6)". ويرجع هذا إلى تصور الإنسانية على أنها "جنس من الكائنات سيكون أخلاقيا على الوجه الأكمل"، إذ في الوقت الذي تبقى فيه الأخلاقية الإنسانية الحقيقية بعيدة عن كونها معطى طبيعيا لا يمكنها إلا أن تكون نتيجة تربية، أو "أنه لا توجد أخلاقية عامة" ولا يمكن لأي إنسان الاعتماد قبليا على أخلاقية الآخرين(7)، "و من ثمة ضرورة تدخل القانون الخارجي. ولا يمكنه ذلك إلا تبعا لاتفاق يقيمه البشر فيما بينهم، أي فقط داخل إطار تجمع مؤسس حيث الوجود نفسه يعني إلغاء الحق الطبيعي.

لن تكون هناك إذن، علاقة قانونية ممكنة بين البشر إلا تحت وصاية قوانين وضعية وداخل تجمع مؤسس، فكل الشروط التي حاولت من خلالها عادة الحق الطبيعي غض النظر تضم، في المقابل، العلاقة القانونية في ماهيتها. لهذا يكتب فيخته على أنه لا يوجد "أي حق طبيعي، بمعنى أنه لا توجد هناك أية علاقة قانونية بين البشر إذا لم تكن داخل تجمع أو تحت وصاية قوانين وضعية(8)".

ويمكن الآن، تلمس معنى عبارة "الحق الطبيعي" الذي يمدنا به فيخته، وبالتالي عنوان مؤلفه: ذلك أنه إذا لم تكن هناك علاقة قانونية ممكنة بين البشر إلا داخل دولة متواجدة فعلا، لا يكون للحديث عن "حق طبيعي" أي ارتباط بالتصرف الذي ارتكز على الارتقاء افتراضيا من جانب الدولة نحو أصل وهمي، بل إنه على العكس من ذلك يعين المؤسسة التي تقصد تحديد العلاقة القانونية في نزاهة شكلها العقلاني والدولة المتلائمة معها في كل عقلانية محتواها أي حقها السياسي.

هكذا يجد قارئ الأساس نفسه مجبرا، إذن، على التخلي فورا عن الإشارات التي تلقاها من القراءة الكلاسيكية للحق الطبيعي لأن "الدولة، يكتب فيخته، هي التي تصبح حالة الطبيعة للإنسان(9)"، ولم يعد التكوين الافتراضي للدولة انطلاقا من الحالة الطبيعية الوهمية قابلا للممارسة مادامت الدولة نفسها هي الحالة الطبيعية للإنسان. ذلك أنه داخل الدولة يصبح الإنسان إنسانا بشكل محسوس، بعيدا عن كون الدولة مجبورة على الإقتداء بماهية أبدية ولا تاريخية ووهمية للإنسان.

2- لحظة أساس الحق الطبيعي

2-1- التطبيق الفرنسي للحرية والنظرية الألمانية للحق:

تحقق استقبال الثورة الفرنسية بشكل سريع من خلال ظهور جمع وتركيب بين ما كان الألمان- ومن بينهم على وجه الخصوص كانط - قد أقدموا على إصلاحه داخل نظام التصورات وبين ما كان الفرنسيون قد شرعوا فيه داخل سياق الأحداث. إننا نعرف ثراء هذا التوازي بين الثورة النظرية الألمانية والثورة السياسية الفرنسية عند كل من هيغل وماركس وكذلك عند Heine حتى نلحظ "على ضفتي الراين، نفس القطيعة مع الماضي: ففي فرنسا كل الحق وفي ألمانيا كل الفكر متهم ومجبر على تبرئة نفسه(10)". ولكن لا أحد من الأوائل وجه نقدا كالذي وجهه فيخته سنة 1795(11). فبوضع الحرية كمبدأ لكل شيء تحت شكل العفوية المطلقة للأنا، لا يفصل فكر الحرية الألماني نفسه عن المؤسسة الفرنسية للحرية التي تضع هذه الأخيرة كأساس للدولة.

وبموازاة ذلك، تشكلت خاصية للفهم الألماني للثورة الفرنسية على مستوى المصطلحات القانونية. إذ يجب البحث عن سبب التعريف الذي يعطيه كانط للحق والذي سيستعيره فيخته. هذا التعريف له خاصية جعل مفاهيم الحق والحرية غير منفصلين أحدهما عن الآخر؛ وهنا أيضا معرفة للثورة في أعين كانط الذي استطاع أن يجعل من الحق شرط إمكانية حرية البشر داخل المجتمع، شرط أن تعني الثورة تحقق الحرية في العالم عن طريق الحق. فالثورة ليست ارتقاء للحرية إلا بالمقدار الذي هي - أي الثورة- في الوقت نفسه ارتقاء للحق كما هو معلن في إعلان الحقوق لسنة 1789. 

ذلك في الواقع هو ما يقترحه كانط كمفهوم للحق سنة 1793 في كتابه "نظرية وتطبيق": "يصدر مفهوم الحق الخارجي في كليته عن مفهوم حرية العلاقات الخارجية للبشر فيما بينهم(12)". وبهذا المعنى، فالوضعية القانونية هي تلك التي تؤمن داخل حرية الجميع وتجعلها ممكنة بالتحديد المتبادل لحرية كل واحد، إذ أن "الحق هو تحديد لحرية كل واحد، بشرط القدرة على الانسجام مع حرية الآخر، بالمقدار الذي تكون به الحرية ممكنة حسب قانون كوني. والحق العمومي مجموعة من القوانين الخارجية التي تجعل من مثل هذا الاتفاق الجماعي ممكننا(13)". فإذا كان الحق يسمح بالحرية، فإنه بالمقدار نفسه يؤمن المساواة(14): فالوضعية القانونية هي، في الواقع، تلك التي تتألف من وضعية "مساواة فعل ورد فعل حكم، تسمح بتحديد الآخر(15)".

يسمح الحق، إذن، "بالفعل المتبادل" بالمعنى الذي يجعل فاعلية الحكم مماثلة لسلبية الآخر، ملخصة بذلك توازن السلبية مع فاعلية تناسل الفعل الثاني بدوره داخل الأول: تسمح الوضعية القانونية أن لا تمارس فاعلية حكم بالشكل الذي يختزل حكما آخر إلى مجرد سلبية محضة، وبالتالي جهل حرية هذا الأخير بجهل مساواة الفعل ورد الفعل.

2-2- "النمط" القانوني للفلسفة المتعالية:

لقد كانت الفلسفة الألمانية بعد- كانط بحق فلسفة الثورة الفرنسية، حيث يمكن اعتبارها بهذا المعنى امتدادا بدون سابق وتبريرا كاملا للحق كحق للإنسان. فمن جانب سؤال تعددية حقوق الإنسان أعاد التأمل الألماني مع كانط وفيخته أولا تملك الحق لنفسه بما هو حق الإنسان وللإنسان وحده. ويفهم من هذا أنه لا يوجد حق إلا للإنسان ومن أجله. وتتصور الفلسفة رابطا جوهريا بين الإنسان والحق، وهذا الرابط ليس شيئا آخر غير الحرية. وحده كائن حر، له سلطة غير تجريبية على بدء سلسلة جديدة من الأفعال بنفسه بشكل مطلق، والقدر غلى استرداد حقه، كتجل اختباري واضح لحرية الإنسان، ذلك أن وحده الحق قادر على السماح بإتمام اختياري للحرية.

لا يقايس إعلان الحق الذي نجده في الفلسفة الألمانية، من كانط إلى هيغل، إلا على إعلان الحرية الإنسانية من طرف هذه الفلسفة نفسها، حيث إعادة تعرف حرية الإرادة التي تثبت نفسها من خلاله بفضل "فعل" القانون الأخلاقي في فلسفة كانط، وإعادة سياق الذاتية للحكم المطلق في فلسفة فيخته. إذ يجعل هؤلاء الفلاسفة الحرية العملية أساسا نظريا لمشروعهم الفلسفي، لأنها الحرية نفسها التي تفعل حسب قاعدتها الواضحة تماما لتصبح أساسا لكل شيء عند فيخته وكذا عند شليغ وهيغل، وهو نفس ما يعلنه فيخته جهرا عندما يكتب"الحرية هي أول أساس والشرط الأول لكل وعي(16)". 

وحدها الحرية، إذن، تجعل الإنسان ذاتا للحق وذاتا للحقوق من خلال تمثل الحق الأول للإنسان تحديدا في حق الوجود الحر، وهو الحق الأصيل المؤسس لكل الحقوق الأخرى والحق الكوني بما أننا لا نقدر على استبعاد أي إنسان بدون تجاهله كإنسان. إنها الحرية التي توجِد الإنسان كذات للحق، وهي التي تجعل من الحقوق حقوقا، بمعنى أنه يمكن للحرية أن تكون حقا كباقي الحقوق بطريقة الملكية أو الضمان. وبما أن الحرية حق أساسي أي أساس الحق، فهي الحق الأصلي كما يقول فيخته، إنها حق الإنسان في أن يعيش ويعرف ويعامل بما هو إنسان. هذا في حين تبقى كل الحقوق الأخرى، حتى الحق نفسه، بمعناه الضيق، في الانتخاب ولنظام قانوني وضعي، شروطا اختبارية وموضوعية تسمح بتحقيق فعلي للحرية في تفاعل وتعايش بين الأفراد.

يسمح ما سلف بوضع اليد على أولى عتبات بناء فهم جيد للرهان التأملي الذي من خلاله يكون الحق هدف الفلسفة الألمانية من كانط إلى هيغل. ففي بداية الأمر فرض الحق، ومن الأفضل القول استنبط، بحجة كونه شرطا ضروريا لتحقيق ماهية الإنسان في حريته. وبعد ذلك، تم فرض الحق كشرط متميز لهذا الحق، لأنه شرط عملي بما أنه هو نفسه من نفس الطبيعة التي من خلالها يشترط التحقيق لمعرفة الحرية العملية الإنسانية. وأخيرا يعرف الحق كتصور عملي متميز ومتحرر من كل الوصايا التي عرفها سابقا. باختصار، لقد حُرر الحق كذلك من تحديده بالعقل العملي فوق- القانوني، أي عن طريق العقل الأخلاقي الذي قاد، في الحق الطبيعي المعاصر، إلى تشبيه القانون الطبيعي بالقانون الأخلاقي.

3- سؤال منهج أساس الحق الطبيعي

3-1- أولية العقل العملي:

يقسم فيخته مفهوم مذهب العلم أو ما نسميه فلسفة(17) لسنة 1794 إلى جزء نظري وآخر عملي (تطبيقي). ويعتبر الأنا داخل الجزء النظري، مبدأ وشرط كل معرفة ممكنة وكل حقيقة موجودة بالنسبة للأنا، ككائن محدد بآخر غيره هو اللاأنا. وفي هذه الحالة، فالأنا عقل يتمثل نشاطه كتصور تطبيقي لمعطى ما. ومع ذلك، لا يمكننا الاقتصار على هذا الجزء النظري الوحيد في مقابل ما يطرحه مبدأ تحديد الأنا من خلال اللاأنا من تناقض. ففي الواقع، تقحم وضعية الأنا، كوضعية ذاتية، في حالة العكس لن تكون هذه الوضعية وضعية للأنا بل لشيء أو لجسم، فكرة تحديد ذاتي، تحديد الأنا لنفسه بنفسه، يظهر من خلالها هذا التحديد للأنا بواسطة اللاأنا متناقضا. ولا يتضح التناقض إلا بقبول تحديد اللاأنا بدوره من خلال الأنا؛ إذ في هذه الحالة، سوف لن يكون نشاط الأنا بمثابة تمثل بل سببية. وبينما لا يمكن لسببية الأنا على اللاأنا أن تكون مطلقة، لأنها مثل هذه السببية (المطلقة) قد تلغي اللاأنا وبالتالي إلغاء كل تمثل وكل معرفة.

هكذا يمدنا تحديد اللاأنا للأنا بمفهوم سببية مجهولة لا تلغي سببية اللاأنا المطلقة، في نفس الوقت الذي تعاود فيه تكرار نفسها بعيدا عن هذا الإنكار؛ وتسمى سببية من هذا النوع جهدا (Sterben)، وهو مفهوم "مفروض في أساس الجزء الثاني من مذهب العلم الذي يدعى الجزء العملي(18)". إذن، أن يفرض الجزء النظري، في الواقع، الأنا كعقل ممثل لجسم (حقيقي)، ويفرضه الجزء العملي كمكان لجهد لامحدود مبسوط في اتجاه ما يجب أن يكون (مثالي)؛ أي نحو تعريف (داخل الأنا المطلق) للأنا واللاأنا كفكرة بسيطة للعقل لا تطابق أي شيء في التجربة، فكل تجربة مريحة للأنا تنتهي باختلاف الأنا واللاأنا.

يطرح فيخته قضية مهمة لفهم أولية العملي على النظري في فلسفته، من خلال منحه لتأكيد كانط على أولية العقل العملي على العقل النظري مظهرا أكثر راديكالية. ففي نظره وكما هي مبينة في أساس 1794، "لا يمكن للعقل في ذاته، بشكل فعلي، أن يكون نظريا إذا لم يكن عمليا، فلا يمكن لأي عقل في الإنسان أن يكون ممكنا إذا لم يمتلك قدرة عملية(19)". وإذا كان من المفروض وجود العقل كتمثل لمعطى ما، فهذا غير ممكن فعلا إلا إذا حصل وعي الأنا بهذا المعطى عن طريق الإحساس؛ إذ في الواقع، لا يحصل ظهور الإحساس داخل الأنا إلا نتيجة لتناقض حصل التدريب على نشاطه الذي رأينا أنه ليس نشاطا مطلقا بل جهدا. وعموما " فبدون جهد ليس هناك جسم ممكن(20)". فوحده إحساس عرقلة جهد الأنا الذي شعر به الأنا العملي، يسمح للأنا النظري بفرض الجسم كسبب وأساس لهذه العرقلة، ذلك أنه يفرض، بما هو عقل، كل ما يشعر به كجسم وتناقض كأنا عملي، هكذا و" انطلاقا من الجهد الضروري (فقط) الذي فرض، يمكن الحصول على إجابة" للأسئلة الأساسية لنظرية المعرفة، بداية من سؤال معرفة " بأي حق يمكن إرجاع التمثل لشيء ما خارجي بالنسبة لنا كما بالنسبة لسببه(21)". وهذا ليس شيئا آخر غير السؤال نفسه الذي حاول كانط الإجابة عنه في "نقد العقل الخالص": "كيف تكون الأحكام التركيبية القبلية ممكنة؟(22)".

3- 2- قراءة فيخته ل "نقد كلية الحكم":

يمنح نص 1794 معلومات نفيسة حول الأهمية الأساسية للجزء العملي لمذهب العلم. ويبين فيخته أن المبادئ "في هذا الجزء الثاني، أسست نظرية جديدة محددة كليا في الأحسن والأجمل والأسمى، في مساواة الطبيعة في حريتها وفي مذهب الله وما نسميه بالعقل السليم أو الحس الطبيعي للحقيقة، وأخيرا الحق الطبيعي وعلم الأخلاق الذي لا تكون المبادئ من خلاله شكلية فقط بل ومادية كذلك(23)".

ويمكن أن يظهر هذا الإحصاء مدهشا بالمقدار الذي يراد به أن يكون إحصاء لمختلف المجالات أو "الأجسام" المكونة لمحتوى الجزء العملي من مذهب العلم؛ إذ لا نجد ما كنا ننتظر ظهوره في مركز فلسفة عملية إلا في نهاية هذا الإحصاء: معرفة علم الأخلاق والحق كحق طبيعي، أصبح يأتي قبل علم الأخلاق بشكل معاكس للنظام التقليدي الذي يستنبط الحق من علم الأخلاق كما هي العادة عند فقهاء القانون. وأما بالنسبة للباقي، فإنه من المثير ملاحظة إلى أي حد تستعيد مختلف لحظات الفلسفة العملية، كما يقترحها فيخته، محتوى النقد الثالث لكانط أي نقد كلية الحكم تحديدا.

ففي الواقع، هيأ كانط من خلال هذا الأخير تحليلا لكلية حكم الجميل والأسمى في اختلافها مع كلية حكم المقبول(24)، وكذلك نظرية الذوق مثل "الحس المشترك"(25)، ومذهب مساواة الطبيعة في حريتها أي الغاية الطبيعية(26)، وأخيرا دليلا أخلاقيا على وجود الله(27). وقد طالب فيخته بهذا الاستقلال للجزء العملي لمذهب العلم كما أعلنه سنة 1794 بخصوص نقد كلية الحكم لكانط في مدخل الطبيعة الأولى حول مفهوم مذهب العلم، حيث "أن الكاتب وإلى حد الآن مقتنع بعمق أن أي تفاهم إنساني لا يمكنه التقدم فوق الحدود التي توقف عندها كانط، وتحديدا في نقده لكلية الحكم"(28).

حذف فيخته، وهو يعيد طبع كتيب حول مفهوم مذهب العلم سنة 1798، الفصل الثالث المعنون ب" القسم الافتراضي لمذهب العلم" المخصص للجزء العملي لمذهب العلم. ويشرح فيخته ذلك في مدخل مفهوم مذهب العلم سنة 1798، موضحا أن محتوى هذا الفصل الثالث كان قد "عرض بشكل أكثر جلاء ووضوحا في مبادئ مذهب العلم"(29)، إلا أنه إذا وجد أساس الفلسفة العملية في الجزء الثالث لأساس 94 فلن يوجد مع ذلك ما يؤسس نظرية الأحسن والأسمى والمقبول أو الغاية الطبيعية. وفي مقابل ذلك، نشر فيخته بين 1794 و1798 أساس الحق الطبيعي ونظام علم الأخلاق، وهو ما يعني أن وحدهما المادتين الأخيرتين المذكورتين من برنامج الفلسفة العملية المجملة لسنة 1794 وجدتا طريقهما إلى التحقق. فماذا حصل بالمقابل في هذه الفترة؟ هل نسيت الجمالية والغائية أم لم تعد لهما فائدة؟

انطلاقا من هذه اللحظة، ستكون الفرضية المقبولة هي اختفاء الجمالية والغائية(30). الراجع إلى أن الوظيفة التي أعطاها إياهما كانط، توحيد الفلسفة النظرية والفلسفة العملية مع ضمان الانتقال من واحدة إلى أخرى، أصبحت مضمونة عند فيخته بنظام آخر معروف بفلسفة الحق. ومن الملائم التأكيد على هذه النقطة بالقدر الذي لا يجعل أساس الحق الطبيعي جزءا مهما في النظام الفيختهي، بل أن يحتل داخله مكانة مركزية على كل وجه، ضامنا الانتقال من الفلسفة النظرية إلى الفلسفة العملية، ومن العالم كما هو معروف (عالم الطبيعة) إلى العالم كما يجب أن يكون (عالم الحرية).

3-3- بين الطبيعة والحرية:

إن تفضيل فيخته نقد كلية الحكم، إلى الحد الذي أراد معه إدماج كل محتواه داخل مشروع الجزء العملي لمذهب العلم(31)، له من الأسباب الفلسفية ما يلزم التذكير به والوقوف عنده. إن ما أعلى من أهمية النقد الثالث في أعين فيخته، لم يكن شيء آخر غير الخاصية الوسيطة بين مجال نقد العقل النظري الخالص - المستغل من طرف النقد الأول- والمجال الخاص بالعقل العملي الخالص- المستغل من طرف النقد الثاني، المخصصة من طرف كانط لهذا النقد.

يتمثل المشكل، الذي طرحه وحاول حله نقد كلية الحكم، في وحدة ممكنة بين مجالين تمارس الروح الإنسانية تشريعها من خلالهما بواسطة الكليتين اللتين تمثلان الإدراك والعقل، وذلك قصد تحديد مجال معرفة الطبيعة ومجال حرية الإرادة. وقد تمحور المشكل حول معرفة ما إذا كانت كلية ثالثة، تلك التي يسميها كانط كلية الحكم، قد وجدت مباشرة استعمال الكليتين الأخرتين بما أنهما يطابقان عالمين حفرت بينهما الانتقادات الأخرى هوة يتعذر عبورها: عالم المعرفة وعالم الفعل، عالم الطبيعة وعالم الحرية، العالم المحسوس والعالم الأخروي (فوق- المحسوس).

يذكر كانط في مقدمة نقد كلية الحكم بأن "الإدراك هو مشروع قبلي للطبيعة في سبيل معرفة نظرية لهذه الأخيرة داخل تجربة ممكنة"، بينما "العقل هو مشروع قبلي للتجربة وسببيتها الخاصة، بما هي فوق- محسوسة في الذات(32)". ومع ذلك، فنتيجة النقدين الأولين ما هي إلا " مجال مفهوم الطبيعة تحت التشريع الأول ومجال مفهوم الحرية تحت التشريع الآخر(...) مفصولين تماما بهاوية كبيرة: لا يحدد مفهوم الحرية شيئا في مقابل المعرفة النظرية للطبيعة، وبالمثل لا يحدد مفهوم الطبيعة شيئا استنادا للقوانين العملية للحرية، ولا يمكن في هذا النطاق إنشاء جسر من مجال لآخر(33)". ولكن ليس من الممكن كذلك، من جهة نظر العقل العملي نفسه، البقاء لمعاينة هوة مماثلة؛ إذ بما أن العقل يأمر بطريقة لا مشروطة بالإرادة، فإنه يحدد لها أهدافا واجبة الوجود، يجب أن تتحقق في العالم المحسوس وفي الطبيعة، فإنه يجب أن يكون من الممكن إنشاء جسر بين الإدراك والعقل باستحضار كلية ثالثة هي كلية الحكم، "التي تجعل، بوضعها تحت تصرفنا غاية الطبيعة، من الممكن المرور من العقل النظري الخالص إلى العقل العملي الخالص، ومن المساواة حسب الأول إلى الهدف النهائي حسب الثاني"(34). فتظهر كلية الحكم مثل "وسيط بين الإدراك والعقل"(35): "تمد، يبين كانط، مسلكا من كلية المعرفة الخالصة، بمعنى من مجال مفاهيم الطبيعة، إلى مجال الحرية(36)".

ومع ذلك، ليست الحرية مفهوما للإدراك بل مفهوما للعقل باعتباره فكرة. ولا يمكن لكلية الحكم هنا العمل، مثل ما تفعل مع مفاهيم الإدراك، عندما تشمل الخاص من التبصر تحت الكوني من المفهوم نظرا لتوفر مفاهيم الإدراك الخالصة، مثل مفهوم السببية، على خاصية تحديد شروط وقواعد تطبيقها الخاص للمعطى المحسوس (المبادئ حسب كانط). وفي هذه الحالة، يمد الإدراك كلية الحكم في الوقت نفسه بالمفهوم وبقاعدة تطبيقه، غلا يتبقى إلا تجمع الحالات الخاصة تحت القاعدة العامة. وبالتالي فاستعمال كلية الحكم هو "المحدد".

في مقابل ذلك، لا تملك فكرة العقل أي مبدأ ولا أي قاعدة لتطبيقها على المحسوس، إذ أن استعمال كلية الحكم الذي سيرتكز على التفكير في شيء ما خاص تحت فكرة ما لن يكون له أية قيمة موضوعية إذن، بما أن كل فكرة تمتلك مبادئ الاستعمال الموضوعي من نفسها. هذا الاستعمال، الذي ينعته كانط ب"العاكس" غير ممكن، ولن تكون له قيمة إلا بالنسبة لموضوع التبصر وليس استنادا لموضوع معرفة ممكنة.

من الممكن، إذن، التفكير في بعض الظواهر الخاصة بالطبيعة من زاوية التشريع الكوني الخاص بالحرية وليس الخاص بالإدراك. وكما هو معروف، تفتح هذه المنهجية الخاصة حقلي الجمالية والغائية. وهكذا يكون من المفروض علينا التفكير في الصيغ الجميلة للطبيعة وفق قانون السببية القصدي، وبالتالي وفق قانون الحرية، دون أن تحصل لدينا القدرة على تحديد قصد هذه السببية، ولا الغاية المرجوة من وراء هذه الحرية. أما في ما يخص الأسمى، فإنه يدعو إلى التفكير في الأساس فوق- المحسوس للطبيعة نفسها.

فضلا عن ذلك، تنتج الطبيعة في شكل كائنات طبيعية منظمة، ظواهر بكمال داخلي يحث التأمل على التفكير فيها تحت مفهوم الغاية في نطاق سببية ميكانيكية فقط، شبيهة بتلك التي يخضع لها إدراك الظواهر الطبيعية، التي لا تبدو قادرة على استنفاذ طريقة إنتاج ظواهر مشابهة. لكن، وهنا أيضا، يعتبر الاستعمال المتبع لفكرة الغاية ذاتيا ومقوما فقط، يسمح لنا باعتبار بعض الظواهر مفسرة لهذه الطريقة، عندما تتجلى ببساطة السببية الميكانيكية في عجزها.

لقد كشف نقد كلية الحكم لفيخته أنه لا يمكن الوصول إلى مستوى التوقعات التي تم إيقاظها في داخله: فقد وعد كانط بالانتقال من الطبيعة إلى الحرية، لكنه لم يكمل هذا الانتقال بشكل نهائي إلا بطريقة عاكسة، أي دون منح هذا الانتقال أية قيمة موضوعية. ذلك أنه لا يمكن التفكير في وسط بين الطريقتين وبين التشريعين، إلا بالنسبة للفيلسوف، مع الإبقاء على عدم إمكانية إرجاع ظاهرة طبيعية لسببية ما بتوسط الحرية، بطريقة أخرى، غير الطريقة الإشكالية الخالصة.

3-4- توسط الحق بين النظرية والتطبيق:

في الوقت الذي كانت فيه بعض الظواهر الطبيعية، بالنسبة لكانط، مفسرة بالطريقة التي يحدث من خلالها كل شيء كأنه نتاج الحرية، فضلا على أنها تخضع لقوانين الضرورة، أجرى فيخته قلبا للإشكالية، محاولا إيجاد ظاهرة تعرف على أنها نتاج فعلي للحرية وتملك على الأقل شكل ظاهرة طبيعية، تفرض نفسها بكل ضرورة كظاهرة مشابهة. وهنا بالتحديد تتمثل خاصية الحق المنتجة والمفروضة بالحرية، بينما يملك الحق، بعد تحققه، قوة مجبرة لها مظهر ضرورة النظام الطبيعي: إلى درجة أن كانط استطاع تحميل فكرته حول تاريخ كوني من وجهة نظر المواطنة العالمية سنة 1784 تحقيق الحق لـ"تصميم الطبيعة"، معتبرا إياه كما لو كان نتاج مكانيزم طبيعي (يقود طبيعيا وميكانيكيا صراع الاتجاهات الأنانية للبشر إلى تحديد هذه الاتجاهات نفسها عن طريق الحق بشكل متبادل) يمكن أن يمنع تدخل الطبيعة. فعدم توفر الطبيعة على تدخل لا يمنع، يسمح للفيلسوف بالتصرف كما لو توفرت الطبيعة على هذا التدخل.

ولكن ماالحاجة، يتساءل فيخته، إلى منح تدخل للطبيعة بشكل إشكالي، بينما من المؤكد أن البشر يتوفرون عليه أو على الأقل يجب أن يتوفروا عليه؟ خصوصا وأن الحق ليس ميكانيزما إنسانيا يمكن إرجاعه إشكاليا إلى إرادة الطبيعة، وبالتالي لا يمكن التفكير شموليا فيه تحت فكرة الحرية إلا بطريقة عاكسة، لأنه بمقابل ذلك فهو نتاج الإدارة الإنسانية التي يمنحها البشر شكل ميكانيزم طبيعي بالحرية.

يظهر الحق، من هذه الزاوية، كمجال منتمي لعالمي الحرية والطبيعة، ولتشريعي العقل (التشريع العملي) والإدراك (التشريع النظري)، وبشكل أدق كظاهرة الحرية. وباعتباره كذلك، يخضع الحق لتشريع الإدراك ولطريقة "اشتغاله" المتمثلة في سببية ميكانيكية (و لهذا السبب، يكون النظام القانوني نظام تناقض وتوازن ميكانيكي للإرادات)، تنتجه إرادة الكائنات العقلانية أي سببا حرا (ليس ظاهراتيا ولا فوق- محسوسا). فخلافا للجمالية والغائية، يمنح الحق إمكانية تمثل للظواهر الطبيعية تحت فكرة الحرية التي لن تنفذ بكيفية عاكسة وذاتية فقط بل وكذلك بكيفية محددة وموضوعية. ففي الواقع، يضمن الحق تمثل عالم راجع لسببية حرة، بمعنى عالم، ما إن يتحقق، ستكون له الموضوعية وضرورة الطبيعة، طبيعة ثانية، كما سيبينها هيغل لاحقا(37).

وهكذا، سيتم التعامل مع مفهوم خادع: يعين عالما يوجد بطريقة معطاة، وتحديدا، وبما أن الطبيعة عالم موجود، ولكن، وفي نفس الوقت، عالم لن يوجد بهذا الشكل إلا عندما يتم إنتاجه. ولهذا السبب، وعندما يلقي فيخته سنة 1798 نظرة استعادية على المؤلف المنجز إلى حد الآن قصد إنجاز تقديم جديد لمذهب العلم، يكتب أن "مذهب الحق أو الحق الطبيعي" هو العلم الذي "يحتل الوسط بين الفلسفة النظرية والفلسفة العملية، فهو فلسفة نظرية وعملية في الآن نفسه(38)". ويؤكد أن مذهب الحق يملك في ذاته فقط كل المكانة التي احتلتها العلوم التي شكلت محتوى نقد كلية الحكم، أساس المعرفة الجمالية والغائية. لكن، وبينما لم يكن الجميل والأسمى والغايات الطبيعية سوى أفكارا كان الاستعمال الموضوعي لمفهوم الحق ممكنا بمقدار ما يزود به من مبادئ وقواعد عالم موضوعي معطى، شرط تحديد مسبق لمعنى العالم المعطى الذي لا يمكن إيجاده إلا بالإرادة.

يبين فيخته أن مذهب الحق "نظري لأنه يتناول عالما كما يجب أن يكون(39)"، إذ يجب إيجاد العالم القانوني في نفس مرتبة العالم المحسوس إذا أردنا تحقيق غاية العقل العملي داخل عالم أخلاقي. ويعتبر وجود قانون أخلاقي بالفعل، في نفس مرتبة عالم محسوس موجود بالفعل، الشرط الذي يفترضه تحقيق الغاية النهائية لعقلنا العملي. ولا يمكننا تحميل الوجود للعالم المحسوس وكذا القانوني إلا من خلال هذا الوضع فقط. غير أن العالم القانوني، بخلاف العالم المحسوس، لا يتحقق بنفسه، لأننا نحن القادرين على إنتاجه. وعلى هذا الأساس "يكون مذهب الحق عمليا أيضا"(40).

ولكن لا يتعلق تحقيق الحق، على خلاف التصرف الأخلاقي، بالإدارة وحدها في علاقتها الداخلية بنفسها، بل إنه يتعلق بالعلاقة التي تحافظ على عدة إرادات، إضافة إلى علاقاتها الخارجية. وبهذا المعنى، يتمثل مشكل الحق، أو الحق كمشكل للعقل، غير منفصل نظريا وعمليا، في "موقعة إرادات حرة داخل علاقة ترابط ميكانيكي ما بالفعل المتبادل"(41). إذ لا وجود لـ"ميكانيزم طبيعي" مماثل كمعطى، بل يجب إنتاجه لأنه"يرتبط بجزء من الحرية"(42).

4- أساس الحق الطبيعي في ذاته:

يسهل تعيين البنية العامة لأساس الحق الطبيعي، خصوصا بفضل الإرشادات التي يعطيها فيخته في المقدمة(43). وتتمثل أول مهمة هذا "العلم الفلسفي" في استنباط مفهوم الحق (الجزء الأول، الفصل1، الفقرة 1-4)، وبعد ذلك بالتحقق من المعيار القابل للتطبيق واقعيا لمفهوم الحق في التجربة، وبالتالي استنباط الشروط التي تسمح بتطبيق مفهوم الحق (الجزء الأول، الفصل ІІ، الفقرة 5-7). ولا يبقى في الأخير إلا التطبيق الفعلي لمفهوم الحق، بمعنى وضع تصميم لتأسيس سياسي مطابق للحق والعقل (الجزء الأول، الفقرة8-16، وكل الجزء الثاني).

يفترض استيعاب مجموع المشروع فهم ما يقصده فيخته بكلمتي "مفهوم" و"استنباط". أما بالنسبة للوعي، الحصول على مفهوم جسم، فيتمثل في إدراك وفهم جسم ما كمعطى، أي إرجاع فعل الفهم لمعطى يقاوم، بما هو معطى، الفعل والحد. ولكن، بما أن لا شيء يمكن له أن يحد في فعل الوعي، وإلا فرض الحد نفسه إذا أظهره الحد مثل مقاوم له من الخارج، يكون الوعي قد فرض هذا الحد بشكل غير واع. ففعل فرض الحد غير واع، ووحده هذا الحد نفسه واع، فإذا كان الفعل غير واع فذلك لأنه فعل ضروري للوعي. لا يمكن لفعل الوعي أن لا يفعل إلا إذا لم يعد واعيا. فأثناء التصرف، يكون الوعي مطابقا لفعله ولا يتوفر عليه ولا يمتلكه كنفسه. فما يمثل موضوعا بالنسبة له، أي ما يعيه، هو فقط ما ينتجه الفعل، أي الموضوع. 

يتمثل موضوع الوعي، إذن، في ما ينتجه الفعل الذي كان ضروريا على الوعي القيام به حتى يكون وعيا، وكذلك حتى يظهر الموضوع كحد وتناقض بالنسبة للوعي، بالمقدار نفسه الذي هو نتاج تصرف ضروري. وبالتالي يكون المفهوم والموضوع غير قابلين للافتراق. ففي الوقت الذي يعين المفهوم تصرفا ضروريا للوعي، وليس "خانة فارغة"(44) يملؤها محتوى خارجيا، لا يكون الموضوع شيئا آخر غير نتاج هذا التصرف. إن الحق (أو العلاقة القانونية) بما هو مفهوم يحتويه العقل أصلا (أو مفهوم قبلي) هو تعبير عن سلوك ضروري للكائن العاقل، باعتبار أن هذا السلوك هو شرط الوعي بذاته، وأنه بدون هذا التصرف لن يظهر أي وعي، وبالتالي استنباط مفهوم الحق(45).

4-1- الانتقال من أساس 94 إلى أساس 96:

تضع محاضرات 94 الفلسفة الفيختية دفعة واحدة تحت دلالة سؤال أساسي ألا وهو سؤال البيذاتية l’intersubjectivité، من خلال السؤالين التاليين: "ما الذي يرخص للإنسان تسمية جزء محدد من العالم جسمه؟ وكيف يتمكن الإنسان من قبول وتعرف كائنات عاقلة من جنسه خارج جسمه؟(46)"، ذلك أن الإجابة عن هذين السؤالين هو ما يجعل مذهب أساس الحق الطبيعي ممكنا في تصور فيخته. فقبل أن يبدأ فيخته عرض مذهب العلم، بدا أنه اتجه دفعة واحدة في اتجاه ما كان يجب كتابته بعد مذهب العلم، قصد معرفة "مذهب أساسي للحق الطبيعي".

ولكن إذا كان حل هذين السؤالين يسمح بمذهب الحق، فإن مذهب العلم يسبق هذا الأخير بالضرورة: إن ما يسبق أساس الحق الطبيعي هو أساس مذهب العلم، وبالتالي يجب البحث عن الحل نفسه في هذا الأخير. لم تكن محاضرات 94 قادرة بالتأكيد على تقديم الإجابة الكافية. فوجود جزء يخصني ضمن عالم الأجسام إلى جانب كائنات أخرى عاقلة غيري. فهذه، حسب المحاضرات، تمثلات أمتلكها، والتي من أجلها يجب أن توجد ظواهر متناسبة معها. بمعنى آخر، أن إنجاز الاستنباط، الذي لم ينجز في المحاضرات بل في أساس الحق الطبيعي بفضل الأدوات النظرية فقط والمصنوعة من طرف فيخته في أساس 94-95، يتم من خلال فهم هذه المفاهيم القبلية.

لا يمكن الإجابة إذن عن السؤالين المطروحين في المحاضرات، واللذين يتم الإقرار من خلالهما بإمكانية مذهب الحق، من دون الارتقاء إلى النشاط الذي يميز، بشكل عام، الكائن العاقل(47) والمتمثل في نشاط يرتد على نفسه. فوحده مثل هذا النشاط، يعطي للكائن العاقل الخاصيات الأساسية كالأنانية والذاتية. إذ لا يمكن للكائن العاقل أن يكون واعيا بذاته إلا بفضل فعل مماثل يعود على الذات فقط. ولكن، تحت أي شروط يكون فعل من هذا القبيل ممكنا؟.

يبين الأساس أن الكائن العاقل أو بالتحديد الأنا المحدد "غير القطعي"(48)، لا ينفصل عن النشاط غير المحدد للأنا المطلق ولا يعي نفسه ولا يكون "ذاتيا" على الجوهر اللافردي للأنا المطلق، إلا وعى بلامساواته الأساسية مع هذا الأخير. وتنتج هذه المساواة عندما يكتشف الأنا المحدد، على خلاف الأنا المطلق، مع أنه لا وجود لأنا خالص، أنه لا يطابق نفسه تماما. فبمقدار ما يكون الأنا المطلق لا واعيا ولا فرديا في نطاق ما هو هوية ونشاط خالص غير معني بالاختلاف الممارس على نفسه، بقدر ما لا يمكن للأنا المحدد الوعي بذاته نفسها إلا في اللحظة نفسها التي يكتشف فيها هويته، كما لو لم تكن معينة حقا، وكالعادة، لا يتم ذلك إلا بما هو مخالف لها. كما لا يمكن لـ"أنا" الأنا المطلق أن ينطق من طرف الأنا المحدد إلا بالأمر: "كن أنت نفسك!" و"كن مطابقا لذاتك!".

يكتشف الأنا المحدد، عن طريق التصرف نفسه الذي يرجع به على ذاته ويعيها، لاهويته مع ذاته، بما أنه يجب أن يوجد خارجه شيء آخر غيره كي يحصل له التمييز والرجوع إلى الذات. ويتضمن الوعي بالذات عودة إلى الذات (حركة دافعة نحو المركز)، وبالتالي حركة أولى مبعدة عن المركز أو حركة توسيع، إذ وحده مصطلح ثالث يسمح بتركيب هذين الحركتين المتناقضتين: "يجب أن يكون نشاط الأنا المتحول إلى محدد مصدوما في نقطة ما ومطوقا في نفسه (...) ولا يجب أن يحدث هذا الأمر إلا إذا أمكن حدوث وعي حقيقي(49)". لن يوجد أي وعي بالذات، ولا أي وعي بأي كائن، بدون هذه الصدمة المحدثة عبر التقاء شيء ما مناقض للأنا. إذ لن يظهر للأنا أي شيء حقيقي بدون هذه الصدمة وهذه القوة المناقضة له، بما أنه لن يوجد أي شيء آخر غير حركة التوسيع اللامحددة واللاواعية والمثالية الخاصة بنشاط الأنا. ويكمل مذهب العلم عمله الخاص جدا باستنباط هذه القوة المتناقضة للأنا (المسماة باللاأنا) بما أنها توجد في نفس الوقت الأساس المقيد لكل معرفة نظرية وعلمية للأنا باعتباره "علاقة أصيلة لنشاط متبادل بين الأنا وشيء ما خارجي عن هذا الأخير(50)".

هكذا يطرح مذهب العلم نفسه كنزعة مثالية نقدية دون أن يكون نزعة مثالية دغمائية تتجاهل كل حقيقة مستقلة عن الأنا، ودون أن تكون هذه النزعة كذلك نزعة واقعية دغمائية تتجاهل كل نشاط ذاتي للأنا. ويؤكد مذهب العلم على وجود مبدأ خارج عن الأنا، لا يظهر نفسه كذلك بالنسبة للأنا. وهو ما يعني تحديد النشاط غير المحدد والمستقل للأنا. فاللاأنا في الواقع شيء آخر غير الأنا، خارجي عنه، وفي نفس الوقت لا يوجد إلا للأنا وبالتالي داخله.

يتفرد مذهب العلم في مساندته للأطروحتين معا، وكذا بعدم تمييز أي منهما أو التردد بين الاثنين: "يجب التفكير في الآن نفسه في الأولى والثانية، ومكوث هذه الفكرة بالضبط بشكل حر بين التحديدين المتناقضين"(51). ولا يكون هذا التردد، الذي يتمسك به أساس 94، ممكنا، ما لم تدمر القوة المناقضة لنشاط الأنا هذا الأخير شرط أن تحدد الصدمة نقطة العودة التي ترجع الأنا لنفسه وتحده دون هدمه. لن يكون الأنا محددا إذا تلاشى نشاط الأنا داخل الصدمة، لأنه يجب أن يتبقى للأنا نشاط إذا ما أراد الحصول على وعي بهذا النشاط كأنا محدد. وإذا ما وجب اهتداء نشاط الأنا، المعاد إرجاعه على نفسه، إلى جهد ممارس في لقاء اللاأنا، لا يبقى للأنا إلا ممارسة هذا الجهد.

باختصار، إذا ما سمح فعل الصدمة والتردد المتابع للأنا، بين الوعي بتحديده والوعي بنشاطه اللامحدد، لمذهب العلم بتأسيس المعرفة النظرية (وعي التحديد) والمعرفة العملية (الوعي بالنشاط والجهد اللامحددين واللازمين لإصلاحه)، فإنه لن يظل فيه أقل مما يكفي لفهم أن وضع الأنا لحقيقة مناقضة كحد لنشاطه لا يعني، في نفس الوقت، تجاهل وهدم نشاطه بما هو نشاط لامحدد.

4-2- التفاعل بين الذوات أو (البيذاتية) كشرط الوعي بالذات:

يعاود كتاب "أساس الحق الطبيعي" التطرق للإشكال السابق، في هذا المقطع بالضبط، حيث يذكر فيخته أنه "فيما يفرض الجسم نفسه كلاغ لسببية [الذات]، يجب أن تستمر السببية إلى جانب الجسم، وهنا ينبثق تضارب لا يمكن أن يحل إلا بتردد الخيال بين المصطلحين(52)". لكن هذا يفترض أن يكون الأنا قادرا في الآن نفس على أن يدعي سببية وعلى أن يقابل بهذه السببية شيئا ما(53)". هذا الشرط هو كذلك شرط وعي الأنا، إذ لا يعي الأنا ذاته، في الواقع، إلا إذا عاد إلى نفسه وإلى نشاطه الخاص في اللحظة نفسها التي يكتشف فيها هذا النشاط كمحدد ويفرض حقيقة مقابلة له. وبالتالي فالسؤال الذي يطرح نفسه هو معرفة تحت أي شرط يكون هذا الشرط الأول ممكنا، فيما يبدو أن الأمر سيدوم إلى ما نهاية، ذلك أنه لكي يكون الأنا واعيا بذاته يجب أن يقاوم جسما وهو ما لا يمكنه إلا إذا ادعى سببية، وهو ما لا يمكن أن يقع إلا إذا قاوم الأنا قبلا جسما آخر؟

وهكذا، وحتى يتم تجاوز هذا البحث إلى ما نهاية وجب التفكير تركيبيا في ضم اللحظة التي يدعي فيها الأنا السببية ولحظة مقاومته لجسما ما. وتبقى معرفة كيف يكون هذا ممكنا؟ وكيف يمكن إدراك شيء ما ليس فقط كمانع لنشاط الذات، بل وأيضا أن لا يقيم الأنا إلا مانعا واحدا فقط مع هذا النشاط، وهو ما لا يكون مدركا إلا بشرط تقديم الجسم موضع السؤال، والمفارق للذات، على نحو ما كنشاط خاص بالذات؟.

لا يتم ذلك إلا إذا كان الجسم محمولا كنداء فعل بسيط موجه للذات و"كحركة ممنوحة من الخارج"(54). ومع ذلك لا يمكن قبول نداء مماثل لنشاط صادر عن الجسم من دون افتراض أن إمكانية كون ندائه استقبل وفهم، وأن تجيب عنها ذات ما، سابقة لأوانها: يجب أن يحصل "هذا الجسم على مفهومي عقل وحرية" ويجب "أن يكون مستطيعا على المفاهيم أي ذكاءا(55)". باختصار لا يمكن أن يكون هذا الكائن إلا ذات أخرى، كائنا عاقلا آخر، أي غيرا.

وبالتالي، فنداء الغير أكثر أساسية أيضا من صدمة العالم بالنسبة لوجود الوعي بالذات، وبالتأكيد خبرة الأساس: "يبدو لي العالم في نفس الآن كحاجز وكنداء لتحديد نشاطي"(56)، ولكني أتلقى هذا النداء من العالم على شكل تهديد ثابت بنفاذ نشاطي الذي يجب علي دائما توسله من جديد، في حين أن الغير يستدعي نشاطي كلما لم يستطع التهديد بدون التناقض مع نفسه أي دون تهديم نشاطه الخاص. إذ بهذا "النداء يرتبط خط الوعي"، ذلك أن شرط حصول هذا النداء يمكن الأنا من "تنصيب نفسه ككائن حر فعال"، تبعا له "يمكنه ويجب عليه فرض عالم محسوس ومواجهة - هو نفسه- لهذا العالم"(57)، كعالم يمكن للذوات ويجب عليها ممارسة النشاط الحر التي تحث وتدعو إليه دائما. فعن طريق شرط هذا النداء فقط "تتسع كل عمليات العقل الإنساني بدون صعوبة حسب القوانين". ويمكن لمذهب العلم إتمام مهمته التي ليست شيئا آخر غير هذا التوسع، ولو بحسب قوانينه. هكذا يبين فيخته أن "الإشكال الأساسي" لمذهب العلم "محلول"(58) داخل مذهب الحق.

يبدو في الواقع كما لو أن الأمر بعيد عن اهتمامات ومصطلحات فلسفة الحق. فقد رأينا أنه لا يمكن للكائن العاقل المحدد تنصيب نفسه بما هو كذلك والوعي بذاته، على الأقل، إلا إذا لم يناديه كائن عاقل آخر للنشاط، أي إلى الحرية. وينتج عن هذا مفهوم معين للعلاقة التي يجب أن تحفظها كائنات عاقلة إذا هي أرادت الوجود والتعارف كذلك. وتتعين هذه العلاقة كفعل متبادل. من أين يجب فهم أن الذي يدعو بشكل نشط للتصرف لا يفعل ذلك إلا لترك الغير يوسع من جانبه نشاطه الحر؟ 

فالذي يدعو إلى التصرف يفعل أيضا، لكن يفعل ذلك وهو واع بأن نشاطه مخصص لأن يكون محددا بعد ذلك بنشاط الغير. على العكس من ذلك، فالمدعو إلى النشاط واع بأن النداء صادر عن كائن حر، حيث لا يمكن أن يفعل من جانبه إلا بتحديد نشاطه بطريقة تسمح باستمرار إمكانية فعل الأول. فالعلاقة التي تشيد بين الكائنات العاقلة، باعتبارها علاقة ضرورية لتعرف هذه الكائنات بعضها البعض ككائنات عاقلة، هي علاقة صلبة من حيث أنها فعل هذه الكائنات اتجاه بعضها البعض، محددة بنفسها، عن طريق الحرية، نشاطها بواسطة تمثل إمكانية نشاط الغير. بهذا الشرط، يمكن لعلاقة هذه الكائنات أن تكون محددة مثلما يمكنها التعارف بشكل متبادل بما هي كائنات عاقلة. ويمثل هذا التعارف المتبادل نفسه شرط وعي كل واحد بنفسه ككائن عاقل.

يحدد فيخته "العلاقة بين الكائنات العاقلة المستنبطة ليحد كل واحد حريته بمفهوم إمكانية حرية الغير، بشرط أن تحد هذه الأخيرة كذلك حريتها عن طريق حرية الغير، كعلاقة قانونية، والصياغة المقترحة هي اقتراح الحق"(59). وهكذا نفهم بأن مفهوم الحق، كمفهوم لعلاقة محددة بين الكائنات العاقلة، هو نفسه ينتج عن العلاقة المفهومة كشرط يجعل من الممكن وعي كائن عاقل بنفسه باعتبارها كذلك، كما أن "مفهوم الحق هو نفسه شرط الوعي بالذات"(60). وهكذا يكون مفهوم الحق نتيجة تصرف ضروري (يمكن وصفه هنا بالتفاعل interaction) حتى لوجود كائن عاقل واع بذاته.

يمكن القول، بالمعنى الدقيق للعبارة، بأنه قد تم تنفيذ استنباط قبلي للحق، كما نلاحظ أنه في الوقت نفس قد تمت الإجابة عن أحد السؤالين المطروحين من طرف فيخته في "المحاضرات حول غاية العالِم"، حيث تدفعنا الإجابة عن السؤال الآخر (كيف أنسب لنفسي جزءا من العالم المحسوس مدعيا أنه جسمي؟)، إلى استنباط قابلية تطبيق مفهوم الحق.

4-3- من العلاقة القانونية إلى الحق السياسي:

يعي الكائن العاقل ذاته كفرد في اللحظة ذاتها التي يحصل لذاته وعي بنشاطه الحر الخاص. ففي الواقع، وكما رأينا، يعي الكائن العاقل حريته كحرية يجب عليها أن توجد بطريقة تسمح بإتمام الغير لقدرته على أن يكون حرا. وبالتالي يعي الكائن العاقل حريته كحرية نشاط محدد في دائرة معينة لا يمكن له تجاوزها من دون أن ينال من حرية الغير ولا ولوجها دون إحداث ضرر بحرية الأول: إني أقدم نفسي للغير، ككائن عاقل حر ومحدد، بطريقة تسمح أن "أمنح لنفسي دائرة على شكل حرمان أرفضه"(61) وأنا شاكر له الدائرة التي من خلالها أحرم نفسي. هكذا يتم استنباط الكائن العاقل بما هو فرد بواسطة مفهوم دائرة نشاط الحرمان.

على هذا الأساس، يسترسل استنباط عدد من المحددات التي بدونها لا يمكن للكائن العاقل أن يعتبر نفسه فردا. فدائرة نشاط الحرمان التي يتبناها الأنا (مع منح كل أنا آخر دائرة خاصة به) هي نتاج فعل ضروري (تصرف متبادل) من خلاله يعي الأنا ذاته ككائن حر ومحدد في نفس الوقت، إذ تظهر هذه الدائرة، بما هي نتاج فعل ضروري، للأنا على هيئة مجبرة لجسم معطى داخل العالم المحسوس. وبالتالي لا يكون هذا الجسم غير الجسم الخاص أو "الجسم المادي" للأنا، جسما "يضم كل التصرفات الحرة الممكنة للشخص(62)". هكذا يتمم فيخته الإجابة عن السؤالين المطروحين في "المحاضرات حول غاية العالم". ولا يبقى إلا التحقق من كون الإجابة تسمح حقا ب"مذهب أساسي للحق الطبيعي" كما أعلنه سنة 1794.

لقد تم استنبط القانون التشريعي بصفته شرط إمكانية التأثير التي يمكن للكائنات الحرة ممارستها على بعضها البعض من دون إحداث ضرر على حرياتهم، كشرط إمكانية الوعي بالذات. إضافة إلى ذلك، فالشروط التي تسمح بأن يكون قانون مماثل قابلا للتطبيق هي أيضا مستنبطة قصد معرفة أن لهذه الكائنات جسما، وأن هذا الجسم يظهر لبعضها البعض على أنه جسم كائن عاقل. ولكن لا يكون قانون تشريعي مماثل متماسكا إلا إذا حد كل واحد حريته وفق مفهوم إمكانية حرية الغير، ولا يمكن لهذا القانون أن يكون كذلك، أي أن يكون ليس فقط قابلا للتطبيق بل وكذلك مطبقا، إلا إذا رغبت فيه الكائنات العاقلة: "فإذا تضمن هذا القانون حقا قيمة وتمت ممارسته، وهذا لا يمكن أن يحصل إلا إذا صنع كل واحد لنفسه بشكل حر، وباستمرار، قانونا"(63). ولا يكون هذا القانون، في الواقع، قانونا ميكانيكيا للطبيعة لأنه قانون حرية لا يسري مفعوله طويلا مالم يكن مرغوبا فيه. ولكن، إذا أمكن لي وأردت أن أحترم هذا القانون التشريعي، وكذلك تحديد نشاطي بشكل حر، كيف يمكن لي حينئذ ضمان أن الآخرين سيصنعون مثلي؟ تكمن الإجابة عن هذا السؤال في التعرض لمسألة تطبيق مفهوم الحق، هدف الفصل الثالث من الأساس.

فمفهوم الحق بما هو مفهوم علائقي (أي مفهوم علاقة ما بين الكائنات العاقلة)، لا يمكن لتطبيقه أن يكون أحادي الجانب بل يجب أن يكون متبادلا؛ أي أنه لا معنى للرغبة في توخي العلاقة إلا إذا رغب فيها الغير كذلك. وبالتالي فلي الحق أن أُخضع إرادتي لشرط إرادة مماثلة عند الغير. فإذا كانت أفعال الغير تشهد أنه لا يريد علاقة قانونية معي، فإنه يمنحني الحق في عدم الرغبة فيها أنا كذلك: إن تصرفه يحررني من واقع القانون التشريعي بالمقدار نفسه الذي يجعل هذا القانون غير قابل للتطبيق. ليمنحني الغير على نفسه حق الإجبار، مادام ليس حق الإجبار مجرد قوة إجبارية بل حقا، أي أنه مرخص لي أن لا أحُد حريتي إزاء الغير حينما لا يفعل ذلك اتجاهي، لأنه يفلتني من القانون التشريعي. ولكن إلى أي حد، وإلى متى سأبقى منفلتا من القانون؟.

إذا أداني الغير مرة، فمن المحتمل جدا أن يعيد الكرة. إذ لا يكفي مجرد إعلان بسيط عن نيته في عدم معاودة ذلك، بل يجب أن أعرف مجموع أفعاله المستقبلية باعتبار أن وحدها الأفعال تعتبر في صدد الحق. غير أنه لا يمكن لي الحكم على مجموع أفعال الغير إلا إذا أرجعت للغير حريته في الفعل؛ وهو ما يوقف ممارستي لفعل الإجبار، وبالتالي لا يمكن لي التوقف عن الحكم إذا وجب الاستمرار في استعمال حقي في الإجبار إلا بالكف عن ممارسة هذا الحق، وهو ما لا يتم إلا إذا أصدرت حكمي.

"كل ما تم تأسيسه ليس ممكنا من دون الأساس ولا يكون هذا الأخير ممكنا من دون ما يؤسسه، نحن إذن واقعون داخل حلقة"(64). فحق الإجبار هو حق طبيعي لكل كائن عاقل عندما لا يعامله الغير باعتباره كذلك. ولكن هذا الحق الطبيعي غير قابل للتطبيق: فمثل هذا الحق يكون متناقضا في ذاته، وهو ما يؤكد عدم وجود حق طبيعي، مادامت الإجابة عن مسألة معرفة ما إذا كان هذا الحق قابلا للتطبيق أم لا تفترض التوقف عن تطبيقه واسترداد الغير لحريته حتى يتم الحكم على أفعاله(65). هذا في ما يفترض التوقف عن تطبيقه الإجابة عن المسألة السابقة. ولا يمكن الخروج من هذه الحلقة إلا بجعل الإجبار غير قابل للتطبيق إلا باستدعاء ثالث يُرجع إليه كل من الكائن الأول والثاني سلطة حكم تطبيق وتعطيل ممارسة حق الإجبار.

4-4- العقد الاجتماعي عند فيخته عقد حماية:

لا يصبح الحق الطبيعي قابلا للتطبيق إلا عند كفه على أن يكون طبيعيا، بمعنى أنه عندما يكف الحق على أن يكون حقا يمتلكه كل البشر، متحولا إلى حق سياسي يضعه البشر بين يدي قوة أعلى منهم، أي الدولة، مطالبين إياها بضمان حق كل واحد(66)، آنئذ لا يُحمّل أي أحد نفسه عبء الاهتمام به.

فالعقد عند فيخته هو أولا، كما هو عند هوبز، عقد امتثال تام؛ يحصل مقابله كل واحد على الأمن. إذ تمارس الدولة حقها في إجبار أول من يهاجم حق الغير معيقا إياه من التصرف بحرية (في الحدود التي تسمح بحرية نشاط الآخرين). ولكن ليس لهذا يكون العقد عند فيخته عقد استلاب. ذلك أن الخضوع لإرادة الدولة ما هو إلا خضوع للإرادة الفردية. ففي واقع الأمر، لا تريد الدولة شيئا آخر غير ما يريده الفرد نفسه، بما في ذلك تطبيق وتحقيق الحق.

يجب الوثوق من أن الدولة تريد دائما الحق، وأن لا تصبح هي نفسها مهدِّدة لهذا الأمن الذي من أجله تم وضع الحماية بين يديها. ولهذا، يجب أن تكون الضوابط التي بموجبها ستحدد الدولة الحق في المستقبل معروفة ومقبولة لحظة التعاقد: تتضمن هذه الضوابط مجموع القوانين الوضعية، التي بتطبيقها ستصدر الأحكام في المستقبل. كما يجب أن تكون هذه المجموعة القانونية معروفة لحظة التعاقد، وأن يمنحها الأفراد موافقتهم. وعليه فاقتداء الدولة بهذه المجموعة القانونية، لن يكون شيئا آخر غير تنفيذ الإرادة الخاصة بالأفراد مضيفة إليها استمرارا وثباتا ودواما، وهو ما لا تستطيع الإرادة الفردية توفيره. ولكن كيف يكمن الوثوق بأن الدولة سترغب على الدوام في الحق، وأنها لن تمارس أي قوة أخرى من قوى القوانين غير التي قبل بها الأفراد؟ وكيف يمكن الاطمئنان إلى أنه من غير الممكن أن تمارس الدولة فعلا آخر غير الذي للقانون وللحق على الأفراد يوما ما، سواء كان هذا الفعل صادرا عن فرد أو عن الدولة نفسها؟ 

لهذا يجب اعتبار أهون ظلم يُرتكب مرة واحدة اتجاه فرد واحد، على الفور، من طرف جميع الآخرين كظلم عام مرتكب اتجاه كل الآخرين، بإقحام التجمع نفس، وبالتالي الدولة(67).

تقودنا هذه النقطة إلى جانب بارز من العقد عند فيخته. ليس العقد مجرد عقد للخضوع ولا للتجمع فقط، عن طريق تحويل الكل لثالث يمارس حق الإجبار، بل يجب أن يكون هذا العقد في الوقت نفسه كذلك عقد حماية دائمة: فبتجمعهم وخضوعهم لقوة مشتركة يكون المتعاقدون قد التزموا فقط بالامتناع من المس بحق الغير، وبالامتناع عن حل خلافاتهم القانونية بأنفسهم. وهذا هو الالتزام الضروري. ولكنه، ومع ذلك وببساطة سلبي لأنه ينتج تجمعا، وليس مجتمعا، أو كما يقول فيخته un compositum، وليس un totum(68). فعقد التجمع، الذي من خلاله يمتنع كل واحد مبدئيا عن المس بحق الغير، لا يكفي لجعل من غير الممكن يوما ما أن يكون شخص ما ضحية انتهاك حقه، ليبقى من الممكن أن يحصل هذا، من دون معرفة لا وقت ولا على حق من سيقع عليه الاعتداء. وعدم معرفة من سيكون ضحية هجوم على حقه ولا مصدر هذا الهجوم، هو بالتحديد ما يجعل عقد الحماية ممكنا. ذلك أنه عن طريق الالتزام بحماية الآخرين، يفكر كل واحد في حمايته الخاصة أولا في حالة ما إذا كان ضحية هجوم. وبما أنه لا يمكن معرفة من سيكون في حاجة إلى هذه الحماية، فإن الحماية تمنح للجميع من طرف الجميع، أي للكل نفسه. فالإرادة التي يعلنها كل واحد لحماية الآخرين لا يمكن أن تكون إرادة عامة مادام أنه من غير الممكن معرفة من سيستفيد بشكل خاص من هذه الحماية، إذ يجعل عدم تحديد المستفيد من الحماية الاستفادة باسم الجميع: "إن ما يجب حمايته هو ذلك الكل الناتج عن هذه الطريقة في الوجود"(69). كما أن عقد الحماية هذا هو الذي يحول عقد التجمع إلى عقد اجتماعي حقيقي، أي إلى عقد اتحاد، يسمح بخلق تفاعل أصيل.

يشترط هذا الالتزام، المحمول من طرف الجميع في حماية كل واحد، أن يكون هو نفسه محميا، له نتائج بارزة على مستوى ما يسمى حاليا ب"الاجتماعي". فإذا كانت حلقة ووسائل النشاط الحر التي تم الاعتراف بها لكل شخص (في حدود ما يمنح به نشاطا حرا للآخرين)، لا تسمح للفرد بتأمين وجوده رغم تطبيقه وجهوده، فإن له الحق، بمقتضى عقد الاتحاد، في نجدة وحماية الآخرين؛ إذ "يجب على الجميع، بموجب القانون وبمقتضى عقد الاتحاد، أن يعطوه من امتيازاتهم حتى يستطيع العيش"(70): "الفقير الذي شارك في إتمام العقد الاجتماعي، له حق إجبار مطلق فيما يتعلق بالمساعدة"(71)، بحيث وبمقتضى العقد الاجتماعي نفسه وبما هو عقد حماية، يجب أن يكون جزء من الملكية الخاصة بكل واحد مجموعا، بمعنى مشيعا(72)؛ حتى لا تفرغ المواطنة من معناها بالنسبة لأولئك الذين لا يؤمن لهم عملهم العيش. هكذا يتضمن العقد الاجتماعي، كما يتصوره فيخته، خلق تجمع بسيط وتكافل حقيقي وفعال، يمارسه المواطنون بعضهم اتجاه بعض تحت رعاية دولة حامية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1) J. G. Fichte, Fondement du Droit Naturel selon les principes de la doctrine de le science, trad. (A) Renaut, paris, PUF. 1984. L’abréviation, FDN renvera désormais systématiquement à cette édition et à sa pagination (Identique dans la réédition en collection "Quadrige" PUF, 1998). 

2) J. G. Fichte, FDN, p 162.

3) Dans les tradition allemande, le sens du terme est fixé par christian Wolfe, auteur en 1754 des institutions Juris Naturae, version abrégée de son Jus Naturae et de son Jus Gentiun (1740-1749). On peut se reporter à la tradition du xvшé des Principes du droit de le nature et des gens par Formey, rééditée par le centre de philosophie politique et juridique (Caen, 1988).

4) E. Kant, Vers la paix perpétuelle, Trad. (F).Proust, Paris, GF-Flammmarion, 1991, note de Kant sur le concept de « loi permissive », p 81-82.

5) J. G. Fichte, FDN, p 28.

6) Ibid, p162.

7) فرضية لا أخلاقية الإنسان "الواقعية" هي الفرضية الثابتة لفيشت على امتداد كتاب الأساس: "في مجال الحق الطبيعي، لا دور للإرادة الخيرة؛ يجب أن يِؤخذ الحق عن طريق التناقض، و لو لم يكن لأي إنسان إرادة خيرة"(FDN, p 69). إنها هذه الأنانية الكونية هي التي تجعل من الضروري أن يفرض قانون التناقض الحق.

8) Ibid, p162.

9) J. G. Fichte, FDN, p163.

10) Heine, De l’Allemagne (1835 et 1855), Edition de Pierre Grappin, Paris, Gallimard, "Tel", 1998, p111.

11) J. G. Fichte, Lettre à Baggessen, avril, 1795.

12) E. Kant, Théorie et Pratique, Trad. (F). Proust, Paris, G.F-Flammarion, 1994, p 64.

13) Ibid.

14) انظر: 

- Etienne BALIBAR, Droit de l’homme et droits du citoyen. La dialictique moderne de l’égalité et de le liberté, in: Les frontières de la démocratie, Paris, La Découverte, 1992. p 134. 

15) E. Kant, Théorie et Pratique, Trad. (F). Proust, Paris, G.F-Flammarion, 1994, p 67-68.

16) J. G. Fichte, Doctrine de la Science Nove Methodo, Trad. I. Thomas-Fogiel, Paris, le livre de poche, 2000, chp3, p 111. 

17) Trad. (L). Ferry et (A). Renaut in: Fichte, Essais Philosophies Choisis (1794-1795), Paris, Vrin, 1984 [noté dorénavant EPC].

18) $ - J. G. Fichte, Sur le concept de la doctrine de la science, EPC, p 70.

19) J. G. Fichte, Œuvre Choisies de Philosophie Première, Trad. (A). Philonenko, Paris, Vrin, 1980, [noté OCPP]. p135.

20) Ibid.

21) J. G. Fichte, Sur le concept de le doctrine de la science, EPC, p 70.

22) E. Kant, Critique de la raison pure, Introduction, Chp. 6, éd. citée, p 43.

23) J. G. Fichte, Sur le concept de la doctrine de la science, EPC, p 70-71.

24) E. Kant, Critique de la faculté de juger, Première partie: "Critique de juger esthétique ». 

25) Ibid, Chp: Chp, 20, 21,40.

26) Ibid, Deuxième partie: « Critique de la faculté de juger téléologique ».

27) Ibid, Chp. 87.

28) J. G. Fichte, Sur le concept de la doctrine de la science, EPC, p 20

29) Ibid, p 25.

30) انظر: 

- Reinhard LAUTH, Genèse du Fondement de la Doctrine de la science, Archives de philosophie, 1971.

- (A). PHILONENKO, la faculté de juger, l’introduction, Paris, Vrin, 1968, p 15-16.

- (A). PHILONENKO, La liberté humain dans la philosophie de fichte, Paris, Vrin, 1980, p 39- 47.

- (A). RENAUT, Le système du droit. Philosophie et droit dans la pensée de Fichte, éd. Citée, ChapitreΠ, p 124.

31) تأكدت هذه الأهمية للنقد الثالث لكانط في نظر فيشت من خلال إنجازه لتعليق حول نقد ملكة الحكم بين سنة 1791- 1790 دون نشره.

32) E. Kant, Critique de la faculté de juger, Introduction, Chp. IX, éd. Citée, p 124.

33) Ibid, p 124- 125.

34) Ibid, p 126.

35) Ibid, Introduction, Chp. Ш, p 102.

36) Ibid, p 104-105.

37) Hegel, Principes de la philosophie du droit, Trad. Citée, chp, 4, p 100. et Chp. 151, p 251.

38) J. G. Fichte, Doctrine de la science nova methodo, trad. Citée, p 307.

39) Ibid.

40) Ibid.

41) Ibid. 

42) Ibid.

43) J. G. Fichte, FDN, p 23- 27.

44) Ibid, p 20.

45) Ibid, p 23.

46) Ibid, p 45.

47) J. G. Fichte, FDN, Chp. 1.

48) J. G. Fichte, OCPP, p 143.

49) Ibid, p 142.

50) Ibid, p 145.

51) Ibid, p 148.

52) J. G. Fichte, FDN, p 45.

53) Ibid, p 46.

54) Ibid, p 49.

55) Ibid, p 52.

56) (J). Christophe GODDARD, La philosophie fichtéenne de la vie, éd. citèe, p 77.

57) J. G. Fichte, FDN, p 50-51.

58) Ibid, p 51. 

59) Ibid, p 67.

60) Ibid.

61) Ibid, p 61.

62) Ibid, p 74.

63) Ibid, p 106.

64) Ibid, p 114.

65) Ibid, p 114-115.

66) Ibid, p 178.

67) Ibid, p 124.

68) Ibid, p 214.

69) Ibid, p 215.

70) Ibid, p 224.

71) Ibid.

72) في صدد الإسهام فشت في بناء الأفكار الاشتراكية، يمكن مراجعة: 

- (J). JAURES, Les origines du socialisme allemand, chap. 2 et 3: in études socialiste, Ι , 1888- 1897, Paris, Rieder, 1931, p 83-94.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/8/166

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك