معضلة المركز والأطراف في ترجمة القرآن الكريم وتفسيره

بقلم احميدة النيفر

-1- في بحث علمي شهير، عالج الشيخ محمد مصطفى المراغي، أحد أعلام الأزهر في القرن الماضي، مسألة إمكان ترجمة القرآن الكريم، في مرحلةٍ أُعيد فيها طرح الموضوع، الذي كان قد أثار، قديماً، جدلاً واسعاً بين العلماء. جاء نـشر البحثِ المطوّل في مجلة الأزهر (سنة 1351هـ/ 1932م)، إثر "زلزال" إلغاء الخلافة العثمانية، في العشرينيات، وبعد أن اتّخذت سلطات الجمهورية التركية جملة من القرارات "القومية"، من بينها تلاوة القرآن في الصلوات بالتركية، ونشر مصاحف مترجمة، وبأحرف لاتينية، وغير مقترنة بالنصّ العربي الأصلي.

ما حرص على ذكره الشيخ المراغي، في بحثه، جملة من أقوال المانعين للترجمة، وأخرى للمؤيدين لها، ثمّ أوضح رأيه الخاصّ، الذي اعتمد فيه على شيوخ المذهب الحنفي خاصةً (مذهبه الخاص)، ثمّ زاد على ذلك، في طبعة ثانية للبحث، حجج بعض شيوخ المذاهب السنيّة الثلاثة الأخرى.

ما انتهى إليه الشيخ الأزهري، في بحثه، يمكن تلخيصه في ثلاث مسائل:

-   لا علاقة للترجمة بالتحرّيف، الذي وقع التحذير منه؛ لأنّ النصّ القرآني باقٍ في نظمه العربي، لا تفتح عليه الترجمة باب الفساد.

-   إذا كان القرآن كلام الله المنزّل على محمد - عليه الصلاة والسلام - باللسان العربي، للتبليغ والإعجاز، فذلك يعني أنّ له جهتين؛ جهة هي المقصودة وهي المعاني، وأخرى هي دليل صدق النبيّ، ذلك هو الإعجاز؛ أي لازم من لوازم النظم، وليس من لوازم المعنى.

-   جواز الصلاة بنصّ مترجم للقرآن لمن عجز عن تعلّم العربية، على رأي أصحاب أبي حنيفة. أمّا الإمام، نفسه، فقد أجاز ذلك، حتى لمن قدر على تعلّم العربية. أمّا بقية المذاهب السنيّة، فهي الأخرى تقول بجواز الترجمة.

-2- كان يمكن لصدور تلك الدراسة/ الفتوى أن تكون مثل "جهيزة" قاطعة لقول كلّ خطيب، لكنّ المسألة بقيت، كالكثير من مسائل الفكر الإسلامي، في مناطق الظل، بعيدةً عن كلّ مراجعة معرفية. أُقِـــرَّت تدريجياً الترجمة بفعل الواقع، مع التنصيص على أنّ الترجمة لمعاني القرآن، دون أن تُحسَم الخلفية النظرية الثاوية وراء الخلاف القديم. ما وقع إقراره، بهذا الخصوص، كان أقرب إلى ما يَعدُّه متأخرو الفقهاء أموراً "عمّت بها البلوى"، حين يضطرون إلى القبول بضغط الواقع فيما هو غير معهود، مع إعراض عن أيّ نقدٍ تأصيلي.

ما نقرأه، اليوم، بين الحين والآخر، عن ترجمة القرآن الكريم، يؤكّد أنّنا نعيد إنتاج الحجج نفسها، التي استُعملت للرفض أو الإحجام؛ أيّ أنّنا لا نزال دون بعض التأصيل، الذي حقّقه كبار العلماء، في شأن هذا الخلاف، الذي بدأ مُبكراً مع انتشار الإسلام خارج فضاء انطلاقه.

إذا عدنا إلى ما أثبته الشيخ تقي الدين ابن تيمية (ت 728هـ)، في كتاب (نقض المنطق)، نجد وضوحاً وجرأة لا نكاد نعثر عليهما اليوم. يقول: "معلوم أنّ الأمّة مأمورة بتبليغ القرآن، لفظه ومعناه، كما أُمِر بذلك الرسول، ولا يكون تبليغ رسالة الله إلا كذلك، وأنّ تبليغه إلى العجم قد يحتاج إلى ترجمة، فيُترجم لهم حسب الإمكان. والترجمة تحتاج إلى ضرب أمثال لتصوير المعاني، فيكون ذلك من تمام الترجمة".

قدّم لهذا الموقف بجملة ملاحظات تتعلّق بأصناف الترجمة، وأنّها، على تنوّعها، لا تختلف عن التفسير، ثم انتهى إلى إقرار أنّ "أكثر المسلمين؛ بل أكثر المنتسبين منهم إلى العلم، لا يقومون بترجمة القرآن وتفسيره".

-3- في الجهة المغربية، وفي العصر ذاته، كان أبو إسحاق الشاطبي (ت 798هـ)، صاحب (الموافقات)، ينحو، في تناوله مسألة ترجمة القرآن، المنحى ذاته، الذي توخاه ابن تيميّة. أثبت أن لا فرق بين الترجمة والتفسير، وأنّه لا مفرّ من الترجمة، مضيفاً إلى ذلك أنّ الخطاب القرآني ليس إعجازاً بلاغياً، فحسب، وأنّ صعوبة الترجمة ترجع، في جانبها الأهمّ، إلى اقتضاء "غرس" النصّ المُترجَم، وإدخاله في ثقافة اللغة المنقول إليها النصّ.

هذا كان شأن عالمَين جليلَين في القديم، فكيف يمكن تفسير حركة النكوص المشاهدة في العصر الحديث إزاء دعوة الترجمة، وإزاء ضرورة تجديد التفسير؟

خطورة القضية لا تقف عند حدود هذه الحركة الارتجاعية الدفاعية، التي يشهد عليها الفكر الإسلامي الحديث، لاسيما في الفضاء العربي.

ما يعنينا، أيضاً، أنّ إعادة تناول القضية، اليوم، يعود إلى سبب آخر أهمّ سبق أن وقعت الإشارة إليه.

وراء هذا الاعتراض الحديث، الذي يقف في وجه التعاطي التجديدي مع القرآن الكريم، إعراض عن مراجعة تأصيلية، لا تتحمّلها المؤسسات الإسلامية، في وضعها الحالي، كما لا يُقبِل عليها أفراد العلماء المتخصصين.

ما يجعل الأمر بالغ الحساسية أنّ جانباً من التأصيل يقتضي - لا محالة - الإجابة عن ثلاثة أسئلة شاهقة:

- كيف يقرّ الإسلام تعدّد الرسالات على أرض الواقع، ويدعو إلى الوحدة والتزام دين واحد؟

- كيف انخرط المسلمون في العالم القديم، وكيف ينبغي أن ننخرط، اليوم، في العالم المعاصر؟

- ما العلاقة بين مفهوم العالمية، الذي تميّزت به الرسالة الإسلامية، والخصوصية الثقافية، التي تمثّلت خطاب الوحي؟

-4- مركز هذه الأسئلة، جميعاً، يتحدّد في إشكال حضاري هو اغتراب العرب المسلمين في عالمهم اليوم، وتمسُّكهم بالبقاء خارج المركز. هو الاغتراب الذي يقتضي حلاً لمعضلة العلاقة بين العالميّة المكتسحة، والهويّة الخاصّة، التي أصبحت ضائقة بكلّ شيء، حتى بنفسها.

صميم الإشكالية يكمن في تصوّر طبيعة العلاقة بين ما نَعدّه مركزاً، وهو الإسلام كما نفهمه، وبين ما نحسبه هوامش أو أطرافاً تشتمل على معتقدات، ومعارف، وفلسفات، وثقافات أخرى.

إذا أردنا أن نقدّم، بدايةً، للإجابة عن هذا التساؤل الشاسع، الذي لم تزده الوقائع الكبرى لعالمنا اليوم إلا حدّةً، فإنّنا نحتاج إلى تأكيد أمرين:

- أنّ كبار مفسري القرآن الكريم، فضلاً عن عموم الفقهاء والمتكلمين، لم يولوا عناية خاصّة ببحث مسألة عالميّة الرسالة المحمدية؛ بل اقتصر جهدهم، حين كانوا يتعرّضون للآيات المتصلة بما كان يُسمّى "عموم الرسالة إلى المكلّفين''، على تقرير أنّ رسول الله لم يُبعَث لأمّةٍ بعينها، خلافاً لكلّ الرسل السابقين. من جهة ثانية، إنّ الخصوصيّة العربيّة، اللغوية، والتصورية، والقيمية، التي راعاها الخطاب القرآني، وتفاعل معها، لم تشكّل عائقاً حقيقياً حين بلغت الرسالة المحمديّة طوراً تجاوزت فيه إطارها العربي المحدّد، في الزمان، والمكان، لتُعرَضَ على مجتمعات غير عربيّة.

- ما تفضي إليه الدراسة الموضوعية لضمور أيّ جانب تحليلي لمسألة عالميّة الرسالة الإسلامية قديماً، تؤكّد أنّ القدامى كانوا يمارسون جهودهم في ظلّ أوضاع دولية فرض فيها المسلمون أمراً واقعاً تجاوز الأطر المحدودة للخصوصيّات السيّاسيّة، والثقافيّة القديمة. لم يروا أنّ هناك حاجة إلى تنظير، طالما أنّ واقع التحوّلات كان قد قطع أشواطاً لم يبقَ، معها، مجالاً لإعادة النظر في الحضور الفعلي ضمن مركز الفعل التاريخي، والفكري، والمعرفي. من ناحية أخرى، كان كبار الفقهاء والأصوليين، مشرقاً ومغرباً، على وعي أكيد بعمق إشكالية العلاقة بين العقائد، في إطلاقها، وبين الزمني، وما يتطلّبه من تقنين فقهي، ومن ثمّ جاء الاهتمام بالعادة، والعرف، والمصالح، والإباحة، والتيسير.

-5- انطلاقاً من هذين الاعتبارين، يمكن القول: إن ما يُثار، اليوم، من إشكالات تتعلّق بترجمة معاني القرآن الكريم وتفسيره، فيه حرص محمود على الكتاب العزيز من أن يُساء إليه، بقصد، أو دون قصد.

لكن لا مفرّ من الالتفات إلى الجانب التأصيلي الحضاري، الذي تفرضه مسألتا الترجمة، وضرورة التفسير، وهما المتعلقتان أساساً بقضية عالمية الرسالة، ودلالاتها الإنسانية. هذا التأصيل يحتاج إلى توسيع في دلالة التأصيل، من خلال فهم الظروف والقوانين، التي تحكم العالم، عن طريق جدل بين فكر قديم له تاريخيته، وفكر جديد له راهنيته.

من هنا، أمكن القول: إنّ المسألة تتنزّل ضمن سؤال التجديد وقضاياه المطروحة، وهو الذي غدا ضرورة حيوية لا مناصَ من التصدّي لها، حرصاً على حياة الأمّة ومستقبلها.

لذلك، عند قراءة المسألة قراءةً حضارية، يتبيّن أنّها لا تنفكّ عن أن تُفهم ضمن أولوية تجديد العلاقة بالقرآن الكريم في المستوى المعرفي، أوّلاً، بتجاوز التعامل التراثي معه. وأخطر ما في هذا التعامل التراثي مع النصّ المؤسّس أنّه ينزع عنه صبغته العالمية المفتوحة على الانتظارات الإنسانية.

إنّه مواصلة في تهميش الأثر الحضاري للمسلمين في عالَم اليوم، من خلال التشديد على إمكانية تجديد الخطاب القرآني، بقطع الطرق الموصلة إلى تمكينه من أفقه الإنساني. بهذا يصبح تأصيل موضوعي الترجمة والتفسير متجاوزاً، للحرص على حياة الأمة ومستقبلها، ليكون إسهاماً جاداً في مستقبل البشرية جمعاء؛ لأنّ القرآن الكريم خطاب للأمم كافةً، ومن ثمّ مسؤولية المؤمنين به وبقدسيته، أوّلاً، أن يوفروا له الشروط الموضوعية ليكون في ذلك الموقع المركزي.

على هذا، تكون الترجمة والتفسير ضروريين، لكن ليس على معنى الدفاع؛ بل على أساس الإبداع، الذي يعي أنّ ما يقوم به المترجم والمفسّر هو تمثّل لفضاء الآخر وروحه؛ أي خروج من الهامش إلى المركز.

السؤال المحيّر، الذي ينبغي أن يلازم المترجِم والمفسّر، ينطلق من أنهما يؤسّسان لعلاقة فعلية بين نسقين لغويين، ومستويين معرفيين متباينين. فكيف يتمّ لمن توارث رؤيةً هزيلة للآخر؛ بل مستهجنة له، أن ينجح في العبور إلى ذلك "الغريب"؟ ثمّ كيف يمكن لمن يعقل النصّ بمعارف محدودة أن ينجز فهماً جديداً يُنهي به غربة فهمه القديم في المنظومة الإنسانية القائمة الآن؟

قضية ترجمة القرآن الكريم وتفسيره امتحان ثقافي وحضاري موضوعُه المختلف، وأداتُه المعرفة المتجددة، وغايتُه مراجعة جذرية لمفهوم العالمية لدى المسلم؛ ذلك أنّ العالَم أضحى، اليوم، أكثر من أي وقت آخر، إشكاليتَنا وسنصبح نحن - إن لم نحسم القضية نظرياً - معتدين على الآخرين كافةً؛ أي أننا نصير إشكالاً عالمياً.

 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك