فكرة الحق والفناء عند المتصوّفة

محمد بن الطيب

تمهيد: الصوفيَّة وطلب الحقيقة الدينية

لعلّنا لا نُبْعِدُ إن زعمنا أن المتصوفة من أبرز الطوائف الإسلامية الذين كانت فكرة الحقّ هي القطب الذي دار عليه مذهبهم فكرا وسلوكا، بل إنّ ظهور التصوّف في أصل نشأته يحمل هذا النزوع إلى معانقة الحقيقة الدينية على قدر الطاقة البشرية. لقد أرادوا أن يحدثوا في الدين ثورة روحية غايتها النفاذ إلى روح الدين وجوهره، بعدما أدركوا أنّ الدين في عرف الفقهاء مجموع رسوم وأوضاع وضوابط وأحكام ظاهريّة لا حياة فيها ولا روحانيّة، وهي -وإن أرضت عقول المشرّعين المفتونين بتقعيد القواعد الفقهية واصطناع الحيل الشرعية- لم تكن لتشبع العاطفة الدينيّة عند الصوفيَّة. ولذلك بادروا إلى تقسيم علم الشريعة إلى قسمين: علم ظاهر الشرع الذي يَدْرُسُ الأعمال التي تجري على الجوارح، وهي العبادات كالصّلاة والصوم والحجّ، والمعاملات كالزواج والطّلاق والبيع، وقد سُمّي ذلك علم الفقه. والثاني: علم الأعمال الباطنة أو أعمال القلوب وهو التصوّف، وإنّ في تسميتهم إياه "علم الحقائق" وتسمية أهله "أرباب الحقائق" وتسمية الآخرين "أهل الظاهر" و"أهل الرسوم" لدليلا على سعيهم المبكّر إلى التحقّق بفكرة الحقّ بما تعنيه من اليقين بالصواب معرفيا، والاستقامة في السلوك عمليا، ابتغاء تحقيق الفرادة والتميّز عمّن سواهم.

وقد أشار إلى ذلك رويم البغدادي (ت: 303هـ/915م) بقوله: "كلّ الخلق قعدوا على الرّسوم، وقعدت هذه الطائفة (يعني الصوفيَّة) على الحقائق، وطالب الخلق كلهم أنفسهم بظواهر الشرع، وهم طالبوا أنفسهم بحقيقة الورع ومداومة الصدق"(1). فالتفرقة ظاهرة في كلام رويم بين الشرع وحقيقة الشرع، أو بين الظاهر والباطن، أو بين الدين في الرسم والدين في الجوهر. وهذه النظرة هي لبّ التصوّف، وهي العامل الحاسم في تحويل الإسلام على أيدي الصوفيَّة من دين رسوم وأوضاع إلى دين روحيّ حيّ(2). ونجد هذا الإلحاح على تعلّق المتصوفة بالحقائق في تعريف معروف الكرخي (ت: 200ه/815م) للتصوف بأنه "الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق"(3)؛ فالتعريف ينطوي على انحياز تامّ للحقيقة والتزام بالعمل بها، ولا يكون ذلك إلاّ بمعرفتها معرفة يقينية، فالأخذ بالحقائق ليس مجرد اعتناق لها مُستكنّ في الضمير؛ وإنّما هو -إلى ذلك- سلوك في الواقع يجنح إلى المثالية والتفرّد والخروج عن مألوف السلوك العادي، وهو ما يشير إليه الشطر الثاني من التعريف الذي ينطوي على حمل النفس على تغيير اتّجاهها كلّيا من الخلق إلى الحقّ. 

ومن ثمّ ترجع الثنائية الشهيرة في الأوساط الصوفيَّة: الشريعة/الحقيقة في أصل نشأتها إلى المقابلة بين ظاهر الشرع وباطنه. ولم يكن المسلمون في أوّل عهدهم بالإسلام ليفكّروا في هذه التفرقة أو يقرّوا بها. فالحقيقة في عرف الصوفيَّة هي المعنى الباطن المستتر وراء الشريعة، والشريعة هي الرسوم والأوضاع التي تعبّر عن ظاهر الأحكام وتجري على الجوارح. وقد أجمع الصوفيَّة في كلّ عصر على ضرورة التزام الشرع واتّباع الدّين؛ ولكنّهم لم يفهموا قطّ من الدين حَرْفيّته ولا من الشريعة مجرّد طقوسها، بل كانوا ينحون دائما في فهم الدّين والشّريعة نحوا يروم النفاذ إلى جوهر الدين ولب الشريعة اسْتِكْنَاهًا للحقيقة الدينية، وفي ذلك تظهر ثورتهم الروحية(4).

I- مراحل الوصول إلى الحقِّ

1- مجاهدة النفس: 

إنّ المجاهدة شرط ضروري للوصول إلى الطريق الموصل إلى الحقّ، وهي في جوهرها ترويض للنّفس المتمرّدة، وقد أطبق أئمّة التصوّف جميعا على أنّه لا سبيل إلى ولوج عالم السّير والسّلوك والصّفاء والروحانيّة من غير ترويض النّفس، وعماد رياضة النّفس منعها عن كلّ ما تتوق إليه وتشتهيه، ولاسيما الأشياء التي اعتادتها(5). إنّ المجاهدة هي دعامة "التجربة الصوفيَّة" التي هي -في البدء والمنتهى- تجافٍ عن الباطل وإقبالٌ على الحقّ، إنها "الرعاية لحقوق الله"(6) بعبارة الحارث المحاسبي (ت: 243هـ/857م)، إنّها نشاط روحيّ يبدأ في الوقت الذي تستيقظ فيه النفس، فتخرج فيه عن مألوف عادتها، ثمّ يتحوّل تبعا لذلك مركز الاهتمام من "الذّات" إلى موضوع جديد تَجِدُّ النّفس في الوصول إليه واللّحاق به، وهذا التحوّل في مجرى الحياة الروحيّة هو الذي اصطلح متصوّفة الإسلام على تسميته "بالتّوبة"؛ ولكنّهم لا يقصدون به الإقلاع عن الذّنوب فحسب؛ وإنّما يقصدون شيئا آخر أبعد وأعمق من هذا كلّه، بل شيئا هو أساس هذا كلّه، وهو التجرّد عن النّفس أو التخلّص منها، - والنفس عندهم مرادف لجميع الشهوات - والإنابة التامّة إلى الله والإقبال بكنه الهمّة عليه.

وإذا كان خروج الإنسان إلى العالم يسمّى ميلادا طبيعيّا، فإنّ خروج الصّوفي إلى العالم الرّوحي الذي يتحكّم فيه وعيه المتعالي يسمّى ميلادا روحيّا. ومن خصائص التوبة الصوفيَّة أن تصحبها حالة وجدانيّة عنيفة يرافقها شوق ملحّ نحو الحق وشعور ديني عميق قويّ فيّاض(7).

إنّ الطريق الذي يسلكه الصوفيَّة إلى الله هو أيضا محكوم بفكرة الحق، فهي -كما رأينا- المنبع والمصبّ؛ إذ السير إلى الحقّ المبين عندهم عروج من عالم الظاهر إلى عالم الحقيقة، أو من عالم الأرض إلى عالم السماء، أو من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، وهو "التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود"(8). وأساس هذا التصوّر أنّ الله -باعتباره الحقيقة الوجوديّة المطلقة- هو أصل كلّ موجود ومصدره. فهو المقوّم للعالم، وهو المقوّم للنفس، يطلبه الصّوفي بالصّعود إليه، ولا يتاح له ذلك الصّعود إلاّ بعد أن تتحوّل نفسه عن صفاتها وتتخلّص من أدرانها وكدوراتها فتفنى عن صفاتها، وتتحرّر من قيودها.

2- محبّة الحقّ: 

إنّ هذا التعلّق الشديد بحقيقة الدين وجوهره والاجتهاد بأقصى حدود الطاقة البشرية لبلوغ المثل الأعلى فيه وتذوّق حلاوته هو الذي حمل الزهّاد الأوائل الذين مهّدوا السبيل للمتصوفة من بعدهم على الاجتهاد في العبادة على نحو جعلهم ينتقلون من عاطفة الخوف من الله إلى محبته(9) ولم تكن هذه النقلة النوعية بمعزل عن فكرة الحقّ التي شغلت تفكيرهم وملأت عليهم أقطار نفوسهم؛ ذلك أنّ الفقهاء والمتكلمين قد رأوا -انطلاقا من عقيدتهم المبنية على مبدأ التعالي المطلق لله- أنّ الحبّ بين الله وعبده مستحيل؛ لأنّ غاية الحبّ هي الاتّصال بين المحبّ والمحبوب، ولا سبيل إلى اتصال واتحاد بين المحدود وغير المحدود. ومن ثمّ فلا يمكن الحديث عن حبّ الله على وجه الحقيقة؛ لأنّ حبّ الله إن لم يكن على سبيل المجاز كان هرْطقة؛ إذ يخفض الإله المتعالي إلى مستوى البشري الإنساني حينما يعقد معه صلة حبّ؛ ذلك أنّ تلك الصّلة تفترض نوعا من المشابهة والمماثلة، بينما المسافة بين الخالق والمخلوق غير قابلة للتّجاوز أصلا(10). لكنّ المتصوّفة بدءا من رابعة العدوية (ت: 185ه/801م)(11) لم يستبشعوا شيئا من معاني الحبّ ولوازمه عند كلامهم عن حبّهم لله أو حبّ الله لهم، بل اعتبروا ذلك الحبّ حقيقة لا مجازا، هم الذين اختصّوا بها وعرفوها وجرّبوها وشعروا بلذّتها، وأنّ لوازم المحبّة من الشّوق والحنين والأنس والمناجاة ولذّة القرب وألم البعد إنّما هي حقائق أدركوها في مواجيدهم. أمّا طاعة الله والمواظبة على عبادته فليست مرادفة للمحبّة كما ذهب إلى ذلك الفقهاء والمتكلّمون؛ وإنّما هي فرع من المحبّة عند الصوفيَّة(12).

لقد أسّست رابعة مفهوم الحبّ الذي يكون الله فيه محبوبا يشتاق إليه الإنسان ويقبل عليه لا خوفا من ناره ولا طمعا في جنّته، بل ابتغاء لوجهه وأُنْسًا به وإقبالا عليه، مع الشوق الزائد إليه، والانشغال عن كلّ شيء بمشاهدة جماله ومعاينة جلاله، ومن ثمّ صارت جنّة المتصوّفة قرب الله ورضاه، وجحيمهم إعراضه وصدّه. فالحبّ الحقيقي عندهم هو ما كان خالصا نقيّا مجرّدا، أمّا طلب الجنّة وابتغاء الثواب فَهُمَا حجاب يحول بين القلب ومشاهدة الحبيب(13).

تأمّلت رابعة ما ورد في القرآن من تأكيد بأنّ حبّ الله عبادَه المؤمنين سبق حبّهم إيّاه: "يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ"(14)، فأيقنت أنّ الحبّ صادر من الأزل ذاهب إلى الأبد. وهذه هي الآية التي اتّخذتها الأجيال اللاّحقة من الصوفيَّة حجّة بالغة عضدوا بها نظريّاتهم في الحبّ المتبادل بين الخالق والمخلوق(15). 

لقد برزت نظريّة الحبّ الإلهي المتولّدة من التناهي في العبادة؛ لتؤدّي دورها التّاريخي في حلّ ما استعصى من المشاكل الكلاميّة في بيئة ظهرت فيها نزعات ريبيّة وتعصّبات مذهبيّة، واصطرعت فيها الفرق الدينيّة والأحزاب السياسيّة. فحاول الصوفيَّة أن ينْأَوا بالفكر الإسلامي عن الصّراع والشّقاق، وأن يحملوا الناس على الاجتماع على الحقّ باعتناق عقيدة الحبّ الإلهي؛ ذلك أنّ الحبّ بين العبد والربّ وبين الرب والعبد كفيل بأن يذيب الحدود، ويهدم السدود، ويؤلّف بين القلوب، ويقرّب من علام الغيوب. ومن ثمّ تكون القضايا التي شتّتت المسلمين شِيَعًا وأحزابا وفرّقتهم في العقائد طرائق قِدَدا غير ذات موضوع، فلا حديث في الجبر والاختيار، والفعل الإلهي والفعل الإنساني، والثّواب والعقاب، والمسؤوليّة والجزاء إلاّ من خلال هذه العاطفة المشبوبة من جانب العبد والحانية من جانب الربّ، وهي عاطفة قديرة على تجْلية الطريق وحلّ المشكلات(16). هكذا نرى أنّ فكرة الحبّ الإلهي إنّما هي امتداد لتعلّق أولئك الزهاد الأوائل بفكرة الحقّ وابتغائهم الوسيلة للوصول إلى حقيقة الدين مُمَثّلة في فقهه الباطن فقه القلوب، فكان الوصول إليها بعد مجاهدات قاسية وعبادات مضنية وتفرّغ تام لتزكية النفس وتطهيرها تخْلية وتحْلية؛ أي تخلّيا عن مرذول الأخلاق وتحلّيا بمحمودها.

3- المحبة تطلب الفناء في الحقّ: 

ما من شكّ في أنّ المراقي العالية في التجربة الصوفيَّة إنّما هي وليدة الحبّ الإلهي المتولّد عن وثاقة التعلّق بالحقّ. وفي كلّ مرحلة نلحظ بحثا عن حقيقتها واجتهادا في الوصول إليها، فقد لاحظنا في البدء تحرّيا لحقيقة الدين وتحقُّقا ببُعده الأخلاقي واستِكْنَاهًا لجوهره وغوصا في باطنه وعدم وقوف عند ظواهره ورسومه، ثم لاحظنا تناهيا في التحقّق بالحب الإلهي ابتغاء الوصول إلى كنه المحبة الإلهية، وهي التي ستقود إلى طلب الفناء في المحبوب الأسمى أي الحقّ، وهو الاسم الإلهي الذي فُتن به المتصوفة خاصة حتى صيّروه عَلَمًا على الله تعالى، واعتبروا هذا الاسم الشريف "سيف الأولياء، لا يرون شيئا إلا ويصولون بهذا الاسم عليه فيتجلى لهم صاحبه بمحو كلّ باطل"(17) وقد كانوا يكثرون من ذكره حتى "يتجلّى لهم نوره فيمحو باطل الأنانية من قلوبهم، ويفتح بصائرهم بالخشية من عين الحق، فيشهدون الحق بالحقّ، فتراهم مع الحقّ آنسين به في أنفسهم وفي الآفاق"(18).

لقد وجدنا رابعة العدوية رائدة الحب الإلهي قد أدركت سرّ الحياة الصوفيَّة وجوهرها، وذلك السرّ هو إنكار الذّات وفناء المحبّ في المحبوب؛ إذ لا يُعرف الله ولا يُحبّ حقّا وفي النّفس أدنى شعور بذاتها وبالعالم من حولها. وفي هذا تتّفق رابعة مع صوفيَّة المسلمين الذين جاؤوا من بعدها؛ روى القشيري (ت: 465هـ/1073م) عن أبي عبد الله القرشي أنّه قال: "حقيقة المحبّة أن تهب كلّك لمن أحببت فلا يبقى لك منك شيء"، وقال دلف الشبلي: "سمّيت المحبّة لأنّها تمحو من القلب ما سوى المحبوب"(19).

وهكذا صارت المحبّة من بعد رابعة المحور الذي تدور عليه الحياة الصوفيَّة والهدف الذي تتّجه إليه(20)؛ فالمحبّة هي "سمة الطائفة (=الصوفيَّة) وعنوان الطريقة ومعقد النسبة"(21)، وقد ظهر في القرن 3هـ/9م خاصّة رجال عرفوا بمقالات في المحبّة منهم الحارث بن أسد المحاسبي (ت: 243هـ/857م) والجنيد البغدادي (ت: 298هـ/910م) وسَرِيّ السقطي (ت: 254هـ/868م) وذو النّون المصري (ت: 245هـ/859م) وسهل بن عبد الله التستري (ت: 283هـ/896م) وأبو بكر الشبلي (ت: 384هـ/945م) وغيرهم، ثمّ بلغت فكرة الحبّ الإلهي ذروتها عند أصحاب وحدة الوجود، ولاسيما عند ابن الفارض (ت: 632هـ/1235م) وابن عربي (ت: 638هـ/1240م)(22). 

وشاع التغنّي بها عند الشعراء الصوفيَّة بفارس من أمثال جلال الدين الرومي (ت: 672هـ/1273م)(23) وفخر الدين العراقي (ت: 688هـ/1289م) وأوحد الدين الكرماني (ت: 624هـ/1227م) ومحمود شبستري (ت: 720هـ/1320م) وشيرين مغربي (ت: 809هـ/1406م) ونور علي شاه (ت: 1160هـ/1748م) وغير هؤلاء(24). وجميعهم آمن بأن تجربة الحب الإلهي هي الحقيقة التي ينبغي على العبد أن يسعى إلى التحقّق بها سلوكا وذوقا. إنّها غاية التديّن ومقصد التعبّد. وعلى ذلك يمكن أن نعدّ التجربة الصوفيَّة -بشتى مراتبها وسائر منازلها- سيرورة إلى الحق بالحق، ولعلّ هذا ما جعل الهروي الأنصاري يتّخذ عنوانا لأحد كتبه الذائعة الصيت: "منازل السائرين إلى الحق المبين"(25)، ولعل ذلك أيضا ما يبرّر الثنائية المركزية العزيزة على قلوب المتصوفة: شريعة/حقيقة مع اعتبار الأولى جسرا للوصول إلى الثانية.

إنّ فكرة الحقّ في التراث الصوفي هي القطب الذي دارت عليه أهم المفاهيم الصوفيَّة، فقد رأينا كيف ميزت التصوّف في النظر والعمل، وكيف أفضى الحرص على طلب الحقّ والتعلّق الشديد به إلى تحوّل العاطفة الزهدية والنزعة التعبدية من الخوف إلى الحبّ.

4- الحقّ يتجلّى بالحبّ: 

ولم تقف تجربة الحب الإلهي عند ذلك الحدّ بل لقد عرفت مع الحلاّج (309هـ/922م) تطوّرا نوعيا ارتقى بها إلى أفق ميتافيزيقي، فإذا به يُفلسف مسألة المحبّة الإلهيّة، فيرى أنّ جوهر الذات الإلهيّة هو الحبّ، فإنّ الحقّ أحبّ ذاته في وحدته المطلقة قبل الخلق، وبالحبّ تجلّى لنفسه في نفسه، فلمّا أحبّ أن يرى ذلك الحبّ بعيدا عن الغيريّة والثنويّة في صورة ظاهرة أخرج من العدم صورة من ذاته لها جميع صفاته وأسمائه، فكانت هذه الصورة الإلهيّة آدم الذي تجلّى الحقّ فيه وبه(26). وقد رتّب الحلاّج على تصوّره للمحبّة الإلهيّة أنّ الله يُحِبّ ويُحَبُّ رغم تأكيده لتنزيهه وتعاليه ونفي الجسميّة عنه، وأنّ صلته بمحبّه صلة اضطرار لا اختيار، بل ذهب إلى أنّ كلّ محبوب إنّما يحبّ من خلال الله. ومعنى هذا أنّ حبّ الإنسان لله ليس مكتسبا ولا عارضا؛ بل هو جبلّة فيه تكشف عنها التجربة الصوفيَّة وما فيها من رياضة وأحوال(27). 

ولا يمكننا ونحن نشتغل بفكرة الحق والفناء ألاّ نعرض ولو على سبيل الإشارة إلى تلك الشطحة الشهيرة، والصيحة الخطيرة التي أعلنها الحلاج بلا خوف أو وجل، وكان محورها التماهي مع الحقّ، إنّها قوله: "أنا الحقّ"، وقد وردت في كتابه الغريب المعروف بـكتاب الطواسين(28)، وكانت تتويجا لمرحلة شاقّة من المجاهدة، بدأت بتحمّس العقل والوجدان للأوامر الإلهيّة، والولوع بالامتثال لها، والالتحام بها شيئا فشيئا، فأحبّتها الإرادة بدءا، فكان من نتائج ذلك القبول المستمرّ للأمر الإلهي أَنْ شَعَرَ الصوفي في لحظة من لحظات وجده بأنّ الروح الإلهي الآتي من أمر ربّه قد جاءه، واتّصل بنفسه، فاستحالت أفعاله إلهية(29)، فصاح "أنا الحقّ"، فهي في البدء صيحة ناجمة عن حال سكر، منطوقة عن غير وعي، عبّرت عن مبلغ ما وصل إليه الحلاّج في تجربة الحبّ الإلهي بعد أن امتلأ قلبه بمحبوبه الأسمى امتلاء، واستولى عليه حبّه استيلاء، وشعر بأنّ قلبه احتوى شيئا أكبر من سعته(30). إنّها تعبير عن مرْقًى عليّ في عالم الروح والسرّ، كان الحلاّج أقوى من تحدّث عنه وأجرأ من أذاعه، عندما بلغ الذروة العليا من مقام الفناء، فشاهد الحقّ بلا خلق. وتلك حالة وجدانيّة، أو هي حالة دهشة وغيبة، مع فقدان الإحساس بالأشياء وبالنفس، إنّه مقام إشارة إلى حقّ بلا خلق(31).

لقد أحسّت روح الحلاّج في ذروة الوجد أنّ الحقّ جعلها آلة لكلامه، ولسانا لتعبيره، فقال في حال الفناء في الحقّ: "أنا الحقّ"، وذلك ما أشكل على فهم الناس، حتّى على فُهُوم أساطين الكلام وأهل الشريعة، وجاوز حدود إدراكهم، فرأوا فيه كفرا محضا، وأنكرهُ أهل التصوّف؛ لأنّهم رأوا فيه إفشاءً لسرّ الوصال بين العبد وربّه(32).

ومن هنا كانت صرخته: "أنا الحق" في عمق نظريّته تعني أنّه ليس هو قائلها، وإنّما القائل هو الحقّ نفسه على لسانه. أمّا دليله على صحّة دعواه فهو كلام الله إلى موسى بلسان الشجرة، وذلك في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾(33).

لقد تكلّم الله إلى موسى بلسان هذه الشجرة، وبهذا ردّ الحلاّج قوله: "أنا الحقّ" إلى مسلّمة بدهية ارتضى أكثر الصوفيَّة أنّها تمثّل حقيقة المذهب الحلاّجي الصحيح، وبمقتضاها يكون قد نطق بهذا الكلام تحت تأثير نشوة الشهود، وهو يحسب أنّه تماهى مع الذات الإلهيّة، والحقّ أنّه لم يتّصل بغير صفة من صفاتها.

لقد شرح الحلاّج مقالته "أنا الحقّ" بقوله: "ومثلي مثل تلك الشجرة"(34)، وهو يعجب من أنّ الناس سمعوا كلام الله من الشجرة: "إنّي أنا الله ربّ العالمين"، ويقولون: قال الله كذا، ولا ينسبونه إلى الشجرة، وأنّهم يسمعون من ابن منصور الحلاّج: "أنا الحق" ويقولون: قال ابن منصور، ولا يقولون: إنّ الله قال كذا على لسان الحلاّج.

وفي ضوء ذلك يتّضح معنى الدعوى الحلاّجيّة التي من أجلها لقي حتفه وهي قوله: "أنا الحقّ"، والتي ترجمها ماسنيون: "أنا الحقّ الخالق"(35). ونحن على رأي عفيفي الذي فضّل أن تكون: "أنا صورة الحقّ"؛ أي المظهر الخارجي الذي ظهر فيه الحقّ، وعن طريقه عُرِفَ، وبوساطته ظهر جلال الحقّ وجماله(36) ويؤيّد هذا التفسير عبارة للحلاّج نفسه يقول فيها: "وقلت أنا: إن لم تعرفوه فاعرفوا آثاره، وأنا ذلك الأثر، وأنا الحقّ؛ لأنّني مازلت أبدا بالحقّ حقّا (...) وإن قُتلت أو صُلبت أو قُطعت يداي ورجلاي ما رجعت عن دعواي"(37).

ويرى الحلاّج أن الإنسان لا يمكن أن يعتقد في الله وفي نفسه أيضا، فهذا من الوهم والنفاق، وهما منتشران عند معظم المؤمنين العاديين، بل حتى عند أولئك الذين بلغوا درجة عالية من الروحانية، فالمخلوق الذي يعدّ نفسه كائنا مستقلا بذاته يكشف في أعماقه عن نفي ضمني لله، والحال أنّ الله هو الذي أنعم عليه بالإيجاد والإعداد والإمداد. ويتبدّى من خلال ذلك ضخامة الوهم بأنّه كائن في حدّ ذاته، بينما هو في الحقيقة عَدَمٌ محض، يقول الحلاج: "والحق حق، والعبد باطل، وإذا اجتمع الحق والباطل، فيَضْرِبُ اللهُ الحَقَّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُو زَاهِقٌ، وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ"(38)، ومن هنا يتضح لنا مدى التلازم بين فكرة الحقّ وفكرة الفناء في التجربة الصوفيَّة، فالمريد سائر في طريق الحق حتى إذا أدركه فَنِيَ فيه فلم يبق إلا الحقّ وحده.

ففي لحظة انكشاف الحجاب عن العبد عند الوصول إلى الحقيقة، يقتنع بأنّه لا يُعَدُّ شيئا مذكورا أمام الله، ويتأكّد من أنّ عليه أن يدمّر "أناه" الوهمية "الباطلة"؛ لكي يصل إلى الوجود الحق. فالإنسان ليس شيئا سوى الفكرة الأزلية الموجودة في علم الله قبل خلق الجسد الذي فيه تكونت شخصيته الوهمية. وبذلك تكون تجربة الفناء عموما فعل نفي لكل ما سوى الله(39). ولذلك قال الحلاّج متحدثا عن مفهوم التوحيد لديه: "إنّ العبد إذا وحد ربّه فقد أثبت نفسه، ومن أثبت نفسه، فقد أتى بالشرك الخفيّ، وإنّما الله تعالى هو الذي وحَّدَ نفسه على لسان من شاء من خلقه"(40).

5- معرفة الحقّ: 

إنّ حبّ الحقّ المفضي إلى الفناء فيه ما كان ليكون لولا مفهوم آخر مركزيّ في التصوّف وهو المعرفة؛ إذ من البدهي أنك لا تحبّ من لا تعرف. ولذلك كان موضوع المعرفة الأسمى عند المتصوّفة الذات العليّة؛ "لأنّها أشرف الموجودات وأعزّ المعلومات"(41)، ومن هنا يتوجّه الصّوفي منذ البداية إلى معرفة الله، ولا يريد معرفة سواه؛ لأنّه منه وبه من حيث وجوده، ولهذا مهما تعدّدت الوسائل التي يتّخذها كلّ سالك في طريقه إلى الله فإنّ غاية كلّ طريق هي الله. فهو موضوع المعرفة الوحيد، بل هو المقصود الحقيقي من التوحيد الذي هو حقـيقة المعرفة؛ لأنّ المعرفة هي النّهاية لكلّ السالكيـن لطريق الله(42).

وقد عدّ الصوفيَّة التوحيد من الأمور التي لا يقوى العقل على إدراكها، وعدّوه سرّا من الأسرار التي يكشف الله معانيها لمن يشاء من عباده، ويجلّيها لهم في بعض أحوالهم. والصوفي الذي يطلب معرفة الله ومحبّته يجب عليه أن يفنى عن نفسه في محبّة الله ومعرفته، كذلك الموحّد يجب عليه أن يفنى عن نفسه في التوحيد الإلهي إذا أراد أن يصل إلى مقام التوحيد ويدركه إدراكا تامّا. وقد عُرّف التوحيد بأنّه: "تحقّق المريد بصفات الإلهية بفنائه عن صفات البشرية بحيث يكون آخر حاله ما كان عليه في أوّل حاله، ويكون كما كان قبل أن يكون"(43).

وإذا كان موضوع المعرفة هو الله، فلأنّ المعرفة الحقيقيّة لا تتعلّق إلاّ بالواحد الحق، ولا تطلب سوى معرفته بصفاته وأسمائه، والمعرفة من حيث اسمها نعت للعبد لا للمعبود، أو هي بالتعبير الفلسفي نعت للذات العارفة لا لموضوع المعرفة. ولمّا كانت المعرفة تتحقّق من خلال المجاهدات والترقي في المقامات، فمعنى ذلك أنّها ليست معرفة عقليّة تتمّ بالنّظر العقلي. والسبب في ذلك أنّ العقل لا يستطيع معرفة الله بصفاته وأسمائه؛ لأنّ الحقّ لا مثيل له ولا نظير، ومن ثمّ فلا طاقة للعقل على إدراكه؛ لانتفاء المماثلة بين المتناهي (العقل) واللامتناهي (الحق) بكل صفاته وكمالاته(44). ولذلك كانت معرفة الله تحصل بالكشف والعيان لا بالحجّة والبرهان؛ لأنّها معرفة مباشرة عن الله نفسه موضوع المعرفة وغايتها في آن، وهي لهذا لا توصف بأنّها عقليّة مادامت لم تأت عن طريق العقل أو الاستدلال المنطقي، ومن هنا كان التلازم بين الحق والفناء؛ إذ لا سبيل إلى معرفة الحق إلا بالفناء فيه، فكيف نشأت تجربة الفناء وما هي الأطوار التي مرّت بها؟

II- الفناء نشأته وتطوّره

1- الحبّ والفناء: 

ما من شكّ في أنّ رابعة العدوية المعبّرة عن تجربتها في الحبّ الإلهي هي التي مهدت السبيل للبسطامي كي يعيش تجربة الفناء في معناه الصوفي الدقيق. فالفناء هو الامتداد الطبيعي للحبّ الإلهي الذي كان امتدادا للتعلّق بالحقّ، بل لقد كان الفناء درجة من درجات الحبّ الإلهي أعلى ومرتبة أسمى، فيها يتلاشى المحبّ في المحبوب. ومن ثمّ كانت العلاقة بين الحبّ والفناء كعلاقة العامّ بالخاصّ، أو المنبع بالمصبّ أو المبدأ بالغاية. فكلّ حبّ يطلب غايته القصوى في الفناء. فكلُّ فَانٍ مُحِبٌّ بالضرورة. وما كلّ محبّ بالغا درجة الفناء في المحبوب. وإن كان الحبّ بطبعه نزّاعا إلى الفناء منجذبا إليه. فبين الحبّ والفناء متين تعلّق ووثيق تجاذب. فحين ينمو الحبّ ويمتدّ، وترتفع حرارته وتشتدّ، تتضاءل الاثنينيّة رويدا رويدا، إلى أن تصير أحديّة.

وقد اجتمع الرأي على أنّ أبا يزيد البسطامي (ت: 261هـ/874م) هو أوّل صاغٍ للفناء بالمعنى الصوفي ما يشبه النظريّة المحدّدة الملامح، الواضحة المعالم؛ وذلك بنحت مصطلح الفناء وصياغته صياغة نظريّة روحيّة جعلته متمكّنا في الاصطلاحيّة الصوفيَّة، من خلال تجربته الصوفيَّة(45).

وإذا كانت بعض المصادر القديمة قد ذكرت أنّ أبا سعيد الخرّاز (ت: 286هـ/899م) هو أوّل من خاض في الفناء، كما في كشف المحجوب للـهجويري (ت465هـ/1071م)، حيث قال عنه: "وكان أوّل من عبّر عن حال الفناء والبقاء وأضمر طريقته كلّها في هاتين العبارتين"(46)، أو في "اللّمع" للطوسي (ت: 378هـ/988م) حيث روى عنه قوله: "أوّل مقام لمن وجد علم التوحيد وتحقّق بذلك: فناء ذكر الأشياء عن قلبه وانفراده بالله -عزَّ وجلَّ-"(47)، فإنّه يشير إلى مرتبة دنيا من الفناء، هي فناء ذكر الأشياء في القلب، سعيا إلى انصباب الهمّ وانشغال الفكر واللسان بذكر الله، لا فناء للنفس في الله. 

ومهما يكن من أمر، فإنّ أقوال الخرّاز بمثابة المقدّمات والبدايات والإرهاصات الممهّدات لإرساء نظريّة في الفناء الصوفي. ففضلا عن أنّ الثابت تاريخيّا أنّ أبا يزيد قد تقدّم الخرّاز، فإنّه قد أسهب في الحديث عن معراجه الروحي الذي بلغ فيه أسمى درجات "الفناء"، ووصل فيه إلى أقصى مراحله.

ومن ثمّ وجب التسليم بأنّ استخدام "الفناء" في معناه الدقيق المتمكّن في الاصطلاحيّة الصوفيَّة السائدة في القرنين الثالث والرابع الهجريين/التاسع والعشر الميلاديين أي محو النفس الإنسانيّة وآثارها وصفاتها واضمحلال رسومها، إنّما كان الفضل فيه للبسطامي، فهو رائد هذا المذهب والسبّاق إلى الدعوة إليه(48).

2- الشطح والفناء: 

غير أنّ ما يجب التنبيه عليه أنّ نظريّة الفناء ليست في الأصل وليدة تفكير منطقي؛ وإنّما هي وليدة وَجْد صوفي، صلتها بالذوق أقوى من صلتها بالعقل، فليست سليلة الصحو، بل وليدة السكر، ولذلك ألفيناها بدءا في شطحات البسطامي المشهورة ومن ثمّ كان الشطح(49) هو باب الفناء الشارع؛ ذلك أنّ تجربة البسطامي الصوفيَّة مركّزة في شطحاته كما قال قنواتي Anawati وغارديه (Gardet)(50). 

فممّا شاع من شطحاته قوله: رفعني]أي الله[مرّة فأقامني بين يديه، وقال لي: يا أبا يزيد إنّ خلقي يحبّون أن يروك. فقلت: زيّنّي بوحدانيتك، وألبسني أنانيّتك، وارفعني إلى أحديّتك، حتى إذا رآني خَلْقُك، قالوا: رأيناك، فتكون أنت ذاك، ولا أكون أنا هنالك"(51). إنّها رغبة جامحة في التحوّل إلى "الأنا" الإلهي بفناء "الأنا" الخاصّ، وذلك بارتداء الأسماء الحسنى، والرغبة في أن يعرف بتلك الأسماء عند الخلق في الآن نفسه(52)؛ أي أنّه يلتمس من الله أن يخلع عليه ثوب الألوهيّة، ويطلق لسانه عن نفسه فيتحدّث بصيغة المتكلّم، ويفنى في الله نهائيّا، فتكون الإشارة إليه وإلى الله واحدة. فيفنى هو عن نفسه بالكليّة، ولا يكون ثمّة إلاّ الله. فإذا رأى الناس أبا يزيد قالوا: رأينا الله، وتلك هي اللحظة العليا في السكر الذي عاناه أبو يزيد؛ ذلك أنّ العبد إذا اقترب من الألوهية في ذروة سيره إلى الحقّ انتهى به الأمر إلى الفناء فيه، وهذا ما يؤكّد مرّة أخرى التلازم بين فكرة الحق وفكرة الفناء عند المتصوّفة، وأنّ لحظة الفناء في الحقّ هي عند السالك غاية المنى وسدرة المنتهى.

وإن في هذا الرجاء والدعاء لتعبيرا عمّا يحدث في حال السكر بين العبد والربّ. فهذا حوار بينهما يطلب فيه العبد من الرب أن يخلع عليه صفة الربوبية، ويبدو أن الرب قد استجاب لدعائه فصرخ تلك الصرخة القوية الرهيبة لما خلع عليه الحق رداء الربوبيّة: "سبحاني ما أعظم شأني"(53). وأيّ شأن أعظم من أن يتحقّق له الفناء في الحق؟ لقد كان هذا أقصى ما يسعى إليه، فما أعظم شأنه وقد بلغ الغاية وتحقّق بالنهاية(54).

إنّه يطلب الترقّي إلى نهاية أحوال المتحقّقين، حتّى يصل إلى الفناء، والفناء عن الفناء، وقيام الحقّ عن نفسه بالوحدانيّة. ومن أجل أن يضفي الطوسي على هذه الشطحة مشروعيّة سنّية سعى إلى وصلها وصلا وثيقا بالحديث القدسي الشهير، فقال: "وكلّ هذا مستخرج من قوله صلّى الله عليه وسلّم: مازال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت عينه التي يبصر بها، وسمعه الذي يسمع به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها"(55). ثمّ ينتهي الطوسي في تأويله لشطحة أبي يزيد وحملها على محامل مشروعة مقبولة إلى القول: "بلغني عن بعض الحكماء أنّه قال: لا يبلغ المتحابّان حقيقة المحبّة حتى يقول الواحد للآخر: يا أنا"(56). فالبسطامي هنا يصبو إلى التلاشي المطلق في الحقّ، حيث تتمحي بشريّته تماما، ويعود إلى أصله الإلهي ومنبعه الأزلي، فذلك قوله: ارفعني إلى أحَدِيَّتِك".

ويتّضح هذا المعنى نفسه في شطحة أخرى من شطحاته، وقد سئل: كيف أصبحت؟ فقال: لا صباح لي ولا مساء. إنّما الصباح والمساء لمن تأخذه الصفة وأنا لا صفة لي"(57). يريد بذلك أنّ أحكام الزمان والمكان تصدق على الجزئي المتعيّن الذي له صفات تميّزه عن غيره. أمّا الذي لا صفة له -أي الذي فَنِيَ عن صفاته الفرديّة وبقي بصفات الحقّ- فإنّه يتعدّى حدود الزمان والمكان، ولذلك يستوي عنده الصباح والمساء(58).

هكذا يكون الشطح جسرا للفناء؛ إذ يدرك العارف -في حضرة الألوهية- أنّه قد فني عن صفاته البشريّة، وتماهى في الألوهيّة فإذا هي هو، وإذا هو هي، فيتحوّل من مقام المخاطب وحاله وصفته، إلى مقام المتكلّم، فتنتفي التفرقة عندما يتبادل المحب والمحبوب الأدوار، وترغب النفس في التعبير بصيغة المتكلّم(59).

إنّ الشوق إلى الفناء هو الذي يجعل العارف يحسّ بأنّه شعلة متأججة من نار العطش إلى الفناء في الله، لا على معنى فناء الذات الخاصّة في الذات الإلهية، وأنّه ما ثَمّ إلاّ الله؛ وإنّما على معنى غلبة المشهود على المشاهد. إنّها منزلة التوحيد وهي "ألاّ يشهدك الحق إيّاك"(60). أي ألا يطلعك على وجودك، بل يطلعك على وجود واحد، ما عداه غير موجود، فتفنى أنت عن وجودك، وبالأحرى عن وجود كلّ موجود آخر سوى الله. وتخرج عن جميعك وفي هذا يقول أبو بكر الشبلي (ت: 384هـ/945م): "لا يتحقّق العبد بالتوحيد حتى يستوحش من سرّه وحْشَةً؛ لظهور الحقّ عليه"(61). هنالك لا يخطر بباله شيء آخر غير الحق "فالشواهد عن سرّه مصروفة، والأعواض عن قلبه مطرودة، فلا شاهد يشهده، ولا عوض يعبده، ولا سرّ يطالعه، ولا برّ يلاحظه، هو في حقه عن حقّه محجوب، وفي حظّه عن حظّه مسلوب، فلا نصيب له في نصيب، وهو مأسور في أوفر النصيب، والحقّ أوفر نصيب"(62)؛ ذلك أنّه حينما يتّصل الفاني بالباقي، لا يبقى للفاني وجود، فلا يسمع ولا يرى سوى الله، فإذا بلغ هذا المقام، فلا عجب أن يكون زمانه "الديمومة" ومكانه اللانهاية، وسماؤه "الهوية" وشجرة منتهاه الأحدية(63).

إنّ شرط الفناء تلاشي شخصية العارف وانعدام شعوره بوجوده، ومقتضاه زوال الحجب المادّية التي تفصله عن الله، فإذا زالت حجب هذا العالم الحسّي، ودنا من الله، ذهبت إنّيتّه وانتهى إلى الاستغراق في الوحدة الإلهية التي تبدو له في صورة ذات مقدّسة يهيم في جمالها ويتعشّق كمالها، ويفنى في وجودها، فإذا نطق لا ينطق إلاّ بحبّها، وإذا أبصر لا يبصر إلاّ جمالها، وإذا سمع لا يسمع إلاّ حديثها، وإذا تأمّل لا يتأمّل إلاّ فيوض أنوارها، إنّه فيها وبها، ومعها ولها، منها وإليها دائما(64).

ومن ثمّ كان الفناء هو المقام الذي تضمحلّ فيه أحوال السائرين، وتنعدم فيه مقامات السالكين حتى يفنى مَن لمْ يَكُنْ، ويبقى مَن لَمْ يَزَلْ، ومعنى هذا أنّ العبد يصل في الفناء إلى إنكار الذات أمام الخالق. ولذلك كان لا بدّ من رفض الوجود الذاتي واعتباره عدَمًا بجانب الوجود الحقّ. وهذا يعني إلغاء النفس وتلاشيها وفناءها في الحقّ، واعتبار الأغيار جميعا عدما بجانب وجوده، وغيبة بجانب حضوره(65). 

وإنّما يبلغ السالك هذه المرحلة من الفناء؛ لأنّه تعلّق بالله تعلّقا شديدا، صاحبه توجيه كلّ أجهزة الاستقبال البشريّة -سواء أكانت عقليّة مدركة أم حسّيّة مستشعرة- إلى اتّجاه الذات الإلهيّة، فلا يشعر المرء بنفسه ولا بشيء من لوازمها، فالفناء هو إماتة للنفس؛ بل إنّ إماتة النفس هي سبيل حصول الفناء في الدنيا، فلا يصل السالك إلى الفناء ومعه شيء من نفسه. فقد روى البسطامي عن ربّه أنّه قال له: "اترك نفسك وتعال"(66). وقد قيل له: بم نلت ما نلت؟ فقال: "انسلخت من نفسي كما تنسلخ الحيّة من جلدها ثمّ نظرت إلى نفسي فإذا أنا هو"(67).

إنّ مرحلة الفناء الكامل تعني وصول السالك إلى مرتبة شهود الحقّ بالحقّ، وقد حذّر القشيري من أن نتوهّم ذهاب النفس وذهاب الخلق فقال: "وإذا قيل: فَنِيَ الإنسان عن نفسه وعن الخلق أجمعين، غير حاسّ بنفسه وبالخلق، لكمال اشتغاله بما هو أرفع من ذلك"(68).

3- الحق والفناء في التصوّف الأكبري: 

- "الحق هو عين الوجود": 

شهدت فكرة الحق والفناء عند ابن عربي تطورا ميتافيزيقيا هائلا؛ لأنه سيقرؤها في ضوء عقيدته في وحدة الوجود؛ ذلك أنّ الأصل الذي يقوم عليه مذهبه أنّ الوجود واحد هو الله: "الوجود الذي هو أصل الأصول هو الله تعالى"، وقوله: "أقول: إنّ الحقّ هو عين الوجود"(69).

ولمّا كان الوجود هو الله كان وجود الموجودات أعلاها وأدناها أسماها وأخسّها محسوسها ومعقولها وموهومها هو الله، فجوهرها واحد. والله "من حيث الوجود عين الموجودات"(70).

لَيْسَ فِي الأَكْوَانِ شَيْءٌ  غَيْرُهُ فَهْوَ الوُجُودُ(71)]من مجزوء الرمل[. 

ولكن مثل هذه الأقوال توهم الناظر المتعجّل أنّ الموجودات هي الله، وأنّ الله هو الموجودات، وهذه الفكرة هي التي تقوم عليها وحدة الوجود الاندماجيّة، وما أبعدها عن فكر ابن عربي وروحانيّته، فالمقصود منها ومن أمثالها المتواترة في مؤلّفاته أن الوجود الذي قامت به جميع الموجودات هو الله(72)، "فالحقّ هو عين الوجود الذي استفادته الممكنات، فما ثمّ إلاّ وجود عين الحق لا غيره"(73).

- من تجليات الحقّ: 

إنّ الوجود عند ابن عربي ذات واحدة لها عدد لا يتناهى من النّسب والإضافات والعلامات، يكنّى عنها بالأسماء الإلهيّة، فإذا ظهرت تلك الأسماء في الصور الخارجيّة سمّيت باسم الموجودات، فالوحدة ترجع إلى الذّات في أحديّتها المطلقة، والكثرة -وهي ما يقع فيه الاختلاف بين الموجودات- ترجع إلى هذه النّسب والإضافات والعلاقات، وهي التي يصطلح عليها ابن عربي بالألوهيّة أو الألوهة، فالذّات المجرّدة عن الأسماء تقف بمعزل عن العالم، منزّهة عن أيّ معرفة، بعيدة عن أيّ إدراك؛ لامتناع المناسبة بينها وبين العالم والإنسان(74).

- العالم مجْلًى للحقِّ: 

العالم عند ابن عربي مجْلًى للجمال الإلهيّ المطلق؛ لأنّ كل الموجودات فيه على تنوعّها إنّما هي مجالٍ للصفات والأسماء الإلهية ومظاهر لها، يتحقّق بها ظهور الحقّ الذي أحبّ هذه المجالي الكونية كلّها باعتبارها تجلّيات للجمال الإلهيّ نفسه؛ لأنّ من أحبّ الجمال فقد أحبّ الجميل وما ثمّ جميل إلا الله على الحقيقة.

وعلى ذلك، فأيّما محبّ في هذا العالم ينبض قلبه بحبّ أيّ محبوب، فما أحبّه إلاّ من هذا الوجه، وهو لا يدري أنّه إنّما أحبّ الله على الحقيقة. "وكما أنّه لم يُعْبَد سواه، فإنّه ما عُبِد مَن عُبِد إلا بتخيّل الألوهيّة فيه. ولولاها ما عُبِد، يقول تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ﴾(75) وكذلك الحبّ ما أحبّ أحد غير خالقه؛ ولكن احتجب عنه بحبّ زينب وسعاد وهند وليلى والدنيا والدِّرْهَم والجاه، وكلّ محبوب في العالم. فأفنت الشعراء كلامها في الموجودات، وهم لا يعلمون. والعارفون لم يسمعوا شعرا ولا لغزا ولا مديحا ولا تغزلا إلاّ من خلف حجاب الصور، وسبب ذلك الغيرة الإلهية أن يُحَبّ سواه"(76). 

فما أحبّ المحبّون إلاّ الله، مهما تعدّدت صور المحبوبين، فما هم إلاّ من تجلّيات اسمه "الجميل". وفي ذلك آية على أن الحبّ الإلهي موصول بوحدة الوجود بدءا ومنتهى، ودليل على مدى حرص ابن عربي على أن يشرح حب الله للإنسان وحب الإنسان لله من خلال وحدة الوجود، فمذهبه في الحب الإلهي أحد مقوّماتها، ولازم من لوازمها، أو بعبارة هدى لطفي: إنّ مفهوم الحبّ عند ابن عربي عنصر أساس وجزء أصيل من فلسفته في وحدة الوجود(77).

ولمّا كان الجمال قرين الحبّ، اتصل بالوحدة الوجودية بِسَبَبٍ؛ ذلك أنّ الصور الكونية على اختلافها -والإنسانية على وجه الخصوص- مَجَالٍ ظهر الحق فيها من اسمه "الجميل". فالحقّ ظاهر في كلّ صورة كونية وإنسانية من هذا الاسم. ومهما تكثّرت هذه الصور، ومهما تعدّدت أسماؤها فهي عين المسمّى. فالله هو الجميل وهو المحبوب على الحقيقة، فما ثمّ إلاّ جمال الله المتجلّي في الموجودات. وعلى ذلك فإنّ تجلّي الله في "صفة الجمال هو المظهر الإلهي القابل للمعرفة الإنسانية"(78).

- المرأة مجْلًى للحقّ: 

يزعم ابن عربي أنّ الحب الإنساني هو عين الحب الإلهي، ولا يجد حرجا في اعتبار حب الرجل للمرأة عين حبه لله؛ "لأنّ المرأة في الأصل خلقت من الرجل من ضلعه القصير، فينزّلها من نفسه منزلة الصورة التي خلق الله الإنسان الكامل عليها، وهي صورة الحق، فجعلها الحقّ مجْلًى له"(79). وبذلك يرتبط حب الرجل للمرأة بنظريته في الإنسان الكامل المخلوق وحده على الصورة الإلهية. تلك المخلوقية هي التي جعلت حبّ الله له ممكنا، فبظهور الإنسان ظهر الله في العالم.

ولمّا كان الإنسان الكامل يصدق على الرجل والمرأة سواء؛ لأنّ "الذكورية والأنوثية إنّما هما عَرَضان ليستا من حقائق الإنسانية"(80)، كانت المرأة عين الصورة الإلهية، فهي مجْلًى لله أيضا.

ثمّ إنّها مخلوقة من الرجل "فإذا رأى في هذه المرأة نفسه اشتدّ حبه فيها وميله إليها؛ لأنّها صورته...فما رأى إلا الحقّ ولكن بشهوة حبّ والتذاذ"(81). فالحبّ الإنساني -حبّ الرجل للمرأة، بهذا الاعتبار- هو حبّ الله نفسه؛ لأنّ المرأة صورة للحق ومجْلًى له، فإذا أحبّ الرجل المرأة "ردّه حبّها إلى الله (...) فأحبّه الله برجعته إليه تعالى في حبّه إياها"(82). ففي المرأة يتحقّق حبّ الإنسان لربّه، وإن شئت فقل: إنّ لها وظيفة برزخيّة؛ فهي وسيط بينه وبين بارئه، فإذا أحبّها الرجل نقلته من حبّها إلى حبّ بارئها، وهو المعنى الذي تأوّله ابن عربي من الحديث المشهور: "من عرف نفسه عرف ربه"، فمن هذا الحديث فسر حبّ الرجل المرأة بكونها على صورته، فـ"حنينه إليها حنين الكل إلى جزئه"(83)؛ "لأنّ المرأة جزء من الرجل في أصل ظهور عينها، ومعرفته بنفسه مقدمة على معرفته بربّه؛ فإنّ معرفته بربّه نتيجة عن معرفته بنفسه"(84). 

هكذا يكون حبّ المرأة أو "الحبّ المدنّس" معبرا إلى حبّ الله أو "الحبّ المقدّس" بعبارة عبد الوهاب بوحديبة، فاكتشاف الله يتم عبر اكتشاف الذات، واكتشاف الذات يتمّ عبر اكتشاف المرأة(85). فلا عجب في نظر ابن عربي أن أحبّ النبي النساء؛ لأنّ المرأة جزء من الرجل، والأصل يحن إلى فرعه، والكلّ يحن إلى جزئه، وليس حبّ النبي النساء إلاّ مثالا جزئيا يوضح مبدأ عامّا يسير عليه الوجود بأسره، وهو الحب الإلهي الذي هو حنين الحقّ إلى الخلق. ولكن الفرع يحن إلى أصله أيضا، والجزء يشتاق إلى كلّه، ومن هنا جاء حنين الخلق إلى الحقّ وإن كان في الحقيقة حنين الحقّ إلى نفسه في صورة خلقه المتعيّن.

وإذا كان شوق الحقّ إلى الخلق علّة ظهور الوجود في صوره الخارجية، فإنّ شوق الخلق إلى الحقّ علّة عودة تلك الصور إلى الوجود الواحد العام(86). وبما أنّ حبّ النساء راجع إلى كونهنّ من مجالي الحقّ، فإنّ حبّ ابن عربي لهنّ حبّ روحانيّ نزيه، لا حب شهوانيّ رخيص. ومن ثمّ فلا تعارض بين الحبّ الإنساني والحبّ الإلهي، بل إنّ الحب الإنساني هو في الحقيقة عين الحب الإلهي، بما أنّ الوجود الحق واحد. فلا عجب في مذهب يقول بوحدة الوجود أن تكون المرأة -هذا المخلوق الأجمل- مجْلًى من مجالي الحقّ، ومظهرا من مظاهر جماله المطلق.

وبما أنّ الحقّ هو المحبوب على الإطلاق والمعبود على الإطلاق؛ لأنّ جوهر العبادة هو الحبّ، والجميل على الإطلاق ينعكس جماله على كلّ صفحة من صفحات الوجود، فإن "النِّظَام" بنت الشيخ مكين الدين بن رستم المقيم بمكة -وهي فتاة شابّة ذات جمال بديع، وروحانية فريدة- كانت رمزا للحضور الإلهي في التجلّي الكوني(87). فلم تكن في الحقيقة عنده إلاّ مجْلى من المجالي الإلهية، وصورة من صور الجمال التي هام بها، وأنشأ من أجلها ديوانه ترجمان الأشواق(88). لقد كان حبّه إياها وسيلة يترقّى منها إلى حبّ أعلى وأكمل وأتمّ، فينتقل من الجمال المقيّد إلى "الجمال المطلق والبهاء المحقّق"(89). 

- مراتب الفناء: 

لقد سبق أن ألمعنا إلى وثاقة العلاقة ومتانة التلازم بين الحقّ والفناء، ومن البدهي أن يكون ذلك كذلك؛ لأنّ الصوفي إذ يطلب الحق ويبتغي الوسائل للقرب منه إنّما يهفو إلى الفناء فيه، فالفناء في الحقّ هو الغاية والنهاية. ولعلّ الشيخ الأكبر من أكثر المتصوّفة الذين يتواتر هذا المفهوم عندهم مقرونا بالبقاء. وربما فضّلنا الوقوف عند مفهوم الفناء عنده في صلته بالحقّ؛ لأنّنا لاحظنا أنّه صاغ معانيه على نحو تأليفيّ جامع تحضر فيه مستوياته ومراتبه، فألفيْنا فيه استحصالا لطبقات الفهم التي تراكبت جيلا بعد جيل إلى أن استقرّت عنده. أمّا المنحى الذي اتخذه في عرض تلك المعاني فهو اعترافه بصلاحية تلك الطبقات من الفهم وهاتيك المستويات من الدلالة، واعتباره أنّ الفهم اللاحق لا يجُبُّ السابق ولا ينقضه، ولا يأتي عليه من القواعد. فالعلاقة بين طبقات الفهم ومستويات الدلالة علاقة تكامل لا علاقة تنابذ. فكلّ طبقة من طبقات الفهم لا تعدو أن تكون مستوى أرقى في المعراج الصوفي للسالك من التي قبلها. كما أنّ الطبقة الدنيا شرط إمكان بلوغ الطبقة العليا. ومن ثم تتضافر كلّها لتعبر عن التجربة الصوفيَّة مبدأ ومنتهى، منطلقا وطريقا وغاية.

هذا ما يفسر ترتيب ابن عربي للفناء سبع طبقات؛ "فأما الطبقة الأولى من الفناء فهي أن تفنى عن المخالفات، فلا تخطر ببالك عصمة وحفظا إلهيا"(90). فهذه المرحلة الأولى في الفناء متينة الصلة بالمظهر التعبّدي السلوكي الممهّد للتصوّف، فالاستقامة في السلوك والتنكيب عن المعاصي، والامتثال لأمر الله، والانتهاء عن نواهيه، والبعد عن مخالفته، شرط إمكان الترقّي في درجات القرب منه. ولا يمكن ذلك إلاّ بالوصول إلى درجة الكمال في الامتثال لأوامره، والاجتناب لمعاصيه. وهل في الكمال أبلغ من الفناء عن المخالفة لا في المستوى السلوكي في الأعيان فحسب، بل في المستوى القلبي في الأذهان أيضا، مع اليقين بأنّ الفضل في ذلك ليس إلى المجاهدة الشخصية؛ وإنّما إلى العصمة الإلهية والمنّة الربانية. فهذا الضرب الأوّل من الفناء يتجاوز انتهاء الجوارح عن المخالفة إلى انتهاء الضمير عن التفكير فيها، فلا يجري بها الفكر ولا تخطر بالبال، بل تفنى في الأعمال والأقوال والقلوب والضمائر. ولا شكّ في أنّ ابن عربي وإن اتّضح من عبارته أنّ مبدأ هذا الضرب من الفناء هو مجاهدة النفس وحملها على الطاعة وزجرها عن المعصية، فإنّ منتهاه -وهو الغياب المطلق للمخالفة عن الذهن- ليس بمقدور العبد تحقيقه؛ وإنّما هو فضل من الله يؤتيه من يشاء، وعون منه للعبد على الطاعة، وتقريب له من الجناب الإلهي. ولذلك قال: "فلا تخطر ببالك عصمة وحفظا إلهيا". فهذا المستوى من الفناء متين الصلة بالحقّ من حيث إنّه فضْل منه ومِنّة وتوفيق وعصمة.

إن هذا الضرب من الفناء هو معناه في أصل نشأته الأولى عند الزهّاد والمتصوّفة الأُوَل، حيث كان التركيز في البدء على حسن التعبّد وتزكية النفس وتطهيرها، بالإقبال على الطاعات، والإدبار عن المخالفات، والتسابق في الخيرات، والانزجار عن السيئات. فهذا الضرب الأول من الفناء تغلب عليه الصبغة الأخلاقية العامّة.

"وأمّا النوع الثاني من الفناء فهو الفناء عن أفعال العباد بقيام الله على ذلك"(91). بمعنى أن من بلغ هذا المستوى الأرقى من الفناء يرى "الفعل لله من خلف حُجُب الأكوان التي هي محلّ ظهور الأفعال فيها"(92). ومنطلق ابن عربي في هذا الفهم تأويله لقوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾(93)، فمبدأ هذا الضرب من الفناء ألاّ تنسب أفعال العباد إلى العباد، وإنّما تنسبها إلى قيّوميّة الحقّ عليها، بمعنى أنّ من بلغ هذه المرتبة من الفناء يرى أنّ الله هو الفاعل على الحقيقة، لا يرى فاعلا غيره.

إنّ هذا الفناء هو اختراق لحجب الأكوان إلى الفاعل فيها، فالأكوان ليست فاعلة بذاتها؛ وإنّما هي محلّ لظهور الأفعال فيها. فهذا الفناء تجاوزٌ للحُجُب والآثار إلى الفاعل من خلفها. فالفاني في هذا المستوى لا يرى لنفسه فعلا ولا أثرا في الفعل، وإنّما يرى الفعل لله ويشهده من الله لا منه. هنالك يتحقّق بفنائه عن أفعاله وقيام الله عليها.

"وأما النوع الثالث من الفناء، فهو الفناء عن صفات المخلوقين بقوله تعالى في الخبر المرويّ عن النبيّ: "كنت سمعه وبصره"، وكذا جميع صفاته والسمع والبصر وغير ذلك من أعيان الصفات التي للعبد أو الخلق قل كيف شئت، وعرف الحقّ أنّ نفسه هي عين صفاتهم لا صفته. فأنت من حيث صفاتك عين الحقّ لا صفته، ومن حيث ذاتك عينك الثابتة التي اتخذها الله مظهرا أظهر نفسه فيها لنفسه، فإنّه ما يراه منك إلاّ بصرك، وهو عين نظرك، فما رآه إلاّ نفسه، وأفناك بهذا عن رؤيته فناءَ حقيقةٍ شهوديّة معلومة محقّقة، لا يرجع بعد هذا الفناء حالا إلى حال يثبت أنّ لك صفة محقّقة ليست عين الحق"(94). 

فإذا كان المستوى الثاني من الفناء فناء عن أفعال العباد برؤية فاعلها ونسبتها إليه واختراق ظاهرها -الذي يخدع الأبصار ويغشي البصائر- إلى الفاعل فيها ومن خلالها على الحقيقة، فإن هذا المستوى الثالث درجة من الفناء أعلى من الثانية؛ من حيث إنّه فناء عن الصفات، فيه يشهد العارف أنّ الحقّ نفسه هو عين صفاته. فالحقّ هو السمع في المسموعات والبصر في المبصرات... 

ولا شك في أنّ هذه الدرجة من الفناء على غاية من الانسجام مع الوحدة الوجودية عند ابن عربي. فالله هو الحي وهو السميع وهو البصير، وحياته وسمعه وبصره ليست شيئا غيره، بل هو هي وهي هو. إنّ العبد حينما يتّصف بهذه الصفات لا يتّصف بها على الحقيقة؛ فإنّما هي مَجَالٍ ومظاهر للحقّ، وبذلك نفهم إلحاحه على اعتبار صفات العبد هي عين الحقّ لا صفة الحق.

"وأما النوع الرابع من الفناء فهو الفناء عن ذاتك"(95). وإذا كان هذا النوع من الفناء مذكورا عند السابقين فقد سبق أن تميّزت به تجربة البسطامي الصوفيَّة على وجه الخصوص، فإن ابن عربي وإن حافظ على عنوان هذا الفناء -أي الفناء عن الذات- فإنّه قد ضمّنه مدلولا يباين المحمول الذي اشتمل عليه في السابق، فقد ملأه بمحتوى معرفي نابع من نظريته الصوفيَّة، ويتجلّى ذلك من خلال شرحه لهذا النوع من الفناء؛ إذ انطلق من تركيب الذات من لطيف وكثيف، وأنّ لها أحوالا مختلفة، وأنّ لطافتها متنوعة الصور مع الآنات في كلّ حال، رغم ثبات الهيكل على صورة واحدة وإن اختلفت عليه الأعراض. فإذا فني السالك عن ذاته بمشهوده الذي هو شاهد الحق من الحق وغير الحق، ولم يغب في هذه الحال عن شهود ذاته في ذلك الشهود، لم يبلغ صاحبه هذا الفناء، أمّا إذا لم يشهد ذاته في هذا الشهود، وشاهد ما شاهد، فهو صاحب هذا النوع من الفناء(96). وفي هذا ما يدلّ على أنّ الفاني قد يتجاوز دائرة الأشياء حوله، فيرى الأشياء، ويرى معها عوالم أخرى تتجاوز نطاق الزمان والمكان معا، وهو ما يعني أنّ الفناء لا ينفصل عن المعرفة، وأنّ الشهود إنّما يتحقّق في الفناء.

"وأما النوع الخامس من الفناء فهو فناؤك عن كل العالم بشهودك الحقّ أو ذاتك"(97). وشرط إمكان هذا الفناء هو ألاّ يتحقّق الفاني من شهوده، هل شهد الحق أم شهد ذاته؟؛ لأنّه لو علم المشهود في شهوده من هو، لعلم أنّه شاهد ما شاهد بعين حقّ، والحقّ لا يفنى بمشاهدة نفسه ولا العالم، فلا يفنى في هذه الحال عن العالم؛ ولكنّه إذا لم يعلم من شهد منه، كان صاحب هذا الحال، وفني عن رؤية العالم بشهود الحقّ أو بشهود ذاته، كما فني عن ذاته بشهود الحقّ أو بشهود كون من الأكوان.

فهذا النوع من الفناء قريب من النوع الرابع، غير أنّ عدم التحقّق فيه دائر بين شهود الحقّ أو شهود الذات. أمّا السابق فدائر بين شهود الحقّ أو شهود كون من الأكوان. فهذا النوع من الفناء لا يفترق كثيرا عن النوع الرابع إلاّ في الدرجة؛ من حيث إنّ العبد في هذا النوع الأخير يفقد الشعور بإنيّته إلى حدّ كبير بالقياس إلى النوع الذي سبقه. وربما كان ابن عربي شاعرا بتداخل هذين النوعين، عندما لاحظ أنّ هذا النوع الخامس من الفناء "يقترب من النوع الرابع في الصورة، وإن كان يعطي من الفائدة مالا يعطيه النوع الرابع المتقدم"(98). 

وأما النوع السادس من الفناء فهو أن تفنى عن كلّ ما سوى الله بالله ولا بدّ. وتفنى في هذا الفناء عن رؤيتك، فلا تعلم أنّك في حال شهود حق؛ إذ لا عين مشهودة في هذا الحال(99). فهذا النوع أرقى درجة وأعلى مقاما من الدرجات السابقة؛ لأنّه فناء عن كل ما سوى الله بالله. فالشهود فيه مقصور على الله، بل إنّ ذات الفاني نفسها غير مشهودة في هذا الحال، فصاحبها يفنى عن ذاته وعن العالم، فلا يبقى له مشهود سوى الله، وبذلك يفني من لم يكن ويبقى من لم يزل. 

"وأمّا النوع السابع من الفناء فهو الفناء عن صفات الحقّ ونِسَبِها، وذلك لا يكون إلاّ بشهود ظهور العالم عن الحقّ لعين هذا الشخص لذات الحقّ ونفسه لا لأمر زائد يعقل. ولكن لا من كونه علّة كما يراه بعض النظار، ولا يرى الكون معلولا، وإنّما يراه حقّا ظاهرا في عين مَظْهَر بصورة استعداد ذلك المظهر في نفسه، فلا يرى للحقّ أثرا في الكون. فما يكون له دليل على ثبوت نسبة ولا صفة ولا نعت. فيفنيه هذا الشهود عن الأسماء والصفات والنعوت، بل إن حقّقه يرى أنّه محلّ التأثّر حيث أثّر فيه استعداد الأعيان الثابتة من أعيان الممكنات"(100). 

ولا يكون هذا إلا بأن يفنى العبد عن شهود الحق بصفاته، وإنّما يشهده من حيث وجوده المطلق فيفنيه هذا الشهود عن شهود الأسماء والصفات الإلهية التي هي مجالي الحقّ في العالم. فإذا به يشهد وجود الحقّ نفسه بوصفه الوجود المطلق لا من حيث صفاته وأسماؤه بوصفها مجاليه وآثاره في الكون. 

يبدو هذا النوع الأخير من الفناء غامضا بالقياس إلى ما سبقه، ثمّ إنّ ابن عربي لم يذكر من تحقّق به. ومن الواضح أنّ هذا النوع من الفناء هو منتهى مبلغ السالكين وغاية طلب العارفين. 

رغم تداخل هذه الأنواع المختلفة من الفناء بعضها في بعض من جهة، وغموض بعضها من جهة أخرى، فإنّها يمكن أن ترتدّ إلى ثلاث مراتب صارت مشهورة في الدوائر الصوفيَّة، وهي الفناء عن إرادة السِّوى، ثم الفناء عن شهود السِّوى، ثم الفناء عن وجـود السِّوى(101). والمهم أنّ الفناء عند الشيخ الأكبر إنّما المراد به التحقّق بأنّ ما ثمّ موجود على الحقيقة إلاّ الله. ذاك ما يسميه بالتوحيد الذاتي الذي هو توحيد المحقّقين أمثاله.

فالمحبّ الفاني يترقّى في مراتب الفناء إلى أن يتحقّق في النهاية بوحدة الوجود؛ ذلك أنّ تحقّق المحبّ بقربه من محبوبه الأسمى لا بدّ أن يفنيه عن أفعاله، ثمّ عن صفاته، ثمّ عن ذاته، فلا يبقى في الوجود إلا الله. ذلك هو في نظر ابن عربي معنى الآية ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾(102). فتمام الفناء وكماله لا يكونان إلاّ بالفناء عن وجود ما سوى الله، فلا يبقى إلا الله بوصفه الوجود الحقّ وحده.

 حقيقة الفناء: 

ومن المفيد الإشارة إلى ما نبّه عليه ليو شايا Léo Schaya من أن ابن عربي يؤكّد أنّ الفناء في تصوّره ليس يعني أن وجودنا ووجود الأشياء هو الذي يُمْحَى عند معرفتنا لهويّتنا الأزليّة مع الواحد، وإنّما يُمْحَى جهلنا بحقيقة ذواتنا. وذلك لا يعني فناء وجودنا ووجود الأشياء من حولنا. فهذا غلط؛ لأنّ المعرفة لا تقتضي فناء الوجود، ولا فناء هذا الفناء؛ لأن الأشياء لا تملك وجودها. فأن تقول: إنّ شيئا من الأشياء كفّ عن الوجود مرادف لقولنا: إنّه أوجد نفسه ومتّعها بالوجود. فإذا عرفت نفسك في جوهرها الإلهي؛ أي أدركت حقيقة ذاتك الخالصة؛ أي إذا استطعت أن تدرك بالمعرفة الإلهية أنّك لا توجد (باعتبارك شخصا أو "أنا") وأنك لا تضمحلّ (باعتبارك "هو")، عندها تكون قد عرفت الله، أما دون ذلك فلا(103).

والحقّ أنّ حال الفناء هذا هو حال يفنى فيه الصوفي عن شعوره بنفسه مؤقّتا؛ لأنّه مستغرق في تجربته الروحية يستشعر فيها أنّه مع الله، وعندئذ يغيب عن شهود ما سوى الله؛ ولكنّه يعود بعد ذلك من حال الفناء إلى حال البقاء، فيستشعر وجوده مرة أخرى ووجود العالم، فاستشعاره أنّه مع الله وغيبته عمّا سواه حالُ كمال وذوق وعرفان(104). 

هكذا تستبين لنا من خلال هذا العرض الذي سلكنا فيه مسلك التمثيل والتقريب -إذ لا مطمع في الإحاطة والاستقصاء- وثاقة العلاقة بين مفاهيم الحق والحب والمعرفة والفناء، إنّها مفاهيم متضافرة متعالقة متواشجة، بعضها يُسْلِم إلى بعض، وقد شُحنت بمحمولات معرفية وذوقية تنْأى بها عن مألوف المعاني اللغوية والاصطلاحية المتداولة لتتمحّض لدلالات صوفيَّة سعت إلى التعبير عن مَراقٍ عرفانية تقع في ذرى تجربة روحية، وذاك ما أهّلها لأن تتمكّن في الاصطلاحية الصوفيَّة الخالصة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1) عبد الكريم القشيري الرسالة القشيرية، تحقيق معروف زريق وعبد الحميد بلطجي، بيروت، دار الجيل، 1990، ص20. 

2) انظر كتابنا: إسلام المتصوفة، بيروت، دار الطليعة، 2007، ص29.

3) الرسالة القشيرية، ص280.

4) أبو العلا عفيفي، التصوّف الثورة الروحية، ط1، القاهرة، دار المعارف، 1963، ص129. 

5) قاسم غني، تاريخ التصوف في الإسلام، تعريب صادق نشأت، مراجعة: أحمد ناجي القيسي ومحمد مصطفى حلمي، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1970، ص433.

6) عنوان لكتاب شهير من كتب المحاسبي، نشر بالقاهرة، دار المعارف، 1990.

7) عفيفي، التصوّف: الثورة الروحية في الإسلام، ص23.

8) أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال، تحقيق: جميل صليبا وكامل عياد، بيروت، دار الأندلس، 1967، ص103.

9) إسلام المتصوفة، ص35.

10) J. Chevalier, Le soufisme, ou l’ivresse de Dieu dans la tradition de l’Islam, Paris, C.E.L.T, 1974, p241.

11) لمزيد من التعرف على رابعة ودورها في تاريخ التصوف الإسلامي يمكن الرجوع إلى: عبد الرحمن بدوي، شهيدة العشق الإلهي: رابعة العدويّة، القاهرة، مكتبة النهضة المصريّة، د.ت. وإلى:Art. Rābica al’ Adawiyya al-Kaysiyya, in: EI2, Tome VIII, pp. 367-369. (Margaret Smith [ch. Pellat]).

12) أبو العلا عفيفي، التصوّف الثورة الروحيّة في الإسلام، ص207.

13) راجع مقال: 121, 1968-1, p82. R. Caspar, « Rābica et le pure amour de Dieu », in: IBLA, n°

14) المائدة 5/ 59.

15) A. Schimmel, Le Soufisme ou les dimensions mystiques de l’Islam, Traduit de l’anglais et de l’allemand par: Albert Van Hoa, éd. Du Cerf, 1996, p61. 

16) إبراهيم بسيوني، نشأة التصوّف الإسلامي، القاهرة، دار المعارف، د.ت.ص179.

17) ممدوح الزوبي، معجم الصوفية، بيروت، دار الجيل، 2004، ص133.

18) المرجع نفسه والصفحة نفسها. 

19) الرسالة القشيريّة، ص321.

20) إذا شئت التوسّع في التعرّف على أقوال المتصوّفة في المحبّة فارجع إلى مقال: 

M. Valiuddin, “Love in its Essence: The sufi opproach”, in: Studies in Islam, vol. III, n° 1, January, 1966, pp 19-46. and pp. 81-110. 

21) ابن قيم الجوزية، مدارج السالكين، تحقيق: محمد حامد الفقي، بيروت، دار الكتاب العربي، 1972ج3، ص35.

22) إسلام المتصوفة، ص61.

23) عن تجربته في الحب الإلهي يمكن الرجوع إلى كتابنا: تجربة الحب الإلهي ووحدة الوجود بين محيي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي، تونس، منشورات كلية الآداب والفنون والإنسانيات- منوبة، 2009.

24) عن شعراء فارس من المتصوّفة انظر: 

M. Mokri, « La mystique musulmane », in: Encyclopédia des mystiques, Paris, 1977, Tome II, pp.489-505. 

25) شرح عفيف الدين التلمساني، تحقيق: عبد الحفيظ منصور، تونس، دار التركي للنشر، 1989.

26) Massignon, Al-Hallāj, Kitāb Al-Tawāsīn, Paris, Librairie Paul Geuthner, 1913, p 129.

27) أبو العلا عفيفي، التصوّف: الثورة الروحيّة في الإسلام، ص234.

28) كتاب الطواسين، نشرة ما سينيون، ص51. 

29) Massignon, La Passion de Husayn Ibn Mansūr Hallāj, Martyr mystique de l’Islam, Paris, éd. Gallimard, 1975, Tome III, p52. 

30) إبراهيم بسيوني، نشأة التصوّف الإسلامي، ص255.

31) طه عبد الباقي سرور، الحسين بن منصور الحلاج شهيد التصوّف الإسلامي، القاهرة، المكتبة العلمية، 1961 ص33.

32) آن ماري شيمل Annemarie Schimmel، "الحلاّج: شهيد العشق الإلهي"، مجلّة: فكر وفن، عدد13، 1969، ص19.

33) القصص، 28/30.

34) كتاب الطواسين، ص23.

35) Massignon, Hallàj, Kitab al Tawasin, p175.

36) أبو العلا عفيفي، التصوّف الثورة الروحيّة في الإسلام، ص235.

37) كتاب الطواسين، ص51-52.

38) أخبار الحلاج، ص53. وفيه اقتباس من: الأنبياء 21/18.

39) Roger Arnaldez, Hallāj ou la religion de la Croix, Paris, Librairie Plon, 1964, pp.98-99.

40) أخبار الحلاج، تحقيق: لويس ماسنيون وب كرواس، باريس، مطبعة القلم، مكتبة لاروز، 1936، ص99.

41) - ابن عربي، الأمر المحكم المربوط فيما يلزم أهل الطريق من الشروط، القاهرة، د.ت، ص2.

42) - أحمد محمود الجزار، الفناء والحبّ الإلهي، القاهرة مكتبة نهضة الشرق، 1991. ص135.

43) - الطوسي، اللمع في التصوّف، تحقيق: عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي سرور، القاهرة-بغداد، دار الكتب الحديثة ومكتبة المثنّى، 960، ص،29- 30.

44) - ابن عربي، كتاب التراجم، ضمن: رسائل ابن عربي، ضبط: محمد شهاب الدين العربي، ط1، بيروت، دار صادر، 1977، ص277، ورسالة "لا يعوّل عليه"، ص250.

45) محمد بن الطيب، وحدة الوجود في التصوف الإسلامي في ضوء وحدة التصوّف وتاريخيته، بيروت، دار الطليعة، 2008، ص31.

46) الهجويري، كشف المحجوب، دراسة وترجمة وتعليق: سعاد عبد الهادي قنديل، مراجعة أمين عبد الحميد البدوي، بيروت، دار النهضة العربيّة، 1980، ص480.

47) الطوسي، اللّمع، ص53.

48) راجع: نيكولسون، في التصوّف الإسلامي وتاريخه، تعريب أبي العلا عفيفي، القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1956، ص22-23. 

49) يعدّ كتاب اللمع للطوسي (تـ 378هـ/988م) أقدم مصدر صوفي اهتمّ بشطحات أبي يزيد حيث ورد فيه: "إن سأل سائل فقال: ما معنى الشطح؟ فيقال: معناه عبارة مستغربة في وصف وجد فاض بقوّته وهاج لشدّة غليانه وغلبته..." (ص 453). وللتوسّع في مسألة الشطح يمكن الرجوع إلى: Carl W. Ernest, Words of extasy in Sufism, New York, Albany State University of New York Press, 1985

50) G.C. Anawati et Louis Gardet, Mystique musulmane: Aspects et Tendances, Expériences et Techniques, Paris, Librairie Philosophique J. Vrin, 1961, p 38. 

51) الطوسي، اللمع، ص461.

52) Anawati et Gardet, Mystique Musulmane, p 111. 

53) Massignon, Recueil de Textes Inédits concernant l’histoire de la mystique en pays d’islam, Paris ,Librairie philosophique J. Vrin, 1954, p30. 

54) عبد الرحمن بدوي، شطحات الصوفية، الكويت، وكالة المطبوعات، 1976، ص37.

55) الطوسي، اللمع، ص463.

56) المصدر نفسه والصفحة نفسها.

57) السهلجي، النور من كلمات أبي طيفور، نشره بدوي ضمن كتابه: شطحات الصوفية، القاهرة، مكتبة النهضة المصريّة، 1949، ص70.

58) أبو العلا عفيفي، التصوّف الثورة الروحيّة في الإسلام، ص180.

59) Massignon, Essai sur les origines du lexique technique de la mystique musulmane, Paris, Librairie Philosophique J. Vrin, 1954, p279. 

60) الكلاباذي، التعرف لمذهب أهل التصوّف، بيروت، دار الكتب العلمية، 1993، ص153.

61) المصدر نفسه والصفحة نفسها.

62) المصدر نفسه، ص154. 

63) الطوسي، اللمع، ص464.

64) عثمان يحي، "نصوص تاريخيّة خاصّة بنظريّة التوحيد في التفكير الإسلامي"، ضمن: "الكتاب التذكاري، محي الدين بن عربي في الذكرى امئوية الثامنة لميلاده"، القاهرة، الهيئة المصريّة العامّة للتأليف والنشر، 1389هـ/1969م، ص235. 

65) عبد الباري محمد داود، الفناء عند صوفيّة المسلمين والعقائد الأخرى، ط1، القاهرة، الدار المصرية اللبنانية، 1997، ص151.

66) Massignon, Recueil de Textes Inédits concernant l’histoire de la mystique en Pays d’Islam, Paris, Librairie orientaliste, 1929, p 28. 

67) السهلجي، النور من كلمات أبي طيفور، ص77.

68) القشيري، الرسالة، ص68.

69) ابن عربي، الفتوحات المكية، بيروت، دار الفكر، 1994، ج3، ص565. 

70) فصوص الحكم، بيروت، 1980، ج1، ص76. 

71) الفتوحات، ج7، ص248. 

72) محمد بن الطيب، وحدة الوجود في التصوف الإسلامي، ص166.

73) الفتوحات، ج5، ص408. 

74) وحدة الوجود في التصوف الإسلامي، ص172. 

75) الإسراء 17/23.

76) الفتوحات، 3/594 (ط. دار الفكر). 

77) Huda Lutfi, “The Feminine element in Ibn cArabī’s mystical philosophy”, in: Alif (Cairo) n°5, Spring, 1985, p11. 

78) David Emmanuel Sirgh, “The possibility of hawing knowledge of Al-wujūd al- mahd “Sheer Being” according to Ibn cArabī’s Kitab al-Jalāl wa al-Jamāl”, in: Islam and Christian Muslim Relation, vol 10, n°3, 1999, p297. 

79) الفتوحات المكية، 8/305 (ط. دار الفكر).

80) ابن عربي، إنشاء الدوائر، تحقيق هـ. س. نيبرغ، ليدن-بريل، 1919، ص46.

81) المصدر نفسه والصفحة نفسها. 

82) المصدر نفسه والصفحة نفسها.

83) فصوص الحكم، 1/215.

84) المصدر نفسه، 1/214-215.

85) A. Bouhdiba, « Amour sacré et Amour profane chez Mohiddine Ibn Al cArabī », in: Actas Del IV colloquio Hispano- Tunecino (Palma de Mallorca, 1979, Madrid, Instituto Hispano–Arabe de Cultura, Madrid, 1983, p59. 

86) عفيفي، التعليقات على فصوص الحكم، 2/326.

87) Ibn cArabī, L’interprète des désirs, Traduction de Maurice Gloton Paris, éd. Albin Michel, 1996, Introduction, p13. 

88) وقد بيّنت كلود عدّاس Claude Addas أنّ ديوانه ترجمان الأشواق (بيروت، دار صادر 1966). وإن عُدّ أروع آثار ابن عربي الشعرية، فإنّه لا يمثّل سوى جزء يسير من إنتاجه الشعري الوفير الذي يتوزع على دواوين متعددة مشتّتة في عدد كبير من الأصول المخطوطة في المكتبات العامة والخاصة. وذكرت عدّاس أنّ ابن عربي حاول جمع إنتاجه الشعري في ديوان موحد سماه: ديوان المعارف؛ ولكنّنا لا نملك اليوم مخطوطه الكامل، انظر:Claude Addas, Ibn cArabī et le voyage sans retour, Paris, Seuil, 1996, p107.

وانظر أيضا للباحثة نفسها:« A propos du Dīwān al-Macārif d’Ibn cArabī », in: STUDIA ISLAMICA, n°81, 1995 pp.l87-195.

وعن "ترجمان الأشواق" انظر بالخصوص: 

Peter Bachman, « A propos de quelques poèmes du treizième siècle: Essai de rapprochement au Dīwān d’Ibn cArabī », in: Actas del XII Congresso de la U.E.A.I (Union Européenne d’Arabisant et d’Islamisants (Màlaga, 1984) Madrid 1986, pp.95-122. 

89) ابن عربي، الرسالة الإلهية، ضمن: تاج الرسائل ومنهاج الوسائل، نشر: محي الدين الكردي، مصر، مطبعة كردستان العلميّة، 1328هـ، ص560. 

90) الفتوحات، 4/260 (ط. دار الفكر). 

91) المصدر نفسه، 4/216 (ط. دار الفكر). 

92) المصدر نفسه والصفحة نفسها. 

93) الرعد: 13/33. 

94) الفتوحات، 4/262 (ط. دار الفكر). 

95) المصدر نفسه والصفحة نفسها. 

96) المصدر نفسه، 4/263 (ط. دار الفكر). 

97) المصدر نفسه والصفحة نفسها. 

98) المصدر نفسه والصفحة نفسها.

99) المصدر نفسه 4/263-264. 

100) المصدر نفسه، 4/264 (ط. دار الفكر). 

101) انظر تحليل هذه المراتب في: عبد الباري محمد داود، الفناء عند صوفية المسلمين والعقائد الأخرى، ص192-217.

102) القصص: 28/88.

103) Léo Schaya, La doctrine Soufique de l’unité, Paris, Librairie d’Amérique et d’Orient, Adrien-Maisonneuve, 1962, p30. 

104) أبو الوفا التنفتازاني، "حقائق عن التصوف"، مجلة الهلال، جوان، 1985 ص112 وممّا لاحظناه أثناء قراءتنا من سوء فهم "للفناء" ما أورده هنري سيرويا Henry Sérouya في كتابه: 

Le Mysticisme, Collection: Que sais-je? Paris, pU.F, 1956 p69

حيث ذهب إلى أن الصوفي المسلم مثله كمثل البوذي في النرفانا لا يبلغ حال الفناء إلا إذا غادر هذه الأرض، فالموت عنده هو الخير الأسمى؛ لأنّه يمكنه من العودة إلى الوجود الأكمل. وهذا كما ترى فهم سقيم وتخليط شنيع بين التصوف البوذي والتصوف الإسلامي، فالفناء كما بيّنا حالة شعورية ذوقية وجدانية مؤقّتة يمكن أن يبلغها الصوفي وهو على قيد الحياة، وليس حصولها مشروطا بالموت وفراق النفس للبدن، بدليل أن الفناء في التصوف الإسلامي قرين البقاء، لا ينفصل عنه. (انظر: سعاد الحكيم، المعجم الصوفي: الحكمة في حدود الكلمة، ط1، بيروت، دندرة للطباعة والنشر، 1981، مادة: البقاء، ص201-205.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/8/160

الأكثر مشاركة في الفيس بوك