التعايش والوسطية .. سبيل المواطنة الصالحة
التعايش في مدلوله العام يعني ان يعيش البعض مع البعض الآخر، وفي مفهومه الاصطلاحي المعاصر أن يكون هذا العيش المتبادل قائماً على المسالمة، وهو ما يؤكده الوصف الذي غالباً ما يستعمل مرتبطاً به حين ينعت بـ «السلمي». والمسالمة تُعد قيمة كبرى في الاسلام، نابعة من «السماحة» باعتبارها معلماً جامعاً يطبع مختلف جوانبه العقدية والتشريعية والسلوكية.
وقد بين الرسول الاعظم، صلى الله عليه وآله، هذا المعلم فجعله يلخص الدين كله حين قال: «بُعثت بالحنفية السمحة» ويُعزى هذا السماح الى عوامل متعددة تمثل حقيقة الاسلام من اهمها:
- أنه دين الفطرة، أي الدين يُساير طبيعة خلقه واستعداده لإدراكه والالتزام به، ويقول الله عز وجل: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}. (سورة الروم/30)
- انه دين الوسطية والاعتدال، بقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} (سورة البقرة/134)، والوسط هو الخير والافضل لأنه بين صفتين ذميمتين، كالتفريط والافراط، التحلل والغلو.
- انه دين اليسر، بقول الله سبحانه وتعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} (سورة البقرة /184)، ويقول النبي الكريم، صلى الله عليه وآله: «اياكم والغلو في الدين».
- انه دين يحثّ على السلوك الحميد الذي ينبغي ان يكون مهذباً ليناً يتوخى الفضائل والمكارم وحسن الاخلاق، وقد وصف الله ورسوله الكريم بقوله التأكيدي: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (سورة القلم /4)، ولا يدع بعد هذا ان يقول صلوات الله وسلامه عليه: «إنما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق».
* أفضل الصور للتعايش
ومن هذا الجانب السلوكي وما يتفرع عنه من أبعاد ترتبط بالإسلام في شموليته وكماله، ينبثق «التعايش» سمة مميزة تطبع المجتمع الذي يدعو الاسلام الى تحقيقه. و «التعايش» فيه بصفته دين» السماحة» الذي لا ضيق فيه ولا تعصب، ولا غلو ولا تطرف، ولا عنف ولا ارهاب، سواء مع الذات او مع الآخر، الذين نقصد بهم من يعيش في هذا المجتمع من مسلمين وغيرهم، وكذا الذين ينتمون الى مجتمعات اخرى مخالفة للمجتمع الاسلامي بكونهم اصحاب حقوق، وهي التي أصبحت اليوم تعرف بحقوق الانسان، تلك التي تمس جوانب كثيرة من حياة الافراد والجماعات، مدنية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، وتتمحور في جملتها حول الحرية من حيث ان هذه الحرية حق طبيعي وفطري لكل البشر، ومن حيث إن حياة هؤلاء البشر لا يمكن ان تتحقق بدون تسامح، اي بدون الحق في الاختلاف. (1)
ويمكننا استجلاء افضل صور التعايش الاسلامي الانساني، في نموذج مدينة النبي، صلى الله عليه وآله، المنورة عبر:
أ/ سكان المدينة، قبائل وعشائر و أديان.
فقد وجد النبي الكريم، صلى الله عليه وآله، عند دخوله يثرب مزيجاً انسانياً متنوعاً من حيث الدين والعقيدة، وحيث الانتماء القبلي والعشائري، ومن حيث نمط المعيشة، فالمهاجرون من قريش، والانصار مع جمع من الوثنيين من الاوس والخزرج، واليهود من قبائل يهودية مختلفة ومتنافسة، بنو قينقاع، وبنو النظير، وبنو قريظة، اما الاعراب فمنهم يساكنون ويجاورون اهل يثرب، هذا ناهيك عن الموالي والعبيد وحسب تعبير اليوم، انه مجتمع فسيفسائي في بعض البلدان الاسلامية في الوقت الحاضر.
فالسؤال: كيف تمكن النبي العظيم من خلق روح التعايش والتوافق والتآخي بين هذا المجتمع ذي الانتماءات والاتجاهات المختلفة؟
ب/ سكان المدينة، متعددو السكنى والاعمار والمتاجر.
ان مجتمع المدينة المنورة «يثرب» تتوزعه التجارة والصناعة والزراعة والرعي والصيد والاحتطاب، وكانوا يسكنون على هيئة قرى او آطام او حصون تحيط بها البساتين والاراضي المزروعة، فيدخلون حصونهم بعد حلول الظلام، ويحرسون منازلهم خوفاً من الغزاة والغارات.
ويبلغ عدد آطام (الحصون) أهالي المدينة المنورة حوالي (59) أطماً، ولكل عشيرة منهم زعامة تقوم على رعاية شؤونها وضمان عيشها وأمنها، ولم تندمل بعد جراحات الأوس والخزرج التي خلفتها بينهم الحروب ولا سيما حرب «بعاث» ويمكن وصف الحالة العامة في المدينة على أنها قائمة على تحكم النظام العشائري وأعراف القبائل السائدة، مع شيوع الجهل والأميّة لدى معظم سكان يثرب، بينما كان اهل الكتاب أهل علم ودين ولكنهم يمارسون الربا واستغلال التجار، ويعملون على إثارة النزاعات بين الأوس والخزرج ليتمكنوا من ضمان سيادتهم ومصالحهم وسلامتهم.
ان هذا المجتمع اليثربي والذي قاده رسول الله، صلى الله عليه وآله، كان متأرجحاً بين الدين الاسلامي ودين أهل الكتاب من جهة، وبين الوثنية والعشائرية من جهة اخرى، الا ان النبي العظيم، صلى الله عليه وآله، ألف بينهم ووضع لهم نظاماً يشملهم جميعاً عبر التعاهد (التعايش) والمعاهدة (المواطنة)، تم فيها مراعاة القواسم المشتركة فيما بينهم.
* التعايش وفق المنهج النبوي
نشير هنا الى بعض بنود التعاهد «التعايش» النبوي في المدينة المنورة.
1- نصرة الضعيف.
فالمؤمنون لا يتركون مغلوباً او فقيراً إلا ويعطونه بالمعروف، وكما يقول احد الحكماء: «الدنيا تصلح بالعدل ولا تصلح بالظلم» وكما قال، صلى الله عليه وآله: «فإنما تنصرون بضعفائكم». فالمجتمع الذي لا ينصر الضعيف هو مجتمع منحرف، واذا اخترق المجتمع قَوَي عليه اعداؤه، وما من أمة إلا وتريد ان تكون مُحصنة فما عليها إلا ان تسعى لنصرة الضعيف، والنبي، عليه الصلاة والسلام يبين أن أحد اسباب النصر ان تعطي الضعفاء حقهم.
2 - ألا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه (عدم الخيانة).
فإن الاساليب الملتوية والخداع، واظهار الحبُ واخفاء العداء والمكر ليست من أسس التعاهد والتعايش السلمي في المجتمع السليم.
3- المؤمنون جميعاً على من بغى عليهم.
وقد طبق الرسول الكريم هذه القاعدة الذهبية و أهدى المجتمع اليثربي العزّ والمتعة والكرامة، واليوم حيث نرى فتك اسرائيل بأرض المسلمين ودون ان يحرك المسلمون ساكناً دليل على عدم تعاهدهم للذود عن الآخر بوجه من بغى عليهم.
4- أهل الذمة لهم الأمن والآمان في بلاد الاسلام.
فذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالٍ لبعض دون الناس، فهذا المجتمع على تنوعه وتعدد شرائحه واطيافه وطوائفه هو مجتمع واحد وفق قاعدة التعاهد» والتعايش» التي ارسى قواعدها النبي الكريم.
5- المؤمنون المتقون على أحسن هدى وأقوم.
أي عندما يعيش المؤمن مع غير المؤمن في علاقات المواطنة فله ماله وعليه ما عليه، ومن هنا نستوحي جواز اقامة علاقات العمل مع غير المسلمين.
6- لا يحل لمقر الوثيقة «المعاهدة» إيواء محدث ونصره.
فلا يحل لمؤمن آمن بالله واليوم الآخر ان ينصر محدثاً ومتعدياً او يؤويه وإلا شمله غضب الرب يوم القيامة ووجوب امتناعه عن ذلك الفعل لما له من دور في ايذاء الانسان الآخر.
7- مرد الاختلاف والتنازع الى الله ورسوله.
إن التشريعات الارضية قد تكون هي مبعث المشاكل والازمات، أما التشريع السماوي لما له من توخي سعادة البشرية دون تمييز فيمكنه فض النزاعات لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ( سورة النساء/59)
8- لا يأثم امرؤ بحليفه.
فالحليف ليس سبباً لعقاب أحد، فأنا عندما أحالف جهة ما وتحت ضوء الشمس وجهاراً ونهاراً، فانا لا أحساب على ذلك.
9- نصرة المظلوم لا الظالم.
وإن النصر للمظلوم لا للظالم، وأن الجار كالنفس غير مضار وآثم، والجار يعامل المؤمن نفسه، لأنه ألصق الناس به، إلا ان يكون معتدياً او آثماً، وانه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده الى الله والى رسوله.
10- دفع المعتدي عن المدينة.
فالنصر على من دهم يثرب، وبالتعبير المعاصر «اتفاقية دفاع مشترك» لان الانسان هو الانسان في كل زمان ومكان، وكذلك اذا دعوا الى صلح فهم يصالحونه، وبذلك يزرع النبي الكريم في المجتمع روح المنعة والتكاتف والتحابب بين كافة أطيافه.
11- الظالم يعاقب.
فالآثم والخارق لبنود الوثيقة لا يمكن التساهل معه، بل يعاقب لانه اعتدى على قانون التعاهد والتعايش والمعاهدة والمواطنة.
12 ساكن المدينة آمن فيها وآمن عند الرجوع اليها.
من خرج منها فهو آمن، ومن قعد فيها فهو آمن ايضاً، وان خرج منها ورجع فله حق ذلك وهو آمن، وبهذا أرسى النبي الكريم حرية العيش والتعايش والسفر والعمل والعودة للمواطن مادام ملتزماً بحق التعايش، ليس معناها التنازل عن المبادئ بهدف استمالة جهة من الجهات، فان هذا مرفوض ويعد من المواطنة المنهي عنها.
كما يتمثل الاستماع للآخر والحوار معه والاعتراف بحقوقه والعمل معه من أهم العوامل التي تؤدي الى بناء النظام المكوّن للدول التي تتعدد فيها الاطياف، كذلك يتمظهر التعايش، الاستعداد لممارسة التسامح مع الآخر وقبول الآراء المضادة بشرط التجنب الصارم لأن يتدهور ذلك التسامح الى علاقات مهينة بين متسامح يعتقد انه الأعلى والأفضل، وآخر تفرض عليه المكانة الادنى ويُعد السبيل لتحقيق ذلك هو انتهاج لغة الحوار الموضوعي في نقاط الخلاف الفكري والعقائدي والعمل وليس لغة العنف والفرض والاكراه. (3)
------------------
1/ د. عباس الجراوي، التعايش في الاسلام، منشورات الايسيسكو/1996
2/ مفهوم التعايش السلمي من فقه السيرة النبوية/ د. محمد راتب النابلسي/ 2006
3/ مجلة النبأ/ نبيل الجابري/2005