الإسلام ومسألة الحرية في خياراتها المتعددة

عبد الله بن عليّ العليان

لم تحظ فكرة إنسانية بالاهتمام والتأصيل والانشغال -منذ فجر التاريخ وحتى اليوم- مثلما حظيت قضية الحرية، باعتبارها قيمة كبيرة في الفكر الإنساني، ارتبطت بحياة الإنسان ووجوده وكيانه ارتباطا وثيقا، فقد كافح الإنسان وناضل عبر التاريخ لاستعادة حريته وكرامته كإنسان من أسر العبودية والاستغلال والاسترقاق التي عانت منها شعوب كثيرة عرفها التاريخ الإنساني عبر قرون مديدة.

وعندما جاء الإسلام برسالته التوحيدية السماوية كانت دعوته ناصعة واضحة في مسألة الحق في الحرية الإنسانية ومنطلقاتها، وفي إعطاء الإنسان -كإنسان- الحق في الحرية والكرامة بما أرساه الإسلام من مفاهيم أوجبت هذا الحق لكل بني البشر دون تمييز أو إقصاء، ومنحهم حق الاختيار في الاعتقاد، ولم يكره أحدًا على اعتناق هذا الدين، وهذا ما تحقق في قوله تعالى: ﴿ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتَّى يكونوا مؤمنين﴾(يونس 10/99). كما كانت مقولة الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في حق الحرية ناصعة مدوية في قضية الحرية في الإسلام: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا)، فكانت هذه المضامين "الثمرة والترجمة المثالية والعملية للدين الذي ينشد تحرير الإنسان من كل ألوان القيود والعبودية لغير الله تعالى الخالق، والذي أقام الوجود الإنساني على أساس الكرامة الإنسانية، فقال الله تعالى: ﴿ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً﴾(الإسراء:17/70). وقال سبحانه: ﴿لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم﴾(التين:95/4). وهذا يدل على أن الحرية ليست مجرد حق، بل هي واجب متعيّن أوجبه الله تعالى لعباده في الأرض. وقد صف ابن تيمية رحمه الله الحرية؛ بأنها العبودية الخالصة لله تعالى، تجمع بين كمال الحب، مع كمال الذل لله(1).

حرية المعتقد:

وهذه القيمة العظيمة التي أرساها الإسلام للحرية أسهمت في تحرر الفرد عن طريقها من الخوف والذل والشعور بامتهان الكرامة، وأصبح الناس سواسية لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والجهد والعلم والدين.

كما جعل الإسلام الاعتقاد والإيمان خاصا بالإنسان فاختياره بحريته، دون إجبار أو قهر، فله أن يعتقد ما يشاء، ويؤمن عن بيّنة وإدراك واقتناع من ذاته، فمفهوم الحرية في الأساس "يدور حول معنى أساسي، وهو ممارسة الإنسان اختياراته ومراداته دون إكراه، والإسلام دين الفطرة يحمي في الإنسان حريته واختياره، وأكرم ما يشرف العقل من اختيار هو تبني عقيدة سليمة، وإن قصر عقل الإنسان عن ذلك فليس لأحد أن يجبره على تبديله أو تغييره يتبين ذلك من خلال ما يلي:

1- إن الواقع التاريخي يشهد أن الإسلام قد دافع عن حرية الاعتقاد، وقد كان حقاً غالياً ثميناً، كافح المسلمون من أجله في بداية الدعوة في مكة ثلاث عشرة سنة، يتحملون المشاق في سبيله حتَّى استقر لهم الأمر في النهاية، ولما حصل المسلمون على الاستقرار اعترفوا بهذا الحق كاملاً بالنسبة لأصحاب العقائد الأخرى، والتاريخ الإسلامي كله يخلو من أي حادثة فرض المسلمون فيها دينهم بالقوة والإكراه على الرعايا غير المسلمين أو اضطهادهم شعباً لينطقوا بكلمة أو حرف".

2- فرض الإسلام على الجماعات الدينية أن يحترم بعضها الآخر، ومنع أن تنتقص إحداها من قدر أئمة الآخرين وزعمائهم، أو أن تلحق بهم الإهانة والسباب وما إليها، وقد ورد ذلك في القرآن الكريم أمراً لازماً يعلمنا احترام معتقدات الآخرين وأئمتهم قال تعالى: ﴿ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله﴾ (الأنعام:6/108)، وفتح القرآن الكريم باب الجدال المهذب تطرح من خلاله الآراء والأفكار وتناقش على أسس عقلية واعية دون تحيز أو تعصب قال تعالى: ﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن﴾(العنكبوت:29/46).

3- كفل الإسلام حماية أصحاب العقائد الأخرى الذين يعيشون في الدولة الإسلامية والإحسان إليهم، قال تعالى: ﴿لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم﴾(الممتحنة:60/8).

وألزم كذلك المسلمين بحماية عقائدهم والدفاع عنها، فقد أمر المسلمين بالهجرة عند التضييق على معتقداتهم من قبل الأعداء، قال تعالى: ﴿إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا﴾ (النساء:4/97)(2).

وتبرز لنا في هذا البحث علاقة الردة والحرية ومسألة قتل المرتد كما ورد في بعض الأحاديث مثل حديث: «من بدل دينه فاقتلوه» (رواه البخاري)؛ لكن بعض العلماء يرون أن لا علاقة بين حرية المعتقد والارتداد عن دين الإسلام؛ فالارتداد -كما يراه بعض العلماء المسلمين القدماء وبعض المعاصرين-(3) هو خروج على النظام العام، وتهديد كيان الدولة بما يصل إلى الخيانة العظمى. فالردة يرى بعض المفكرين أنها "جريمة لا علاقة بها بحرية العقيدة التي أقرّها الإسلام، وأنها مسألة سياسية قصد بها حياطة المسلمين، وحياطة تنظيمات الدولة الإسلامية من نيل أعدائها، وأن ما صدر من النبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- في شأن الردّة إنما هو باعتبار ولايته السياسية على المسلمين، وبذلك تكون عقوبة المرتد تعزيراً لا حداً، وأنها جريمة سياسية تقابل في الأنظمة الأخرى بجريمة الخروج بالقوة على نظام الدولة ومحاولة زعزعته، وتعالج بما يناسب حجمها وخطرها من معالجات؛ إذ يختلف الأمر -كما لاحظ عبد الحميد متولي- بين ردّة نصراني قد أسلم من أجل الزواج بمسلمة، ثم رجع إلى دينه لما تصرمت العلاقة، وبين حالة أو ظاهرة وراءها تخطيط وتنظيم واستعداد للانقضاض المسلح لتغيير نظام الدولة... فرق بين آحاد من الناس تهتز عقائدهم بفعل ظروف طارئة أو تأثير غزو ثقافي، فيعالج الأمر بما يناسبه من توعية وتربية وتحصين، وبين تبشير منظّم ومخطّط لنسف الإسلام ودولته، وبالتالي، فرق في المعالجة ولا بد بحسب اختلاف الأحوال(4).

فلا علاقة بين حرية المعتقد والارتداد، فالارتداد وفق ما قاله بعض الفقهاء والمفكرين المعاصرين ليس مجرد شخص قام بتغيير عقيدته هكذا بل هو شخص خرج عن الإسلام عقيدة ومجتمعاً ودولة. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ دولة الإسلام في المدينة -زمن النبيّ وزمن الخلفاء الأربعة- كانت تخوض حرباً مستمرة مع المشركين العرب، ثم مع الروم والفرس، أدركنا أنّ المرتد زمن هذه الدولة هو في حكم الشخص الذي يخون وطنه ويتواطأ مع العدو زمن الحرب، بالتعبير المعاصر. وحروب الردة على عهد أبي بكر كانت ضد أناس لم يقتصروا فقط على خيانة دولة الإسلام التي انضموا إليها زمن النبيّ، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك؛ إذ نظموا أنفسهم للانقضاض عليها بعد عصيناهم لقوانينها؛ أي الامتناع عن دفع الزكاة.

فالمرتد بهذا المعنى هو من خرج على الدولة الإسلامية مُحارباً أو متآمراً أو جاسوساً للعدو... الخ(5). 

ولذلك يرى محمد عابد الجابري أن هذا الحكم الفقهي الذي وضعه الفقهاء المسلمون تجاه المرتد ليس "حكما ضد الاعتقاد؛ بل ضد خيانة الأمة والوطن والدولة، فضلاً عن الدين والتواطؤ مع العدو أو التحول إلى لصّ أو عدو محارب. ومن هنا نفهم كيف يربط الفقهاء بين حكم" المحارب" -وهو من يخرج على الدولة والمجتمع ويشهر السلاح ويقطع الطريق- وبين "المرتد"؛ ذلك أن "المرتد" في الخطاب الفقهي الإسلامي هو صنف من "المحاربين"، وحكمه يختلف من فقيه إلى آخر بحسب ما يكون محارباً بالفعل أم لا؛ فالمرتد المحارب يقتل باتفاق الفقهاء، أما قبل أن يحارب، فقد اختلفوا هل يستتاب أوَّلاً أم يقتل من دون استتابة؟ كما ميز الفقهاء بين المرتد إذا حارب وهو في دار الإسلام، وبين المرتد إذا لحق بدار الحرب (أرض العدو). كل ذلك يدل دلالة واضحة على أن فقهاء الإسلام كانوا يفكرون في " المرتد" لا من زاوية أنه شخص يمارس حرية الاعتقاد، بل من زاوية أنه شخص خان المجتمع الإسلامي وخرج ضده نوعاً من الخروج(6).

كما يرى الدكتور محمد سعيد البوطي في كتابه [الجهاد في الإسلام] أن علة الحرابة في وصف النبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- للمرتد كما ورد في الحديث (المفارق لدينه التارك للجماعة)؛ إذ المراد بالجماعة جماعة المسلمين، وهي ذات كينونة تتدخل في تماسكها وترسيخها عوامل متعددة منها عامل الدين, ومنها عامل الوحدة الوطنية المرتبطة بالأرض، ومنها العامل الحضاري المنبثق عن الحقوق الإنسانية العامة، فالمعلن بردَّته عن الإسلام داخل المجتمع الإسلامي خارج على جماعة المسلمين بكل مقوماتها الدينية والوطنية والسياسية، صرح بذلك أم لم يصرح(7).

حرية التعبير:

أعطى الفكر الإسلامي في مضامينه الكثيرة حرية التعبير مساحةً واسعةً، انطلقت من الرؤية الإسلامية العامة من أن حرية التعبير في الإسلام حق من الحقوق، وتعدّ واجبة لقول كلمة الحق فيما يصلح الأمة ويرفع شأنها، وفي الدفاع عن قضايا الوطن والمواطن بما يحقق المصلحة العامة. ولذلك فإن للإنسان الحرية في الإعلان عن الرأي الذي توّصل إليه بالنظر والبحث، وإشاعته بين الناس، والمنافحة عنه والإقناع به، ولعل ذلك هو الوجه الأهم في حرية الرأي، وهو المعني أكثر من غيره في الاستعمال الشائع؛ إذ ما قيمة رأي يبقى حبيس الخاطر، ولا يكون له في مجرى الحياة تأثير بأن يتبناه المجتمع ويعمل به؟ ومن ثم فإن الحرية فيه تعني أن يكون طريقه إلى الناس سالكا بانعدام كل المعيقات التي تعيق التعبير عنه من قبل صاحبه، أو سيرورته إلى الآخرين، أو وسائل دعمه والإقناع به. وإن وقع شيء من ذلك فهو يعد تقييدا لحرية الرأي(8).

وهذه القيمة العظيمة -حرية التعبير في الإسلام- تنطلق من مضامين شرعية واجتماعية في التعبير عما يجيش في النفس الإنسانية من آراء تستهدف مصلحة الأمة بعيداً عن الكبت والقهر والإرهاب، وإذا "كانت حرية التعبير في الرؤية الغربية حقا مباحا للإنسان، فهي في الإسلام واجب شرعي يحاسب عليه المكلف إذا قصّر عنه طبقا لفريضتي (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، فالمسلم مكلّف بإبداء الرأي الصحيح خدمة للصالح العام عبر وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية من غير كبت ولا قيود، وعلى هذا المبدأ سار الرسول الأكرم والخلفاء الراشدون من بعده، فكانت حرية الرأي في عهدهم جميعا مكفولة ومحاطة بسياج من القدسية، وقد عبرّ المسلمون في صدر الإسلام عن آرائهم ومواقفهم من دون غضاضة أمام الرسول المصطفى فبعد أن انتصر المسلمون في معركة حنين (8 هـ/630م) وحازوا غنائم عظيمة، وأخذ الرسول الأكرم بتقسيمها عليهم، جاء رجل من بني تميم، يقال له: ذو الخويصرة، فوقف عليه وهو يعطي الناس، فقال: يا محمد، قد رأيت ما صنعت هذا اليوم، فقال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: أجل، فكيف رأيت؟ فقال: لم أرك عدلت، فغضب النبيّ، ثم قال: ويحك! إذا لم يكن العدل عندي، فعند من يكون!(9).

ومن هنا فإن الإسلام أعلى من شأن حرية الرأي والتعبير في الحدود التي لا تتعدى حرية الآخرين أو المساس بهم دون وجه حق، ولم "يدخر الإسلام جهداً في إعطاء هذه الحرية جل عنايته واهتمامه باعتبارها الوسيلة المثلى لنشر الدعوة وإعلانها وإعلاء شأنها عن طريق تفهم جوانبها ومواجهة الناس بها، يقول تعالى: ﴿ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون﴾(آل عمران، آية 104)".

فحرية الرأي وسيلة للفكر لعرضها على الآخرين وإقناعهم بها؛ ليحمل كل وزره ما دام قد كشف الحق القائم على دليله. وهذه الحرية مكفولة للجميع مسلمين وأهل كتاب، ما دامت لا تحمل على الفوضى أو تشير إلى الفساد والإفساد(10).

ومن هذه المنطلقات الإيجابية حرص الإسلام أشد الحرص على حرية الفكر، وشدد على فتح الآفاق الفكرية بصورة رحبة في جوانب التعبير، والنظر والتفكير، والتداول والاستدلال، فانطلقت حضارته العظيمة في كل أرجاء الدنيا وفي شتى المعارف الإنسانية، في الوقت الذي تراجعت الأخرى، وانزوت على نفسها بأفكار التخلف والجهل والاستبداد. وحينما تتاح حرية الرأي في مستوى الإعلان والحجاج فإن العقل ينفتح على الرأي المخالف والمعطيات المضادة، وتتم في نطاق الحوار المقابلة بين الآراء فيسقط الضعيف ويصحّ القوي، وذلك أمر بيّن بالمشاهدة. أما الكبت والمنع من التعبير والمحاورة فلا يثمر إلا الانغلاق على الرأي الواحد، والتشبث به والتعصّب له، فلا يكون العقل ناظراً إلى الأمور إلا من زاوية واحدة فقد تخطئه الحقيقة أحياناً كثيرة، ولا غرو حينئذ أن ينمو التعصّب للآراء والتشبث الأعمى بها في كل مناخ تصادر فيه حرية التعبير، وأن تنمو المرونة العقلية، وتقبّل التصويب في كل مناخ تشيع فيه هذه الحرية. وما أروع التربية النبوية في هذا الخصوص، فقد انتهجت نهج الانفتاح على مضادات الآراء بما أتاحته من حرية القول والاحتجاج والنقد، وقد اتخذ النبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- شعاراً له «أشيروا عليّ أيها الناس»، وهو شعار تربوي يهدف إلى تربية المسلمين على الفكر النقدي المقارن بإتاحة الحرية الواسعة في القول والحجة، وإلا فإن الحق بائن لديه؛ إذ هو المؤيد بالوحي المعصوم من الخطأ.

حرية الحوار والمناظرة:

وكذلك الأمر بالنسبة لحرية الرأي في مستوى التعبير والمناظرة، فإن من شأن الإعلان عن الرأي والدعوة إليه أن يكشف بما يصير إليه من الحوار عن عناصر الذاتية فيه، تلك التي قد تكون لصيقة الطبع الإنساني فيغفل عنها العقل لذلك، أو تكون وليدة القصد لتحقيق المآرب، فالحوار قد يكشف كل ذلك، ويعيد الأنظار في بحث الموضوع إلى معطياته الحقيقية من واقعه الموضوعي. وإننا لنكتشف في كثير من الأحيان أن أحكاماً نصدرها في قضية ما هي في حقيقتها من صنع الذات؛ وإنما نسقطها على القضية إسقاطاً، وذلك حينما نطرح تلك الأحكام في ساحة الحوار(11). 

كانت النظرة الشاملة للإسلام هي إعطاء الناس الحرية في الاختيار والتفكير والتعبير؛ لتكون القابلية لدعوة الدين نابعة من قناعة ذاتية بعيدة عن التأثير والإلزام، وتلك النظرة الإيجابية للحرية هي التي جعلت القبول كبيرا وعظيما من أمم وحضارات كثيرة كانت تعدّ سباقة إلى التحضر والتمدن، وكان الاقتناع مذهلا لهذا الدين، والسبب في ذلك الحرية الفكرية التي منحها الإسلام لأتباعه، بل إن الأغرب أن أمة التتار التي اجتاحت ديار العالم الإسلامي في فترة من الفترات -وكانت أمما وثنية- دخلت في الإسلام طواعية مع انتصارها في هذا الاجتياح، وهو ما قلب النظريات الاجتماعية رأسا على عقب، مع أن فلسفات ومقولات صعود وهبوط الحضارات تؤكد على تأثر الشعوب بالهزائم فكريا وعقائديا، وحسب ما قاله العلامة ابن خلدون: "إن المغلوب مولع باقتداء الغالب"؛ لكن الإسلام خالف هذه الفلسفات والنظريات؛ لكون هذا الدين مؤيدا بالوحي، ومدافعا عن حق التعبير والتفكير. 

والقرآن الكريم من يقرأ آياته يجده كتاب حوار عملي في الدرجة الأولى مع البشرية جمعاء في كل زمان ومكان، يخاطب الناس جميعاً ليذكرهم بخالقهم ومربيهم، ورازقهم وحافظهم، والذي هو مصدر كل الملكات والطاقات التي يتمتعون بها في أنفسهم، مصدر كل الخيرات والنعم التي يحصدونها من الطبيعة التي تحيط بهم، ويذكرهم بربهم، ويدعوهم بأسلوب فريد إلى الإيمان به وتوحيده، والتوجه إليه بالشكر والطاعة والعبادة، دون قهر أو إكراه، بل بمطلق الحرية الشخصية والقناعة العقلية واليقين القلبي، والإرادة الخاصة التي لا سيطرة لأحد عليها، ولا حق لأحد بالتسلط عليها(12). 

وهذه حكمة إلهية اقتضتها مشيئته -سبحانه وتعالى- أن جعل الناس تتعدد في آرائها، وأفهامها، وتنوعها المعرفي والعقدي، وجعل الحوار وسيلة من وسائل التقارب والتعارف والتعاون بين أبناء الجنس البشري؛ لعمارة الكون والهداية والخلق والإيمان. من هنا فإن النظرة الثاقبة والفاحصة في الحوار القصصي في القرآن الكريم في أغلب آياته "تبيّن لنا أهمية الإنسان المحاور الذي ينبغي أن يعرف كيف يصل إلى عقل الإنسان الآخر بأقصر الطرق، وأفضل أسلوب وأقوى دليل، لقد كان الحوار أسلوب الأنبياء -عليهم السلام-، به استطاعوا النفاذ إلى قلوب الناس بالحكمة البالغة والموعظة الحسنة. وقد بيّنوا لنا سبل الحوار الهادئ والهادف الذي يلتزم العرض والإقناع مع الإيضاح والبيان بكل رفق وتلطف، فلم يكن حوارهم مع أقوامهم حوار الإكراه أو الإجبار أو حوار القسر والقهر، بل كان حواراً يحترم الفكر والشعور، ويستعمل ألين العبارات في الدعوة والبحث عن قاعدة اللقاء كيفما كانت: ﴿تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم﴾ (آل عمران: 64). 

لذلك كان الإسلام السباق إلى الحوار مع الآخر والانفتاح عليه وفي أجواء من الحرية، ولم يكن هذا الحوار طارئاً أو اضطرارياً أو "براجماتياً"؛ بل إن هذه المشروعية ثابتة بنصوص قرآنية، وأحاديث نبوية، وسلوك نهجه الصحابة والتابعون والعلماء بعد ذلك، باعتباره أمراً إلهياً، فقد مارس المسلمون الحوار فعلياً على مستويات مختلفة مع شتى الحضارات والديانات تختلف في فكرها وفلسفتها مع الرسالة السماوية؛ لكن المشروعية الإسلامية ضمت هذا الحوار، وعدّته فريضة ومنهاجاً، وبالتي هي أحسن، وأسهمت هذه الحوارات والمجادلات في خلق مناخ إيجابي ملائم لاستعراض الأفكار وطرح القضايا الخلافية، ومعالجة الإشكاليات بروح الحوار والجدل الحر، وأذاب هذا النهج الكثير من التحفظات التي ارتهنت في العقل المخالف في بداية الدعوة، وفتحت قلوبهم لهذا الدين وقيمه الجديدة، فكان الدخول فيه عظيماً من كل الديانات والطوائف والأجناس بعدما عرفوا هذا الدين وفهموا حقيقته، وأدركوا وحدانية الخالق -عزَّ وجلَّ-، وكان هذا بسبب دعوة هذا الدين وحواره مع المخالفين(13).

وكان الحوار والجدال في جو من الحرية هو السبيل إلى الحق والهداية، وهذا ما نصت عليه آيات في الكتاب المبين تدعو إلى البرهان فيما يطرح ويناقش ﴿قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين﴾(البقرة آية -111) وكانت دعوته -صلَّى الله عليه وسلَّم- في مواجهة مخالفيه: "خلوا بيني وبين الناس"؛ حتَّى يعرفوا الحقائق، ثم بعد ذلك يختارون ما يقتنعون به بعد الحوار والمناظرة الحرة النزيهة.

وهذه الأجواء الحرة من الحوار أصلها الإسلام، وشدد عليها في القرآن الكريم، وفي كثير من الأحاديث النبوية الشريفة، وعلى أسس ديمقراطية بمفهوم عصرنا الراهن، بغض النظر عن المصطلحات والمسميات من حيث التعدد في الآراء، والاختيار الحر النزيه للأشخاص الذين يتصدون للعمل العام، وكذلك القبول بنتائج الانتخابات الخ: حتَّى الشيخ أبو الأعلى المودودي -وهو أكثر العلماء المعاصرين انتقاداً لبعض النظريات الغربية بما فيها الديمقراطية- قال في كتابه (مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة): "كان الصحابة أكثر حباً للديمقراطية، وأشد الناس تمسكاً بالحرية الفكرية، ولم يكن الخلفاء يكتفون باحتمال نتائج الحرية الفكرية من قبل الناس، بل كانوا يستثيرون هممهم، ولم يدّع أحد من الصحابة أنه لا يخطئ، وأبو بكر هو القائل: "هذا رأيي فإن يكن صواباً فمن الله وإن يكن خطأ فمني واستغفر الله، وعمر هو القائل: "لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة"(14).

هذه هي المنطلقات التي ضمنها الإسلام واعترف بها للحرية الدينية والفكرية، ويستدل على ذلك من القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿لا إكراه في الدين﴾. وعن هذه الآية الكريمة يقول أحد العلماء: "إن حرية الاعتقاد هي أول حقوق الإنسان التي يثبت له بها وصف إنسان، فالذي يسلب إنساناً حرية الاعتقاد إنما يسلبه إنسانيته ابتداء".. وإلا فهي حرية بالاسم لا مدلول لها في واقع الحياة. والإسلام - وهو أرقى تصور للوجود والحياة، وأقوم منهج للمجتمع الإنساني بلا مراء - هو الذي ينادي بأن ﴿لا إكراه في الدين﴾، وهو الذي يبين لأصحابه قبل سواهم أنهم ممنوعون من إكراه الناس على هذا الدين؛ فكيف ببعض المذاهب والنظم الأرضية القاصرة، المتعسفة وهي تفرض فرضاً بسلطان الدولة، ولا يسمح لمن يخالفها بالحياة؟! والتعبير هنا يرد في صورة النفي المطلق:﴿لا إكراه في الدين﴾ نفي الجنس كما يقول النحويون، أي نفي جنس الإكراه، نفى كونه ابتداء فهو يستبعده من عالم الوجود والوقوع، وليس مجرد نهي عن مزاولته والنهي في صورة النفي -والنفي للجنس- أعمق إيقاعاً وآكد دلالة(15).

والواقع أن حرية الرأي والفكر من الضرورات الهامة للبحث المعرفي والفكري عموماً. والتي من شأنها أن تفتح الباب لآفاق النظر والابتكار والإبداع للعقل الإنساني الذي منحه الله -عزَّ وجلَّ- للبشر، منطلقاً لاستجلاء الحقائق ومعرفة الحق من الباطل باقتناع ومصداقية داخلية.

ومن هنا اهتم الإسلام بالعقل؛ لأنه نور للإنسان في استهداف الحق والركون إليه ومعرفة الخطأ والصواب قال تعالى: ﴿أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرا﴾(النساء الآية 82) ولذلك ارتبط العقل بالحرية في الفكر الإسلامي، فلا يمكن أن تتحقق النظرة الثاقبة للحرية دون الرؤية العقلانية العادلة، ونتيجة للحرية الفكرية والعلمية في الإسلام انفتح العقل المسلم على المعارف الإنسانية، وازدهرت الحضارة الإسلامية(16)، وانتشرت مضامين هذه الحضارية في كل أصقاع الأرض إبداعا وابتكارا، وهذا الإشعاع الحضاري يمكنه أن يعود كما كان في عهد ازدهاره، لو رجع المسلمون إلى المضامين الأولى لهذا الدين القويم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- حق الحرية في العالم، وهبة الزحيلي، دار الفكر المعاصر، دمشق ط2001، ص15.

2- حرية الاعتقاد في ظل الإسلام، تيسير خميس العمر، دار الفكر المعاصر، دمشق، ط1998، ص47،48.

3- من العلماء المتقدمين الذين عدوا جريمة الارتداد عقوبة تعزيرية موكولة لولي الأمر: السرخسي وابن القيم، ومن العلماء المعاصرين، الشيح محمد عبده، والشيخ عبد المتعال الصعيدي، وحسن الترابي، ومحمد سليم العوا... وغيرهم، كما عد بعض العلماء المعاصرين الارتداد حرابة وخروجا على الأمة والجماعة، منهم الشيخ يوسف القرضاوي، والدكتور محمد سعيد رمضان البوطي وغيرهم، مستندين في ذلك للحديث النبوي الشريف: (المفارق لدينه التارك للجماعة) رواه الشيخان من حديث عبدالله بن مسعود). 

4- الحريات العامة في الدولة الإسلامية، راشد الغنوشي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1 1993، بيروت ص50.

5- الديمقراطية وحقوق الإنسان، محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 1994، ص177،178.

6- المرجع السابق، ص178،179.

7- الجهاد في الإسلام كيف نفهمه؟ وكيف نمارسه؟، محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر المعاصر، دمشق ط1 2003 ص213.

8- حرية الرأي ودورها في الوحدة الفكرية بين المسلمين، عبد المجيد النجار، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، سلسلة قضايا الفكر الإسلامي، فرجينيا، الولايات المتحدة، ط1 1992، ص44.

9- مقومات النهوض الإسلامي بين الأصالة والتجديد، عامر الكفيشي، دار الهادي، بيروت، ط1 2006، ص389-388.

10- ضمانات الحرية بين واقعية الإسلام وفلسفة الديمقراطية، منيب محمد ربيع، مكتبة المعارف، الرياض ط1 1988، ص119،118.

11- في النهوض العماني الحديث، عبدالله بن علي العليان، مؤسسة عمان للصحافة والأنباء والنشر والإعلان، مسقط، ط1، 2001، ص28، انظر كذلك "دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين"، مرجع سابق ص62-61.

12- حوار الحضارات في القرن الحادي والعشرين: رؤية إسلامية للحوار، عبدالله بن علي العليان، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1 2004، ص19-20.

13- حوار الحضارات في القرن الحادي والعشرين، المرجع السابق، ص20 فالعلمانية في الغرب روّج لها بعض من أبناء جلدتنا وتفاخر بقيمتها الرفيعة في التعامل مع إنسانية الإنسان وحريته، ثم تابعنا القوانين المقيدة للحريات في بعض هذه الدول، مثل منع الحجاب لمجرد أن هذا الحجاب يمثل خصوصية دينية لدى المسلمين أو رمزاً من رموزهم الدينية، مع أن الحجاب ليس رمزاً كما يصرون على تسميته؛ لكنه فرض من الفرائض الواجبة على المرأة المسلمة، ولا اختلاف على ذلك بين علماء المسلمين. لكن المسألة هي أن العلمانية لم تعد تطيق الاختلاف أو تقبل بالتنوع مع الخصوصيات الثقافية والدينية الأخرى التي هي معايير للتمايز والتعدد بين الشعوب والحضارات الإنسانية وليس للاختلاف والتنافر، وهذا التنوع يفترض أن تقبل به الثقافة العلمانية والقيم الديمقراطية والتي لا يكفون عن الحديث عن قيمها مثل، الحرية والمساواة والحقوق الإنسانية العادلة.. آخرها ما حدث في سويسرا من التصويت على منع الأذان في المساجد!!، انظر كتابنا [الإسلام والغرب، ما بعد 11سبتمبر 2001، المركز الثقافي العربي، بيروت ط1 2003، ص193-194.

14- الديمقراطية لا تجافي الإسلام ولا تعارضه، عبد الله علي العليان، جريدة الحياة، لندن العدد [11810] بتاريخ 23 يونيو 1995، ص19، تعليق: [الحقيقة أنني لم أختر هذا العنوان؛ بل المحرر المسؤول عن صفحة [أفكار] بجريدة الحياة هو الذي اختار هذا العنوان، وقد كان المقال معنون بـ[حقيقة الديمقراطية بين الفهم والاتهام]. 

15- الفكر الإسلامي قراءات ومراجعات، زكي الميلاد، مؤسس الانتشار العربي، بيروت، ط1 1999، ص30.

16- (النجاح الباهر الذي حققته الحضارة الإسلامية في أوج ازدهارها، كان العامل الأول في هذه المكانة العالمية والانتشار العظيم لمنهجها العلمي والقيمي هو توازنها الدقيق بين معايير القيم ونوازع الابتكار والتفوق، وبين ما يتم أخذه من الآخر وما يتم تركه وإهماله، وقد عمدت إلى الوسطية والاعتدال والتوازن والحرية، ولذلك عمد الإسلام إلى إقامة مفهوم كامل للحضارة بطريقة متوازنة قوامه الحركة المادية والمعنوية، وفي الوقت نفسه الإحاطة بالقيم والأخلاق، واتسمت هذه الحضارة بالسماحة والإنسانية والعالمية، واستصفت كل ما كان في تراث الأمم والحضارات القديمة، فصهرت الجوانب الصالحة منه في بوتقتها، واحتفظت بخصوصيتها وتراثها الأصيل كسياج من المؤثرات غير الذاتية وهو ما جعلها حضارة عملاقة بشهادة حتَّى أشد المناوئين للإسلام)..انظر كتابنا (العمانيون وتحدي الجغرافيا) وزارة الإعلام، مسقط، مؤسسة عمان للصحافة الأنباء والنشر والإعلان، ط1 2006، ص136.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/9/193 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك