مارتن لوثر في عيون نيتشه وهاشم صالح

بقلم: ادريس شرود 

 

يرتبط اسم مارثن لوثر كما هو معروف بالإصلاح الديني الذي شكل الحدث الأبرز في أوربا خلال القرن السادس عشر إلى جانب حركة النهضة، لكن قد يختلف اثنان في تقييم هذا الحدث. تلك هي حالة الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه والكاتب السوري هاشم صالح. فلماذا نهض فيلسوف أوربي ضد مصلح ديني من بلده وحضارته؟ وما الأسباب التي جعلت باحثا من شرق المتوسط يجزي التحية لـ“شخص معقّد ومريض”(1) أصبح -حسب حكمه- أكبر شخصية في عصره، بل صار ضمير أوربا الحديث(2).
هاشم صالح وعبقرية مارتن لوثر

 خصص الكاتب هاشم صالح مجموعة من المقالات للمصلح الديني الألماني مارتن لوثر(3)، مبرزا فيها أهمية هذا الرجل و“عبقريته” باعتباره ضمير أوربا الحديث وزعيم الإصلاح الديني وصاحب “عقيدة تبرير الذات” أو“عقيدة التبرير عن طريق الإيمان”. اعتبر الكاتب هذه العقيدة كجواب على قلق تلك الفترة المرعبة من حياة البشرية الأوربية، ورأى في لوثر المسؤول عن شفاء عصره بعد أن نجح في شفاء نفسه، عن طريق اكتشاف دواء للمذنبين ممثل في الإيمان والمحبة والرحمة والغفران. سيربط هاشم صالح عبقرية لوثر بمرضه، وبتجربة الكشف التي حصلت له فجأة وأضاءت له الكون في إشراقة واحدة(4)، وأقام تشابها تاما بين لحظة لوثر في برج كنيسة ويتنبرغ ولحظة النبي محمد في غار حراء(5). لكن هاشم صالح سيعطي أهمية كبرى لمرض هذا المصلح العظيم في تفسير حركته وأثرها على الشعب الألماني وباقي الشعوب الأوربية. يؤكد الكاتب على أن تقاطع مرض لوثر مع مرض العصر الذي عاش فيه، كان له دور كبير في نجاح حركته الإصلاحية. إذ يرى أن فساد المسيحية وطبقة رجال الدين، والصدأ الذي لحق بالإيمان هو السبب المباشر والحقيقي الذي أدى إلى نجاح صرخات ودعوات لوثر إلى تصحيح الدين والعقيدة وتنظيفها من الشوائب التي لحقت بهما على مدار القرون. هكذا تقاطع رعب العصر أي فساده، مع رعب لوثر أي مرضه، ليتعانقا وينصهرا ويصبحا قضية واحدة تتطلب حلا أو علاجا، إذ سيكتشف لوثر فجأة – يؤكد هاشم صالح- صلة الوصل أو نقطة التقاطع بين أزمته الشخصية والأزمة العامة للأمة كلها. لقد كان من نتائج الرعبين، إحساس الشعوب الأوربية بالخطيئة والذنب نتيجة غضب الإله وحلول الكوارث والنكبات. سيستثمر لوثر هذا الإحساس - بعد أن فتح عليه الله في آخر لحظة يقول هاشم - لإيقاظ روح العصور الوسطى عبر تغيير طفيف للعلاقة التي تربط المسيحي بربه، فبعد أن كانت علاقة رعب وقصاص وعقاب، أصبحت مع لوثر علاقة ثقة ومحبة، وعفو وغفران. بهذا التحوير البسيط ناهض مارتن لوثر “اللاهوت المتعجرف” لاهوت القرون الوسطى، ليحل محله “اللاهوت المجدد” لاهوت الإصلاح اللوثري. أين إذن تجلت عبقرية مارتن لوثر حسب هاشم صالح؟ تمثلت في تأسيس الضمير الأوربي، أي تبكيت الضمير ومحاسبته، والذي اعتبره هاشم صالح كحجر الزاوية في بناء لوثر الروحي والفكري الشامخ. إضافة إلى اعتماد تأويل جديد يختلف عن التأويل الرسمي المرسخ من قبل الكنيسة وخدامها وذلك بهدف نفض الغبار عن الكتاب المقدس وتنظيف الدين من الشوائب والرواسب والتراكمات والانغلاقات التعصبية، ودعوته إلى الرجوع إلى الكتاب المقدس فيما وراء التراث الكنسي والشروحات وشروحات الشروحات المتراكمة التي تحول دون العودة

إلى المصدر الأصلي، أو المنبع الأول: أي الإنجيل ذاته كوحي إلهي. ماذا ترتب عن هذا العمل؟

أولا: النفاذ إلى جوهر الدين عبر التمييز بين الشريعة اليهودية والإنجيل.

ثانيا: تغيير الصورة القروسطية المشكَّلة عن الله (يرى هاشم صالح أن هذا العمل شكلا لاكتشاف الكبير للوثر).
ثالثا: التأسيس لمحاسبة الذات وتحميلها المسؤولية والواجب.

يظهر عمل مارتن لوثر ذا أهمية كبرى بالنسبة لعقل منفعل، لا يقوى لا على الإحساس بقيمة الفعل دون تلك الروح التي تنفخها المسيحية في أجساد ضعيفة ومهزومة ومضطهدة، ولا على عيش الحياة دون تأنيب الضمير وانتظار “خلاص الروح”. هكذا يصير العلاج الذي اقترحه مارتن لوثر، مجرد علاج أخلاقي لمصلح ديني، قام بجراحة بسيطة للروح بهدف تعطيل العقل وتشويه الإنسان وليس إصلاحه كما يؤكد نيتشه. أما إعادة تسليط الضوء على فكرة “الخطيئة” و“الذنب” والعقاب“ و”الإيمان“ و”الثواب“ و”المغفرة“ فلم يكن عملا جديدا كما يمكن أن يتبادر لكل ذهن فاقد للحس* التاريخي، إذ سبقه يوحنا بولس الذي أثنى على هذه”الفضائل“، وجعل منها مفاتيح لإنكار القيم الحقيقية، قيم الحياة، وتأكيد قيم الخضوع والارتكاس.

مواقف نيتشه من مارتن لوثر

 قد يكون من الإيجابي أن يظهر مارثن لوثر في لحظة كان فيها الشعب الألماني أكثر مسيحية من الشعوب الأوربية الأخرى، وفي لحظة بداية الفساد. لكن ما يثير كل عقل حر وخفيف، هو أن الثقافة الألمانية كانت على وشك ازدهار رائع ومتنوع(6)، إذ كانت مقبلة على التخلص من غرائز قطيعية ومن أخلاقية التقاليد تحت تأثير الإنجازات الفكرية والعلمية والفنية لعصر النهضة. لكن المحزن، هو أن لحظة بزوغ هذه النهضة كانت تشبه ربيعا أتى قبل الأوان فلم يلبث أن أحرقته الثلوج على حد تعبير نيتشه(7). ما هو إذن العمل الذي قام به هذا”العبقري“حسب نيتشه؟

أراد مارتن لوثر أن يعيد بناء ذلك الصرح الروماني -المسيحية- في شروط تاريخية جديدة، تميزت ببداية إحساس أوربا بالقوة والتفوق. تمثل ذلك في إشراقة عصر النهضة وما حمله من تجديد على صعيد الفكر والفن والعلم، وما حوته النهضة الإيطالية من قوى إيجابية تدين لها الحضارة المعاصرة بوجودها: تحرر الفكر، ازدراء السلطة، انتصار الثقافة على عجرفة الأصل، التحمس للعلم ولماضي الإنسانية العلمي، انعتاق الفرد، شعلة الصدق، النفور من الظاهر المحض والبحث عن الأثر(8). لم يتأثر لوثر بالمهم والجديد الذي زخرت به النهضة، بل سارع إلى تهيئة شروط الإصلاح عبر تقديم تفسيرات لمرض العصر اعتمادا على الوهم الديني وليس على العلم، مقترحا تمارين نفسية كعلاج لمرضاه من أجل تحصيل الطمأنينة والسعادة والخلاص، من أهم هذه التمارين:

- وضع الجسم في حالة مرضية عصيبة لإثارة الإحساس بالذنب والإعداد للتوبة والخلاص.

- المعاملة السيئة للجسد بغاية القضاء على غرائزه، واعتبار كل شيء إثم حتى فضائله.

- التحويل المنهجي لكل ملكات الجسد إلى قيم أخلاقية، أي تكييف الأخلاق للمرض نفسه، وتصوره كعقوبة مثلا، بل كشرط للخلاص.

- الانغماس في احتقار النفس وتصغير الذات عبر اتهامها بالخطيئة والذنب إيمانا بشعار لوثر الخالد: نحن مذنبون مهما حاولنا أو فعلنا، نحن مذنبون باستمرار .

-إطلاق العنان لغرائز الانتقام والحقد لتشفي غليلها بشكل شره.

- التسارع الشمولي إلى العبودية، بعد ترسيخ مارتن لوثر لمرضه، أي تجميد القيم وإصدار الأحكام.

- إثارة الشبهات حول كل ما هو جميل، وغني، وفخور، حول كل ما يلمع، وكل ما هو قوي، وحول الوعي بالذات، والمعرفة.

- التأكيد كل مرة على أن تحقيق”الخلاص“هنا وهناك، يتوقف على الرجوع إلى كتاب. لكل هذا، اعتبر نيتشه الإصلاح الألماني بزعامة لوثر، احتجاجا عنيفا من طرف ذوي العقول المتخلفة الذين لم ينالوا بغيتهم من الرؤية القروسطوية للعالم، والذين كانوا يشعرون بضيق كبير، عوض الابتهاج المرغوب، من جراء رؤيتهم علامات تفسخ الحياة الدينية والتسطح الغريب الذي آلت إليه(9)، وإيمانا بالمرض الذي تعلمه المسيحية وتنشره. هكذا بدل لوثر كل ما في وسعه للإبقاء على المسيحية ، للحفاظ عليها، عبر تصرفه بشكل مشؤوم، سطحي، بلا روية، بطيش، في كل المسائل الأساسية للقوة، كرجل من عامة الناس بالخصوص، ينقصه إرث طبقة مهيمنة، تنقصه غريزة القوة(10).

 يتضح إذن أن مارثن لوثر لم يكن”عبقريا“ ولا مصلحا، بل كان رجل دين مريضا وبسيطا، أتى ضد مجرى التاريخ، وضد طموحات القوى الحية التي زخرت بها حركة النهضة، لينشر مرضه بين الجميع. فقد كانت حركته الإصلاحية بالنسبة لكل المنهكين والمرضى عبارة عن معركة أخيرة خاضها مريدو الزهد المسيحي المثالي للانتقام من الإرادة والحياة. لكن يبدو واضحا لكل روح حرة، أن التصرف المشؤوم للوثر أصل مشروع الهدم الذي سيلحق إصلاحه خلال القرون الموالية؛ لقد شرع في نقض ما غزلته العنكبوت القديمة بعناء وصبر وفي تقطيعه بسخط معلن. لقد سلم الكتب المقدسة لكل واحد، وبهذا انتقلت هذه الكتب إلى أيدي فقهاء اللغة، أي إلى هادمي كل عقيدة مرتكزة على كتب(11). لا يمكنني الآن أن أستكين للتفسير الذي قدمه هاشم صالح بخصوص نجاح حركة مارتن لوثر الإصلاحية، بل أنتصر لتفسير نيتشه حين يقول :”لا يمكن أن نرى في لوثر ذلك “العبقري” بدون التشديد على تلك الحماية الذي قدمها أباطرة ألمانيا حتى يتم استخدام تجديده وسيلة ضغط على البابا، في الوقت الذي كان البابا يشجعه سريا حتى يجعل من الأمراء البروتستانت داخل الإمبراطورية موازنين للإمبراطور. ولولا هذا التواطؤ الغريب لكان لوثر أحرق مثل هوس، ولكان فجر فلسفة الأنوار قد أشرق مبكرا شيئا ما وببريق أجمل من الذي يمكننا تصوره اليوم(12).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

1-هاشم صالح: قلق لوثر، موقع مؤسسة مومنون بلا حدود، 29 أبريل 2014.

2-هاشم صالح:مارثن لوثر وتأسيس الضمير الحديث، موقع مؤسسة مومنون بلا حدود، 30 ماي 2014.
3-مقالات هاشم صالح على موقع مومنون بلا حدود للدراسات والابحاث حول لوثر:
-“كيف حصل الإنفراج الكبير؟ كيف انتصر لوثر على نفسه؟ جوهر الدين لا قشوره”.
-“مارتن لوثر: زعيم الإصلاح الديني في أوربا”.
-“مارتن لوثر وتأسيس الضمير الحديث”.
-“خريف العصور الوسطى: كيف عالج مارتن لوثر موض العصر”.
-“قلق لوثر”.
-“مارتن لوثر على ضوء التحليل النفسي”. -مارتن لوثر والعصور الوسطى المدلهمات، 28 يناير 2014.
4-هاشم صالح: مارثن موثر: زعيم الإصلاح الديني في أوربا، موقع مؤسسة مومنون بلا حدود للدراسات والأبحات، 23 أكتوبر 2013.
5- يتحدث هاشم صالح عن تجربة لوثر بهذه التعابير المثيرة حقا: جاءه الوحي، يؤدي مهمته والرسالة التي بعث من أجلها، شعوره  بنعمة الاختيار الرباني، انظر هاشم صالح: قلق لوثر، موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للأبحاث والدراسات، 29 أبريل 2014.
6-نيتشه-العلم المرح، ترجمة حسان بورقية ومحمد الناجي، إفريقيا الشرق، ص141.
7-نيتشه: إنسان مفرط في إنسانيته، ج1، ص31 وص32.
8-نيتشه: إنسان مفرط في إنسانيته، ص134.
9-نيتشه: إنسان مفرط في إنسانيته، ص135.
10-نيتشه : العلم المرح، ص225.
11-نيتشه: العلم المرح، ص225.
12- إنسان مفرط في إنسانيته، ص153.

المصدر: http://www.alawan.org/article14098.html

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك