في الإرهاب اللّغوي

د. احمد جواد العتابي

يقصد بالارهاب اللغوي، ما يفرض للغة من جور وحيف في بيئة معينة سواء كان الجور والحيف صادرين من ابنائها ومستعمليها ام ممن لم يكونوا ابناءها او مستعمليها.

والارهاب في اللغة، الاخافة جاء في اللسان ( وأرهَبَهُ ورهبَهُ واسترهَبَهُ أخافه وفزَّعَهُ). (1)

ـ جذورُهُ

في القرن الثاني عشر الميلادي، اصبح الباحثون الغربيون في موقع صلة مباشرة بالحضارة الاسلامية واللغة العربية.. وقد سافر الباحثون من كل اوربا طلبا للعلم الى الاندلس الاسلامية التي كانت تضم اكبر الجامعات شهرة ورصانة علمية، ولاسيما في جامعات قرطبة وغرناطة. وكان على الدارس الآتي من اوربا ان يتعلم اللغة العربية التي تحقق له مطلبين :

الاول : الاستفادة من الجهد العربي الاسلامي، ولا سيما في حقل الطب. اذا كان طلبة الطب في جامعة باريس مأخوذين ومعظمين انجازات الاطباء العرب حتى انهم اطلقوا على انفسهمArabizantes اذ كانت كتب ترجمات الطب العربية الى اللاتينية اهم مراجع الدراسة  ومصدرها.

والمطلب الثاني : ما قام به جماعة بترجمة ما كانوا يعتقدون انه كان رسالة دينية خاطئة مشوشة، وكان هدفهم في ذلك تفنيد حجج العرب المسلمين بل العمل على تحويلهم الى الدين المسيحي فكانوا يتعلمون اللغة العربية لتحقيق هدف ديني ستظهر ملامحه بوضوح في اثناء الحروب الصليبية. ولذلك ظهرت اول ترجمة للقرآن الكريم عام 1143 م، وكان الهدف منها فضح اخطاء الدين الاسلامي لغرض محاربة الاسلام فكراً وعقيدة.

وقد بقيت اسبانيا المكان الوحيد الذي يمكن الدارسين الغربيين من تعلم اللغة العربية واتقانها الى درجة تؤهلهم لفهم النص القرآني فضلا عن التراث اليوناني الذي قام بترجمته العلماء العرب الى اللغة العربية، ويرى الباحثون ان اسبانيا تعد المهد الاول لدراسة اللغة العربية اذ ظهر اول معجم مزدوج في اللغة العربية بعنوان :GIos-SariumIatino arabicum  في القرن الثاني عشر(2).

وفي القرن الثالث عشر ظهر معجم(3) Vo cabIsta  in  arabico الا ان نهاية حقبة غزو الملوك القشتاليين لاسبانيا غيرت كل ذلك، ومن  هنا بدأت جذور الارهاب اللغوي، فبعد سقوط غرناطة 1492 م اصبح وجود المسلمين في شبه الجزيرة الابيرية غير مرغوب فيه، وفي عام 1502 م اصبح على العرب المسلمين ان يختاروا بين ترك دينهم والتحول عنه او الهجرة. وقد تم هذا وذاك ولم يمض قرن حتى طردت البقية الباقية من العرب المسلمين الى شمال افريقيا، وفي هذه الحقبة ظهر معجم اسباني عربي عام 1505 م مشفوعا بدليل للمحادثة فيما بخص الاعتراف، والغرض منه مساعدة القساوسة الذين يتعاملون مع العرب المتحولين عن الاسلام، وكان ذلك اول تحليل للغة العربية على اساس اطار يوناني لاتيني(4). وبعد هذه الحقبة تحول الدارسون ممن الاهتمام بالعلوم المكتوبة باللغة العربية الى الاهتمام بالعلوم المكتوبة باللغة اليونانية، وقد ظهر شيء من الرفض لدى بعض الباحثين، يقول الطبيب الهولندي لورينتوس في كتابه الذي الفه للدفاع عن امير الطب ابن سينا امام الاطباء الالمان : ( ان دراسة العربية ضرورية لمن يريد تعلم الطب... الا انه يتفق مع معارضيه الذين يتغنون بكفاءة العلوم اليونانية اذ يرون ان اللغة العربية لغة فقيرة ومختلفة بالمقارنة باللغة اليونانية. لكنه يصر على ان نوعية اللغة ليست بالامر المهم في عملية نقل العلوم. اذ يرى ان العرب قد ترجموا كل الكتب اليونانية الاساسية في الطب والفيزياء واضافوا عليها شروحهم العلمية القيمة(5).

وبسبب هذه المواقف بدأ الناس ينظرون الى اللغة العربية على انها عدو للتراث اليوناني وليست حامية له، وفي هذه النظر كثيرة من الاساءة والتجني على اللغة العربية. اذ كان ذلك بسبب التعصب لليونانية، وبهذا التعصب بدأت بذور الارهاب اللغوي تنمو وتتعمق وتظهر على نحو اشكال مختلفة بحسب الزمان والمكان.

لقد اصبحت دراسة العربية غير ضرورية عند الباحثين الغربيين اذ بعد زوال الدافع العلمي لتعلمها ودراستها، اصبح الهدف الاساس لدراستها هو التبشير وحملاته.

ان هذا الذي سقناه يمثل جذور الارهاب اللغوي عند ( الاخر ). اما جذوره عند ابناء اللغة فقد كانت له مظاهر متنوعة، وكان القدماء لا يقصدون الارهاب وانما التطرف الشديد حملهم على ان يرهبوا اللغة من حيث لايدرون ولايعلمون، فاستعمال المصطلحات التي تحمل في طياتها التحذير من هذا اللفظ او ذلك بحجة عدم فصاحته اذا استعملوا مصطلح ( المولد) الذي فيه ما فيه من اشارة الى دونيته والترفع عنه.

اذ انهم اهملوا عامل الزمن في النظر الى اللغة، ففرضوا عليها بقصد او من غير قصد، عوامل الجمود. اذ رفضوا دراستها في بيئتها الجديدة ومراحلها الزمنية اللاحقة دراسة تتيح لها النمو والتطور(6). وقد ظهر ذلك واضحا في ما كانت تقوم به حركة التنقية او (التصويب اللغوي) اذ حصرت همها الاكبر في الجري وراء الاستعمال الجديد ومتابعته لبيان وجه الخطأ فيه. منكرة عليه الاعتراف بأنه انما صدر عن اصحاب اللغة بسبب ظروف الحياة الجديدة وما تفرضه الطبيعة المتطورة للغة ز ولو انهم نظروا الى هذا الجديد نظرة الدرس الموضوعي ثم متابعته لفتحوا المجال امام الاستعمال اللغوي للنمو والتطور والابداع والابتكار، ورصد ما يحتاج اليه الناس في حياتهم(7). فضلا عن انهم لو فعلوا ذلك لفتحوا الباب لدرس علمي مهم يتعلق بتأريخ العربية وهذا ما حرمت منه اللغة العربية عن سائر اللغات البشرية، لان دراسة تاريخ اي لغة يساعد في النهاية على احداث نوع من التعديل او التجديد في قواعدها وضوابطها، بحث تأتي هذه القواعد والضوابط ممثلة للواقع اللغوي في كل حقبة زمنية، وبهذا تصبح اللغة في جملتها قريبة المنال ليس في استعمالها صعوبة على المستويين العام الخاص(8).

كانت المعيارية هي النظرة التي صبغت منهجهم في رصد مادة اللغة وتحليلها وتقنيتها. وهذه النظرة تعني الوصول الى مجموعة من القوانين والضوابط المطردة ومن ثم فرض هذه القوانين والضوابط المطردة ومن ثم فرض القوانين والضوابط على اللغة ومستعمليها، اذ ان المعيارية تفرض نتائجها على اللغة ومستعمليها بقطع النظر عن الزمان والمكان، واللغة بطبيعتها لا تستجيب كليا لهذا المعيار الصارم، لانها تتأثر بالبيئة وتتفاعل معها فتتغير قليلا او كثيرا بحسب درجة هذا التأثر واحوال. فاضطروا بقصد او بغير قصد الى الاستعانة بالعلوم الاخرى كالفلسفة والمنطق، وهذا لا يعني انهم لم يأخذوا بمنهج الوصف(9).

ـ الارهاب اللغوي من الداخل

(( وظلمُ ذَوِي القُربَى أشدُّ مَضَاضةً         على المرءِ من وقع الحُسَام المهنَّدِ ))

ان الارهاب الذي تتعرض له اللغة العربية لا يأتي من الاخر الاجنبي، وانما يأتي ايضا من ابنائها واهليها ومستعمليها، يأتي من داخل البينة التي تعيش فيها اللغة مكانا وزمانا واستعمالا، انه يأتي من الافراد والمؤسسات والانظمة السياسية، وبذلك تتعدد مظاهره واحواله فتجده في التعليم وتجده في الاعلام وتجده في الاستعمال، ومثلما تعددت مظاهره كذلك تعدد دوافعه واسبابه فمرة تكون نفسية واجتماعية ومرة اقتصادية وسياسية.

ان البحث سيعرض لبيان مظاهره على وفق المجالات التي يشيع فيها، وبحسب اهميتها وخطرها وآثارها.

أولاً : مظاهره في حقل التعليم

تبرز مظاهر الارهاب اللغوي الذي وقع ويقع على اللغة العربية في حقل التعليم في تبني فكرة ان العربية لم تعد قادرة على استيعاب العلوم الحديثة وتمثلها، وانها لم تعد لغة الحياة العصرية الجديدة، فالعربية لغة ـ عند اصحاب هذه الفكرة ـ ادت ما عليها في حقب ازدهارها حيث كانت لغة علم وثقافة وسياسة.

ولغة دولة منتصرة وقوية، فضلا عن ان هناك مستوى من العربية هو الذي يفي بكل ما يحتاج الى الاتصال والتفاهم بعضنا مع بعض.

 فالطفل يولد ثم يتلقى لغته من امه ومن اسرته وهي لغة التعامل والاتصال والتفاهم، وهذه اللغة سهلة وميسورة وبسبب سهولتها شاعت وانتشرت في البيت والشارع والمدرسة. اما ما يتعلمه الطفل حين يبلغ السادسة من عمره من لغة فصيحة، فهو يتعلمها بالعامية التي تلقها من امه، ويتعلم هذه الفصيحة على انها معلومات لا معرفة نظامية تفضي بالمتعلم الى استدخال برنامج لغوي يعمل بدينامية خلاقة(10).

وقد تزايد استعمال العامية في التدريس والتعليم في مدارسنا وجامعاتنا ولم نعد نرى في مدارسنا ذلك المدرس الذي يتحدث لتلاميذه عن لغتهم العربية بالعربية الفصيحة، وكذلك مدرسو سائر المواد الدراسية الاخرى. ويمكن ابراز اهم مظاهر الارهاب اللغوي في التعلم بما يأتي:

1 ـ تشير دراسة للمنظمة العربية للتربية والثقافة لوم في النصف الثاني من التسعينيات، مطبقة على (15) خمسة عشر بلدا عربيا، تنحصر الدر في استعمال لغة التعليم في هذه البلدان وقد شمل المراحل الدراسية كافة، واقتصر على المدارس الخاصة والمدارس التجريبية.

والجدول الآتي يوضح نسب الارهاب الواقع على اللغة العربية(11).

وحدة التعليم الأساسي

وحدة التعليم الثانوي

وحدة التعليم العالي

 

الابتدائية والإعدادية

المدارس الخاصة والتجريبية تعلم المواد:

العلمية والاجتماعية باللغة الأجنبية

 

عدد الأقطار:2 اثنان

 

مدارس رسمية

مدارس خاصة

مدارس تجريبية

تعلم المواد الدراسية باللغة الاجنبية

 

عدد الاقطار: 3 ثلاثة

العلوم الاساسية عدد الاقطار

التعليم باللغة الاجنبية

كلياً6

جزئياً5

 

العلوم الطبيعية

كلياً7

جزئياً3

 

العلوم الاجتماعية والإنسانية

كلياً ـ

جزئياً7

 

 

وهذا الجدول وضع قبل ما يقارب عقد من السنين. ولو اجريت هذه الدراسة الآن لحصلنا على نتائج تشير الى زيادة التعليم والتعلم باللغة الاجنبية وانحسار التعليم اللغة العربية، فهذا مظهر من مظاهر الارهاب اللغوي.

ان البحوث والدراسات والتجارب اثبتت جميعها ان تحصيل المعرفة العلمية الصحيحة واستنباتها في النشء، انما يكون باللغة القومية فضلا عن ان العامل النفسي الذي يصيب المتعلمين يؤدي الى التشكيك بجدوى لغتهم القومية ز اذ تبين من خلال التجربة ان الكفاية اللغوية في الانكليزية لدى الاطفال في المدارس الخاصة التي تنحو هذا المنحى تجور على كفايتهم في لغتهم وتضعفها وتحد من فاعليتها وتهددها بالانحسار.

2ـ وتشير الدراسات والبحوث والندوات والمؤتمرات الى ان اللغتين الانكليزية والفرنسية اصبحتا لغة ثانية مستقرة في مناهج الدراسة، ابتداء من رياض الاطفال (الخاصة) وفي بعض البلدان  العربية، ابتداء من الصف الاول الابتدائي(12).

ان ثنائية اللغة تعد المرحلة الاولى لزوال اللغة القومية، اذ هناك حالات كثيرة في التأريخ تتعلق شعوب فقدت جزئيا او على نحو كامل لمصلحة لغة اخرى(13).

3 ـ توجه غالبية البلدان العربية نحو اللغات الاجنبية في التعليم العالي على الرغم من التوصيات التي اقرها وزراء الصحة والتعليم العالي في الثمانينيات ان يكون عام 2000 م عام الانتهاء من التعريب في الجامعات.

ومما يحز في النفس ويوجع القلب ان مدير الصحة العالمية ابدى استغرابه من تدريس الطب في الجامعات العربية باللغات الاجنبية، ويرى ان ذلك ليس له مبرر ويتعارض مع قرارات المنطقة الداعية الى ان يكون تعليم الطب باللغة الأم(14).

ومن اشد مظاهر الارهاب اللغوي ان هناك جامعات ومعاهد عربي لا تنص قوانينها على تدريس المقررات الدراسية العلمية باللغة الاجنبية فحسب، وانما تنص على ان تكون اللغة الاجنبية لغة الاجتماعات والمخاطبات والبيانات والقرارات، واللقاءات والندوات، اذ يلتقي المسؤولون بالاساتذة والموظفين وكلهم عرب يتراطنون بهذه اللغة الاجنبية مع استخفاف واضح بلغتهم الام. يذكر الدكتور احمد المعتوق انه منذ التحقت للتدريس في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن عام 1976 م حتى تأليف هذا الكتاب (2005)، وهذا الوضع هو المعمول به.

ويضيف الدكتور المعتوق ان عمادة البحث العلمي ولجان البحوث ترفض التخاطب باللغة العربية وتشترط الا يقدم شيء اليها الا بالانكليزية حتى لو كان الموضوع يتعلق باللغة نفسها. ويؤكد الدكتور معتوق ان لديه من النصوص ما يثبت ذلك وهي كلها مكتوبة باللغة الانكليزية(15).

ان الخطورة على اللغة على اللغة تكمن في ان يؤدي الاكثار من استعمال الالفاظ والتراكيب الاجنبية الى زعزعة النظام النحوي والصرفي للغة العربية وتشويهه واحلال الاجنبي محله.

ويضرب الدكتور المعتوق مثالا لمحاضرة مسجلة لاستاذ في احدى الجامعات التي تفضل التدريس باللغة الانكليزية.

المحاضرة في مادة الكيمياء : يقول الاستاذ نوع أل Structure يعتمد على أل two  eIements ReIative sizes of the لو أل sodium  atom كانت atom ثانية مثلا ممكن تدخل وسط ها ذول ولكن أل structure يتغير. ( انتهى )

ان الارهاب الذي يقع على العربية هنا يتأتى من هذا الاخلال بالنظام النحوي وهذا النوع من التهجين اذ يتغلغل في لغة الطلبة المنطوقة والمكتوبة ويظل معهم طوال حياتهم الدراسية حتى يصبحوا اساتذة ومسؤولين، وهكذا تستمر عملية الهدم اللغوي، عن قصد او غير قصد(16).

4 ـ ازدياد ظاهرة الجامعات والمعاهد والمدارس الاجنبية التي تقام على الارض العربية في البلدان العربية وما يدور في فلكها في معاهد اللغات، اذ اخذ ابناء العربية ينظرون الى الانتماء اليها نظرة فوقية فيها مباهاة وترفع عن لغتهم القومية واخذوا يفضلونها على الجامعات والمعاهد والمدارس الوطنية  فتقلدوا بتقاليدها وبهرتهم اجواؤها فتأرجحت شخصياتهم بين هذا وذاك وفقدوا كثيرا من مقومات هوياتهم وفي مقدمتها اللغة اذ ان المواد العلمية والمعارف والخبرات تقدم في هذه الجامعات والمعاهد والمدارس باللغة الاجنبية، اذ ان هذا سيؤدي في النهاية الى عزل هؤلاء الطلبة عن اقرانهم وانسلاخهم عن مجتمعهم تقاليد وعادات وثقافة فيكونون بمرور الوقت طبقة ثقافية واجتماعية لها خصوصيتها الثقافية التي تتمثل باللغة التي تحولوا اليها.

ان ما يقع على اللغة العربية امام مرأى ابنائها ومسمعهم على اختلاف مستوياتهم وامام مرأى ومسمع من الانظمة السياسية والقائمين عليها يعد ارهابا منظما اذا ما قورن بالشعوب والمجتمعات الاخرى التي تحافظ على لغاتها القومية وتدافع عن جوهرها واصالتها، ففي فيتنام البلد المتواضع الامكانيات والذي خاض حربا امتدت سنوات مع امريكا، وقبلها مع فرنسا، في هذا البلد لا تستعمل اي لغة في تدريس العلوم الا اللغة القومية الفيتنامية على الرغم من ان اللغة الفرنسية دامت اكثر من ثمانين سنة فيها. وهذا مدرس الرياضيات في فرنسا يحاسب طلبته على اخطائهم اللغوية بالحرص نفسه الذي يحاسبهم به على اخطائهم في الرياضيات.

والشيء المخزي حقا ان الدساتير في الدول العربية تنص على اعتماد العربية الفصيحة لكنها تفسح مع جانب المجال لنشر اللسان الاجنبي ومن جانب اخر تترك للهجات العامية الحرية من دون تقييد او تضييق. وفي حين نجد المجتمعات التي تحترم لغاتها وتحافظ عليها ترفض اتخاذ العامية لغة للخطاب الرسمي ففي اسبانيا منع رئيس البرلمان ممثلي كتلونيا مع التحدث باللغة المحلية لأن في ذلك تهديدا للغة الاسبانية الرسمية على وفق ما نص عليه الدستور الاسباني(17). فأين هذا من ذاك.

ثانياً : مظاهره في الاعلام :

يعد الاعلام احد مظاهر النشاطات الموجهة التي لها تأثير بالغ في المتلقي ايا كان، طفلا او مراهقا ومن كل الجنسين، اذ ان وسائله كثيرة بدء بالصحيفة اليومية وانتهاء بالفضائيات الكونية. ان اداة الاعلام هي اللغة سواء اكانت منطوقة ام مكتوبة، مرئية ام مسموعة، واللغة العربية شأنها شأن غيرها من اللغات في كونها لغة الاعلام في البلدان العربية، الا انها عرض لها ما لم يعرض لغيرها من لغات المجتمعات الاخرى، فلم تعتد اللغة الوحيدة في اجهزة اعلامها الوطنية، فهناك اللهجات العامية المحلية وهناك الاجنبية، وهناك الهجين الذي يخلط بين هذا وذاك من عربية فصيحة وعامية دارجة واجنبية وافدة مفضلة. وكل ذلك يعد تهديدا مباشر للغة وارهابا معلنا وغير معلن.

أما أهم مظاهره :

1 ـ في لغة الخطاب الاعلامي في الفضائيات والاذاعات : اذ يبلغ ما تبثه الاقمار الصناعية من افلام باللغة الانكليزية 70% وهذا يمثل حصارا فضائيا ذا محمول ثقافي يتمثل يسيل من عرض للسلع والافراد والمعرفة والصور والجريمة والقيم والافكار في الجنس، والمعتقدات والمفاهيم  الاجتماعية، اذ اخذ يستحوذ على الناشئة ويجرهم الى عوالم من الرؤى والاتجاهات مؤسسا لغربة ثقافية وقطيعة معلنة او غير معلنة مع المعرفي والجمالي والانساني في الثقافة والتراث، ومن ثم اخذ يتغلغل في اللغة العربية من جهة المضمون، مبتعدا بها عن محمولاتها الثقافية فتصبح عندئذ مطية لمحمولات مناهضة لمنظوماتها من القيم الخاصة بها، وهذا يعد شكلا من اشكال الارهاب اللغوي(18).

2 ـ ظهور اتجاهات في الخطاب الاعلامي يسعى الى التفلت من اللغة المعيارية، اذ هناك بنية لغوية سهلة شاعت وانتشرت تتمثل بالاختصارات اللغوية العربية التي تزاوج بين الحروف والارقام مبتعدة عن قواعد اللغة الفصيحة، مفضلة العامية المكتوبة في الغالب بالحرف اللاتيني ولاسيما في رسائل البريد الالكتروني التي تبثها الفضائيات العربية في حواشيها.

3 ـ شيوع لغة الخليط المهجن في برامج الفضائيات العربية اذ يكون الخطاب في العامية المحلية والاجنبية الدخيلة مع القليل من الفاظ وتراكيب العربية الفصيحة. وساعر ض لمثال واحد من عشرات البرامج التي تبث يوميا وعلى مدار الساعة :

ففي برنامج حواري بعنوان ( ميديا ) يبث عبر قناة (دبي) الفضائية يتضمن مقابلة مع الدكتورة ( ما جدولين الظل ) وهي استاذة مساعدة متخصصة بالتسويق والعلاقات العامة بجامعة ( فرجيناكو سين ولث ) بقطر. وموضوع البرنامج مسابقة تجريها الجامعة للطالبات كل عام . تقول :

ـ الطالبة ممكن تعمل اكثر من عمل فني، مسموح اليها ان تبعتلنا فقط واحد، ممكن ان يكون اما (drawing) (رسمة) ممكن ان يكون sketch ممكن يكون storyboard او ممكن يكونmodeI.

ـ متى انتهوا بيكون هذا الـ from عبتو بالمعلومات الشخصية هون بتعمل ExpIanationofidea  باللغة الانكليزية عن ايش فكرتها كانت.

ـ Next  year ان شاء الله، المسابقة حتاخذ اطار اوسع. (انتهى)

ان شيوع مثل هذا المستوى اللغوي في الخطاب الاعلامي يؤدي الى مزيد من الضعف ويؤسس لتخريب معلن للغة القومية والى هتك حرمة القاعدة اللغوية والى تدني مكانة اللغة بين اهلها وابنائها ومستعمليها، وهذا يعد من انواع الارهاب اللغوي اذ ان هذا النوع من المستوى اللغوي شائع ومتفش في بلدان المغرب العربي مع اللغة الفرنسية مثلما هو شائع ومتفش في دول الخليج العربي مع الانكليزية(19).

1 ـ اليس من الارهاب اللغوي ان يقيم مركز التراث الشعبي لدول الخليج العربي احدى ندواته في جامعة اجنبية في دولة غير عربية، وينادي المؤتمرون فيها باللغة العامية للحوار والمناقشات نطقا وكتابة بحجة انها لغة غنية مستقلة لها كيانها الخاض وفكرها العميق وادبها الرفيع وحضارتها العريقة، ويدعون الى ايجاد او انشاء ابجدية خاصة عن ابجدية العربية الفصحى(20).

2 ـ اليس من الارهاب اللغوي ترسيخ فكرة ( ان الجمهور يريد البث بالعامية، وينفر من البرامج الفصيحة ) يقول الدكتور رمضان عبد التواب : ( ان ما يحدث من طغيان العامية في الاغاني والتمثيليات والبرامج امر لا  مثيل له في أية اذاعة اوربية ) ويضيف ايضا ( وينسى هؤلاء ان وسائل الاعلام يجب ان تكون موجهة لا موجهة وهذا يعني انها لا يصح ان تتملق عواطف الجمهور او تجري وراء نزواته بل يجب ان توجهه وتأخذ بيده وتقوده الى حيث تريد) (21).

ولنضر ب لذلك مثلا : اذ تبث احدى الفضائيات العربية برنامجا بعنوان (برنامج الحياة)، وفي موضوع ( اضرار الموجات الكهربائية) يقول مقدم البرنامج :

ـ احنا ممكن تمسك اي جهاز ونقيسه في الاوضة، حنبض وانلائي ان الاوضة دي معبأة بموجات.. الى الخ.

يقول الدكتور المعتوق معلقا : ما ضر مقدم البرنامج لو قدم هذه المعلومات على النحو الآتي : ( لو اخذنا اي جهاز وقسنا به مستوى الموجات الكهربائية المنبعثة في غرفة ما فسنجد ان هذه الغرفة مملوءة بهذه الموجات)(22).

ويجري هذا المستوى اللغوي المهجن على لسان بعض الدعاة الاسلاميين وهم كثر ولهم برامج متعددة ومستعرض لحديث احد الدعاة المشهورين في قناة دينية عربية يقول الداعية :

ـ موضوعنا النهار ده موضوع بيئلئ امهات وابهات كتير، ومش بعيد ايضيع شباب، وساعات يهدي ـ شباب... موضوعنا هو ( صحابكو )، هل هما فعلا صحاب سوء ولا صحاب خير... الى آخر الحديث.

ومثل هذا الخطاب المشوه المتجني على اللغة تراثا وثقافة كثير بل هو المهيمن والسائد في الخطاب الاعلامي العربي.

3 ـ اليس من الارهاب ان مندوبي البلدان العربية لا يستعملون  اللغة العربية في المداخلات او المناقشات او القاء الكلمات، على الرغم من ان اللغة العربية معتمدة بين اللغات العالمية في المنطقة الدولية. وقد دفع هذا السلوك المشين الذي يسلكه المندوبون العرب في هجر لغتهم، دفع المنطقة الدولية الى القاء اللغة العربية من قائمة اللغات المعتمدة في المنظمة ومرد ذلك للاسباب الآتية :

1 ـ عدم وفاء معظم الدول العربية بالتزاماتها المتعلقة بدفع نفقات استعمال العربية في المنظمة.

2ـ عدم استعمال ممثلي الدول العربية في الامم المتحدة اذ انهم يستعملون الانكليزية او الفرنسية في القاء كلماتهم ومداخلاتهم ومناقشاتهم.

3 ـ عدم وجود مترجمين عرب اكفاء يجيدون اللغة العربية(23).

 

ثالثاً : مظاهره في الترجمة والتعريب

ان الترجمة الى اللغة القومية تعد امرا ضرورياً للتطور الثقافي في شتى حقوله، اذ تعد الترجمة رافدا من روافد التنمية علميا وثقافيا واقتصاديا وسياسيا، اذ ان ارتفاع نسبة المترجم الى لغة يعد مؤشرا حقيقيا على نحو تلك اللغة وازدهارها ومواكبتها لعصرها، وفي تقرير التنمية الانسانية العربية عام 2003 م يذكر ان مجموع الكتب المترجمة الى اللغة العربية حتى عام 2002 يوازي تقريبا ما تترجمه اسبانيا في عام واحد، وان البلدان العربية تترجم سنويا 330 كتابا، وهو خمس ما تترجمه اليونان(24).

اما التعريب فتعد التجربة السورية اليتيمة في هذا الحقل، كما يعد تحول الجامعة الامريكية في بيروت عن اللغة العربية الى اللغة الانكليزية في تعليم العلوم منذ قرن ونيف، يعد التحول خذلانا عظيما وارهابا معلنا على العربية في عقر دارها في حين تجد ان التعليم بالعبرية اصبح ملزما في المدارس والجامعات اليهودية منذ عام 1914 م على الرغم من شيوع التدريس بالفرنسية والالمانية والانكليزية. يقابل ذلك تلكؤ وتسويف وعدم حرص في تطبيق قرارات التعريب التي اتخذها العرب في مؤتمراتهم الوزارية، او قممهم الاستعراضية ن كقرارات مؤتمر قمة الرياض 2007 م الذي اوصى (باعتبار ان العروبة ليست مفهوما عرقيا عنصريا، بل هي هوية ثقافية موحدة، تلعب اللغة العربية دور المعبر عنها والحفاظ على تراثها)، وكذلك ما جاء من توصيات في مؤتمر القمة في دمشق عام 2008 م (انطلاقا من الارث الثقافي لامتنا العربية ومتابعة لجهودنا للنهوض باللغة العربية المرتبطة بثقافتنا وتاريخنا وهويتنا... وانطلاقا من دور اللغة العربية في الحفاظ على هويتنا العربية... يقرر المؤتمر الموافقة على مشروع النهوض باللغة العربية(25).

ان حال الانبهار الذي تعيش في البلدان العربية يعد شكلا من اشكال الاستلاب الثقافي فهذا يستلزم تعزيز عملية التعريب ومن الاختيار من الثقافات الاخرى. اذ ان التعريب يهدف الى بناء شخصية ابداعية تمتلك القدرة الذاتية على انتاج العلم. اذ ان الانسان اذا تلقى علوم عصره بلغته تنفتح امام آفاق الابداع والنمو والتطور اذ لابد من اتقان اللغات الاجنبية الى جانب اتقان العربية لان ذلك يؤدي الى خدمة التعريب(26).

رابعاً: مظاهره في حقل الاتصالات

ـ في شبكة الاتصالات " الانترنت "

ان التطور الذي حدث في حقل الاتصالات يعد انتقالة كبرى للتعريب بين الشعوب افرادا ومجتمعات ومؤسسات، اذا اصبحت البشرية تنعم بهذا الانجاز العلمي الكبير الذي اصبح ضرورة من ضرورات الحياة المعاصرة بعد ان اصبحت كل النشاطات التي يقوم بها الانسان وفي شتى المجالات، العلمية، والثقافية، والاقتصادية، والسياسية، مرتبطة بهذا الانجاز ولا تستطيع الاستغناء عنه. وعلى الرغم من ان عدد الناطقين بالعربية يبلغ ثلاثمئة مليون اي ما يعادل 4،7% من سكان العالم، الا ان نسبة مستخدمي شبكة الانترنت من العرب لا تزيد على4،1% ومعظم هؤلاء يتعاملون مع مواقع غير عربية سيما المواقع الانكليزية والفرنسية. اذ هناك ضعف النفاذ الى الشبكة في المؤسسات العامة والخاصة فضلا عن الافراد وقد ادى هذا الضعف الى التأخر في دخول عصر المعلومات، كما ان المشكلات الاجتماعية من فقر وامية وتدني مستوى التعليم والثقافة ساعد على هذا التأخر.

اذ لا يتجاوز نسبة مواقع ( الويب ) العربية 1% من المواقع العالمية، بسبب عدم امكان تطوير البرمجيات بادوات تدعم اللغة العربية، في حين تحتل الانكليزية نسبة 80% من صفحات الموقع المتوفرة على شبكة الويب.. وهذا يعوق نفاذ غير الناطقين بالانكليزية اليها(27).

ان استحواذ الانكليزية على العلم والتكنولوجيا ومفاتيح الانترنت وعوالمهما يعد خطرا لغويا يهدد اللغات الوطنية، اذ ان الوثائق المخزونة بالانكليزية 90% ويرى المشتغلون في هذا الحقل اننا متخلفون عن مواكبة هذا التطور، ومنزوون الى موقع مترد على ارصفة الطرق السريعة للمعلومات في عصر الانترنت(28).

والاحصاءات توضح ان لاوجود لذكر اللغة العربية في بيانات اللغات الماثلة على شبكة الانترنت لعام 1997 م، في حين تتصدر الانكليزية نسبة 84 %، وتأتي الفنلندية في اخر السلم بنسبة 0،4%.

ان من اخطر ما يهدد اللغات ويرهبها هو ان يشعر ابناؤها بانها لغات قاصرة عن ملاحقة التقدم العلمي، وهذا ما اصاب ويصيب كثيرا من ابناء اللغة العربية وهناك من يعمل على اشاعته سواء من الداخل او من الخارج. بل يرون في استعمالها تخلفا، بخلاف الانكليزية والفرنسية.

كل ذلك يجري وليس للغة العربية ذنب في ذاتها، وانما الذنب مستعمليها، فلو انهم صانوها لصانتهم، ولو عظموها في النفوس لعظمتهم، ولكن اهانوها فهانوا ودنسوا محياها بالاهمال والهجر والعقوق، ففي دراسة اجريت في اليابان على اللغات العالمية، تهدف الى معرفة اي اللغات اكثر وضوحا صوتيا في استخدامات الحاسب الآلي، اذ اثبتت هذه الدراسة ان اللغة العربية تتصدر هذه اللغات(29).

خامساً: مظاهر الارهاب عند الآخر

1 ـ بدايات الارهاب اللغوي في العصر الحديث

ير تبط الارهاب الذي تتعرض له اللغة العربية ببداية الدعوة الى اتخاذ اللغة الانكليزية لغة مشتركة بين العالم واممه، اذ يعود ذلك الى بدايات القرن الماضي حين قدم المستشرق الانكليزي مرغوليون في مؤتمر الاعراف العالمي في جامعة لندن في عام 1911 م بيانا عن اللغة التي يجب ان تكون شائعة لتفاهم شعوب العالم كله، ويرى هذا المستشرق ان اللغة الانكليزية هي اللغة التي تستحق ان تكون لغة مشتركة بين شعوب العالم شرقه وغربه. واتى في جملة براهينه بمقابلة بين الانكليزية والعربية، خلص فيها ان الانكليزية اوضح من العربية وأبين(30).

وفي عام 1920 م قدم كل من ( اوجدن ) و ( ريتشاردز)مشروعا عنوانه ( اللغة الانكليزية )، ـ اذ يرمي هذا المشروع ـ في نظر الباحثين ـ الى حل مشكلة تعدد الالسن البشرية او ما يطلق عليه بـ ( البلبلة )، وهذه اللغة اللغة الانكليزية الاساسية تتميز بمفردات محدودة ( 850) ثمانمئة وخمسين مفردة تؤدي ما تقوم به عشرون الف كلمة وافعالها محدودة ايضا اذ لا تتجاوز ثمانية عشر فعلا، وتكون قواعدها محدودة ايضا وثابتة وبسيطة، وقد حظي هذا المشروع بتأييد واسع من سياسيين ولغويين، ومفكرين، واعلاميين، على الرغم من ان هذا المشروع يقوم على دعوة صريحة الى اماتة الف لغة واتخاذ لغة واحدة هي الانكليزية(31).

ويرى الدكتور نهاد الموسى ان هذا المشروع يتخذ هذه الايام صيغة برنامج لساني بيني يتوسل بابعاد لغوية وتربوية وثقافية(32).

ويعد هذا شكلا من اشكال الارهاب اللغوي الموجه والمخطط له عن قصد.

وفي مطلع القرن الماضي ايضا ظهرت دعوة الى تعلم الانكليزية بوصفها لغة عالمية وليس بوصفها لغة ثانية، ولا لغة اجنبية يكون الغرض من تعلمها محدودا مثل اكتساب العلوم او المهارات او البعثات. وهذه الانكليزية العالمية انها تتصف بالوصفية وتبتعد عن المعيارية وهي تعددية التباين تستوعب جميع الناطقين بها على تباين اداءاتهم وهي وظيفية وتعددية التثاقف تنأى عن احادية المحمول الثقافي.

ان من ير شيوع الانكليزية في المشهد الكوني يجد انها تغلغلت في القارات، اذ تشكل مع لغات الاخرين هجينا من الانكليزيات فهناك الانكليزية الالمانية، والهندية والسنغافورية، والانكليزية العربية، الا ان هذه الانكليزيات ـ وان ظلت لغات متبادلة الوضوح ولو بمقادير متفاوتة من الجهد ـ تنتظمها مظلة الانكليزية المشتركة(33).

ويرتبط انتشار الانكليزية بالعولمة  التي هي نوع من الامبريالية الاقتصادية التي لا تستلزم التجانس اللغوي فحسب بل التسوية الثقافية ايضا، (فالافتراض العام الذي صدر عن العديد من المراقبين بشأن الاستعمال العالمي للغة، يرى ان الانكليزية هي في الواقع المشتركة للاقتصاد العالمي، ويرى علماء لغة غربيون (ان اللغات اليوم قتلت وان التنوع يختفي بشكل اسرع من اي وقت مضى في تأريخ الانسان) (34).

2ـ العولمة والارهاب اللغوي

اختلف الباحثون والمفكرون والدارسون في ماهية العولمة وتعريفها، بسبب تنوع الرؤى والمواقف، فهي عند بعضهم حال واقعة لاتملك الا ان نعيشها، وعند اخرين هي مرادفة للامركة بسبب تفرد القوة المهيمنة على العالم...

ويظل الجدل بشأن العولمة اهم جدل معاصر، بدليل سيل الدراسات الذي لا ينقطع وفي مختلف اللغات. اذ انقسم الناس فيها بين مؤيد، ومنكر، ومتحفظ، واهم ما يميز هؤلاء وهؤلاء المبالغة المفرطة في التوقعات، فالدراسات المتشائمة تتوقع نتائج كارثية، والدراسات المؤيدة تتوقع ان تنعم البشرية بثمرات خيرها الوفير.

الا ان امرا لا جدل فيه هو ان العولمة تعزز ظاهرة الاختراق الثقافية والهيمنة الثقافية ومحاولة اشاعة نمط من التفكير والقيم والتقاليد، وطريقة الحياة بكل مضامين الثقافية الاخرى.

بل من دعاتها من لايخفي ذلك بل يجاهر فيه الى درجة تهديد الاخر. ويتضح هذا التهديد واضحا وصريحا ومباشرا في مقالة توماس فريدمان مخاطباً العرب (ايها العرب افتحوا ابوابكم وادخلوا في عالم العولمة، ليس لكم من خيار، واذا بقيتم في ترددكم ومساجلاتكم فانكم ستكونون كالحيوان الملقى على قارعة الطريق لا يأبه به احد. اعرف تأنفون من هذا التعبير الامريكي الذي يدل على ما هو على الهامش، ينبغي ان تستأنسوا بلغة العالم الجديد التي لا شاعرية فيها، لغة الانترنت والميكروسوفت والماكدونلد) (35).

ان الارهاب الذي تنتجه العولمة بشأن اللغة العربية او اي لغة وطنية،يظهر من خلال سعي العولمة الى تهميش اللغات الوطنية لصالح الانكليزية بوصفها لغة عمل وتواصل في شتى حقول المعرفة، بدء بالنشر العلمي وتبادل الخيرات الثقافية، مرورا بالتعليم العالي والتجارة والصناعة والاعلام والثقافة. وهذا يعني انحسار اللغة العربية وتضييق ساحة استعمالها وضمورها وحصرها في مجالات تقليدية محددة(36).

فضلا عن المجتمع العربي الذي يعد مجتعما مستهلكا للثقافة الاجنبية وليس منتجا لها. وبذلك يضعف الحفاظ على الهوية والانتماء المتمثلين باللغة.

3 ـ الامن اللغوي عند الاخر

تسعى المجتمعات جادة الى توفير الامن اللغوي ولا سيما في حقل الحفاظ على لغاتها وتنميتها وتوفير كل السبل التي تساعد على انتشارها واشاعتها بين ابنائها ومستعمليها الوطنيين او الاجانب، وسأعرض لبعض مظاهر الامن اللغوي عند الاخر :

1 ـ اصدرت الجمعية الوطنية الفرنسية عام 1994 م قرارا ينص على عدم السماح بعقد المؤتمرات العلمية التي تتحدث بالانكليزية على الارض الفرنسية.

2 ـ وضع البرلمان الفرنسي قائمة بالكلمات السود التي يحظر استعمالها في لغة الاعلام.

3 ـ في بريطانيا اصدر المجلس القومي لمعلمي اللغة الانكليزية قرارا يقضي بأن على كل معلم ان يكون معلما للغة الام اولا.

4 ـ وفي فرنسا ايضا استحدثت مؤسسات وهيئات هدفها الدفاع عن اللغة وحمايتها، واخر هذه الهيئات هيئة باسم ( النيابة العامة للغة الفرنسية ) التي تتدخل اساسا في مجال المصطلحات وتصدر المراسيم والقوانين لهاذ الغرض وبين سنوات 1973 ـ 1993 احصي ( 48 ) مرسوماتهم مجالات متنوعة، التقنيات الفضائية، والسياحة، والزراعة.

وفي سنة 1994 م جمعت النيابة اللغوية الالفاظ والعبارات ( المتبناة ) (وهذه الصيغة الرسمية على شكل معجم بعنوان (معجم الالفاظ الرسمية  للغة الفرنسية ). وهناك قانون ايضا يحظر استعمال اسماء علامات الانتاج الصناعية المكونة من عبارة او كلمة اجنبية ( المادة 14) ويحذر الجماعات والمؤسسات العمومية التي لا تحترم ذلك انها سوف تحرم من الدعم المالي (المادة 15) (38).

5 ـ في عام 1913 م اصرت الحركة الصهيونية على التدريس بالعبرية على الرغم من وجود الانكليزية، والفرنسية والالمانية. ودعت الى الاضراب في المستوطنات اليهودية ولم تنفع كل الجهود والوعود في انهاء الاضراب. وبذلك اصبح التعليم بالعبرية اليهودية في فلسطين، على الرغم من ان العبرية كانت في طور الاحياء! (39).

6 ـ ومن ذلك ما عبر عنه رئيس المحكمة العليا الاسرائيلة يقول : ( ان احياء دولة اسرائيل مرتبط باحياء اللغة العبرية. خذ من اسرائيل. خذ من اسرائيل اللغة العبرية وكانت اخذت منها روحها)(40).

ـ الخاتمة

لقد تتبع البحث مسيرة الارهاب اللغوي الذي تعرضت له اللغة العربية، وتبين ان جذوره تمتد لقرون مضت، وان الارهاب يأخذ اشكالا متنوعة بحسب الزمان المكان وبحسب الاحوال التي تعرض للغة العربية وابنائها ومستعمليها، اذ يتفاوت في درجة فيبلغ اعلى درجاته حين تكون العربية في موضع الضعف والقهر والاستلاب وتقل درجاته حين تكون العربية في موضع القوة والتجدد والنماء.

والعربية في عصرنا هذا عانت ما عانت من ارهاب وقع عليها من ابنائها عن قصد وغير قصد، ومن ارهاب وقع عليها من الآخر وهذا لا يكون الا عن قصد.

والبحث اولا واخرا يهدف الى لفت انتباه المخلصين من ابناء اللغة ومحبيها والقيمين عليها الى درجة الخطر التي تهددها والسهام التي تصوب اليها بحجج كثيرة تتدافعها نوايها ومقاصد واهداف وغايات فمرة رمي اللغة العربية بتهمة العجز عن التعبير عن متطلبات العصر وعلومه، ومرة توصف بالتعقيد في نظامها نحوا وصرفا ومعجما. ومرة انها تمثل حقبة زمنية لم تعد صالحة لغيرها.

كل ذلك يصب في موضوع الارهاب اللغوي، الذي لا يختلف في اهدافه ونواياه عن الارهاب الامني ز الا ان الاخير ادواته وسائل القتل المتنوعة من عبوات ومفخخات واحزمة ناسفة، اما الاول فادواته الاعلام والاتصالات والازدواجية والثنائية والهيمنة والاختراق الثقافي وكل ذلك يجمع تحت خيمة العولمة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1ـ لسان العرب: 1/420 مادة (رهب).

2ـ ينظر اللغة العربية، تاريخها ومستوياتها وتأثرها، كيس فرستنغ، ترجمة محمد الشرقاوي:11.

3ـ ينظر نفسه: 11.

4ـ ـ ينظر نفسه: 11.

5ـ ينظر نفسه: 13.

6ـ ينظر اللغة العربية بين الوهم وسوء الفهم: د.كمال.

7ـ ينظر نفسه: 136.

8ـ ينظر نفسه: 137.

9ـ ينظر نفسه: 138.

10ـ ينظر اللغة العربية في العصر الحديث قيم الثبوت وقوى التحول، د. نهاد الموسى: 87.

11ـ ينظر اللغة العربية وتحديات العصر، د. محمود احمد السيد: 104، وكذلك مجلة التعريب/ ع21/ السنة الحادية عشرة/ 2001.

12ـ ينظر اللغة في عصر الحديث: 151.

13ـ اللغة والهوية، جون جوزيف، ترجمة د. عبد النور خرافي: 216.

14ـ اللغة العربية وتحديات العصر: 168.

15ـ ينظر نظرية اللغة الثالثة، د. أحمد المعتوق: 17.

16ـ نفسه: 72.

17ـ ينظر اللغة في العصر الحديث : 170.

18ـ ينظر اللغة في العصر الحديث: 170.

19ـ ينظر اللغة الثالثة : 20.

20ـ ينظر الفصحى ونظرية الفكر العامي، د. رزوق بن ضياء، الرياض، 1999: 208، وينظر ايضاً اللغة الثالثة: 138.

21ـ ينظر دراسات وتعليقات في اللغة، د. رمضان عبد التواب، القاهرة 1994م: 239، وكذلك اللغة الثالثة: 230.

22ـ ينظر اللغة الثالثة: 230.

23ـ ينظر اللغة العربية وتحديات العصر: 178.

24ـ ينظر اللغة العربية في العصر الحديث: 89.

25ـ ينظر اللغة العربية وتحديات العصر: 126.

26ـ ينظر اللغة العربية وتحديات العصر: 120.

27ـ ينظر اللغة العربية وتحديثات العصر: 75 ـ 76.

28ـ ينظر اللغة العربية في العصر الحديث: 172.

29ـ ينظر اللغة العربية في عصر العولمة، د. أحمد الضبيب: 30، وينظر ايضاً اللغة العربية في العصر الحديث : 180.

30ـ ينظر اللغة العربية في العصر الحديث : 166.

31ـ ينظر نفسه: 167.

32ـ نفسه : 167.

33ـ نفسه : 167.

34ـ ينظر اللغة والهوية: 245.

35ـ ينظر العولمة والسيدة، د. غضبان مبروك، الجزائر: 13.

36ـ ينظر اللغة العربية وتحديات العصر: 83.

37ـ ينظر اللغة العربية وتحديات العصر: 170.

38ـ ينظر السياسات اللغوية، لويس جان كالفي، ترجمة محمد يحياتن، الجزائر/ 2009.

39ـ ينظر اللغة العربية في العصر الحديث : 80.

40ـ ينظر نفسه : 66.

 

المراجع

1ـ دراسات وتعليقات في اللغة د. رمضان عبد التواب، القاهرة، 1994.

2ـ الفصحى ونظرية الفكر العامي. د. رزق بن ضيان، الرياض، 1999.

3ـ اللغة الثالثة، د. احمد المعتوق، المغرب/ 2005م.

4ـ اللغة العربية بين الوهم سوء الفهم، د. كمال بشر، دار غريب/ 1999م.

5ـ ينظر اللغة العربية، تاريخها ومستوياتها وتأثرها، كيس فرستنغ، ترجمة محمد الشرقاوي القاهرة/ 2003.

6ـ اللغة العربية في العصر الحديث قيم الثبوت وقوى التحول، د. نهاد الموسى، دار الشروق، عمان / 2007.

7ـ اللغة العربية في عصر العلومة، د. احمد الضبيب/ 2001.

8ـ اللغة العربية وتحديات العصر، د. محمود احمد السيد، دمشق / 2008م.

9ـ اللغة اليهودية، جون جوزيف، ترجمة عبد النور خرافي، عالم المعرفة/2007م.

المصدر: http://www.hamoudi.org/dialogue-of-intellenct/20/09.htm

 

الحوار الخارجي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك