السيادة والسياسة: نظرية المشروعية والشرعية لدى كارل شميت

عبد الله السيد ولد أباه

عُرفت على نطاق واسع نظرية الشرعية الفيبرية (من ماكس فيبر) في الفكر السياسي والاجتماعي، وفرضت نفسها نموذجاً أوحد في تفسير شرعية الأنظمة الديمقراطية الحديثة.

وليس من همنا التذكير بهذه النظرية المعروفة التي تميز بين أشكال ثلاثة من الشرعية هي: الشرعية الكارزماتية والشرعية التقليدية والشرعية العقلانية(1)؛ وإنما حسبنا التنبيه إلى جانب محوري من جوانب النقاش والجدل الفلسفي والقانوني والاجتماعي الذي ولدته في السياق الألماني في النصف الأول من القرن العشرين, متوقفين عند الفيلسوف والقانوني الألماني "كارل شميت", مع العلم أن الإحاطة بهذا النقاش تقتضي التعرض أيضا لإسهام "هانس بلومبرغ"(2) و"ليو شتراوس"(3) و"كارل لويت"(4), مما قد نعود له في مناسبات أخرى.

خصص كارل شميت لمفهوم الشرعية والمشروعية (5)دراسةً مطَّولةً نُشرت سنة 1932 يمكن عدّها تعميقاً وتطويراً لدراسته الشهيرة حول "اللاهوت السياسي"(6) التي كانت في أصلها إسهاماً في كتاب تكريمي لأستاذه ماكس فيبر عام 1922, إلا أن مختلف أعماله الفلسفية والقانونية تتمحور حول هذه المسألة النظرية - القانونية من زوايا متعددة.

ولا بد من التأكيد أن شميت يتفق مع فيبر في منطلقاته النظرية حول مسار الشرعية في المجتمعات الحديثة وفي النظر للشرعية من حيث هي إحدى منظومات الهيمنة.

يلاحظ شميت أن فيبر نقل مسألة الشرعية من المعجم القانوني - المدني ("حق الحكم") -أي معيار الطاعة الإرادية في سياق نظام تعاقدي حر (نظريات العقد الاجتماعي في القرن الثامن عشر)- إلى سوسيولوجيا الهيمنة؛ أي التحليل المقارن للأنشطة الجماعية.

بيد أن شميت ينتقد الطابع الصوري والموضوعي المجرد في أطروحة فيبر، التي تقوم -حسب رأيه- على وهم الحياد المعياري الذي يقتضيه المسلك الوصفي في الدراسات الاجتماعية (التمييز بين الحكم والواقع), مما يفضي إلى إقصاء مفهوم الشرعية الحقيقي الذي هو المشروعية القيمية في علاقتها بالفعل السياسي العيني (7).

تتأسس أطروحة شميت حول الشرعية على مستويين تتوزع إليهما أعماله الفلسفية والقانونية عبر مسارها التطوري الطويل:

- نقد التصورات القانونية الإجرائية للشرعية التي يقوم عليها النظام البرلماني التشريعي.

- بناء الشرعية على الأمر السيادي المميز للسياسة من حيث هي بنيتها الصراعية.

أولا: الشرعية والمشروعية: في نقد المعيارية القانونية

يطلق شميت على الدولة الليبرالية البرلمانية عبارة "الدولة التشريعية" و"الدولة القانونية", ويعرفها بأنها تصدر عن تصور سياسي خاص مفاده أن "المعايير هي التي تعبر بأفضل طريقة ممكنة عن الإرادة العامة, دون أن يكون ثمة مكان لنقاشها, وهذه المعايير تريد أن تكون هي القانون، ويتوجب لهذا السبب أن تتمتع ببعض الخصائص بحسبها يمكن لكل قضايا الشأن العام أن تخضع لها"(8).

هذه الدولة هي أيضا الدولة البرلمانية؛ لأن البرلمان هو الذي يضع المعايير القانونية من حيث هو الجهاز التشريعي.

تكرس الدولة التشريعية الفصل بين القانون وتطبيق القانون, وبين سلطة التشريع وسلطة التنفيذ؛ بيد أن السيادة في هذه الدولة ليست للقائمين عليها؛ بل للقانون المجرد الذي يتمتع بكامل السلطة. الجهاز الذي يصدر القانون -أي البرلمان- ليس في الواقع هو الذي ينشئها أو يضعها، وليس هو الذي يطبقها؛ وإنما "يصوغ" المعيار السائد الذي على أساسه تمارس السلطات الحاكمة وظائفها التنفيذية.

ويميز شميت بين الدولة التشريعية وأنماط أخرى من الدول, مثل "الدولة القضائية" jurisdiction state التي يمارس فيها السلطة القاضي من حيث هو "الحكم الأعلى" في النزاعات وليس المشرع مخترع المعايير القانونية, و"الدولة الحكومية" gouvernemental state و"الدولة الإدارية"administrative state اللتين تتميزان بالشكل الذي تكتسيه السلطة السياسية العليا وطريقة تعبير هذه السلطة عن إرادتها السيادية(9).

في الدولة التشريعية ليس الإجراء القضائي سوى تطبيق بسيط ومجرد للمعايير القانونية، ولا يتجاوز نشاط الدولة بكامله التطبيق المنسجم مع هذه المعايير. ومن هنا اختزال المشروعية legitimacy في الإيمان بالشرعية legality في هذا النموذج الجديد من الدولة حسب عبارات "ماكس فيبر"؛ بينما هما في الواقع مقولتان متعارضتان. فمن الشائع في العصر الراهن استخدام عباراتي "شرعي" و"صوري" بطريقة مترادفة في مقابل مفهوم "المشروعية", مع ما يفضي إليه هذا التحديد من مأزق فعلي (إضفاء الشرعية على قرارات متعارضة ما دام المعيار هو شكلية القانون), ومن هنا يستنتج شميت "تهافت" عقلانية النسق التشريعي الذي ينتهي إلى نفي نفسه(10).

نلمس هنا نقد شميت الجذري للمدرسة المعيارية الوضعية التي يمثلها "كلسن" في تماهيها بين الدولة والنظام القانوني, معتبرا أنها عاجزة وعمياء أمام الواقع، ولا يمكنها تجاوز فكرة القانون بما هو مثالية معيارية مجردة وسلبية, ولا تستطيع أن تحدد إيجابا شكلا سياسيا عينيا. فالقانون في تجرده وموضوعيته يحتاج إلى دولة ضامنة, ومن هنا مشكل الصورة القانونية بالمعنى الجوهري؛ أي القرار الذي ينعقد به الأمر ومدى استقلاليته عن مضمون القاعدة القانونية, ولا يمكن للنظرية المعيارية أن تتجنب هذا الإشكال؛ أي العجز الأصلي للمنظور القانوني من حيث فاعليته وإجرائيته(11).

ويلاحظ شميت أن شرعية الدولة التشريعية البرلمانية -التي هي خاصية العالم الأوروبي منذ القرن التاسع عشر في سيره المتواصل نحو الديمقراطية(12)- تنتهي في واقع اشتغالها بالانتقال إلى الطابع البيروقراطي المؤسسي, نتيجة لهذا "التحالف الأصلي" بين الشرعية والآلية التقنية(13).

في الدولة التشريعية لا تمايز بين الحق والقانون والضبط المعياري التي تمارسه الدولة من خلال دوائر التمثيل الشعبي. عبر هذا التماهي بين الحق والقانون والدولة تغدو سلطة الخضوع هي القانون وحده الذي لا يمكن الخروج عنه؛ إذ الشرعية كاملة مكتفية بنفسها لا تتقيد بأي مستوى مستقل عنها أو مفارق لها. فما دام لا فرق بين القانون في وضعيته والحق بمفهومه المعياري ولا بين العدالة والشرعية وبين موضوع القانون ومسطرته الإجرائية؛ فإن السلطة التشريعية معصومة من الزلل لا تقبل الخطأ ولا المراجعة(14).

ويلاحظ شميت أن الدولة الليبرالية الحديثة التي ألغت ثنائية الدولة والمجتمع, ثنائية السلطة الملكية والتمثيل الشعبي, وبالتالي وحدت بين إرادة الدولة والإرادة الشعبية, أعطت قوة القانون لكل تعبير من تعبيرات الإرادة الشعبية متمتعا بزخم العلاقة العضوية بين القانون والعدالة.

بيد أن المشكل يبرز للعيان عندما ندرك أن القانون في الديمقراطيات الحديثة مرتبط باللحظة الانتخابية المؤقتة وصادر عن أغلبية ظرفية, ومن ثم لا فرق بين القاعدة المعيارية والحكم بالأمر, ولا بين الفكر والإرادة, ومن ثم تغدو الدولة التشريعية "مهددة في أسسها"(15).

إن ما يحرص شميت على تأكيده هو أن الديمقراطيات البرلمانية تقوم على الخلط بين إرادة الشعب وإرادة البرلمان, ومن ثم لا مكان للقانون بمفهومه الصوري إلا انطلاقا من الإيمان المسبق بالتناسق الكامل بين قاعدة الأغلبية وإرادة الشعب بمفهومه الكلي الجماعي.

إن هذه المسلمة ليست بالنسبة لشميت سوى معتقد إيماني على الطريقة اللاهوتية لإخفاء الطابع الإجرائي التي تقوم عليه الدولة التشريعية في رفعها مبدأ التوافق الظرفي إلى المستوى القانوني بدلالته المعيارية القوية التي تختزن مفهومي الحق law والعدالة justice.

قد تكون لقرارات الأغلبية دلالة منطقية في شعب متجانس له إرادة مشتركة, ليس فيه في واقع الأمر أكثرية ولا أقلية؛ بيد أن الأمر ليس كذلك في الديمقراطيات البرلمانية في نظامها العددي الحسابي الذي يكرس ديكتاتورية الأغلبية الانتخابية على الأقلية المرغمة على الطاعة والإذعان.

إن الخطر الذي يفضي إليه هذا التصور القائم على مبدأ حياد الدولة تجاه إرادة واختيارات ممثلي شعبها هو نبذ التمييز بين القانون والظلم, بحيث يجري ابتداء إقصاء إمكانية الظلم وخطر الاستبداد من منطلق الضوابط الإجرائية التنظيمية للشرعية السياسية, كما يجري إقصاء الحرب من المنظور نفسه من منظور قانوني يتلخص في التسوية السلمية للنزاعات(16). والواقع أن الدولة التشريعية البرلمانية وإن قامت على مجرد التقيد الحصري بمرجعية القانون وتطبيقه عمليا؛ فإن الدولة -من حيث هي دولة- تختزن في ذاتها "حاجة غامضة للتفوق" لا بد أن تبرز للعيان, فيما وراء طابعها التنظيمي الإجرائي المعلن, مانحة إياها نمطا من "الأولوية الشرعية العليا".

تظهر هذه الأولوية السياسية political premium خصوصا في فترات التأزم والاحتقان, وتعبر عنها مقولات غير محددة في سياقات عينية (متطلبات الأمن القومي والنظام العام والمصالح الحيوية...), كما تتجلى فيما عبر عنه شميت بتمتع المتحكم الشرعي في القوة العمومية ب"مسلمة الشرعية" في كل قراراته المتخذة في أوقات الاحتقان التي لا مناص منها, كما أن مثل تلك القرارات الاستعجالية تطبق على الفور مهما كان الشك في شرعيتها ومهما كانت خاضعة لطعون قضائية بعدية(17).

وهكذا يظهر أن مبدأ التنافس الحر وتكافؤ الفرص بين الجميع للوصول إلى السلطة لا يلغي السؤال السياسي الجذري الذي هو سلطة القرار الفعلي في اللحظة الاستثنائية. ولا بد من التنبيه أن هذه الملاحظة ستقود شميت إلى بلورة تصوره للسيادة sovereignty من حيث هي "سلطة القرار في الحالة الاستثنائية"(18),مما سنبينه لاحقا.

وما دام النموذج الديمقراطي الليبرالي لا يمكنه أن يفترض شرعية عليا تتجاوز الحيز البرلماني التمثيلي, فإن مشكل فائض الشرعية في اللحظات الاستثنائية -التي لا يخلو منها الفعل السياسي- يظل دون حل ممكن. فالماسك الشرعي للسلطة يتمتع -فضلا عن المزايا الاستثنائية للموقع التنفيذي (سلطة التقدير ومسلمة القرار الصحيح والطابع التطبيقي الفوري للقرار)- بالقدرة على التأثير في الموازين السياسية من خلال القوانين والإجراءات المتخذة في الحياة العامة وفي تسيير المال وفي النشاط الاقتصادي الحر, مما يضع شكوكاً إضافية على مفهوم الشرعية في النظم البرلمانية.

ويذهب "شميت" في نص آخر حول "دولة القانون البورجوازية" (صدر سنة 1928) إلى معالجة أزمة شرعية النموذج الديمقراطي البرلماني منتهياً إلى القول بوضوح: إن الركيزتين اللتين تقوم عليهما هذه الدولة وهما الحرية الفردية والفصل بين السلطات لا علاقة لهما بالسياسة، ولا يمكن أن نستخلص منهما أي شكل من أشكال الدولة, بل هما صيغتان لتنظيم "العقبات" التي تعترض الدول. الدولة البورجوازية من هذا المنظور ليست شكلاً من أشكال الدولة بل هي مجموعة من الآليات للتحكم في الدولة ورقابتها.

ومن هنا تقويمه الصارم للنظام البرلماني من حيث كونه يتشكل حسب عباراته من عناصر أرستقراطية وملكية تفرضها المصالح الليبرالية للحد من الفاعلية السياسية وعرقلتها في منافذها المختلفة. وليس بإمكان النظام البرلماني القائم على التمثيل بلورة فكرة حقيقية للهوية السياسية؛ لأنه قائم على فكرة الحرية الفردية والتمثيل الطبقي في حين أن الدولة وحدها -من حيث هي كيان عضوي منسجم- قادرة على تأمين هذه الهوية التي هي جذر الكيان السياسي(19).

ثانيا: الشرعية والسيادة: في تعريف السياسة

ألمحنا إلى تعريف شميت للسيادة بقوله في نصه الشهير حول "اللاهوت السياسي"(صدر في نسخته الأولى سنة 1922): "إن السيد هو من يقرر في اللحظة الاستثنائية". 

لا تعني هنا مقولة "الحالة الاستثنائية" الوضع الاستعجالي أو ما يشبه حالة الحصار؛ بل هي مفهوم ينتمي لمنطق القانون؛ أي بفعل الأمر من حيث هو مقوم للنظام القانوني؛ "ذلك أن القاعدة العامة -كما تعرضها المقولة القانونية السائدة- لا يمكن أن تتضمن استثناء مطلقا, ومن ثم لا يمكنها في الآن نفسه أن تؤسس بصفة كاملة القرار الذي يضعنا أمام حالة استثنائية حقيقية"(20).

يتتبع "شميت" مسار تشكل السيادة لدى فلاسفة "الحق الطبيعي " في القرن السابع عشر مبينا أنهم فهموا السيادة من هذا المنظور؛ أي سلطة التقرير في اللحظة الاستثنائية (21)، مفردا مكانة خاصة لهوبز الذي رأى أنه بلور التصور السيادي للدولة الحديثة من حيث هي -في تشكلها ونظام شرعيتها- دولة ديكتاتورية ناشئة عن عقد اجتماعي يخرج البشر من حالة حرب الكل ضد الكل. القانون بهذا المعنى هو فعل أمري ناتج عن قرار تقتضيه مصلحة الدولة؛ بيد أن مصلحة الدولة لا توجد إلا بعد هذا القرار الأمري؛ بيد أن شميت -الذي نعت في أعماله الأولى "هوبز" بفيلسوف الأمرية decisionnism- خلص في عمله الرئيس حول "هوبز"(22) سنة 1938 إلى اعتبار مؤلف اللفيتان "الأب الروحي " للدولة الليبرالية التشريعية والبرلمانية (23).

يمكن أن نلمس تطوراً ملحوظاً في فلسفة شميت السياسية من تمجيد الدولة بصفتها حالة ديكتاتورية سيادية إلى تصور جديد للسياسة من حيث هي الجانب الصراعي في النشاط البشري المشترك.

في أعماله الأولى يدافع شميت عن شرعية الدولة المطلقة من حيث كون الدولة هي التعبير عن الوحدة السياسية العضوية للأمة. من هذا المنظور نفهم رفضه للدولة التشريعية البرلمانية العاجزة -حسب رأيه- عن ضمان هذه الوحدة, نتيجة لتقيدها بالشرعية القانونية وبموازين الحركية التداولية, ومن ثم ينيط شميت بالسلطة التنفيذية القوية مسؤولية تمثيل الشعب والتعبير عن إرادته الأصلية ككيان سياسي موحد بالانتقال من مفهوم الشرعية الإجرائية "الناقصة" إلى "المشروعية الشرعية" التي يمارسها الشعب المتماهي مع دولته، من حيث هو "شعب مؤسس" لا شعب يفوض سيادته لممثلين ينوبون عنه (24). الدولة إذن -بهذا المعنى- هي الشكل الوحيد للفعل السياسي، وهدفها الأوحد هو بسط أولويتها المطلقة وسيادتها التامة.

بيد أن شميت بدأ منذ نهاية العشرينيات مراجعة نظرية لتصوره للدولة, من خلال تفكير نقدي في تجربة "الدولة الكلية" Total state, التي هي نمط من الدولة "ما بعد الليبرالية " الكلاسيكية.

الدولة الكلية هي دولة عصر التقانة التي توطدت سلطتها بفعل الوسائل التقنية من أدوات اتصال وتقنيات عسكرية, فتدعمت قبضتها على الحياة الاجتماعية بفعل التداخل الكثيف بين دائرتي المجتمع والدولة اللتين قامت الدولة الليبرالية الحديثة على الفصل بينهما. يتجلى هذا التداخل في ظاهرتين رئيستين هما:

- الدور السياسي المتزايد للمجتمع المدني الذي تشكل تاريخيا كفضاء غير سياسي مؤسس على فاعلية القانون الخاص، ينتج عن هذا الدور السياسي دخول أبعاد الصراع والصدام السياسية إلى الحقل الاجتماعي (صراع الطبقات).

- تدخّل الدولة المتزايد في شتى الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فبدل الدولة الليبرالية المحايدة برزت الدولة الاقتصادية والاجتماعية التي تتدخل في مسار إنتاج وتوزيع المنتج المادي والاجتماعي.

الدولة الكلية هي إذن -كما يبين كرفغان- حقيقة مزدوجة؛ فهي من ناحية صيغة جديدة تتجاوز الأشكال التقليدية من السياسة بما فيها الدولة الإطلاقية ما قبل ليبرالية, وهي من جهة أخرى مظهر للتسييس الشامل للوجود الإنساني الذي كان من قبل موزعا بين البعدين العام والخاص.

إنها دولة تجمع بين عناصر القوة غير المسبوقة, وعناصر الضعف المتأتية من انكشافها وخضوعها لمطالب ونوازع الجسم الاجتماعي. ويميز شميت بين نوعين من الدولة الكلية هما: الدولة الكلية بالمعنى الكمي وهي الدولة الكلية الضعيفة, والدولة الكلية بالمعنى الكيفي وهي الدولة القوية.

النموذج الأول هو الدولة الإدارية البيروقراطية المرتبطة عضويا بالمصالح الاقتصادية والاجتماعية, فتضطر للتدخل في كل مناحي الشأن الاجتماعي, في حين أن سيادة الدولة التقليدية -بما فيها الدولة الإطلاقية- لم تمنع في السابق من الاعتراف بجوانب غير سياسية لا شأن للدولة بها. في الدولة الكلية بالمعنى الكمي يتغير مفهوم حياد الدولة الذي لم يعد يعني المفهوم الليبرالي الكلاسيكي لسلطة ثالثة عليا؛ بل سلطة الخبير والحكم التي يحتاج إليها ضبط الصراعات الاجتماعية وتسويتها. كما أن الطابع البرلماني للتعددية السياسية في هذا النموذج يفضي إلى تحريف وتحوير الإطار الليبرالي وإلى تكريس هيمنة الأحزاب بدل هيمنة الدولة مما يقضي على كل التحديدات السياسية المألوفة, فضلا عن تحكم البيروقراطية الإدارية في مركز القرار.

النموذج الثاني أي الدولة الكلية القوية التي تختلف عن الدولة الإطلاقية التقليدية, وليست هي الدولة التسلطية الحديثة التي تعبر عنها الفاشية الإيطالية التي تأثر بها شميت في بعض مراحل فكره، وعدها بديلا في تحكمها الشمولي وشرعيتها القائمة على التزكية بدل الانتخاب، وفي نظامها السياسي الذي يرفض التعددية الحزبية وهياكل التمثيل البرلماني. الدولة الكلية بالمعنى النوعي الحقيقي هي الدولة التي تتحدد وفق الفكرة الحقيقية للسياسة من حيث هي الكثافة الصدامية والجدلية في الوضع الإنساني, فتحدث تناغم الفكرة السياسية مع مضمونها(25).

وهكذا يتجه شميت من هذه القراءة النقدية لتجربة الدولة القومية إلى تجاوز "إتيقية الدولة" التي شغلت اهتماماته الفكرية في العشرينيات إلى تصور فلسفي أكثر إحكاما ووضوحا للسياسة والشرعية السياسية في كتابه الرئيس "مفهوم السياسة" الصادر في نسخته الأولى سنة 1932(26).

في هذا الكتاب ينبذ شميت منهج التحليل الاجتماعي والقانوني للظاهرة السياسية بوضع نظرية عامة في الدولة, منطلقا من عدم ترادف وتماهي الدولة والسياسة. ما يهمه هنا هو تحديد الطابع السياسي للظاهرة الإنسانية فيما وراء التشكلات التاريخية للظاهرة السياسية التي ليست الدولة سوى إحداها:

"الدولة بالمعنى الدقيق للعبارة -أي الدولة كظاهرة تاريخية- هي صيغة وجود (حالة) خاصة بشعب ما"، تتحدد في مستوى صناعة القانون في اللحظات الحاسمة (27). أما السياسة فهي -على عكس التعريفات القانونية التي تنطلق من مقتضيات الممارسة القانونية السائدة المنحصرة في إطار الدولة- ليس لها جوهر, بل يمكن أن تغطي كل مجالات الوجود البشري.

وقد بينا فيما سبق تدخل الدولة الكلية الشاملة المعاصرة في كل مناحي الشأن الاجتماعي بصفته تطورا طبيعيا للدولة الليبرالية المحايدة.

إن ما يميز السياسة بالنسبة لشميت هو أنها علاقة أو صيغة تترجم البعد الصراعي في نمط الاجتماع البشري, بحسب التحديدات الخاصة بها. فإذا كانت الأخلاق تقوم على ثنائية الخير والشر, وكانت الجماليات تقوم على ثنائية الجميل والقبيح وكان الاقتصاد يقوم على ثنائية المفيد والضار أو الربح والخسارة؛ فإن السياسة تقوم على ثنائية العدو والصديق. ويعنى هذا التمييز التعبير عن "الدرجة القصوى من التوحد والتفكك والترابط والانفصال", دون التداخل مع التحديدات الأخرى (الأخلاقية والجمالية والاقتصادية)(28).

ليس العدو هنا هو مجرد الخصم أو المنافس؛ أي مجرد الآخر المغاير, بل هو العدو العمومي في مستوى الكيانات الجماعية. لا يستخدم شميت لفظ العدو بالمفهوم الأخلاقي أو الميتافيزيقي, كما أنه يرفض المقاربة الليبرالية التي تختزل هذه الثنائية في الصراع الطبقي. لا تقتضي العداوة بالمفهوم السياسي الكراهية الشخصية, بل بؤرة الصدام في دلالته الكثيفة القوية التي تحدها فرضية الحرب دون أن تكون الحرب هي هدف السياسة وغايتها(29).

ومن هنا فإن كل أشكال الصدام الدينية والأخلاقية والاقتصادية والعرقية يمكن أن تتحول إلى صدام سياسي عندما تصل حدتها مرحلة تفريق التجمعات البشرية القائمة إلى أصدقاء وأعداء.

ومن هنا يصل شميت إلى الاستنتاج التالي: "يكون التجمع سياسيا عندما يتشكل في أفق محنة الحرب؛ ولهذا فإن هذا التجمع -هو في كل حال- التجمع الحاسم, وينتج عن ذلك أن الوحدة السياسية -ما دامت قائمة- هي العنصر الحاسم والسلطة السيادية ما دام يرجع لها ضرورة وبالتحديد حق الحسم في الوضعية الحاسمة مهما كانت سمتها الاستثنائية"(30).

نلمس هنا أطروحة شميت التقليدية حول السيادة من حيث هي سلطة الحسم في الحالة الاستثنائية؛ فالدولة ليست الشكل الوحيد للسياسة, فقد تنهار الدولة دون أن تنتفي السياسة في بعدها الصراعي الجوهري.

الدولة بالنسبة لشميت تظل وسيلة لضمان السلم المدني, وتتمتع بالإمكانية الفعلية للتمييز بين الصديق والعدو وبالتالي إعلان الحرب الذي هو التحكم الشرعي في أرواح البشر, في حين تنبني السياسة على مسبقات أنتربولوجية ولاهوتية تتعلق بطبيعة الإنسان والنظرة إليه, بحيث إن السياسة تجد مرجعيتها العميقة في عقيدة "الخطيئة الأصلية" original sin التي يؤدي نفيها إلى العدمية الفوضوية التي هي نقيض السياسة (31).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1) راجع:Max Weber, Economie et societe Tome 2, Plon 1995, p285-290.

2) Hans Blumenberg, The legitimacy of the modern age MIT, press Cambridge 1986.

3) Leo Strauss, Natural right and history University of Chicago, press 1953.

4) Karl Lowith, Meaning in history:the theological implications of the philosophy of history, University of Chicago, press 1957.

5) C.Schmitt, legality and legitimacy Duke, University Press 2004.

6) C.Schmitt, Theologie politique Gallimard 1988.

7) راجع:

A.Simard, la loi desarmee:carl Schmitt et la controverse legalite/legitimite sous la republique de Weimar, les presses de l'umiversite de Laval 2009 p18-24.

8) C.Schmitt, legality and legitimacy, Duke University Press 2004, p3.

9) ibid, p5.

10) ibid, p10.

11) C.Schmitt, Theologie politique Gallimard 1988, p28-32.

J.Francois kervegan, Hegel, Carl Scmitt: le politique entre speculation et positivite, Puf 1992 p60.

12) C.Shmitt, The crisis of parliamentary democracy (1923), The MIT press, Cambridge 2000 p22.

13) Schmitt, legality and legitimacy, p14.

14) ibid, p19.

15) ibid, p24.

16) ibid, p29-30.

17) ibid, p32.

18) Schmitt, Theologie politique p15.

19) Schmitt, "l'etat de droit bourgeois" 

In Du politique, legalite et legitmite et autres essais Pardes 1990, p31-38. 

20) Schmitt, Theologie politique, p16.

21) C.Shmitt, la dictature (1921) Seuil 2000, p23-56.

22) C.Shmitt, The Leviathan in the state theory of Thomas Hobbes Greenwood, press 1996.

23) ibid, p67. 

يذهب "ليو شتراوس" في حوار الفكر الممتد مع شميت إلى أن تصوراته للسياسة في كل مراحل تفكيره ظلت متأثرة بفلسفة هوبز خصوصا في تصوره السيادي الأمري للدولة وللقانون.

Leo strauss, notes on Carl Schmitt, The concept of the political"In Heinrich Meier, C.Shmitt and Leo Strauss, the hidden dialogue, The university of Chicago, press 2006, p89-126.

24) Nobert Compagnat, le droit, le politique et la guerre, deux chapitres sur la doctrine de Carl Shmitt, Presse universitaire Laval 2004, p85.

25( لخصنا هذه الأفكار حول الدولة الكلية من دراسة "جان فرنسوا كرفغان" التي يرجع فيها إلى بعض نصوص شميت المتوفرة بالألمانية, خصوصا "حارس الدستور"Der Huller der Verfassung 1931.

J.F.Kervegan, op.cit, p82-90.

26) C.Schmitt, la notion du politique, Theorie du partisan Calmnn Levy 1972.

27) Ibid, p59.

28) ibid, p66.

29) ibid, p74.

30) ibid, p80.

31) ibid, p103-107

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/9/187

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك