عدالة الحاكم

مقوماتها وآثارها في بناء المجتمع الصالح

د. فليح كريم الركابي

 العدل ضد الجور هكذا ورد في المعاج العربية(1)، والحكم القضاء والحاكم هو الحكم الذي تحتكم اليه الناس في مخاصمتها فيحكم بينهم بالعدل والقسط(2)، واحقاق الحق والحكم بالانصاف وهذا ما ينبغي ان يتوافر في شخص الحاكم كي يحقق العدالة بين رعيته ويساهم في بناء مجتمع صالح تسوده العلاقات الانسانية المتبغاة، وذلك ما نادى به الاسلام الحنيف وبشر به الرسول الكريم صلى الله عليه واله وسلم واقام على اساسه ركائز المجتمع الجديد على وفق بناء قويم تسوده المساواة والتقوى، فكان حاكماً دينياً ودنيوياً مثالياً في عدله وحكمه تسنده قوة الهية متمثلة بالوحي والرسالة السماوية في ارساء نظام حكم عادل، بيد ان المرحلة اللاحقة رافقتها متغيرات كثيرة كان لها الاثر البالغة في رسم معالم الحياة السياسية فيما بعد وقد استند الحكم الى رؤية بشرية حاولت ارضاء بعض الناس والتجاوز على بعض القيم والمبادئ التي قال بها الاسلام وذلك ما ادى الى حدوث تقاطع جسيم في الرؤى تحمل وزره الامام علي بن ابي طالب عليه السلام بعد وفاة الرسول الكريم صلى الله عليه واله وسلم وفي ايما خلافته مع بعض الولاة الذين كانوا عائقاً بوجه سياسته التي تهدف الى اقامة العدل بين الناس والحكم بما قالت به السماء وذلك ما اوقعه في حروب دامية شغلته كثيراً وكانت تهديداً واضحاً للاسلام الحنيف.

ان الامام "ع" ابي الا ان تسير الامور كما كانت في عهد الرسول الكريم "ص" وكما يريد الله سبحانه وتعالى وذلك لا يروق للكثيرين اصحاب المطامع الدنيوية فتأزم الموقف ونشبت النزاعات والمؤامرات حتى انتهى عليه السلام شهيداً في محراب صلاته، وقد تخلق بخلق الامام علي "ع" كل ولاته المخلصين واصحابه الاخيار وكانت رسائله ومواعظه اليهم تهديهم الى طريق الصواب وكان مالك الاشتر رضوان الله عليه مثالاً رائعاً للقائد الشجاع الذي نفذ ما اراد الله والامام "ع" بدقة واخلاص حتى قضى شهيداً على يد عدو معروف بالخديعة والمكر وقد تآمر وقتل اصحاب الامام المخلصين بالسم وهو القائل "ان لله جنوداً من عسل" وكان الاشتر شهيد العسل حينما جله الامام "ع" والياً على مصر لقد كان الامام "ع" حاكماً عادلاً اراد ان يقيم حكم الساء والقرآن الكريم في الارض، وفي هذا البحث سندرس عدالة الحاكم وقموماتها واثارها في بناء المجتمع الصالح في نصوص الاما علي عليه السالم الموجهة الى واليه مالك الاشتر رضوان الله عليه وقد تضمنت عدل الحاكم بين الرعية وكبح شهواته عن ملاذ الدنيا وتحصين النفس امام مغرياتها كي يتخذه العامة مثالاً يحتذى في حياتهم اليومية وفي الختام قراراته المنصفة بين الناس واثارها الواضحة في بناء المجتمع الصالح.

 

عدل الحاكم

يقول الامام علي عليه السلام: [اعلم يا مالك اني قد وجهتك الى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور وان الناس ينظرون من امورك في مثل ما كنت تنظر فيه من امور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم، وانما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على السن عبادة فليكن احب الذخائر اليك العمل الصالح] (3).

لقد بدأ الامام عليه السلام خطابه بصيغة الامر وهذا الاسلوب فيه حث على التنفيذ لما يريده الخليفة لان في تنفيذه صالح الامة وفيه تبيان مسبق عن حال تلك البلاد التي ربما كان يجهلها مالك الاشتر فالامام "ع" اراد ان يضع صورة واضحة امام انظار واليه فالمجتمع بحاجة ماسة الى اقامة العدل وان من مقوماته يجب ان يتوافر حاكم عادل وذلك ما موجود في شخص مالك الذي وجهه الامام بذخيرة العمل الصالح وان الامر واجب التنفيذ لان فيه صالح المجتمع واقامة العدل بين الناس وان ذلك سيحصن نفس الوالي امام مغريات السلطة وسيكبح شهواته وغرائره، ان الامام "ع" كان يركز على اصلاح النفس اولاً لانها الاساس في بناء مجتمع قويم: [فاملك هواك، وشح بنفسك عما لا يحل لك، فان الشح بالنفس الانصانف منها فيما احبت او كرهت]، استمر الامام علي "ع" باستخدام صيغة الامر في خطابه لان هذا سيؤثر في نفس المخاطب ويكون محفزاً على تجنب المكاره والحرام والانصاف في الحكم فضلاً عن انه خطاب من سلطاته اعلى الى سلطة ادنى فيستوجب الامر والارشاد وان الامام يخبر الامر اكثر من غيره وان الابتعاد عن الحرام والكراهية هو احقاق الحق واقامة العدل فاذا بدأ الحاكم بنفسه صلحت الرعية.

وان الحكم اذا اقام حكماً ان يكون عادلاً والعفو قريب منه لان العقوبة ليست الاساس في بناء المجتمع القويم بل العفو والتوجيه والاشعار بالخطأ ربما يساعد في بناء المجتمع افضل من العقوبة: [ولا تندمن على عفو، ولا تبجحن بعقوبة ولا تسرعن الى بادرة وجدت منها مندوحة ولا تقولن اني مؤمر آمر فاطاع فان ذلك ادغال في القلب، ومنهكة للدين وتقرب من الغير].

لقد كان خطاب الامام علي عليه السلام توجيهياً رائعاً يرسم الخطوط العريضة امام الوالي في اقامة حكمه وهو دعوة الى التسامح وعدم استخدام العقوبة ووسيلة لكبح جماح الناس بل ان التوجيه والارشاد اولاً وان العقوبة تكون في الظروف الاستثنائية لانها حالة استثنائية ان تعاليم السماء كانت تتدفق على لسان امير المؤمنين عليه اللام بهذا الخطاب الرائع والحكم العادل الذي يريد ان يكون حكم ولاته بمستوى حكمه بين الرعية وان تلك الاحكام العادلة والعلاقة الحميمية بين الوالي والمجتمع ستقوى الاواصر وتزيد المحبة في القلوب: [واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم اكلهم فانهم صنفان امام اخ لك في الدين واما نظير لك في الخلق] لمسة انسانية رائعة في النظر الى العباد بالمساواة واقامة الحكم بالعدل بينهم.

لقد كان الامام علي بن ابي طالب "ع" حقيقة ناصعة وظاهرة فريدة في تأريخ الانسانية فهو رجل المبادئ السامية والمجاهد من اجل ارساء دعائم الحق التي نادى بها الاسلام العظيم.

لقد سجل الامام "ع" صفحات حياته تسجيلاً موثقاً مجسداً معاني التضحية والاستشهاد من اجل تثبيت دولة الحق والعدالة(4)، ان هذا الرجل العظيم تحمل الكثير قبل ايام حكمه وبعدها حين انشق عليه بعض المسلمين وتخال الاخرون وحاربه من حارب وقد شهدت حياة الامام "ع" صراعاً عنيفاً هو صراع الحق ضد الباطل، فسياسة الامام تستند الى الرسالة السماوية وقوامها العدل والمساواة وسياسية اعدائه تستند الى المكر والخديعة والفجور والاطماع الدنيوية وشتان بين الاثنين، وكان هدف الامام "ع" بناء مجتمع صالح قويم تسوده العلاقات الاناسانية والمثل العليا بيد ان الصراع على السلطة والمطامع لبنى الانسان وقف عائقاً امام طموحاته ومواقفه العادلة التي جسدتها رسائله وتوجيهاته الى ولاته ايام خلافته او قبلها حين كان بعيداً عن الخلافة. وكانت قراراته هادفة الى بناء المجتمع القويم وتحصين النفوس وكبح جماحها وشهواتها عن ملاذ الدنيا يقول: [وليكن احب الامور اليك اوسطها في الحق واعملها في العدل واجمعها لرضى الرعية، فان سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وان سخط الخاصة يغتفر من رضى العامة].

قرار واضح يتخذه الامام "ع" ويوجه الولاة باتباعه لان فيه احقاق للحق وانصاف للمجتمع الذي يجب ان تكون الاحكام مناسبة لهم وان تنال رضاهم وهذا يمثل الديمقراطية في الحكم فالاقلية تحترم والاغلبية يكون لها الرأي كي يتمكن الحاكم من الحصول على الرضى واستقرار المجتمع وهذا ما تعمل به كل الانظمة الديمقراطية اليوم في العالم وهو نظام يعطي الحرية للفرد ويحسن الظن به وذلك اكده الامام علي بن ابي طالب "ع" منذ اكثر من الف واربع مائة سنة وكان يتوخى حرية المواطن وزرع الثقة في نفسه من رسائله التي بعثها الى ولاته وهي قرارات ومنهج عمل عصري رائع اذ يقول: [واعلم انه ليس شيء بأدعى الى حسن ظن راع برعيته من احسانه اليهم، وتخفيفه المؤونات عليهم، وترك استكراهه اياهم على ما ليس قبلهم فليكن منك في ذلك امر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك فان حسن الظن يقطع عنك نصباً طويلاً] ان حسن الظن بالرعية يزرع الثقة بين الرئيس والمرؤوس ويساعد على بناء مجتمع صالح ينتصر على ذاته في ادق الظروف ويواجه الصعب المحن بدقة وروية.

ان الثقة المتبادلة بين الامام "ع" وولاته المخلصين زرع الثقة بين الوالي ورعيته ورسم الخطوط العامة للسياسة العادلة التي ينبغي ان تسود بين افراد المجتمع الواحدة كي تكون الحصيلة وافرة في الاتجاهات الاخلاقية والعلمية والسياسية وان يكون المواطن على بينة من سياسة اولي الامر يقول الامام: [واياك والمن على رعيتك باحسانك، او التزيد فيما كان من فعلك، او ان تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فان المن يبطل الاحسان والتزيد يذهب بنور الحق، والخلق يوجب المقت عند الله والناس، قال الله تعالى: "كبر مقتاً عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون"، ان الامام علي "ع" يدعو ولاته الى التثبت في اتخاذ قراراتهم لان في ذلك منفعة للناس وللوالي وفيه احقاق للحق ويجب ان يكون الوالي حاسماً وحازماً في قراراته، وذلك ما خاطب به مالك قائلاً: [وإياك والعجلة بالامور قبل اوانها، او التسقط فيها عند امكانها أو اللجاجة فيها اذا تنكرت او الوهن عنها اذا استوضحت] الامام يريد ان يضع الامر في موضعه ومعاملة الناس بالسواء كي يتحقق العدل في المجتمع ويشعر الرعية بالاطمئنان فضلاً عن ان هذه الخطب تضع الخطوط العامة لسياسة الولاة وتوضح منهج الخليفة العادل في ادارة الامور وقد كان ضمير المخاطب هو ا لمهيمن الرئيس على لغة المرسل ويشعر القارئ وكأن الطرف الاخر يقف مباشرة امام ولي الامر كي يكون التأثير بليغاً ووقعه مؤثراً في نفس الوالي المنفذ للامر ويشعر وكأن عيناً خفية تراقبه ويتحتم عليه الدقة في التنفيذ وخلاصة القول ان هذا البحث محاولة متواضعة للكشف عن حقائق رائعة من سفر الامام علي بن ابي طالب عليه السلام وعهده الى واليه مالك الاشتر رضوان الله عليه من اجل احقاق الحق وصيانة المجتمع من الاخطار المحدقة به وان على الامة ان تعيد دراسة تراث الامام عليه السلام لانه دستور رائع للحياة وبناء مجتمع قويم علماً ان الامة لم تستوعب ذلك التراث منذ مقولته عليه السلام الشهيرة [سلوني قبل ان تفقدوني] ففقدوه شخصاً ولم يستفيدوا من علمه الجم لا بل حاربوه وحاربوا اسرته الشريفة من بعده فكان الناس اعداء ما جهلوا وضاع الكثير عليهم ومن هنا دعوة الى دراسة تراث الامام لبناء مجتمع صحيح نفتخر به بين مجتمعات الامم الاخرى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1ـ ينظر لسان العرب مادتي عدل وحكم، جعفر خياط الدار المصرية للطباعة .

2ـ المصدر نفسه.

3ـ كراسة الندوة الفكرية الاولى عهد الامام علي "ع" الى مالك الاشتر 2009.

4ـ واقعية الحدث وحيوية المضمون دراسة في خطبة الجهاد للامام علي "ع" أ.د. فليح كريم الركابي مجلة التضامن الاسلامي 2005 ص57.

المصدر: http://www.hamoudi.org/dialogue-of-intellenct/12/08.htm

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك