هل الحرية السياسية قيمة إسلامية؟

مايكل كوك

-I-



بداية أود عرض بعض القضايا التي أظن أنها لن تكون بالمستغربة ولا بالمستبعدة. وأول هذه القضايا أن معظم المجتمعات البشرية تبتكر هي أمر العلاقة التقابلية بين "السيد" و"العبد" ابتكارا، كما تستأنس هي بالتعارض الذي تولده هذه الصلة فيما بين "أن يكون المرء كائنا عبدا" و"أن يكون شخصا حرا" استئناسا(1). وثانيتها: أن المقدرة على وضع المماثلات أو المجازات [التي تصف مثل هذه العلاقات الاجتماعية] إنما هي نصيب مشترك بين كل بني البشر، قائم في ملكاتهم الذهنية راسخ فيها مكين. وبناء على هاتين الدعوتين؛ فإنه ليس ينبغي علينا -بحسب ما أعتقد- أن نفاجأ إذا ما نحن ألفينا من البشر من يبادر فيقيم المماثلات بين "العبودية" و"الحرية" من جهة أولى، ويقيمها بين غيرها من الصلات الأخرى التي تتضمن توزيعا غير تناظري للسلطة بين البشر، من جهة ثانية. 



ومن بين تلك الصلات غير التناظرية -في عرف العديد من المجتمعات- الصلة التي تجمع الزوج بالزوجة. وقد نقل عن أسماء بنت أبي بكر -ابنة الخليفة الأول- أنها قالت: "إن هذا النكاح رِقٌّ، فلينظر أحدكم عند مَنْ يرق كريمته"(2). والحق أنها ما كانت لتقصد بهذا التنبيه أن المرأة هي -شرعًا- أَمَةٌ لزوجها؛ وإنما يلزمك أن تنظر إلى الأمر بوفق وجهة النظر التالية: الأفضل لك أن تتمهل وأن تتأنى فتتوقف قبل أن تقدم على أن تزف كريمتك إلى ذاك الذي من شأنه أن يتحول في البيت إلى طاغية متسلط. 



وأزيدك مثالا آخر ممكنا عن هذه الصلة، هو مثال الصلة بين "عِلْيَة" القوم و"عامتهم". ففي اللسان العربي يمكن أن يفيد لفظ "الحر" -فضلا عن معناه المعروف المتداول- دلالة الشخص "النبيّ ل" أو "الشريف"(3). والمسألة لا تكمن هنا في أن العامة عَبيدٌ حقيقيون للعلية، ولكن يمكن تفسيرها على النحو التالي: من شأن عِلية القوم أن تتصرف تصرف الأحرار المستقلين؛ بينما تميل عامة القوم إلى أن تسلك -إلى حد ما- مسلك العبد. 



على أن ثمة مثالا آخر أكثر وضوحا ودلالة، هو مثال الصلة بين "الرب" و"عباده"؛ ذلك أن الدلالة الأولى للفظ "العبد"، في اللسان العربي، إنما هي دلالة "المُسترَق" الذي يتعارض مع "الإنسان الحر"؛ ولكن يمكن أن يُعْمَلَ اللفظ للدلالة على مطلق الإنسان -حرا كان أم عبدا- في صلته بالرب. والفكرة المتحصلة هنا أن من شأن الإنسان أنه مربوب لخالقه(4)، وذلك تماما مثل ما أن العبد مملوك لسيده. وليس يعني هذا القول أن بني البشر هم -شرعا- عبيد لله، أو أن قانون العبودية هو الذي يحكم صلاتهم به؛ وإلا كان هذا مذهبا غير مألوف في الشرع، هذا بخلاف ما يترتب عليه من آثار شاذة. ولكن إذا ما أنت حسبت نفسك من تلقاء ذاتك عبدا لله، فإن من شأن هذا الاعتقاد أن يساعدك على أن يترسخ فيك التواضع والطاعة الذيْن تتطلبهما صلتك بخالقك. والحال أنه عندما ستتاح لي الفرصة للإحالة على هذه المماثلة، فإنني سوف أتبع الاستعمال الشائع المشترك، وذلك بحديثي عن "عباد الله" بدل الحديث عن "عبيده"؛ على أننا علينا أن نذكر هاهنا بأننا نُعْمِلُ في اللسان العربي اللفظة ذاتها - "العبيد"(5) - بغاية تأدية المعنيين معا، لا فرق. 



والمثال الأخير -وهو الذي يهمنا هاهنا حقا- هو مثال الصلة بين "الحاكم" و"المحكوم"؛ ففي بلاد الأندلس -نهاية القرن التاسع [الميلادي]- كان قد تزعم شخص يدعى ابن حفصون تمردا على السيطرة العربية عليها وحدث أن كان أتباعه يتشكلون من المسلمين من ذوي الأصول الأندلسية الخالصة. وقد خاطَب هؤلاء الأتباع بالقول: "كثيرا ما عنفكم السلطان، وانتزع أموالكم... وأذلتكم العرب، واستعبدتكم، وإنما أريد أن أقوم بثأركم وأخرجكم من عبوديتكم"(6). ومرة أخرى، فإن المسألة ما كانت تتمثل في أن غير العرب قد استُعبدوا من لدن العرب، وإنما لك أن تفكر بوفق هذه الطريقة في التفكير: لقد كان العرب يضطهدونهم. على أن عليك أن تلاحظ هنا أنه ما إن لجأ ابن حفصون إلى هذه المماثلة حتَّى كان بمكنته أن يستمر في القول لأتباعه: إن بغيته كانت هي أن يجعل منهم أناسا أحرارا؛ بمعنى آخر - ولنتحدث هاهنا بلسان حاله ـ: "أن أحرركم"؛ لكنه ما صرح بذلك تصريحا ولا قاله هو لفظا؛ وإنما كنى عنه كناية، فتركه أمرا ضمنيا معمى. 



لئن كانت هذه القضايا التي افتتحت بها قولي هذا حقة، فإنه يُنتظر منا أن نلاقي مثل هذه المماثلات بين الفينة والفينة. ولكي نقصر أنفسنا على حقل السياسة لا نتعداه إلى سواه من المجالات، فإني أتوقع أننا إذا أجرينا بحثا مكثفا، فإننا سوف نعثر على مثل هذه المماثلات تتوارد بين الفينة والأخرى في مختلف المواضع والأزمنة في التاريخ الإسلامي(7)، وذلك على نحو ما هو الشأن عليه في التاريخ البشري بعامة، لا غرابة. 



وما أروم القيام به الآن هو أن أرفع سقف المقارنة. خذ بنا -بداية- إلى إجراء تمييز بين ضربين من الثقافات: ضرب أول يقوم فيه أصحابه -على نحو غير منتظم وهامشي- بمماثلات بين وضع العبودية والخضوع إلى السلطة السياسية؛ وضرب آخر تكون فيه هذه المماثلة مركزية وجوهرية في الطريقة التي يفكر بها الناس في السياسة ويتحدثون عنها. كان ليفوس تيتوس قد افتتح كتابه الثاني، بعد أن كان قد روى لنا قصة النهاية المحزنة للمملكة في كتابه الأول من تاريخ روما، بعبارة مفادها أن مهمته من الآن فصاعدا إنما هي أن يرسم تاريخ "شعب حر، محكوم من لدن حُكَّام منتخبين يعدّون موظفين للدولة يعملون على تطويرها دوما ولا يحكمون وفق أهوائهم، وإنما يطبقون القانون تطبيقا تاما"(8). والحال أن هذه الفكرة ما كانت مجرد رأي طارئ خطر ذات مرة في ذهن ليفوس ثم سرعان ما آل إلى زوال، وإنما كان رأيا مستقرا شكل جزءا من تقليد راسخ متين(9). على أن وجود مثل هذا التقليد في تاريخ أوروبا يمكن أن يثير -بالنسبة إلى هذا البحث- سؤالا: هل كانت أوروبا -يا ترى- قد انفردت به دون سواها [من أمم العالم]؟ 



يبدو أن الجواب بالنفي؛ لك أن تنظر -مثلا- إلى حال شعب دولة "واجو" Wajo ضمن شعوب البوجيس Bugis في جنوب غرب جزيرة سلبيس Celebes(10)؛ إذ تروي حوليات تاريخهم أن دولة هؤلاء القوم إنما نشأت عن اتفاق بينهم يفترض أنه كان قد أجري في القرن الخامس عشر أو ما يقاربه؛ لكن حدث في مرحلة لاحقة أن خرق حاكمون من حكامهم بندا من هذا الاتفاق يتعلق بحريات الناس، فما كان منهم إلا أن قتلوهم؛ ثم إن السكان ارتأوا بعد ذلك أن من واجبهم أن يعملوا على أن تحترم حرياتهم فيما يستقبل من الزمان وذلك عبر اتفاقات تشهد عليها آلهتهم شهادة شرفية. أما فيما يتعلق بأمر ما تمثلت فيه هذه الحريات، فإنه حكي لنا أنهم قد اتفقوا على أن "ضمان الحرية يلزم تتحقق أمور ثلاثة حاسمة وجوهرية: أولا: ألا يتم التدخل في أمنيات الناس. ثانيا: ألا يتم منعهم من التعبير عن آرائهم. ثالثا: ألا تتم الحيلولة بينهم وبين التنقل في البلاد عرضا وطولا، وإنما لهم أن يتجولوا متى شاءوا وأنى شاءوا بالجنوب والشمال والغرب والشرق. هذه هي حريات شعب واجو"(11). والحال أن أحد السياقات الذي تبدت فيه هذه المشاعر تبديا قويا إنما كان هو تحرير "واجو" من حكم دولة "بون" عام 1737، وهو سياق قاد مؤرخي تلك الحقبة إلى أن يسجلوا في مدوناتهم التي دونوها أن: "شعب واجو شعب حر". واللفظة التي تقابل هنا لفظ "حر" في لسانهم هي لفظة "مرادكا" Maradeka؛ وهي لفظة ذات أصل سنسكريتي استعملت في اللسان المالايي وفي اللهجات التابعة له، شأن لسان البوجينيس، بدلالة "حر" بما يتعارض مع دلالة "عبد"(12). وبالنسبة إلى أهل "واجو"، فإنه يبدو أن هذه المماثلة صارت سمة مركزية في سياستهم الثقافية. إذ ثمة عبارة منسوبة إلى الآباء السياسيين لهذا الكيان تقول: "أهل واجو أناس أحرار، أحرار منذ المولد... ولا سيد لهم عدا العرف الذي تم التوافق عليه"(13). 



فقد تحقق بهذا أنه لا يبدو أن فكرة "الحرية الأوروبية" فكرة فريدة مخصوصة؛ إذ توجد على الأقل ثقافة واحدة غير أوربية طورت تصورا واضحا للحرية السياسية، وهي إنما فعلت ذلك في إطار مماثلة متعلقة بما يعنيه أن يكون المرء شرعًا كائنا حرا. لكن؛ هل كانت هذه التصورات متداولة سارية بين الشعوب؟ إن المصدر الذي أفدتُ منه مثال "واجو" إنما كان كتابا جماعيا نشر تحت مسمى "الحريات الآسيوية"، وكما يوحي بذلك إعمال الجمع "حريات" فإن المسهمين كانوا قد أعملوا اللفظ بالجمع، وقد بدا الأمر كما لو أنهم أرادوا تلافي صورة شائعة عن تاريخ القيم الآسيوية بحيث تكون فيه فكرة "الحرية السياسية" الغائب الأكبر، وذلك إلى حين تم استيرادها من الغرب. والحال أن المصنفين كانوا على علم تام بمختلف أنحاء العالم التي يكتبون عنها، لا سيما منها شرق آسيا وغربها. وهذا يعني أنه لئن كانت هناك تشابهات بين أفكار الأهالي وفكرة "الحرية" الغربية في هذه المناطق، لكانت قد سنحت فرصة كبيرة لأن يكونوا قد حدثونا عنها. ومع ذلك، فإن المثال الوحيد الذي تم إيراده في الكتاب برمته إنما كان مثال شعب "واجو"(14). وعلى الرغم من حدود تغطيته الجغرافية، فإن هذا الأمر يوحي بأن المماثلات المقنعة إنما كانت بالفعل نادرة. وعند هذا المستوى من التحليل أود أن أرفع مرة أخرى سقف المقارنة لربما على نحو غير معتاد ولا مألوف بالمرة؛ خذ بنا نتطلب لا فكرة "الحرية السياسية" التي يبدو أن شعب "واجو" كان قد امتلكها بالفعل فحسب، بل أن تكون الثقافة المعنية قد انخرطت في تفكير منظم ونسقي في قيمها السياسية، وهذا ما يسمَّى في الفكر الغربي باسم "الفكر السياسي". وبحسب أفضل ما عَلِمت: لا شيء نظير هذا القبيل شوهد لدى شعب "واجو"؛ وذلك بما يوحي أنه على هذا المستوى فإن الظاهرة الأوروبية يمكن أن تكون بالفعل ظاهرة فريدة. 



-II-



بدءا من جهة النظر هذه فصاعدا، سوف أركز اهتمامي بالأولى على التيار الأعظم في التقليد الإسلامي. وهنا سوف يبدو بيِّنا -ما دام الأمر يتعلق باستعارة "الحرية السياسية"- أن لا شيء لي جديد حتَّى أقدمه(15). ذلك أنني كنت -في الفقرة السابقة- قادرا على الإتيان بأمثلة تبدت فيها العبودية بحسبانها استعارة للقمع، غير أنه لا واحد من هذه الأمثلة كانت تستعمل فيه الحرية -بالتزامن- للإحالة إلى غيابها. بتعبير آخر، وجدت فكرة للعبودية السياسية باعتبارها وضعا ينبغي تفاديه، لكن ما كانت لتكملها بوضوح فكرة حرية سياسية بحسبانها وضعا يتم التوق إليه. وبهذا المعنى، ليست الحرية السياسية قيمة إسلامية. لكن هل ثمة تصورات في التقليد الإسلامي وجيهة وصائبة ووثيقة الصلة بموضوعنا أهملها هذا التركيز الضيق؟ فيما يلي سوف أحدثكم عن الاستعمال الاستعاري لفكرة "الحرية" في الفكر الإسلامي، ولسوف أحدثكم أكثر عن القيم السياسية الإسلامية، حتَّى وإن كنت أود أن أوضح منذ البداية أنه لا وجود لتعالق بين الاثنين قبل حلول الأزمنة الحديثة. 



فيما يتعلق بأمر الاستعمال الاستعاري لفكرة "الحرية"، سبق أن أشرنا إلى المعنى الذي تترجِم فيه لفظة "حر" عن معنى "شريف" أو "نبيل"، وما يمكن أن نضيفه هنا هو أنه في إطار مواصلة التقاليد القديمة، فإننا نجد ما يشبه هذه الظاهرة في الجانب الديني(16). والمثال الأوجه هو المفهوم الصوفي عن الحرية [الروحية]. ونحن نعثر على الأقوال المأثورة التي تترجم عن هذه الفكرة في الفصل الذي خصصه القشيري(17) (المتوفى عام 1072م) في رسالته الشهيرة عن التصوف، لكن سَرْدَ المصادر التي يوردها يدل على أن المفهوم كان منتشرا لدى الأوساط الصوفية(18). وقد فسر هو نفسه المفهوم بوفق التعابير التالية: "الحرية ألا يكون العبد تحت رق المخلوقات"(19). وما يمكن أن نفهمه من عبارة "المخلوقات" هنا أمور؛ مثل المكانة والملكية(20). على أنه ثمة فكرة مغايرة عن الحرية [لدى الصوفية] أقل جدارة بالاعتبار وأشد مروقا عن توجه التيار الأعظم، هي فكرة الحرية في [إسقاط] التكاليف الشرعية، وقد استعملت بدلالة نقيضية ضدية. والحال أن هذا التصور -الذي يعد مجرد صدى لتقاليد عتيقة- إنما وجد على هوامش التصوف(21)، وفي سياقات شيعية مغالية. وهكذا، فإننا نعثر على نص مبكر حفظه لنا النصيري فحواه أنه إذا ما ملك المرء الحقيقة اللدنية امتلاكا، فإنه ما صار عبدا للواجبات الشرعية الظاهرة؛ ومن ثمة خرج هو من العبودية إلى المملوكية(22). وحتى لو نحن عمدنا إلى تنحية هذه الاستعمالات النقيضية جانبا، فإنه يمكن أن نحسب أن ثقافة استعملت مفهوم "الحرية" استعمالا مجازيا في المجال الديني لتقتدر بأيسر اقتدار يكون على تحقيق النقلة إلى تطبيقه في المجال السياسي؛ لكن -وكما سبق أن وقفنا على ذلك- فإن الثقافة الإسلامية السابقة عن الحداثة ما أقدمت على فعل ذلك أبدا. 



لنصوب الآن أنظارنا إلى القيم السياسية الإسلامية. دعنا نبدأ بسرد حكاية مثيرة حدثت على ضفة العراق الجنوبية حوالي عام 636 م(23). وسياقها يتمثل في كون [النبيّ] محمد كان قد أسس الدولة الإسلامية بالمدينة عام 622 م ووافته المنية عام 632 م بعد أن حكمها لمدة عشرة أعوام، وما جَمَّد خلفاؤه حدود دولته كما هي؛ وإنما وسعوا نطاقها حتَّى امتدت إلى خارج شبه الجزيرة العربية، وهو الأمر الذي حملهم على مواجهة الإمبراطورية الفارسية. وفي معركة حاسمة دارت رحاها حوالي عام 636 م بالقادسية هزم العربُ الفرسَ ومن ثمة فتحوا العراق. وقصتنا هذه مدارها على ما دار عشية هذه المعركة؛ فقد كان الجيشان قد عسكرا على بعد بضعة أميال بعضهما عن بعض على مسافة قليلة من جنوب النجف. وقد كان طلب قائد الجند الفارسي - رستم - من العرب أن يبعثوا إليه بمبعوث، وكان أن فعلوا بأن بعثوا إليه -على التدقيق- بمبعوثيْن لا بواحد. وحدث أن كان أحدهم أعرابيا بادي البداوة يُدعى رِبْعِيَّ بن عامر. وفي انتظار مَقْدِمِه استشار رستمُ عظماءَ أهل فارس فقال: ما ترون أنُباهي أم نتهاون؟ فأجمع مَلَؤهُمُ على المباهاة، فاستقبلوه أفخم استقبال على الطريقة الفارسية، وبسطوا البسُط والنمارق، ووضع لرستم سرير الذهب، وألبس زينته من الأنماط والوسائد المنسوجة (مع تقدم العلم أنها كانت رمزا للسلطان)، لكن لما أقبل الأعرابي على رستم أقبل يتوكأ على رمحه يقارب الخطو ويخرق النمارق والبسط، فما ترك لهم نُمْرُقَة ولا بساطا إلا أفسده وتركه منهتكا مخرقا(24). مبعوث آخر هو المغيرة بن شعبة ما اختلفت وجهة نظره عن سابقه، فكان أن أبدى رأيه إبداء جسور؛ إذ أقبل على رستم فجلس معه على سريره ووسادته، مما أثار حفيظة الفرس فوثبوا عليه فدفعوه وأنزلوه وعنفوه، وكان جوابه حاضرا: "إنا معشر العرب سواءٌ لا يستعبد بعضنا بعضا إلا أن يكون محاربا لصاحبه"، ثم أضاف بتلقائية: "ظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم فلا نصنعه"، فمتى علم أن بعضهم أرباب بعض؟ والحال أن جمهور الفرس من الذين شهدوا الحادثة كان منقسما على نفسه: ما بين عامة قالت: "صدق والله العربي"، وقالت الدهاقين: "والله لقد رمى بكلام لا يزال عبيدنا ينزعون إليه"(25). ولما انتهت مثل هذه التقديمات، آن أوان تبادل وجهات النظر بين رستم والمبعوث. وعندما سأل رستم رِبْعيا: ما جاء بكم إلى العراق؟ أجابه: إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله(26). وذلك مثلما أن مبعوثا آخر اختصر الإسلام لرستم في بضعة تعاليم أساسية، من بينها التزام بإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله، واعتبار أن الناس بني آدم وحواء إخوة لأب وأم(27). على أن ثمة موضوعات أخرى دار حولها التحاور بين الوفدين، لكن يمكن أن نضرب عنها صفحا. وبالجملة، فإن حصيلة هذه المداولات كانت تحقيق هدنة ثلاثة أيام بين الجيشين. والحال أنه ما إن انتهت الهدنة، حتَّى استعرت الحرب من جديد، وكان أن انتصر العرب بجدارة، وكان أن انهزم الفرس، بجدارة أيضا. 



ما نلفيه في هذه الحكاية إنما هو صيغة نزعة مساواة تامة خالصة(28). يتعلق الأمر بلغتي خطاب وإن اختلفتا فإن كل واحدة منهما تعزز الأخرى: اللغة الأولى لغة خطاب إثنية: يتعلق الأمر بكيف نكون نحن "معشر العرب"، وذلك بقطع النظر عن الديانة التي نتبعها؛ فنحن العرب كلنا متساوون، وما كان أحدنا عبدا للآخر ولا ينبغي له. واللغة الثانية لغة خطاب دينية: لئن كان كل بني البشر عبادا لله، فإنهم ليسوا يحيون هذه الحياة الدنيا لكي يتخذ بعضهم بعضا سخرية ويصيروا لهم عبيدا. وفي الحالين معا، فإن المماثلة تعمل عملها، وبعض العلائق الاجتماعية والسياسية التي كانت تميز المجتمع الفارسي التراتبي السابق عن الإسلام قد تم نقدها بوصفها معادلة للاستعباد، أو بوصفها متضمنة لخضوع البشر، وهو الخضوع الذي لا يكون إلا لله. وبالضد من هذا، فإن العرب المسلمين على وعي بخلاف هذا الوضع الفارسي المتوارث، وكانوا يعدون أنفسهم - ضمنا وحتى إن لم يصرحوا بذلك التصريح - أناسا أحرارا.



وبعد، فهل هذا الذي أتيت على ذكره الآن محض نموذج لمماثلة متقطعة غير مستديمة كانت تحدث بين الفينة والأخرى وقد سبق لي الإشارة إليها من ذي قبل، أم أن له سياقا واسعا متكررا متصلا(29)؟ 



لا ريب أن جزءا من السياق يتمثل في طباع بلاد شبه الجزيرة العربية القبلية؛ ذلك أن البيئة العربية كانت بيئة معوزة فقيرة من حيث الموارد، وكان هذا الأمر جليا بديا في طبائع قبائلها. وإن بُناهم القبلية قد نزعت إلى أن تكون بُنى بسيطة: كان ثمة تمايز واضح بين أبناء القبائل وأي فرد آخر أجنبي عنها، غير أنه كان ثمة -بالمقابل- غياب لتراتبية شكلية بين أبناء القبائل أنفسهم. وهذا إنما وشى عنه الطابع الذي ميز تقليد النسابة العربية كما دون في فجر الإسلام؛ إذ كان مداره على ساكنة القبيلة في مجملهم وليس على النخبة وحسب(30). وذلك مثلما وجد أيضا تعبيره في الأشكال غير الزخرفية لديباجة الأسلوب الترسلي العربي المبكر(31). على أنه في ذلك الوقت نفسه كانت السلطة السياسية في المجتمع القبلي لشبه الجزيرة العربية سلطة ضعيفة، وكان تشكيل الدولة يلاقي صعوبات؛ إلا أنه على العكس من ذلك كان مستوى المشاركة السياسية مستوى عاليا جدا، مثله في ذلك مثل مستوى مشاركة أية ديمقراطية حديثة. والحق أنه ينبغي العثور على التعبير القوي عن قيم هذا المجتمع في مجال الفعل [السياسي] في محكية عن عمرو بن كلثوم -وهو شاعر جاهلي عربي قتل ملكا- وكان هذا الملك هو عمرو بن هند الذي كان قد صنع كل التحيل لحمل أم الشاعر على خدمة أُمِّهِ خدمة مهينة بمناولتها طبقا(32). وقد افتخر هذا الشاعر، وهو يتحدث باسم أفراد قبيلته، في قصيدة ذكر فيها: 



وأَيَّـامٍ لَـنا غُـرٍّ طِـوالٍ ... عَـصَيْنا المَلْكَ فِيها أنْ نَدِينا



مستفسرا إياه في القصيدة: 



بِـأَيِّ مَـشِيئَةٍ عَمْرَو بنَ هِنْدٍ ... نَـكُونُ لِـقَيْلِكُمْ فِـيهَا قَطِينا



ومستنكرا: 



بِـأَيِّ مَـشِيئَةٍ عَمْرَو بنَ هِنْدٍ ... تُـطِيعُ بِـنا الوُشَاةَ وتَزْدَرِينا



تَـهَـدَّدْنا وأوعِـدْنا رُوَيْـداً ... مَـتَى كُـنَّا لأُمِّـكَ مُـقْتَوِينا



ويحكي كيف كان قومه يعودون من المعركة: 



فَـآبُوا بِـالنِّهَابِ وبِـالسَّبايا ... وأُبْـنَا بِـالمُلُوكِ مَـصَفَّدِينا



ويعلن أنه متى الملوك ظلموا قومه:



إذا مَا الْمَلْكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفاً ... أَبَـيْنا أَنْ نُـقِرَّ الـذُّلَّ فِـينا(33)



والحال أن أحاسيس النزوع إلى المساواة التي عبر عنها المبعوثون إلى الفرس إنما تتوافق مع هذا الطبع بتمام الموافقة؛ ففي الحالتين معا علينا ألا ننظر إلى أمر تاريخية تفاصيل هاتين الحكايتين(34)، إلا أن هذا لا يمنعنا من اعتبار أنه من الجليّ أن ننظر إليهما بوصفهما ينمان عن تقليد قبلي أصيل يضرب بجذوره إلى ما قبل بزوغ الإسلام(35). 



على أنه وعلى النقيض من شعب "واجو"، فإن رجال هذه القبائل ما بادروا إلى المفاخرة بوصف مجتمعهم هذا الذي يأبى التراتبية بأنه مجتمع "حر". والحال أن اللفظ العربي الذي أُعمل بغاية وصف القبائل غير الخاضعة للسلطة وللجباية إنما كان هو لفظ "لقح"(36) [ورد في لسان العرب: وقوم لَقَاحٌ وحي لَقَاحٌ لم يدينوا للملوك ولم يُملكوا ولم يصبهم في الجاهلية سباء (المترجم)]. وهكذا روي لنا أنه في الجيل المتقدم على صعود الإسلام، حاول أحد أفراد قبيلة قريش المكية أن يصير ملك مكة وهو يوالي البيزنطيين، فما كان من فرد غمر آخر من أفراد القبيلة إلا أن استنكر الفكرة استنكارا واضحا بالقول: "إن قريشا لقح لا تَملك ولا تُملك"(37). لكن، لماذا كان لكلمة "لقح" أن تفيد هذا المعنى؟ ذلك أمر يبقى غامضا من الجهة الاشتقاقية(38) [يورد ابن منظور الرأي التالي: "الحي اللقاح مشتق من لقاح الناقة؛ لأن الناقة إذا لقحت لم تطاوع الفحل، غير أنه سرعان ما يضعّفه بالقول: "وليس بقوي"(المترجم)]. وقد ذهب أحد الدارسين المعاصرين إلى أن اللفظ يعني: "الناس الأحرار الذين لا يطيعون أية ملوك أو يؤدون أية ضرائب"(39). وهذا صحيح، لكن يبقى أن استعمالنا لاصطلاح "حر" إنما هو من إعمالنا نحن وما كان من إعمالهم هم. 



إن الجزء الآخر من السياق لهو السمة التي وسمت الدولة الإسلامية المبكرة على نحو ما وجدت هي تحت حكم النبيّ وخلفائه المباشرين. لقد كانت [حقا] دولة، وبوسمها كذلك كانت مباينة تمام المباينة لحال القبيلة التي كانت بلا سلطان، على أنها كانت دولة عربية بعاصمتها في الواحة القَبلية: المدينة. ولقد كان لها طبعها الخاص الذي تم التعبير عنه في تراثها القبلي تبعا لتعابير الإسلام. والحال أن ثمة ثلاث سمات وصف بها هذا الطبع في مصادرنا تحتاج منا إلى تنويه خاص هنا. بداية؛ كان زعيم هذه الدولة يعي أنه ما كان بالمستبد ولا ينبغي له أن يكون، وهكذا عمد أبو بكر عند توليه الخلافة عام 632 م إلى مخاطبة رعاياه بالقول: إنه ولِّي عليهم وما كان بخيرهم، فإن أحسن فليعينوه، وإن أساء فليقوموه، مضيفا أنه إن عصا الله ورسوله فلا طاعة لهم عليه(40). ثانية؛ ما كانت هذه الدولة قطعا نظام ملك توريثي؛ قصدنا أنها كانت "شأنا عاما" بالمعنى الحرفي للعبارة اللاتينية res publica. والشاهد على ذلك أنه لما صار أبو بكر خليفة ليوم واحد -وقد كان تاجرا- أصبح وعلى ساعده أثواب وهو ذاهب إلى السوق ليبيعها ويطعم مِنْ بيعها عياله. وقد اقتُرح عليه أن قيامه بمهمته العمومية على الوجه الأكمل يقتضي أن ينطلق إلى خازن بيت المال يفرض له راتبا. فلما أتى الخازنَ أنذره بالقول: أفرض لك قوت رجل من المهاجرين ليس بأفضلهم ولا أوكسهم وكسوة الشتاء والصيف، وأضاف: "إذا أخلقتَ شيئا رددتَه وأخذتَ غيره"(41). ثالثا؛ كان أعضاء هذه الجماعة السياسية أسوياء بمعنى ما من المعاني. وقد صرح القرآن تصريحا: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"(الحجرات: 13). كما أن ثمة حديث نبوي -حتى وإن ما وجد في الصحاح- منسوب إلى النبيّ: "الناس سواسية كأسنان المشط"(42)، وذلك مثلما أن ثمة حديثا آخر نصه أن النبيّ صلى ذات يوم صلاة الظهر جالساً، فصلى أصحابه خلفه قياماً، فأشار إليهم وهو في صلاته أن اجلسوا، فجلسوا، وحينما فرغ رسول الله من الصلاة قال لهم: إن كدتم لتفعلن آنفاً فعل فارس بعظمائها(43). ومرة أخرى يمكن ألا تكون التفاصيل جديرة بأن تحرز ثقتنا؛ غير أنها تتناسب والبيئة العربية. وهنا أيضا فإنه ليس يعسر علينا أن ننظر في أمر المسلمين بأنهم شعب حر، وذلك في وعيهم بذاتهم بوصفهم يباينون الفرس. 



على أنه قبل أن نترك وراءنا الطابع الدائم الذي يسم طبع الجماعة/الأمة الإسلامية، دعوني أورد بعض المقاطع من خطبة ألقيت -حسب ما تذكره مصادرنا- أواخر عام 740م من لدن الثائر الخارجي أبي حمزة المختار بن عوف(44)؛ إذ كان الرجل قد أدان الخليفة الأموي معاوية (الذي حكم ما بين 661 و680) بحكم أنه: "اتخذ عباد الله خَوَلا ومال الله دُوَلا"(45)، كما قال عن المروانيين -وهم فرع عن الأمويين حكموا من عام 684 م إلى عام 750 م- إنهم "اتخذوا عباد الله عبيدا"(46). وفي مقطع آخر قال عن الأمويين بعامة: إنهم "يأخذون بالظِّنّة، ويقضون بالهوى، ويقتلون على الغضب، ويحكمون بالشفاعة"، وحكى على لسان حالهم القول: "البلاد بلادنا، والمال مالنا، والناس خولنا"(47). وثمة رواية مخالفة لهذا المقطع تهاجم هؤلاء الحكام لكونهم استولوا على السلطة ومارسوها كما لو كانت هي ملكيتهم الخاصة: "فملكوا الأمر وتسلطوا فيه تسلط ربوبية"(48)، وبتعابير أخرى كما لو أن الدولة ملك لهم. وهنا أيضا نعثر على الرفض نفسه للاستبداد ولاحتكار الحكم، وهو الرفض الذي كان طبع الخلافة المبكرة، وقد تم التوليف بينه وبين المماثلة الشائعة بين السلطة غير الشرعية والعبودية. ومرة أخرى، فإنه لا توجد أية إشارة إلى أن المسلمين شعب حر، ولكن هذه الفكرة تبدو متضمنة تضمنا في هذه المماثلة: على المسلمين أن يعامَلوا بوصفهم أناسا أحرارا، وليس بوسمهم عبيدا. 



وكما يمكن أن نتوقع ذلك، فإن هذه المحاولة الخارجية لوضع حد لمد الحكم الاستبدادي الاحتكاري التوريثي إنما كان مآلها إلى فشل؛ ذلك أن نمط الحكم الذي أدانه أبو حمزة إنما كان هو النمط الذي قُيض له أن يتغلب، وأن يحكم سائر العالم الإسلامي حتَّى الأزمنة الحديثة. وإن إحدى طرق النظر في هذا الأمر لاعتباره عودا إلى الأصل: إذ الدول التي صارت تحكم الآن العالم الإسلامي ما كانت مباينة في طبيعتها لتلك التي حكمت في المناطق نفسها قبل بزوغ الإسلام. 



ألَّا يكون الأمر على ما كان عليه، وإنما على ما كان ينبغي أن يكون عليه: هذا ما دافع عنه كتاب لضياء الدين باراني، وقد كان الرجل ينتمي إلى حاشية بلاط سلطنة دلهي في القرن الرابع الهندي(49). وقد أورد حكاية عن الخليفة العباسي المأمون (الذي حكم ما بين عام 813 م وعام 833م) من أنه خطر بباله أن يحكم على طريقة الخلفاء الأربعة الأوائل(50). فما كان من وزيره إلا أن نبهه إلى أن من شأن مشروع حكم هكذا أن يفشل؛ ذلك أن من شأنه أن يعاكس السير على خطى إرث توارثته البشرية منذ أن كان آدم، وهو باق إلى يوم الدين، اللهم باستثناء جيل واحد من الحكام المستقيمين عُدَّ استثناء وليس قاعدة؛ إذ عاش هؤلاء الخلفاء حياة زهد وفقر، مقتدين في ذلك بسنة النبيّ في كل أمر، وما كان بمكنتهم أن يتخذوا هذا المسلك إلا لقربهم من عهد النبيّ، حتَّى وإن كان الثمن الذي دفعوه غاليا؛ بسبب كونهم أمسوا صيدا سهلا لكل محاولة اغتيال، ومن ثمة فما من حاكم أتى بعدهم وفكر في ممارسة الحكم باتباع الطريقة إياها؛ إذ من شأن السلطان -كما شدد على ذلك باراني- ألا يستقيم أمره من غير "هيبة وجلال السلاطين". والحال أن ما كان يخطر في باله هنا إنما صار أمرا واضحا للعيان، وشتْ به بعض النصائح التي وجهها السلطان محمد الغزنوي (الذي حكم فيما بين 998 م و1030م) إلى أبنائه(51). فقد نصحهم فقال: منذ عهد خلفاء [النبيّ] محمد المباشرين، كان على خلفاء وملوك الإسلام أن يواجهوا اختيارا صعبا قاتما: إما أن يتبعوا ممارسات النبيّ وطريقة عيشه، والتي كانت ستودي بهم إلى كارثة، أو أن يتبعوا ممارسات وطريقة حياة ملوك الفرس قبل الإسلام، مما سوف يؤدي إلى سلك مسالك مخالفة لمسالك النبيّ التي هي قمة الدين وكنهه. وما كان صحيحا أن على الحاكم أن يتبنى أنموذج الحكم الفارسي لا لشيء إلا ليرضي رغبته الأنانية في البقاء في السلطة والدوام في السلطان؛ إذ لو فشل هو في تبني هذا النموذج فإنه لن يكون بمكنته أن يحافظ على صعود الإسلام، لا ولا أن يقضي أيضا على خصومه. وإن من شأن تبني رسوم الفرس في الحكم المقيتة - الاستعلاء، التفاخر، حفظ المسافة مع الأغيار، حياة الترف، لبس التاج، الجلوس على العرش، بناء القصور الفخمة، الركوع للملك، الاستحواذ على الممتلكات، التوسع في اتخاذ الحريم - أن يُنظر إليها كما ينظر إلى أكل الميتة: الضرورات تبيح المحظورات. وبالجملة، فإن ما أراد باراني أن يوصله إلينا هو أن علينا أن ننسى ربعي بن عامر، وأن نُمضي الأمور على طريقة رستم. 



ولقد كان من النادر أن يواجه أي واحد هذا الإحراج بالطريقة الفاصلة الحاسمة التي واجهه بها صاحبنا باراني هذا، غير أن الوعي بعدم الاستمرارية التاريخية العميقة التي تفصل السياسة المبكرة لدولة الإسلام عن متأخر سياستها قد فشا وعم. ذلك أنه على الضفة الأخرى للعالم الإسلامي -زمان القرن السابع عشر الميلادي المغربي- كان قد كتب الفقيه الشهير اليوسي (توفي عام 1691م) رسالة إلى سلطان المغرب تناول فيها الموضوع ذاته وإن بصيغة أخرى: فبعد أن ذكر هو نموذج خلفاء [النبيّ] محمد، وانتقال الخلافة إلى مُلْك، اندثرت سيرة [النبيّ] محمد في الحكم اندثارا شبه تام، وسدت مسدها الكسروية والقيصرية، وهي طرق السياسة لدى حكام فارس وبيزنطة في عهد ما قبل الإسلام(52). وشأنه شأن باراني، فإن اليوسي كانت له مرجعية يستند إليها؛ فقبل زمن صاحبنا هذا بقرن كان السلطان العثماني قد اتخذ لنفسه لقبين جديدين فخمين على شاكلة اللقب السلطاني الفارسي القديم هما "كسرى الكياسرة" و"قيصر القياصرة"(53). وما كان أبو حمزة ليفاجئه هذا الأمر. 



وبالرغم من هذا الأمر، فإن القيم المعادية للاستبداد وللسلطة التوريثية الداعية إلى المساواة، التي نهضت عليها السياسة المبكرة، ما كان يمكن لها أبدا أن تصير نسية منسية بالتمام والكمال. إذ كانت جزءا لا يتجزأ من الإرث الإسلامي، وقد تم الربط بينها وبين عهد استقامة السلف؛ أعني استقامة الرسول وخلفائه المباشرين. والحال أن هذه القيم تحتل فضاء مفاهيميا يتقاطع تقاطعا ذا دلالة مع الفكرة الأوروبية عن "الحرية السياسية". لكن، أليست تكافئ تلك القيم هذه الفكرة؟ الحق أن ثمة أمورا ثلاثة ينبغي أن نميز بينها ههنا: 



أولا: دعنا نفرض -فرضا جدليا- أن القيم الإسلامية تحتل بالفعل المنزلة نفسها التي تتبوؤها الفكرة الأوروبية، ليس فقط بعض هذه القيم بل كلها، هل سيكون من الأهمية ألا نجد مفهوما موحدا -في حالة الإسلام- يحتل هذه المكانة؟ إن جوابا بينا يمكن أن يكون هو أنه -من الناحية المبدئية والمنطقية- ليس لهذا الأمر من أهمية تذكر؛ لكن -عمليا هذه المرة- يمكن أن تكون له -بالضد من هذا- أهمية بالغة؛ ذلك أن امتلاك مفهوم مخصوص يصف فضاء معينا إنما هو إجراء ملائم وعملي يمكن أن يتولد عنه ما ندعوه "إصابة عين المسألة أو كبدها"؛ إن مفهوما هذا شأنه لو وجد سوف يلم أشتات النظر، وذلك بحيث يسهل التركيز عليه واستحضاره بيسر في كل مناظرة سياسية. 



ثانيا: علينا أن نتساءل عما إذا كانت القيم الإسلامية تغطي بالفعل - وليس فقط تتقاطع مع - خلفية فكرة الحرية الأوروبية نفسها. وهنا فإن النقطة الجوهرية تتعلق بطبيعة الجماعة/الأمة بوفق المنظور الإسلامي. وإنها لأخوية يتساوى في حاضنتها كل الأعضاء، وحيث يكون حكامها أكثر تساويا من الآخرين، اللهم إلا في أمر إدارة الأعمال؛ لأنه لا بد من وجود مَنْ يوجه أوامر، وإلا استحال الأمر فوضى عارمة. لكن هذه الأخوية -وعلى نحو ما ينبغي أن توحي به استعارة القرابة القريبة- ما كانت هي بجنة الفرد، وإنما ينبغي على المرء تشبيهها بالأولى بالتصور الشيوعي للسياسة أكثر مما ينبغي تشبيهها بالتصور الديمقراطي. وكما عبر عن ذلك الأمر أحد المبعوثين إلى رستم، فإن: "المسلمين كالجسد، بعضهم من بعض"(54). وحتى نضع هذه المسألة في إطار منظور أشمل، فإنه تتكون المجتمعات البشرية في كل مكان من أفراد قد تكثر فيهم الأنانية أو تندر، ومن شأن الثقافة أن توفر حيثما وجدت وسائل -خطابية وغيرها- لكبح جماح هذه الأنانية من أجل خير الجماعة. والحال أنه ما كان الإسلام بدعا من هذا. وبالضد من هذا، فإن ما كان حقا أمرا استثنائيا -وبالتالي شأنا غير معتاد- هو أن تبرز داخل ثقافة أوروبا نزعة تحتفي بالفردانية، أو بما كانت تنظر إليه الثقافات الأخرى على أنه نزعة أنانية. ولقد كان على هذه الفردانية أن تستحيل إلى جزء لا يتجزأ من الفكرة الأوروبية عن الحرية، وفي الوقت نفسه كانت غائبة - ويا للعجب - عن القيم الإسلامية التي كانت تناظرها جزئيا. 



ثالثا: يمكننا الآن أن نتساءل عن الدور -إِنْ وجد- الذي ينبغي عزوه إلى الاستعارة التي تثوي خلف فكرة الحرية الأوروبية، وهي استعارة -كما سبق أن رأينا من ذي قبل- ما لعبت إلا دورا محدودا في الجانب الإسلامي. وبطبيعة الحال، فإنه كان مبدئيا من الممكن أن يقوم ثمة مفهوم يكون مطابقا تمام المطابقة لفكرة الحرية الأوروبية، ويبرز من أصل مباين للأصل الأوروبي، وفي هذه الحالة لن يكون المسلك الذي قاد إلى هذا المفهوم ذا بال. على أننا لسنا نملك بالفعل نموذجا لهذا المفهوم الجامع، وهذا يوحي بوجود مسلك مستقل في تطوره التاريخي(55). والآن، فإن من سمات الاستعارة التي تثوي خلف الفكرة الأوروبية تلك التي تشجع على التركيز على الفرد: فالفرد هو الذي يكون -شخصا عبدا أو حرا- إما خاضعا لإرادة الغير أو قادرا على أن يتصرف كما يشاء؛ وبتعبير آخر، فإن الاستعارة تركز على عنصر الاختيار الفردي، وذلك في الوقت الذي لا تفعل فيه ذلك القيم الإسلامية الدائرة على الحكم المقيد وعلى المساواة. وفي الوقت الذي ينبغي علينا فيه بكل تأكيد ألا نعتقد بأن الاستعارة هي سبب بروز الفردانية الأوروبية، فإنها لا محالة جزء من الحكاية. 



ـ III ـ



الآن وقد بلغنا هذه النقطة، لنعد إلى تاريخ الفكرة الأوروبية للحرية، وما أروم هنا أن أفعله هو أن أقسّم هذا التاريخ إلى حقب ثلاث متعاقبة. على أن البغية من هذا التمرين في التحقيب ما كانت هي إخبار الأوربيين بشيء لا يعلمونه أصلا، وإنما خلق إطار يمكن تجريبه على العالم الإسلامي لأسباب استكشافية. 



حدث في الحقبة الأولى أمران اثنان داخل ثقافة المدن/الدول: أولا: برزت محاولة مكثفة للتفكير في أمر الحرية السياسية والحديث عنها. وثانيا: صارت هذه القضية موضعا لتقليد تفكير نسقي منظم مسترسل. 



وفي الحقبة الثانية تمت المحافظة على الميراث الأدبي للحرية السياسية الذي أقيم في الحقبة السالفة، وذلك داخل إطار أوسع لثقافة ما كان ليعني لها هذا الأمر [مفهوم الحرية السياسية] الشيء الكثير لأمد طويل. والحال أن فقد المعنى هذا إنما برز بسبب واقعة اختفاء الإطار المصغر للسياسات [المدن - الدويلات]، الذي برزت فيه فكرة الحرية السياسية أصلا، والاستعاضة عنه بالملكيات الممتدة الأطراف. وإن الجهاز الثقافي لمجتمعات هذا شأنها ما كان ليضمن أبدا انتقال جزء من الميراث للمدن/الدول خلفا عن سلف، بما في هذا الميراث من فكرة "الحرية السياسية" نفسها(56). 



وفي الحقبة الثالثة، انتعشت فكرة الحرية السياسية من جديد وصارت فاعلة في سياق ارتفاع مستويات المشاركة السياسية. والحال أن السياق الأصلي لهذا التطور كان أمرا مفاجئا: عودة بزوغ المدن/الدول بإيطاليا. على أن هذه العملية انتهت - وبشكل ملفت للنظر - بأن امتدت إلى أراضي دول شمال غرب أوروبا(57). هذه هي قصة تطور السياسة الأوروبية. 



وإذن، كيف يمكن أن نجد لهذه الحقب الثلاث كلها -إن أمكن ذلك- ما يمكن أن يقابلها ويناظرها ويوازيها في التاريخ الإسلامي؟ وهل من معنى للبحث لها عن نظائر ههنا؟ وإذا ما نحن عثرنا لها على هذه المقابلات، فهل بمكنتها أن تنبئنا عما تنبغي معرفته؟ لنجربْ فحسب، ولِنَرَ.



لا تطرح الحقبة الأولى أي تحدّ كبير؛ وذلك لأنه سبق لنا أن رسمنا لها نظيرا فيما تقدم. وما عندنا هاهنا هو جملة من القيم تنم عن ظاهرتين متعالقتين تعالقا شديدا: قبائل شبه الجزيرة العربية أيام الجاهلية والتي ليس يحكمها سلطان، وطابع مقيد للحكم في سياسة عهد الإسلام المبكر. على أن ثمة أمرين لسنا نعثر لهما عن نظير هاهنا: أحدها التفلسف، وما كان التفلسف عادة لدى عرب الجاهلية، لا، ولا هو تُعوطي مِنْ قِبَلِ الأجيال الأولى من المسلمين. والثاني -بطبيعة الحال- هو استعمال استعارة "الحرية" للعبارة عن قيم هذه المرحلة. 



وبالمثل، فإن من شأن العثور على نظير للمرحلة الثانية ألا يطرح بدوره أية معضلة تذكر؛ ذلك أنه بالنسبة إلى أغلب المجتمعات الإسلامية عبر مر القرون، فإن تلك التي كانت لها موارد معقولة كانت تدعم تنظيما سياسيا واسعا، وبالتالي ما كانت تناسبها قيم عرب الجاهلية ودولة الإسلام المبكر. وقد حدث ذلك في عصر باراني: كانت الدولة الاستبدادية التوريثية التي تحتكر فيها السلطة بتراتبيات اجتماعية وسياسية راسخة صارمة ممكنة قائمة، وكانت التحديات الراديكالية نادرة. على أن ثقافات هذه المجتمعات كانت على أتم استعداد للحفاظ على الأدبيات التراثية التي تصف حقبة مبكرة ومباينة بالتمام والكمال، وقد فعلت ذلك بالنظر إلى عرب ما قبل الإسلام وإلى دولة الإسلام المبكرة. 



لكن ما الخطب بالنسبة إلى الحقبة الثالثة؛ حقبة بعث النموذج الأول وإحيائه؟ بقدر ما يتعلق الأمر بالمرحلة الجاهلية -وقد أوغلنا فيها إيغالا- فإنه يتبين أنه ليس يمكن العثور على مثيل لهذه الحقبة؛ إذ حافظ المولعون بالأثريات والنفائس على الميراث القبلي بعناية، مثلما حظي بإجراءات صون واسعة وباحترام ثقافي، لكن -وعلى خلاف ماضي أوروبا الإغريقي والروماني- ما كانت للنموذج الجاهلي سلطة القدوة، وما شكّل هو مصدر إلهام للأجيال اللاحقة(58). وهكذا، فإن كلمة "لقاح" -وبالرغم من أثر رنتها في آذان قبائل الجاهلية- لم تلعب أي دور في الاصطلاحات السياسية للعهود الإسلامية.



أما ميراث دولة الإسلام المبكرة فتلك مسألة أخرى؛ إذ حافظ على سلطته المعنوية، وذلك حتَّى لما كان يتم تجاهله في الممارسة بدعوى عدم فعاليته وجدواه وإجرائيته. وهنا تظل نتيجة بحثنا رهينة بما إذا كنا نبحث عن تطور جواني أم براني. 



فلئن كان ينبغي أن يكون جوانيا، فإنه يلزمنا أن نبحث بلا جدوى عن مرحلة صار فيها التراث المنقول من الحقبة الثانية ملائما وصالحا من الجهة السياسية، والحال أن ما يمكن العثور عليه هنا هو قسم من العالم الإسلامي اكتسب فيه هذا الميراث معنى وتجسد تجسدا. وإن هذا التجسد أو الأثر قد حدث -بطبيعة الحال- في بيئات خارجية بالمناطق القبلية الفقيرة الموارد؛ أي في أوضاع شبيهة بتلك التي بدأت فيها دولة الإسلام. وهكذا -على سبيل المثال لا الحصر- قرر إمام زيدي المذهب -حَكَمَ في بلاد شمال إيران نهاية العشرية الأخيرة من القرن العاشر أو في بداية فجر القرن الحادي عشر- أن يغسل بنفسه حليته الخاصة به(59)، أو أن يفصل فصلا تاما مصاريفه الخاصة عن بيت المال(60)، وحدث أن اشتهى مرة السمك، فبعث إلى السماكين لكي يعدو له واحدة، إلا أنهم أبوا، فما كان منه إلا أن عزى نفسه بغذاء بلا سمك شاكرا الله على أن رعاياه لا يهابونه، وإنما هو عندهم ورعاياه سواء(61). وقبل حدوث هذا الأمر بقرن كان مؤسس الإمامة الزيدية باليمن رجلا ورعا في حياته الشخصية(62)، وشأنه شأن أبي بكر، ما طلب هو في عهده من رعاياه سوى بيعة مشروطة، وقد أخذ المصحف يوما ثم قال للناس: "بيني وبينكم هذا آية آية فإن خالفت ما فيه بحرف فلا طاعة لي عليكم؛ بل عليكم أن تقاتلوني(63)". وفي مثل هذه البيئة أيضا نعثر على مسالك أخرى لتوافقات دستورية من أجل الحد من الاستئثار بالسلطة، وهذا أمر لا نعثر عليه حقيقة حتَّى في دولة الإسلام المبكرة ذاتها(64). وهكذا، فإنه في سياق الإمامة الإباضية بين القبائل البربرية بشمال إفريقيا أواخر القرن الثامن الميلادي، تناهى إلى أسماعنا مذهب خارجي ما كان يتخذ فيه الإمام القرارات إلا عن مشورة مع ضرب من الجمعية(65). وفي الإمامة الإباضية التي حكمت عمان أواخر القرن الثامن والقرن التاسع الميلاديين نعثر على تفاهم يكون الأئمة بمقتضاه ينتمون إلى جماعة قبلية واحدة، على أن يُختاروا من لدن أعضاء قبيلة أخرى، وعلى أن يحكموا انطلاقا من مركز يوجد خارج بلد قبيلتهم(66). كل هذه الأمور إنما كانت تعبيرات دالة على قيم سياسية معادية للاستبداد وللاستئثار بالسلطة؛ ولكنها بقيت حبيسة زوايا ركينة من العالم الإسلامي ولم تكن لتخص حقبة بعينها. 



وإذا ما كانت الحقبة الثالثة -مع ذلك- يمكن أن تكون برانية، فإنه يسهل أن نماثلها بالقرنين الأخيرين؛ ذلك أن فكرة "الحرية" -باعتبارها قيمة سياسية تقع في قلب التقليد الأوروبي- تنتشر لا محالة في الثقافات غير الأوروبية التي اتصلت بها أوروبا في هذه الفترة، بما فيها ثقافات العالم الإسلامي. فإلى أي حد -يا ترى- ينبغي أن ننظر إلى قوة جاذبية الفكرة من حيث هي نتيجة لسمعة الثقافة الأوروبية، أم إلى أي حد نعدّها نتيجة لانتشار الظروف الحديثة نفسها التي جعلت الحرية ملائمة إلى هذا الحد لسياسة أوروبا، والحال أن هذه مسألة ليست موضوعا للنقاش ههنا، وكل ما نحتاجه هاهنا إنما هو وضع رسم للسيرورة التي بواسطتها تم تمثل الفكرة(67). 



-IV-



كانت حملة نابليون على مصر عام 1798 م إحدى القنوات التي عبرها اتصلت فكرة الحرية السياسية بقلب العالم الإسلامي والبيان العربي الأول الذي أصدره بالمناسبة هناك، وفي هذا البيان تحدد أساس الجمهورية على أنه "الحرية والتسوية"(68). وإذا ما نحن عدنا إلى جواب المؤرخ المصري المعاصر للأحداث الجبرتي (توفي عام 1824-1825) على هذا البيان، فإن مفهوم "الحرية" هذا - وعلى خلاف مفهوم "المساواة" - ما كان مفهوما بيِّنا بتمام الإبانة(69). وقد فسره على أنه يعني أن الفرنسيين ما كانوا عبيدا شأن المماليك(70)، وقد سبق أن ذكرنا أن "المملوك" يعني -حرفيا- مَنْ يملكه غيره، وفي العصور الوسطى كانت نخبة الجنود المملوكية تجنَّد باعتبارها عبيدا، وقد بقي الأمر على حاله تقريبا إلى عهد العثمانيين. وبتعبير آخر، يبدو أن الجبرتي قد أدرك أن الفرنسيين إنما تقدموا بمطلب يخص وضعهم القانوني. ولكن، بالرغم من عدم الألفة بالمفهوم(71)، فإن مثل سوء الفهم هذا ما بقي على الدوام أمرا ساريا. وهكذا، أفرد التونسي خير الدين باشا (توفي عام 1890م) -في كتاب أتم تأليفه عام 1867م- بضع صفحات لعرض نسقي منظم لمعنى "الحرية"(72)، التي رأى أنها "منشأ سعة نطاق العرفان والتمدن بالممالك الأورباوية"(73). وقد ميز بين معنيين للكلمة: الأول هو "الحرية الشخصية" التي حددها بوسمها: "إطلاق تصرف الإنسان في ذاته وكسبه، مع أمنه على نفسه وعرضه وماله...". والثاني هو "الحرية السياسية"، التي تطلب من الرعايا التداخل في السياسات الملكية(74). وقد أدرك كون الفكرة الأوروبية للحرية تعني أكثر من مجرد ألا يكون المرء عبدا، كما أظهر أيضا عناية بالبحث عن أصول هذه الفكرة الأجنبية، وهكذا عمد -مثلا- إلى الإحالة بصورة مبهمة إلى الحرية بوصفها الوضع الطبَعيّ [الفطري] بين المسلمين(75)، وأورد تلقاء مفهوم الحرية السياسية قولا مأثورا للخليفة الثاني: "من رأى منكم فيّ اعوجاجا فليقومه"(76). 



والحال أن تركيز خير الدين على الحرية إنما تقدم تفكير العديد من المسلمين في القرنين العشرين والواحد والعشرين. ويمكن النظر إلى هذا التفكير بوسمه توسيعا لِطَيْفٍ من الألوان. على طرف نهاية الطيف الأول نجد المغترب الذي يتبنى القيم السياسية بالجملة من غير إيلاء عناية إلى اهتمام خير الدين بإيجاد الأصول التراثية لهذه. والنموذج هاهنا هو المصري أحمد لطفي السيد (توفي عام 1963م) في بداية القرن العشرين(77). وفي نهاية طرف الطيف الآخر نجد الإسلامي المتشدد الذي يرفض فكرة أن يتبنى المسلمون القيم السياسية الغربية، ويلح بالبدل من ذلك على أن كل القيم التي يحتاج إليها المسلمون إنما توجد في تراثهم(78). وفيما سيأتي سوف أحصر النقاش في الإسلاميين، وذلك بما أنهم هم من يعمد بقوة إلى التعامل مع جوانب التراث التي سبق أن أشرنا إليها من قبل.



يعد [المفكر] الهندي -والباكستاني لاحقا- أبو الأعلى المودودي (توفي عام 1979م) أحد أبرز وجوه تطور النزعة الإسلامية. وكما يمكن أن ننتظر منه ذلك، فإن ما كان يثيره هو القيم المعادية للاستبداد والمعادية للاستئثار بالسلطة التي تملأ المرويات الدائرة على دولة الإسلام الأولى، على نحو ما أوردته مصادرنا. ولهذا أنت واجده ركز على حدود مطالب الخلفاء المبكرين إزاء السلطة، موردا النص الذي سبق أن قابلناه والمتعلق بخطبة بيعة أبي بكر(79). وقد شدد على أن تنصيب المسلمين الأوائل للخليفة ما كان هو تنصيبا وراثيا وإنما انتخابي قائم على المشورة والتوافق(80). وقد وصف الملكية بكونها ضدّ الإسلام(81)، مشيرا باحتقار إلى "النظم الكسروية والقيصرية"(82). 



وقد أظهر المودودي -فيما كتب- ورع المسلمين المبكرين وعفتهم عن المال العمومي، حاكيا عن كيف صار أبو بكر وقد فُرِض له شيء من بيت المال(83)، كما أنه أضفى صبغة تراجيدية على الحكاية بأن قام بتحويل راتب أبي بكر إلى العملة الحديثة، بحيث ما بلغ ما فُرِض له مائة أو مائة وخمسين روبية في الشهر(84)، تم ركز على يسر دخول الناس على الخليفة بلا حاجب يحجبهم عنه: أبوابه كانت مشرعة، وكان يجوب الأسواق بلا حارس يحرسه(85). ولقد كان هذا الأمر ينم -في حسبان المودودي- عن جزء من "روح الخلافة الديمقراطية"، مثلما كان للناس كامل الحرية في الاستمتاع بالتعبير عن آرائهم(86). وإن أولوية القانون [الشرع] كانت محترمة في هذه الحقبة حتَّى كان بالإمكان أن يخسر الخليفة قضية أمام نصراني(87). 



والحال أن نظرة المودودي إلى ما ينبغي أن تكون عليه الدولة الإسلامية على عهده كانت منسجمة مع هذا التصور، فمن شأن ذلك الذي يحكم المسلمين ألا يكون له عليهم سلطان، اللهم إلا سلطان الحكم بما أمر الله ورسوله، وألا يتربع على عرش فخم، وألا يبالغ في بيان علو منزلته عن آحاد الناس(88)، وألا يتطاول في البنيان الضخم أو أن يعيش حياة منعم مرفه(89)؛ ذلك أن الأمير الإسلامي ليس له فضل على جمهور المسلمين في القانون، وإنما هو رجل من الرجال(90). وما من طاعة للناس له إلا بقدر ما ينضبط لأحكام الله ورسوله(91). ونقولها للمرة الثانية: ما من أحد إلا ويمكنه أن يرفع عليه القضايا في المحاكم(92). وبالجملة، أفلح المودودي أيما فلاح في أن يعثر في الدولة الإسلامية على جملة من السمات تتجاوب مع القيم السياسية الحديثة، بما في ذلك سمة حرية التعبير. 



وكل هذا الأمر تم في إطار ما كان للمصادر القديمة أن تورده لنا عن السياسة المبكرة؛ لكن المودودي يمضي إلى ما وراء ذلك في طريقين ذواتيْ دلالة تتصلان بفكرة "الحرية" هذه، وتقتضي الأولى اجتزاء قدر كبير من الحرية من التراث؛ إذ أعطى لتحليله توجيها ديمقراطيا يذهب أبعد من "الروح الديمقراطية"، وذلك بتطوير مذهب متفرد مداره على خلافة كل امرئ مسلم لكل المؤمنين. ولهذا الباعث، كان من أمر الأمة الإسلامية -في اعتبار المودودي- أن تُحكم من لدن "أمة المسلمين برمتها بمن فيهم بسطاء الناس"(93). فما من مؤمن إلا والشأن فيه أنه خليفة من الله تبعا لمقدرته الفردية(94)، ومن شأن سلطة الحاكم أن تنبع ببساطة من كون كل المسلمين يوكلون إليه أمر الخلافة عليهم لدواع إدارية صرفة(95). ولهذا الداعي فإن من واجب المسلمين -بوجه عام- الحد من ممارسة الحاكم للسلطة، وهو يُعزل إن شاءت الأمة(96). وبالرغم من أن المودودي ما أعمل لفظ "الإقالة" هذا، فإن هذا الأمر إنما يلزم بالضرورة عما كان قد دعاه خير الدين "الحرية السياسية". 



على أن المنطلق الثاني الجديد كان أكثر من مجرد إقامة أمر كان حاضرا في التراث، وقد تعلق بمفهوم الحاكمية الإلهية؛ أن يكون الله "هو الحاكم الحقيقي في واقع الأمر"(97): ما كانت هذه الفكرة بالجديدة. وإن القول: "إن نبع الشرور والفساد الحقيقي إنما هو "ألوهية الناس على الناس""(98): تلك فكرة -كما سبق أن شهدنا على ذلك- لها أصل في التراث. ومن هنا يذهب المودودي إلى القول بدعوى أن مهمة الأنبياء الحقيقية إنما هي تحطيم سلاسل عبودية الناس للناس(99). وذلك حتَّى لا يكون أحد عبدا لأحد. بل يكونون جميعا "عبادا" لله وحده(100). وبعد أن يورد عددا من آي التوحيد، يعلق بالقول: "فهذا هو النداء الرباني الذي حرر العقولَ، والأفكارَ، وكلَّ ما أوتي البشر من القوى العقلية والمادية من أغلال العبودية التي كانوا يرسفون فيها، ووضع عنهم إصرهم الذي كانوا يرزحون تحته... فهذا الحق كان صكا للحرية البشرية الحقيقية"(101). وهنا صار مفهوم "الحرية" بارزا للعيان. 



وكما هو متوقع، فإن المودودي يوافق بقوة على فكرة مذهب المساواة. وهكذا، فإنه يقول لنا: إن التنظيم الاجتماعي الذي سعى الأنبياء إلى إقامته كان مبنيا على المساواة بين الناس(102)، وإن مبدأ اعتبار الجميع سواسية أمام القانون كان مبدأ جوهريا من المبادئ التي بنيت عليه الدولة الإسلامية(103). وهنا يستشهد المودودي بإدانة [النبيّ] محمد للجماعات الأولى حيث كانت تتم محاسبة المذنبين من الضعفاء؛ بينما لا يُفعل ذلك مع الأشراف(104). وفي صيغة توضح أيما توضيح الصلة بين الشأن الاجتماعي والشأن السياسي، يقول الرجل: "المجتمع الذي يكون كل عضو منه خليفة لا يتسرب إليه فساد التفريق بين الطبقات، ولا شر الامتيازات التي تأتي من جهة الحياة الاجتماعية والفوارق النسبية، ويكون أفراد هذا المجتمع سواسية، لا يكون لأحد فضل على آخر"(105). ودعما لهذا النزوع إلى المساواة، ما وجد المودودي عناء في أن يورد أحاديث النبيّ، والتي يمكن دمجها بيسر فيما ورد في القرآن الكريم من آية: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"(الحجرات: 13)(106). هذا مثلما أن المودودي كان يحب أيضا أن يستشهد بالكلم الذي يحتويه حديث النبيّ المعبر والصحيح القائل: "الناس سواسية كأسنان المشط"(107). وهذه المساواة هي التي تقتلع جذور شجرة الحاكمية البشرية(108). 



والوجه الآخر الكبير لتطور النزعة الإسلامية كان هو المصري سيد قطب (توفي عام 1966م). فهو -شأنه شأن المودودي- يورد خطبة تولية أبي بكر(109)، ومثله أيضا كان مفتونا بما سميته "السمة الجمهورية"، بوسمها معارضة للسمة التوريثية، التي ميزت السياسة المبكرة. وبما أن من شأن الأشياء أن تعرف بضدها، فإن قطب أورد -عن طريق التضاد- الطريقة المؤسفة التي سلكها الملوك الأمويون والعباسيون (وهو لا يسميهم "خلفاء") في التعامل مع بيت المال كما لو كان ملكية لهم خاصة(110). ها نحن أولاء من جديد نلفي أن كل هذه الآراء مبنية على المبدأ المذهبي الجوهري القائل بأن الحاكمية لله وحده، وأن الإسلام ليس يسمح للناس بأن يمارسوا الحاكمية أو السيادة بعضهم على بعض(111)؛ على أنه -وبخلاف المودودي- فإن سيد قطب لا يبدي حماسة لفكرة الديمقراطية(112). 



والحال أن موقف قطب من التراتبية الاجتماعية يشبه موقف المودودي؛ لكنه من الناحية الوجدانية أشد نبضا بالحياة، وهذا مجال من المجالات يستأثر بحيز مهم من نصوصه الأساسية. والحصيلة تمثلت في صياغة صارمة لنزعة مساواة إسلامية تتجاوب بقوة مع القيم الحديثة. وتماما شأنه شأن المودودي، فإن تفكيره يستند إلى مبدأ أن السيادة على البشر إنما هي من أمر الله وحده، وهو يرى أن الإسلام إنما وُلد في زمن كان فيه انعدام المساواة فاشيا(113)، ويورد تفاصيل مدارها على إيران والهند وروما(114). وما كان العرب مستثنين من هذا؛ فلقد كانوا يعرفون أن توحيد الألوهية وإفراد الله بها، معناه نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام(115). هذا هو العالم الذي بزغ فيه الإسلام، وكانت رسالته تتمثل في المساواة التامة بين كل بني البشر(116). ودعما لموقفه، يورد قطب الآيات القرآنية ذاتها والحديث النبوي عينه الذي يقول: "الناس سواسية كأسنان المشط"(117). لكن أبعدَ الحججِ قوةً التي أوردها، إنما هي قصة المبعوثين إلى الفرس عشية موقعة القادسية. وكما سبق أن وقفنا على ذلك من ذي قبل، فإن أحد المبعوثين خاطب رستم بالقول: "إنا معشر العرب سواء"(118)، بينما صرح اثنان من المبعوثين بأن الفاتحين إنما جاءوا لتحرير أولئك الذين كم تمنوا أن يصيروا عبادا لله بالبدل من أن يظلوا عبيدا للعباد(119). وعلى أحد المقطعين الذين أوردهما لهذا الأمر، يعلق قطب بالقول: في هذه الكلمات القلائل: "تتركز قاعدة هذه العقيدة"، و"تتجلى طبيعة الحركة الإسلامية التي انبثقت منها، وانطلقت بها.."(120). وبطبيعة الحال، فإن هذه المساواة الإسلامية الفريدة وغير المسبوقة، شأنها شأن بضع من أمثالها، سوف تبدو فلتة في التاريخ؛ ذلك أن سياسات الخليفة الثالث ترتب عنها ضرر كبير، وتولدت عنها فوارق اقتصادية واجتماعية داخل المجتمع الإسلامي، وشهدت بزوغ طبقة من الأشراف المرفهين المخمليين(121). ومع ذلك، فإن هذا لم يمنعه من أن يقول: إن ما كانت القوانين البشرية تقيمه على مستوى النظر فحسب أيام الثورة الفرنسية وما بعدها إنما كان أمرا متحققا ممضيا في الإسلام بالممارسة على امتداد ما يقارب أربعة عشر قرنا(122). على أن الموضوع الأساسي في كل هذا هو المساواة، ولكن كما كان الحال مع المودودي، فإن الحرية ما كانت بالبعيدة ولا بالغائبة؛ إذ كان سيد قطب عادة ما يُعْمِل تعبير "التحرير" في إطار سياق إخراج الناس من العبودية للعباد(123). 



وهكذا نرى أن المفكرَين الإسلاميين الكبيرين في القرن العشرين كانا متفقَين في التوجه صوب القيم الراسخة في ذاكرة السياسة الأولى، وفي تطعيم هذه التركيبة -ضمنا أو صراحة- بالفكرة الأوروبية عن الحرية. لكن، وكما يمكن أن نتوقع ذلك، فإن ثمة غيابا لتعاطف الإسلاميين مع الصوفية، فلا المودودي ولا قطب كانا يدينان بشيء لاستعمال الصوفية لاستعارة الحرية. 



تحصل عن هذا التحليل اكتشافان بينان: الأول أنه يقام ثمة ترابط بين الدولة الإسلامية المبكرة وجملة من القيم الإسلامية ذات صلة وثيقة بقيم التقليد الأوروبي التي تهمنا، وتتجاذب بقوة مع هذه القيم في الظروف الحديثة. لقد قمت بتقديم ضرب من التفسير لوجود هذه القيم الإسلامية بوفق اصطلاحات طبيعة المجتمع العربي السابق عن الإسلام وصلته بالدولة الإسلامية المبكرة. وإني لأود أن أعطف هنا بالقول: إنه -حسب علمي- لا توجد جملة من القيم شبيهة بهذه في تراث الحضارات العالمية الأخرى: حضارتي الهند والصين. والحال أن للحضارات بالضرورة أصولاً غير متحضرة، ولا بد أن تكون مدونات أخبارها قد حفظت شيئا عن هذا الماضي السحيق؛ غير أن الماضي الذي ما تفتأ تنظر إليه -إذا ما هو حقق أمره- ظهر أنه كان متأخرا في الزمن نسبيا وظاهرة أشد تطورا وتحضرا. وعلى الضد من هذا كان حال حضارة الإسلام؛ إذ تمثلت عندها القدامة، التي كانت تتخذ أسوة وقدوة، لا في الزمن الذي تحضّر فيه العرب وصارت لهم دولة عظمى، وإنما في الدولة الإسلامية الأولى المستندة إلى طبائع القبائل العربية. 



وتمثلت اللقية الثانية في أن مفهوم "الحرية السياسية" ما كان هو العنصر المركزي في مجموعة القيم الإسلامية هذه. ذلك أن حضوره في السياق الإسلامي المتقدم على العهد الحديث إنما كان حضورا ضمنيا فحسب(124)، وحتى في السياق الحديث، فإنه -بالنسبة إلى الإسلاميين على الأقل- نادرا ما شكل ذاك المفهوم بؤرة الاهتمام. ولنا أن ننهي هذه المناقشة بالتساؤل عما إذا كان على الأمر أن يكون على ما هو عليه أم لا. والحق أن ليس لي تفسير دقيق ووجيه أقدمه؛ ولكن يمكن أن أوحي ببعض مسالك للتفكير فيه. 



إن إحدى هذه الاعتبارات لذات صلة وثيقة بالإسلام نفسه؛ إذ يبدو -بمعنى ما من المعاني- أن الإسلام والحرية - الخضوع إلى إرادة الله، وحق المرء في أن يفعل ما يشاء - أمران ليس بينهما تلاؤم(125). والحال أنه عند وصف الناس بكونهم عبيدا مملوكين لله ما كان هذا الأمر مجرد أسلوب في التعبير مجازي أريد به التشديد على إنكار أن يكونوا عبيدا بعضهم لبعض. كلا، فمن شأن الرب أنه يملك البشر على النحو عينه الذي يملك به بقية خلقه، وما من فرق(126). فهلّا عُدَّ الإنسان الحر إذن حرا في أن يقول ويفعل أمورا غير خيرة؛ حتَّى أن يمرق عن الدين الحق إلى الدين الباطل؟ الحال أن ما يمكن أن يقال عن هذا الشخص هو أنه ﴿اتخذ إلهه هواه﴾(الفرقان: 43 والجاثية: 23)، ولفظ "الهوى" هنا لفظ مشترك في القرآن واستنكاري استعمل لوصف أولئك الذين يتبعون الأهواء وليس هداية الله(127). كما يمكن أن يتساءل المرء كذلك عما إذا كان الأناس الأحرار يمكنهم أن يكونوا بالفعل أحرارا في أن يستعيضوا عن شرع الله بشرائع يضعونها بالبدل منه تكون من اختيارهم. لا غرابة أن يدين أيمن الظواهري الديمقراطية بوسمها "دينا جديدا يؤلهه الجماهير" ويدور على "نوازع وأهواء بني البشر"(128). وبطبيعة الحال، قليل هو في أي مكان من يعتقد أن الحرية ينبغي أن تكون مطلقة بلا قيود، ومن غير حدود تضبطها، والكل يبدي عدم ارتياح من إطلاقها في مسألة معينة. ويمكن الدفاع عن هذا القول إن أنت عممت نزوع التيار الأعظم في التقليد الإسلامي على العالم برمته، فمن الأكيد أن قلقك من إطلاق الحريات سوف يكون أقل من قلق ليبرالي غربي(129). وبطبيعة الحال، بالإمكان إيجاد طريق وسط عدل بين ما لا تنازل عنه في الإسلام من حيث المبدأ: ﴿قد تبين الرشد من الغي﴾(البقرة: 256)، وبين فكرة الحرية الغربية. وهكذا، فإن سيد قطب في تسويغه الجهاد بوسمه مهمة إيثارية غيرية لهدم كل البنى الفاسدة للسلطة في العالم، اعتبر بوضوح أن هذه البنى هي التي تمنع الناس من اختيار دينهم الاختيار الحرّ(130)؛ ومن ثمة حديثه عن "الجهاد التحريري"(131). وقد افترض -بطبيعة الحال- أن الأفراد الذين يكون لهم أن يختاروا دينهم اختيارا حرا سوف يختارون الإسلام لا محالة، ولن يتصرفوا كاليابانيين أو كسكان كاليفورنيا. ومن غير هذه الدعوى، فإنه يمكن أن تكون بين الإسلام والحرية جرعة من نفور كل منهما من الآخر؛ ذلك أن القلق من فكرة حرية بشرية في عالم يملكه الله ملكا جنحت بالمسلمين إلى عدم إبداء التحمس لتنزيل الحرية المنزلة المركزية من أنظارهم السياسية؛ وذلك سواء تعلق الأمر بحقبة الإسلام المبكر أم بحقبة الأزمنة الحديثة. والمسألة التي تبرز هاهنا إنما تتعلق -بطبيعة الحال- بوجه الاختلاف عن المسيحية؛ ذلك أن المسيحيين أيضا -وعلى الرغم من أنهم يعتقدون أنهم تحرروا من الخطيئة- يعدون أنفسهم "عبيدا لله"(رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 6:22)، وقد قيل لهم أن يحيوا كأناس أحرار (eleutheroi) في الوقت نفسه الذي هم فيه عبيد (douloi) لله (رسالة بطرس الرسول الأولى 2: 12). على أنني لا أود أن أمضي في إدارة مسألة المقارنة هنا، باستثناء أن أبدي ملاحظة أن الفارق يمكن أن يكمن لا في طبيعة المعايير المسيحية هكذا على نحو تجريدي، بقدر ما يكمن في المحدودية الكبرى التي وسمت مجال تنزيلها في الواقع. وعلى سبيل المثال لا الحصر يتبنى جون ميلتون الرؤية التي تقول بأنه لكي يكون شعب ما شعبا حرا فإنه ينبغي عليه ألا يخضع إلا "للقوانين التي اختارها هو بنفسه"(132). وبحسب علمي، فإن هذه العبارة العرضية التي مدارها على السيادة التشريعية لبني البشر ما أدانها قط مواطنوه المسيحيون بحسبانها تحريضا مارقا على تجريد الإله من سلطته؛ وهو الجواب الذي كان يمكن أن تستدعيه هذه الملاحظة لو هي وردت في سياق إسلامي. 



ثم إن ثمة مسار فكر ذا صلة بتكوين التقليد الأوروبي. وهنا يصعب علينا أن يفوتنا الحديث عن الصلة الوثيقة للحقبة الأولى بضرب معين من النظام السياسي؛ عنيت نظام المدينة/الدولة. والحال أنه ليس لنا أن نستغرب من أمر هذه الصلة؛ ذلك أن المدينة/الدولة تصل بين سمتين اثنين: الأول: هو مستوى التنظيم السياسي الذي يكون على درجة صغيرة من حيث حجم البلد، وذلك لدرجة أنه -وعلى خلاف خلفية تاريخ تشكيل الدولة عبر ما يناهز الألفي سنة- يعسر علينا ألا نفكر فيه بوسمه نظاما شديد العتاقة(133). والثاني هو امتلاك الموارد الاقتصادية والثقافية التي ما كانت بالقشفة العتيقة على الإطلاق. والحال الأولى هي ما جعل من أشكال الحكم المقيدة وغير الملكية أمرا ممكنا أن يظهر بين المدن/الدول(134)؛ بينما السمة الثانية هي ما سمح بظهور تقليد التفكير النسقي المنظم في هذه التوافقات السياسية(135). والواقع أن هذه التوليفة من السمتين ما كانت -على الأمد الطويل- مستقرة؛ ذلك أن المدن/الدول سرعان ما احتلت مساحات واسعة من الأقاليم، وكان من شأن ذلك أن يحملها على إقامة تنظيم سياسي يكون على نطاق أوسع، طال الأمد أم قصر. وبهذا، كان أمرا محتوما على كل كتلة من المدن/الدول - وكانت على الدوام تحيى على شكل كثل - أن تنتهي إلى أحد مصيرين اثنين: إما أن تتحول المدينة/الدولة إلى المدينة/الإقليم الواسع؛ وذلك بالتوسع على حساب الآخرين (أخفقت أثينا في هذا الأمر، بينما نجحت فيه روما)؛ أو أن تزحف دولة/إقليم واسع عليها زحفا وتضمها إليها ضما (أخفقت في ذلك الفرس، بينما أفلحت فيه مقدونيا). على أنه يبدو أمرا شائعا -من جهة النظر التاريخية- أن الأقدار قد مددت من عمر هذه الدولة بما كفاها لمنحها نصف حياة على امتداد قرون عديدة. والحال أن هذه التوليفة من السمات - أعني التوليف بين السلم الصغير للدول المدن، بمواردها السخية نسبيا وبمدى أمد حياتها المعقول، وبين وجودها بعدد كاف - إنما كان من شأنها أن تساعد على تفسير كيف أن هذه الأنظمة السياسية أمكن أن تتولد عنها حقبة أولى من مثل هذا الصنف الذي ذكرنا. فأنى لنا إذن أن نقارن بين ما أقامه العرب وما ذكرنا؟ الحال أن القبائل العربية كانت عديدة، وكانت ذات أمد عيش مديد، غير أنها كانت فقيرة الموارد معوزة، وهو الأمر الذي ما كان يساعد قط على التفلسف. وحتى لو كانت هي قد تعاطت لمثل هذه التأملات، فإن واقعة كونها كانت لقاحا بلا سلطان دولة كان سيحد من إسهامها في الفكر الفوضوي المعادي لنظم الدولة(136). وعلى الضد من ذلك، كان النظام السياسي الإسلامي المبكر قد شكل دولة، وكانت موارده قد تنامت تناميا ملحوظا بفعل فتوحاته خارج شبه الجزيرة العربية. لكن -وعلى خلاف القبائل الجاهلية- كان نظامه السياسي نظاما متفردا وعرضيا عابرا في الآن نفسه، محققا بذلك النقلة من مجتمع بلا دولة إلى دولة استبدادية توريثية لعقود من الزمن. وهكذا، فإنه بالرغم من سلطة القدوة التي كانت تحظى بها تجربة الإسلام المبكر في أنظار الخلف، فإنه ما كانت بالتجربة الكافية لإنشاء تقليد في الفكر السياسي من الصنف الذي نبحث عنه. 



ثمة مسألة نود أن نختم بها -حتى وإن كانت هي أشد تجريدا- نابعة من طبيعة مبادرتنا التي تستند إلى المقارنة؛ حقا إن تاريخ البشر تاريخ شمولي فيه متسع لكل التجارب؛ لكنه تاريخ ليس غير متناه. فتماما كما يحدث حين يريد المرء التبضع؛ بقدر ما نحدد ما الذي نبحث عنه، تتقلص حظوظنا للعثور عليه. وفي هذه الحالة، كنا قد بدأنا عرضنا بالبحث عن أكثر من مجرد مماثلة عرضية صدفية تكون فيها الصلة بين السيد والعبد قد أثيرت للتعليق على الصلة بين الحاكم والمحكوم. وكما كان متوقعا، فإنه ما كان من العسير العثور على أمثلة عشوائية. فما كان منا إلا أن رفعنا من سقف المقارنة. وكان أن تطلبنا بداية أن يكون الجزء التمثيلي لتقليد في التفكير في أمر السياسية والحديث عنها يتنزل منزلة المركز من الثقافة السياسية للمجتمع المعني بالدراسة. ثم بعد ذلك سرعان ما أضفنا أن على هذا التقليد أن يكون في الآن نفسه موضوعا لتفكير نسقي ومنظم ومنهجي. وأخيرا، أوردنا رسم تطور تاريخي على المستوى البعيد في ثلاث حقب. فإذا ما نحن رتقنا كل هذا في جملة واحدة، تبين لنا آنها أننا كنا قد طلبنا أمرا صعبا دونه خَرْطُ القَتاد، ولن نكون من المتفاخرين إذا ما نحن اكتشفنا أن هذا الأمر إنما تفردت به واختصت الحالة التي استنبطت منها هذه التخصيصات في المقام الأول.



****************************



الهوامش:



*) أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة برينستون.



1) تكتسي هذه الثنائية البسيطة كل التعقيد في العديد من المجتمعات، وذلك مثلا بحضور منزلات وسطى [بين منزلة السيد ومنزلة العبد]. وهكذا عند إمعان النظر مثلا في مدونة غوتاين، التي نقشت على صخرة في جزيرة كريت بالقرن الخامس قبل الميلاد، إنها تقضي بقيام منزلة الخادم (woikeus) بين منزلة الشخص الحر أو المولى (eleutheros) ومنزلة العبد (dolos). انظر ويلتس 1967، ص10، ومثلا ص40 الأسطر 5-10 في النص لكني أشك في أن يكوم من شأن مثل هذه التعقيدات أن تجعل من التعارض بين العبد والحر أمرا غير مرئي للنظر. 



2) سعيد بن منصور 1967، ص591 الهامش 591 (إن هذا النكاح رق، فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته). والقول منسوب أيضا إلى عمر بن الخطاب وإلى عائشة وإلى الرسول نفسه. 



3) روزنتال 1960، صص9-11 (لاحظ أيضا الاستعمال الموازي في العبرية التوراتية). واللفظ الفارسي "أزاد" يعني بالمثل "حر" و"شريف" أو "نبيل"، لكن، كما نبهني إلى ذلك كازوو موريموتو، يبدو أنه قد تم الدمج بين كلمتين كانتا متمايزتين في الأصل. انظر: 



(Nyberg 1964-74, II, P41b).



4) لين 1863-93، صa1935، وابن منظور III، ص3: b.6270 (العبد الإنسان -حرا كان أم مملوكا- يذهب بذلك إلى أنه مربوب لباريه؛ و"مربوب" يرادف "مملوك"؛ بمعنى "عبد"، انظر: 



Lane 1863-93, P1007b



5) بينما يحمل المفرد "عبد" الدلالتين معا، فإنه في الاستعمال الشائع يوجد تمييز في الجمع: لفظ "عبيد" يستعمل في صلة بالبشر الآخرين، بينما يستعمل اللفظ "عباد" في صلة بالرب (لين 1863-93، صa 1935 وابن منظور III، صa.15 271 ). بيد أن علماء المعاجم ينسبون هذه التفرقة إلى العامة، وذلك حق؛ لأن الرب نفسه لم يفرق بينهما في القرآن: وبينما تستعمل لفظة "عباد" بانتظام للدلالة على "عباد الله"(كما في سورة البقرة: 207)، فإن ثمة آية تحيل فيها بوضوح إلى "العبيد"؛ بمعنى "المسترَقين"(السجدة: 32)؛ ثم إن "عبيدا" تستعمل فقط بمعنى "عباد الله"(آل عمران: 182)، لربما حفاظا على مطالب الإيقاع (في الحالات الخمس جاءت الكلمة في آخر الآية مكسورة...). وبالنسبة إلى الاستعمال القرآني، انظر أيضا أمبروس 2004، ص181. مع التنبيه على أن الترجمات التركية التقليدية تنقل لفظ "عبد" بمعنييه "كول" - عبد - و"سيرفنت" - خادم - التي تنحدر عن الأصل اللاتيني "سرفوس"، عبد.



6) فييرو 2005، ص220 وما يليها؛ ابن عذارى 1948-51، II، 114-17. والحال أن لفظ "استعبدكم" يمكن أن ينقل أيضا إلى اللسان الإنجليزي بدلالة "عدَّكم عبيدا"، كما هو وارد في ترجمة فييرو. 



7) وهكذا قال الفيلسوف أبو الحسن العامري، في القرن العاشر الميلادي، إن إحدى المحن التي حرر منها الإسلام الفرس أن طبقاتهم بأسرهم كانوا مضطهدين بسياسة الاستعباد (العامري 1967، ص175.4 و176.4 ذكره كرون 2004، ص315 هامش 1). وقد أكد العامري تأكيدا على أن كل أعضاء المجتمع الفارسي حملهم ملوكهم على أن يستحيلوا عبيدا شرعيين لهم. أما الثعالبي، وهو كاتب متأخر عنه، فقد وصف العديد من الملوك الساسانيين (الأكاسرة) باعتبارهم حكاما طغاة كانوا يستعبدون الأحرار ويجرون الرعايا مجرى الأجراء والعبيد والإماء. الثعالبي 1994، ص301-11. علينا أن نأخذ التهمة الأولى مأخذ الحقيقة، وأن نأخذ التهمة الثانية مأخذ المجاز. وبعد قرون من هذا يعلمنا كتاب فارسي عن سلطان الملك أن الحاكم الجيد ينظر إلى الرعايا وكأنهم أبناؤه وأصحابه، وذلك في الحين الذي ينظر فيه الحاكم السيء إليهم بوصفهم عبيده (علام 2004. ص56، وبالنسبة إلى الكتاب الذي أتينا على ذكره هنا، انظر ص51-3). وتماما مثلما حدث مع ابن حفصون، لا نجد في هذه الحالات معادلة صريحة بين غياب القمع والحرية. انظر: Lewis 1988, P65



8) اقتباس عن ترجمة ليفوس 1971، ص105 بتصرف. أما في النص اللاتيني الأصلي فإننا نجد تشديدا على عبارة "حرية الشعب الروماني":



“Liberi iam hinc populi Romani res pace belloque gestas, annuos magistratus, imperiaque legum potentiora quam hominum peragam"(Livy 1987, I, P76).



9) لتوضيحات عن بعض المراحل المتأخرة من هذا التقليد بروما، يرجى النظر في: 



Wirszubski 1950, pP100-6, 159, 168.



10) ريد 1998، ص147-9؛ وانظر أيضا ريد 2000، ص67 وما يتلوها، الذي يشدد على أهمية العبودية في واجو. انظر بالنسبة إلى مؤسسات واجو السياسية التقليدية. إذ حتى حملة 1906 الهولندية على البلد بقي السكان -من بين كل دول المنطقة- أوفياء لتقليدهم في حكم مقيد وغير مركزي - بالراس 1971، ص169-76. مع ضرورة التنبيه -كما أوحى بذلك بالراس- إلى أنه يمكن أن نقول كل شيء عن شعب واجو إلا كونه شعبا قائما على المساواة المطلقة بين سكانه (المصدر نفسه، ص184-91). بالنسبة إلى لغة البوجينيز وآدابها بعامة، انظر: (Noorduyn 1991, pP139f., 168-98)، وبالنسبة إلى التآليف التاريخية البوجينيزية، بوجه خاص، انظر (Noorduyn 1965). وعلى الرغم من اعتناقهم الإسلام في الفترة المبكرة من القرن السابع عشر الميلادي (المصدر نفسه، ص146-148)، فإن اللغة بقيت تكتب بالأحرف البرهمانية الأصلية. أنا مدين إلى توماس جيبسون الذي أمدني بالمعطيات الببليوغرافية وبمساعدات أخرى. 



11) ريد 1998، ص148. وقد نقل ريد عن زين العابدين 1985، ص148. على أن الناشر ذكر عن هذه الحوليات التاريخية أنها "تمت مراجعتها وإعادة كتابتها" من لدن أرستقراطي بورجنيزي توفي عام 1969 (انظر المصدر نفسه، ص529)؛ وهكذا فإنه يبدو من المتعسر استبعاد إمكانية أن يكون المراجع قد وقع تحت تأثير عدوى التصورات الغربية للحرية. وبالضد من هذا، أفهم من إحالة ريد على النصوصالتي نشرها نوردوين وترجمها أنها كانت رغبة منه في نقلنا إلى أجواء مصادر القرن الثامن عشر التاريخية. 



12) بالنسبة إلى الاشتقاق انظر: ريد 1988، ص142. (وكما أوضح ريد ذلك، فإن اللفظة السنسكريتية "مهارديكا" لا تعني "الحر"، والذي يبدو محتملا أنها اكتست هذا المعنى في جنوب شرق آسيا). وفيما يخصاستعمال هذا اللفظ في لغة البورجنيزي بالمعنى الحرفي (الحر في تعارض مع العبد)، انظر بلراس 1971، ص185، 186، 189؛ وفيما يعني الاسم المجرد "أماراديكنغ"(الحرية) انظر: 



Noorduyn 1955, pP41, 54.



13) ريد 1998، ص148؛ انظر: بلراس 1971، ص174. في هذا المقام كان ريد ينقل مترجما عن زين العابدين 1985، صV، حيثما يُعمِل النص لفظ "موتو"، قارن مع المصدر نفسه، ص، 115، حيث يظهر النص مختلفا مخالفة طفيفة للمصدر التاريخي نفسه. ومرة أخرى، يتعلق الأمر برواسب عدوى التأثير الغربي. 



14) أما بالنسبة إلى الحالات السومترية حيث كان الناس "أحرارا"، بدلالة أنهم ما كانوا يشكلون رعايا لملك، فإنه يرجى النظر في المرجع التالي: ريد 1998، ص145. وهذا يوحي بأنه كانت ثمة خلفية واسعة لحالة "شعب واجو" في جزيرة جنوب شرق آسيا. 



15) هكذا أجد نفسي في نفس وضع باحث فرنسي متميز في مداخلة مقارنة له بندوة كان مدارها على مفهوم الحرية في العصر الوسيط (سورديل 1985، خاصة. ص123) 



16) تعد إثارة استعارة الحرية هذه على هذا النحو، بطبيعة الحال، مستأنسة في المسيحية. ذلك أن تصور المسيحية لمعنى أن يكون المرء حرا من قيد أن يكون عبدا (doulos) للخطيئة (إنجيل يوحنا: الإصحاح 8: 34-6، ورسالة القديس بولس إلى أهل رومية 6: 17-18) إنما عنه تولد مفهوم "الحرية المسيحية"، وهو موضوع رسالة معروفة لمارتن لوثر. وبصفة عرضية، يبين إنجيل يوحنا 8: 31-6، المماثلة (المجاز) في نقطة ما كانت تشكل فيها بعد جزءا من الثقافة: فَقَالَ يَسُوعُ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ: «إِنَّكُمْ إِنْ ثَبَتُّمْ فِي كَلاَمِي فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ تَلاَمِيذِي، 32 وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ، وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ». 33 أَجَابُوهُ: «إِنَّنَا ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ نُسْتَعْبَدْ لأَحَدٍ قَطُّ! كَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ: إِنَّكُمْ تَصِيرُونَ أَحْرَارًا؟» 34 أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ الْخَطِيَّةَ هُوَ عَبْدٌ لِلْخَطِيَّةِ 35 وَالْعَبْدُ لاَ يَبْقَى فِي الْبَيْتِ إِلَى الأَبَدِ، أَمَّا الابْنُ فَيَبْقَى إِلَى الأَبَدِ. 36 فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الابْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَارًا. على أن أمر ما إذا كانت فكرة "موكسا" في الديانات الهندية القديمة تشكل موازاة إضافية يبقى أمرا غير واضح بالنسبة إلي شخصيا. 



17) القشيري 1966، ص460-3. فيما يتعلق بترجمات الفصل المعني، انظر: روزنتال 1960، ص108-13؛ والقشيري 1989، ص310-12؛ والقشيري 2007، ص229-32.



18) انظر أيضا: روزنتال 1960، ص115 و118؛ وكرون 2004، ص339.



19) هذه ترجمة روزنتال (روزنتال 1960، ص109). ونقرأ في الأصل العربي: "الحرية ألا يكون العبد تحت رق المخلوقات"(القشيري 1966، ص460.10؛ وهنا فإن لفظ "العبد" يعني حرفيا ("عبدا لله" ) والرق "العبودية". 



20) انظر: روزنتال 1960، ص115. هذا ولقد وسم أحد الكتاب المتخصصين في التقليد الأخلاقي الإغريقي الإنسان الحر بكونه "من لا يكون عبدا لرغباته البهيمية"(المصدر نفسه، ص88، وانظر أيضا: ص89)



21) انظر: روزنتال 1960، ص118.



22) المفضل بن عمر الجعفي 1960، ص45-15، وانظر أيضا: ص, 100-3. فيما يتعلق بالأول من هذه المقاطع، انظر: هالم 1985، ص138، وهالم 1981، ص70. على أنني مدين بالمعرفة بالمقطع الثاني وبمزيد من المساعدة إلى بيلا تندلر. 



23) أورد كرون 2004، ص334 الخطوط العريضة لهذه الحكاية. وقد ظهرت في أعمال العديد من المؤرخين الوسطويين، لكن فيما سيأتي لن أذكر إلا مرويات الطبري. 



24) الطبري 1897-1901، المجلد الأول، ص2270.7 = الطبري 1992، ص65-7.



25) الطبري 1897-1901، المجلد الأول، ص2274.10 = الطبري 1992، ص70.



26) الطبري 1897-1901، المجلد الأول، ص2271.11 = الطبري 1992، ص67. والصيغة صدى لرسالة كان قد بعث بها الرسول إلى أهل نجران بجنوب غرب شبه الجزيرة العربية، وفيها دعاهم إلى التحول من عبادة العباد إلى عبادة الله (فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، اليعقوبي 1883، II، ص.18.89، البيهقي 1985، V، ص385. 11). وهما كما في النص ترجمت لفظ "عبادة" العربي بدلالة "عباد "، وهي تحيل إلى خدمة الله وحده من حيث هي واجب (لين 1863-93، ص1936؛ ابن منظور، III، ص17.271)، كما يمكن أن يترجم بدلالة "العبادة". 



27) الطبري 1879-1901 المجلد الأول ص2268. 16= الطبري 1992، ص64.



28) انظر: مالرو 1997، وخاصة ص1-6، 14-16.



29) كرون 2004، ص44-6، 268. لاحظ عبارة عمر، الخليفة الثاني، التي تقول: "والله ما أنا بملك فأستعبدكم"(المصدر نفسه، ص45)



30) "لقد سعت إلى أن تورد سلالة كل الأمة مأخوذة برمتها على وجه الجملة"، هذا بينما كان تدوين شجرة السلالات في الثقافات الأخرى: "سعى إلى التركيز على السلف المتميز لأسرة واحدة أو جماعة معينة"(كيندي 1997، ص531)



31) انظر، على سبيل المثال، صفوت 1937، I، ص. 1.164 و 17.152 و 1.159 و160.3 و166.3 و167.8.



32) أبو الفرج الأصبهاني 1927-74، XI، ص53.11، وقد نقل الفقرة نيكلسون 1956، ص109 وما بعدها.



33) ليال 1894، ص112 السطر 22، و117 السطر 47-48، و120 السطر 66، و124 السطر 92؛ وآربري 1957، ص204-9. وأنا مدين إلى أندرياس هاموري بإفاداته المتعلقة بنشرات المعلقات. 



34) أقول: إن الشكل الأدبي لهذه الحكاية ولمثيلاتها يدين لا محالة ببعضه إلى الزمن الذي صارت فيه هذه القيم تفتقده. 



35) قارن بين هذا وما ذكره المؤرخ أمانوس مارسلينوس في نهاية القرن الرابع الميلادي من أن المسلمين "كانوا كلهم محاربين من نفس المرتبة". انظر: 



(Ammianus Marcellinus 1950-6, P26 = P27).



36) المعجم الألماني للألفاظ العربية الكلاسيكية 1970-2000، II، ص1075-1076. لاحظ على وجه الخصوص المعاني الثمانية لاستعمال الكلمة كنعت لـ"حي"، الذي يفيد اللفظ المتداول الدال على الجماعة القبلية (القوم)، والمعنيين الذين يتعلقان بنعت البلد، وهو اللفظ الذي يعني "المدينة" ويحيل هنا إلى مكة. 



37) مصعب الزبيري 1976، ص210. 4؛ والزبير بن بكار 1381، ص430. 8، وانظر أيضا ص427. 3. فضلا عن كيستر 1968، ص154 الهامش 2، حيث تم الاستشهاد بهذه المصادر وبغيرها. 



38) إن المعنى الأصلي للفظ "لقاح" إنما هو "الحبل والحمل والمخاض والتخصيب أو الإلقاح"؛ ولا توجد صلة بينة بين هذا المعنى ومعنى "عدم الخضوع إلى حاكم أو سلطان"(تلك المعاني الواردة في المعجم المذكور على التوالي: 1970-2000، II، ص1075-1076.



39) كرون 2004، ص268.



40) ابن هشام 1955، III - IV، ص661. 6 = ابن هشام 1980، ص687 (نقل ابن إسحاق المروية عن الزهري عن أنس بن مالك). لاحظ افتراض أن من واجب الرعايا أن يحاكموا الخليفة على مدى قيامه بواجباته. 



41) السيوطي 1988، ص59. 22. ويذكر السيوطي أن مصدره هو ابن سعد الذي كان أورد الحكاية على نحو مختلف بعض الشيء (ابن سعد 1904-21، III، الجزء الأول، ص130. 19 و 131. 1)



42) أبو الشيخ الأصبهاني 1966، ص64. 23 (الناس سواسية كأسنان المشط)، ابن عساكر 1995-8، X، ص363. 1؛ وانظر كذلك: مارلاو 1997، ص18 وما بعدها، مع إحالات على أدب الأمثال. 



43) النووي 1988، ص63. 1. ثمة تقليد لاحق يروي أن الصحابة لم يكن عليهم أن يقفوا عندما كانوا يرون النبي مقبلا عليهم؛ وذلك لعلمهم أنه كان يكره فعل ذلك (المصدر نفسه، ص61. 6) وكما يشير على ذلك النووي، فإنه في المصدر الذي أخذ منه هذا الحديث - سنن الترمذي (توفي عام 892 م) - يشكل جزءا من باب أورد فيه الأحاديث في كراهة قيام الرجل للرجل (المصدر نفسه. ص61. 8). وكما دل على ذلك عنوان رسالة النووي [الترخيص في الإكرام بالقيام لذوي الفضل والمزية من أهل الإسلام]، فإن قصده كان تسويغ فكرة قيام الرجل للرجل إجلالا واحتراما، مع أنه وجد صعوبات جمة في جعل هذه الأحاديث المستكرهة للأمر تبدو محايدة في هذا الشأن. 



44) كرون وهندس 1986، ص129-32. لمزيد من الاطلاع على مثل هذه المواقف يرجى العودة إلى كرون 2004، ص52.



45) كرون وهندس 1986، ص130 الفقرة 6 (أستشهد هاهنا بالرواية العربية للخطبة كما أوردها الجاحظ 1948-50، II، ص123، 8 وبروايات أخرى). مع تقدم العلم أن عبارة "دولا" إنما تتجاوب مع عبارة القرآن في الحشر 7:"كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم"(وهي تشير إلى الفيء الذي يتفضل به الرب على نبيه)



46) أبو الفرج الأصبهاني 1927-74، XXIII، ص242. 4 (لا يوجد هذا المقطع في الرواية التي ترجمها كرون وهندس).



47) كرون وهندس 1986، ص132 الفقرة 12، الإزكوي (مخطوط) b 247 (نقلا عن رواية هيثم بن عدي)



48) أبو الفرج الأصبهاني 1927-74، XXIII، ص234. 1، انظر الرواية "سلطانهم سلطان ربوبية"، الإزكوي (مخطوط) b 247. 2 (لا نعثر على هذه الإدانة في المقطع الذي نقله كرون وهندس). واصطلاح "الربوبية" مشتق من "الرب" الذي يعني المولى أو المالك (مثلا رب العبد أو مولاه) وعادة ما يطلق على الله. 



49) موسوعة الإسلام 1960-2009، مدخل باراني (هاردي).



50) باراني 1972، ص126. 1-127، وقد ترجم ترجمة جزئية في كتاب حبيب وخان (مخطوط)، ص33 وما بعدها وباري 1959، ص471. ويستمر المقطع على نفس الجديلة. 



51) باراني 1972، ص110. 14 -141. 24؛ وانظر: حبيب وخان 39 وما يليها، وباري 1959، ص472 وما يقفوها.



52) المدغري 1989، ص328. 20. من أجل إطلالة على الأشكال المبكرة لهذه الفكرة يرجى الاطلاع على: كرون 2004، ص46.



53) إمبير 1997، ص75.



54) الطبري 1879-1901، المجلد الأول، ص2270. 10 = الطبري 1992، ص68.



55) من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنه لما تَنقُل اللغات غير الغربية الحديثة مفهوم "الحرية" الأوربي، فإنها لا تتبنى بالضرورة الاستعارة التي يتضمنها، ولا تشكل العربية استثناء في هذا المقام، فاللفظ العربي التقليدي للدلالة على هذا المعنى "الحرية" قام بالتقابل مع العبودية، وبدلالة المعنى الحديث للحرية السياسية؛ وكان من نتائج ذلك أن الحرية بدلالتها العربية تكتسي دلالة مدحية، لكن بالمقابل قامت ثمة محاولات لتحديدها في هذا الاتجاه حتى يتم قطعها عن الفردانية، وقد اعتبرت ذات دلالة قدحية. وبالضد من هذا، فإن اللغة اليابانية والصينية تلافتا الاستعارة: فاللفظ الصيني الكلاسيكي "تزو - يو"، الذي تبنته اليابانية بوفق صيغة "جي - يو" لترجمة لفظ "الحرية" الإنجليزي والذي عادت الصينية وتبنته، إنما يعني أن يفعل الشخصما يحلو له، وليس يعني ألا يكون المرء عبدا، وكان من آثار ذلك أنه إلى حد اليوم لا يفهم من هذا اللفظ، في اللغة الصينية، دلالة مدحية. انظر: 



(see Jenner 1998, P85, and Mackie 1998, P121).



56) لاحظ ما يتضمنه هذا القول من أنه إذا ما لم تتصل حقبة ثانية بالحقبة الأولى، ما علمنا شيئا عنها أبد الدهر. ولنا أن نتصور –مثلا- أنه مرت قرطاجة وقبائل الهند القديمة بالمرحلة الأولى، غير أنه ما تم الحفاظ عليها. في حالة القرطاجيين، لا نملك سوى شهادة الأجانب، وبما أن هذا غير كاف لإبراز الطابع الأساسي لنظامهم السياسي، فإن ذلك لا يجيبنا عن مسألة معرفة ما إذا كانوا قد شرعوا في أي نمط من التفكير النسقي في قيمهم السياسية (انظر: وارمنغتون 1960، ص134). وفي الحالة الهندية، فإن التيار الأعظم الغالب على التقليد الهندي لا يتعاطف مع الأنظمة السياسية الجمهورية، وعادة ما كان يتجاهلها (شارما 1968، ص239). فالكتابات الدينية اليانية وأكثر منها البوذية تنزع إلى أن تكون معا أكثر تعاطفا مع الجمهوريات وأكثر اطلاعا على مؤسساتها السياسية، لكن لا تخبرنا بشيء عن حياتها الفكرية. وقد علمنا أنه كانت للفيدهنس راقصات ومداحون موسيقيون (المصدر نفسه، ص155)، كما نعلم أن المهافيرا والبودا ينحدران عن مثل عن مثل هذه الجماعات. ويشير كاوتيليا إلى "النقاشات التي كانت تدور على بعض مسائل العلم والفنون والقمار أو الرياضات" باعتبارها مناسبات يستغلها الجواسيس لإثارة الفتن في الجمهوريات (كاوتيليا 1919، ص378. 11= كاوتيليا 1951، ص407، وأنا مدين لأشويني موكاشي لإمدادي بالأصل السنسكريتي لهذا المقطع). لكن، لا أحد يخبرنا ما إذا كانت الجمهوريات القبلية تمتلك فلاسفة سياسيين، وعلى أية حال يبدو أنه لا توجد أية إشارة إلى أن "الحرية" كانت تشكلا جزءا من قاموسهم السياسي.



57) عن هذا التطور برزت مسألة تأخذ علي مجامع فكري بحيث لم أستطع قط أن أنتهي من التأمل فيها؛ أقصد الطريقة التي حدث بوفقها التطور الوسطوي لشمال أوربا الغربية والذي جعلها قابلة بالخصوصلمثل هذا التوسع. 



58) كرون 2004، ص, 268. ثمة استثناء غريب يخبر بشيء عن الخلفية الإثنية لتنظيم القاعدة، ويتمثل في مقطع يخاطب فيه ابن لادن كاتب الدولة الأمريكي للدفاع مذكرا إياه بمقتل عمرو بن هند على يد الشاعر عمرو بن كلثوم. انظر: 



(Shepard 2003, P537).



59) مادلونغ 1987، ص263. 10.



60) مادلونغ 1987، ص264. 13.



61) مادلونغ 1987، ص264. 4.



62) فان آرندونغ 1960، ص266.



63) انظر: فان آرندونغ 1960، ص136 والهامش 1.



64) كرون 2004، ص59.، 278.



65) أبو زكريا 1982، ص89. 7، ريبستوك 1983، ص156، مع مصادر إضافية أخرى.



66) ويلكنسون 1987، ص9.



67) من أجل إطلالة مساعدة، انظر: موسوعة الإسلام 1960-2009، مدخل: الحرية (من وضع برنار لويس).



68) الجبرتي 1975، ص7. 3= ص40.



69) فيما يتعلق بمعالجته للتصور الفرنسي لمفهوم "المساواة"، انظر: الجبرتي 1975، ص11. 13، 12. 1 = ص42. 



70) الجبرتي 1975، ص11. 15 = ص43 (فقولهم: الحرية؛ أي ليسوا أرقاء كالمماليك). بالنظر إلى تكرار إحالات البيان الفرنسي إلى المماليك باعتبارهم حكاما فاسدين لمصر، وباعتبار حقيقة كون أول هذه الإحالات يتحدث عن كونهم إنما استوردوا من القوقاز (المصدر نفسه، ص7. 8 = ص40)؛ أي بوصفهم عبيدا، يصير من الواضح أن الجبرتي يقصد بإعمال لفظ "المماليك" حكام مصر من المماليك. 



71) لربما كان عدم الألفة هذا قد انعكس في مقطع شهير يفسر فيه المصري رفاعة رافع الطهطاوي (المتوفى عام 1873 م) -في عمل نشر عام 1834- مفهوم "الحرية" بقوله عن الفرنسيين: "وما يسمونه الحرية ويرغبون فيه هو عين ما يطلق عليه عندنا العدل والإنصاف؛ وذلك لأن معنى الحكم بالحرية هو إقامة التساوي في الأحكام والقوانين، بحيث لا يجور الحاكم على الإنسان"(الطهطاوي، ص148. 20 = الطهطاوي 2004، ص206؛ وانظر لويس 1982، ص220، والحصري 1980، ص21).



72) خير الدين التونسي 1990-1 ص222-5 = خير الدين التونسي 1967، ص160-5.



73) خير الدين التونسي 1990-1 ص224-4 = خير الدين التونسي 1967، ص160.قارن رد دبلوماسي عثماني أمام تمثال للحرية بالمعرض الكبير الذي أقيم بباريس عام 1878:"كل هذه الإنجازات نتاج الحرية"(أورده لويس 1964، ص47) .



74) خير الدين التونسي 1990-1 ص222-8 = خير الدين التونسي 1967، ص160.



75) خير الدين التونسي 1990-1 ص180. 11 = خير الدين التونسي 1967، ص130.



76) خير الدين التونسي 1990-1 ص222-19 = خير الدين التونسي 1967، ص161. للوقوف على تجل لصيغة طويلة لهذه القولة في مصدر ما قبل حديث، انظر: المنوفي 1938، I، ص99. 24.



77) قال عنه ألبرت حوراني بأنه: "كانت أهم فكرة -بين مجموعة الفكر التي استقاها لطفي السيد من معلميه الغربيين- فكرة الحرية"(حوراني 1962، ص173)، كما أنه عبر في الوقت نفسه عن: "الاندهاش من الدور الصغير الذي لعبه الإسلام" في فكره (المصدر نفسه، ص172) 



78) لا ينبغي حمل هذا التأكيد -بطبيعة الحال- على حرفيته. ففي حالة العالم الحاضرة تحظى بعض القيم الغربية بسمعة عالية، وتحت هذه الشروط يصير بالضرورة قسم من أجندة الإسلاميين غير المعروف منصبّا على البحث عن نظائر لهذه القيم في التراث الإسلامي. 



79) المودودي 1977، ص214. 1. بما أنني لا أقرأ الأردية فإن معرفتي بأعمال المودودي تتم عن طريق الترجمتين الإنجليزية والعربية. وفي استشهادي بالترجمة الإنجليزية، فإنني أقدم اسمها في الشكل الذي تظهر به في صفحة العنوان.



80) المودودي 1977، ص212. 5؛ وانظر ايضا: المودودي a 1960، ص249-53. 



81) المودودي 1963، ص28.



82) المودودي ص40. 7 (النظم الكسروية والقيصرية) 



83) المودودي 1977، ص212. 27. بالنسبة لراتب خليفة أبي بكر المتواضع عمر، انظر المصدر نفسه. ص213، 11. 



84) المودودي، ص50. 1. قارن بالمودودي 1955، ص41. 8.



85) المودودي 1977، ص218. 2؛ انظر أيضا: المودودي 1989، ص16؛ والمودودي a 1960، ص258.



86) المودودي 1977، ص217. 22.



87) المودودي 1977، ص215. 23.



88) المودودي، ص47. 2.



89) المصدر نفسه. ص47. 15.



90) المودودي 1976، ص44؛ والمودودي ص48. 14؛ والمودودي، ص47. 2.



91) المودودي 1976، ص22، 43 = المودودي b 1960، ص192 (هذا العمل مستل من مقتبسات من كتاب المودودي "تفهيم القرآن"، وهو عمل بدوره جمعه وترجمه الناشر، انظر: المصدر نفسه، ص163)؛ وانظر أيضا: المودودي c 1960 ص284. 



92) المودودي 1976، ص47 = المودودي، ص51. 17. 



93) المودودي 1976، ص24 = المودودي، ص27. 4. 



94) المودودي 1976، ص38 = المودودي، ص41. 10.



95) المودودي 1976، ص40 = المودودي ص44. 5. انظر فيما يخص هذه النظرية أيضا: المودودي a 1960، ص235؛ المودودي c 1960، ص277.



96) المودودي 1976، ص45 = المودودي، ص49. 14.



97) المودودي 1963، ص20 و21.



98) المودودي 1976، ص15 (علامة التنصيص توجد في الأصل) = المودودي، ص16. 13 (ألوهية الناس على الناس)، وكذلك المودودي، ص20. 11، والمودودي 1975، ص247. 



99) المودودي 1976، ص17؛ والمودودي، ص21. 4. (عبودية الناس للناس)



100) المودودي 1976، ص18 = المودودي، ص21. 11.



101) المودودي 1976، ص19 = المودودي، ص22, 15. ذكرت هنا مساعدة زميلي قاسم زمان في تبيان اللغة الأردية التي كتب بها النص (المودودي 1952، ص21. 6؛ و"charter" هي اللفظة الإنجليزية في الأصل الأردي)



102) المودودي 1976، ص18.



103) المودودي 1977، ص206. 6 انظر لاحقا ص202. 32، وكذلك المودودي، ص29. 3.



104) المودودي 1977، ص202. 21. المودودي، ص32.



105) المودودي 1976، ص38. والمودودي، ص42. 3. وانظر أيضا: المودودي 1955، ص37. 4 "في يوم الدين، في حضرة الإله، الكل ينتمي إلى طبقة واحدة"(المودودي 1975، ص124).



106) المودودي 1976، ص38 = المودودي، ص42. 7، وانظر أيضا المودودي 1977، ص203. 4، والمودودي ص21؛ والمودودي 1967، ص16 الهامش 3، وص19.



107) المودودي، ص42. 6، 46. 9 (سواسية؛ والصدى غير موجود في اللغة الإنجليزية، المودودي 1976، ص38، 42)، والمودودي 1955، ص37. 3 (سواسية)؛ والمودودي، ص39. 5 (كأسنان المشط)؛ المودودي، ص29. 5 (سواسية كأسنان المشط). 



108) المودودي 1955، ص37. 6.



109) قطب (بلا تاريخ نشر)، ص178. 2 = قطب 1996، ص226. وعلى منواله نجد حسن البنا (المتوفى عام 1949) يورد هذه الخطبة في تأكيد دور الجماعة الإسلامية في مراقبة الحاكم مراقبة لصيقة (البنا 1965، ص361. 13، 362. 2). قارن بتصور قطب القائل بأن لا حقوق للحاكم أكبر من حقوق أي مسلم باستثناء تلك المتعلقة بإدارته للشأن العام (قطب، ص97. 8 = قطب 1966، ص117)، وأن حق الحاكم في أن يطاع مستمد من تطبيقه للقانون، فإذا ما هو أخل به سقط عنه هذا الحق. (قطب، ص95. 14 = قطب 1996، ص114، قطب 1952، ص94. 17) 



110) قطب، ص208. 18= قطب 1996، ص259، وانظر: قطب، ص189. 20 = قطب 1996، ص239، قطب، 196. 2 = قطب 1996، ص246.



111) سيد قطب، ص17. 2 = قطب 1988، ص16؛ وانظر أيضا: قطب 1973، ص8. 13، 22. 16 = قطب، 2005، ص11، 24؛ قطب، ص36. 18 = قطب 1996، ص43؛ قطب 2003، ص297-9.



112) قطب، ص5. 14 = قطب 1996، ص1، قطب، ص266. 17 = قطب 1996، ص354؛ وانظر قطب 1996، صXLii، 108؛ وسيفان 1990، ص73.



113) قطب، ص50. 3 = قطب 1996، ص57.



114) قطب، ص54. 8 = قطب 1988، ص55 (إيران)، قطب، ص55. 17 = قطب 1988، ص57 (الهند)، قطب، ص58. 1 = قطب 1988، ص59 (روما)



115) قطب 1973، ص22. 16 = قطب 2005، ص24 (انظر أيضا: قطب 2003، ص289). من المريب أن يقلق قطب من إنكار كل دين لعرب الجاهلية بسبب من أنه يريد أن يعيد كل شيء إلى الإسلام. 



116) قطب، ص152. 13 = قطب 1996، ص198.



117) قطب، ص51. 19، 52. 2 = قطب 1996، ص59 والهامش 121؛ انظر: قطب 1953، ص152. 13، وقطب 1986، ص200. 23.



118) قطب 1973، ص167. 17 = قطب 2005، ص144.



119) قطب 1973، ص75. 9 = قطب 2005، ص71، قطب 1973، ص168. 13 = قطب 2005، ص145؛ قطب 1962، ص233. 3= قطب 2006، ص221؛ وانظر: قطب 1962، ص86. 12 = قطب 2006، ص75، قطب 1962، ص155. 11= قطب 2006، ص142، قطب 1962، ص231. 20 و232. 4 = قطب 2006، ص220. للاطلاع على مزيد من إثارة الإسلاميين لهذه الفكرة، انظر: لاورنس 2005، ص217.



120) قطب 1962، ص233. 3 = قطب 2006، ص221.



121) قطب، ص202. 18 = قطب 1996، ص254.



122) قطب، ص50. 14 = قطب 1996، ص57 الهامش 112. 



123) انظر، على سبيل المثال، قطب 1973، ص73. 12 = قطب 2005، ص69. والمقاطع الدائرة على الجهاد التي ترجمت في كتاب قطب 2003، ص299-305 تمتلئ بالإحالة إلى دوره التحريري. وأما بالنسبة إلى اصطلاح "الحرية"، في هذا السياق، انظر، مثلا، قطب 1973، ص65. 1 = ص62.



124) كما ذكر ذلك كرون، فإن مسلمي العصور الوسطى "إنما تحدثوا عن القمع السياسي بوصفه استعبادا؛ لكنهم ما سموا نقيضه حرية". انظر: (Crone 2004, P315)



125) انظر: (Sourdel 1985, P121.)



126) وكما قال كرون عن مسلمي العصور الوسطى: "ما كانت الخيرة -كما تصوروها- بين العبودية والحرية، وإنما كانت بالأحرى بين العبودية لكائنات بشرية أخرى والعبودية لله"(كرون 2004، ص315). ويمكن للمرء أن يحاج بأن كون المرء عبدا لله ليس أشد أو أقل قسرا من أن يكون عبدا للقوانين. وقد قال شيشرون بأننا نكون عبيدا للقوانين لكي يمكننا أن نكون أحرارا (ذكره فيرسزوبسكي 1950، ص7)، وبالمثل يمكن أن يقال: إننا نكون عبيدا لله لكي نكون أحرارا. غير أن المسلمين -في الزمن ما قبل الحديث- ما كانوا ليتحدثوا هذا النحو من الحديث، وهيمنة إله شخصي أشد قسرا وإكراها من هيمنة قوانين غير شخصية. وحتى حين يتم قصر هيمنة الله على هيمنة قوانينه، فإنه تبقى هناك هوة قائمة بين القوانين التي يفرضها والقوانين التي يسنها بنو البشر لأنفسهم. 



127) وهكذا تتساءل آية تساؤلا إنكاريا: ﴿ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله﴾(القصص: 50). يلاحظ أيضا أن الله أمر داود بأن: ﴿احكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى﴾(ص: 26). واللفظ ليس يمكن أن يكون ترجمة فاسدة للفظة الواردة في اللغة الصينية ما قبل الحديثة "تسو - يو". والحال أن من نبهني إلى دلالاتها في السياق الحاضر هو قاسم زمان. 



128) إبراهيم 2007، ص130، 133 (استشهادا بالقرآن في إدانته اتباع ﴿أهواء الذين لا يعلمون﴾(الجاثية: 18) أما بالنسبة إلى نظرة مماثلة يتبناها سيد إمام، انظر: رشوان 2007، ص414؛ وبالنسبة إلى نظرة ابن لادن السلبية أيضا، انظر لاورنس 2005، ص209.



129) بالنسبة إلى النقد الإسلامي الحديث لتجاوزات الحرية في الغرب، انظر، على سبيل المثال، كوك 200، ص514 وما بعدها. والحال أن مثل لهذا النقد، بطبيعة الحال، سلف عريق في الغرب نفسه، انظر، مثلا، لاكس 2007، ص142 وما يليها. كما أن له سابقة داخل العالم الإسلامي يتمثل في البداؤني، وهو باحث مسلم هندي كتب في أواخر القرن السادس عشر الميلادي، والذي وصف هندستان وصفا قدحيا بأنها: "فضاء شاسع، حيث المجال مشرع لكل صنوف الإباحة، ولا أحد يتدخل في تجارة الآخر، حتى أن كل شخص يمكنه أن يفعل ما يحلو له"(البداؤني 1865 – 9، II، ص246. 13 = البداؤني 1884- 1925، II، ص253، ذكره علام 2004، ص76).



130) قطب، ص87. 17 = قطب 1988، ص88 وما يليها؛ قطب، ص163. 10 = قطب 1996، ص213؛ قطب 2003، ص300، 302؛ وانظر أيضا: قطب 1973، ص63. 21 و 64. 14 = قطب 2005، ص61 وما يليها، قطب 1973، ص74. 25 = قطب 2005، ص70.



131) قطب 1973، ص68. 23 = قطب، ص65.



132) سكينر 1998، ص30، وقد أورد قول ميلتون 1953-82، III، ص519 (لاحظ الإحالة على "قوانين الإله" التي تتلو فيما بعد في الفقرة نفسها بلا توتر في الدلالة باد).



133) ليس يعني هذا إنكار أن نموذج الدولة/المدينة يمكن أن يتم تبنيه في أية حقبة. ولنا في سنغافورة اليوم خير شهادة.



134) لاحظ منظم ندوة عن المدن - الدول، وهو يلخص نتائج الندوة، أن العديد من هذه المدن، بل أغلبها، كانت ملكية، لكنه لاحظ أيضا أن حجم المدن - الدول الضئيل يقود إلى بروز جمهوريات وإن كانت قليلة العدد، وإلى مؤسسات مماثلة حتى داخل الدول - المدن الملكية (هانسن 2000، ص611 وما يليها، وانظر الملخص الخاص بالمعطيات الدقيقة، ص619، الهامش 81 وما يليه)



135) بطبيعة الحال لا تعد هذه التوليفة من السمات شرطا كافيا لتطور الحقبة الأولى. ويمكن أن نأخذ هنا مثالا واحدا: لست أجد أن مدن الهانس (التي كانت تشكل تجمعا ضم مدن شمال أوربا التجارية الواقعة حول بحر الشمال وبحر البلطيق)، وهي مجتمعات غنية ومتعلمة معاصرة للمدن - الدول بإيطاليا، قد أسهمت إسهاما ذا بال في الفكر السياسي الحديث.



136) على الرغم من أنه يبدو أن القبائل العربية سارت سيرا طبيعيا أكثر من الدول - المدن؛ أعني مع أقل لجوء ممكن إلى اصطناع وسائل الإدارة السياسية التي لطالما شكلت وأعادت تشكيل دستور مدينة شأن أثينا؛ فإن الحصيلة كانت أنها ما كان لها أن تفكر كثيرا في هذا الأمر. والحال أن أحد أسباب هذا الفارق يمكن أن يكمن في أن القبائل شكل أقدم للوجود الجمعي البشري من المدن-الدول، ومن ثمة أكثر تجريبا.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/9/182

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك