بيان العنف
بقلم عبد الله إبراهيم
من المعلوم أنّ الأمم إنّما هي جماعات تنتظم في أيديولوجيات عرقية أو دينية، أي أنّها محكومة بمرويات سردية كبرى تؤمن بها، وتراها أفضل من غيرها، وتعدّها من مكونات هويتها الخاصة، وكلّ مساس بهذه الهويّة المتخيّلة سيؤدّي إلى تغذية تلك الجماعات بالعنف المفرط، وهو عنف يتفجر عند أول اختبار أو مواجهة. يضاف إلى أنّ التفسيرات الضيقة للدين تشحن المؤمنين بفكرة رفض الآخر المختلف عقائدياً، ولا ننسى النزعات التربوية الضيقة القومية أو المذهبية التي توهم أتباعها بالتفوق وتتهم الآخرين بالدونيّة. وحتى على مستوى الأفراد فالنظام الأبوي القائم على التراتب والهرمية يخلق أفراداً مشوّهين ثقافياً ومجهّزين بفكرة العنف، ولكن لو توسعنا في تقصي فكرة العنف بشكل كامل، نجد أنّ التجربة الاستعمارية قد انتهكت خصوصية الجماعات الأصلية، وجرحت كرامتها الجوّانية، وخلخلت علاقاتها، وكلّ ذلك بذر العنف فيها كرد فعل يأخذ طابع المقاومة، والحضارات الكبرى ومنها الغربية والإسلامية اكتنزت كمّاً هائلاً من الممارسات العنيفة التي هبّت كالأعاصير المدمرة ضدّ الجماعات والشعوب الأخرى، ومن الطبيعي أن ينشأ عنف مقابل بدواعي الحماية والمقاومة والحفاظ على الهوية.
العنف طاقة داخلية حبيسة لها مغذيات شخصية أو اجتماعية أو سياسية أو دينية، وحينما تتفجر تكون ممارسة عمياء تحرق الأخضر واليابس، وفي العموم ينبغي تجفيف منابع العنف وليس قمعه، أي معالجة السبب وليس النتيجة، وذلك لا يكون إلا بالعدالة والمساواة والشراكة والاعتراف المتبادل، وهذه تقتضي وجود المؤسسات المدنية والدستورية التي تقوم بتنظيم علاقات الأفراد فيما بينهم بما يحقق مصالحهم، وينظم واجباتهم وحقوقهم. وينبغي التاكيد على أنّ مجتمعاتنا ما زالت تعيش ما قبل هذه المرحلة، أي أنها تعيش مرحلة ما قبل الوصول إلى تعاقد اجتماعي معترف به ومتفق عليه ينظم علاقاتها، فهي تعيش حقبة العلاقات الاجتماعية لمرحلة القرون الوسطى، حيث السطوة للعلاقات القبلية والمذهبية، وحيث الجماعات لم تنصهر بعد لتكوين مجتمع تربطه فكرة المواطنة وينظمه القانون، وهذه العلاقات القائمة على الولاء وليس الشراكة تؤدي إلى احتقانات لا نهاية لها في عمق تلك المجتمعات، وهي تأخذ أشكالاً كثيرة من العنف يمارسه الأفراد أو الجماعات إيماناً بوهم أو معتقد أو مصلحة. ومن هذه الناحية فالجماعات المذهبية أو الإثنية تكتنز طاقة هائلة من العنف المدمّر الذي يتفجّر أحياناً لأقل سبب، فما بالك إذا توهمت بعض الجماعات أنها صاحبة الحق المطلق واليقين النهائي، فهي تمارس العنف بدرجة كبيرة من الوحشية ذوداً عن مفاهيم ومعتقدات وتصورات.
يتكوّن رصيد العنف ببطء، ولا يعرف أحد متى يتفجر فيخرّب كل شيء. وبدل أن يكون طاقة خلاقة وإيجابية ينحرف إلى السلبية، وإذا نظرنا لحال مجتمعاتنا من هذه الزاوية نجد أنّ أسباب العنف منبثة في كل مكان. ولعل العنف السياسي والديني والمذهبي المدعوم بأيديولوجيات عرقية ومذهبية متعصبة هو الأخطر، لأنّ الجماعات تمارسه بوصفه حقاً مقدّساً ومسؤولية أخلاقية لتقرير مصيرها وتعديل أوضاعها واستعادة حقوقها. وأحياناً يأخذ طابع الانتقام والثأر فيكون بشعاً ولا يقف عند حد ما.
لكي نطفئ لهيب العنف ينبغي إطفاء جذوته، فالعلاقات بين الجماعات والطوائف قائمة على فكرة الغلبة والقوة، وليس الحوار والشراكة، فالغلبة سياج تحتمي خلفه الجماعات والأفراد على حد سواء، وهذا هو الذي يؤدي إلى الحروب والنزاعات، وبخاصة الحروب الأهلية والمذهبية حيث تعتصم الجماعات بزعماء متعصبين للاحتماء بهم، وذلك لا يكون إلا بالترويج لإيديولوجيا قائمة على مبدأ العنف الذي تفهمه الجماعات على أنه عنف مقدّس يفضي إلى استعادة الحقوق القومية أو المذهبية، وأحياناً الوطنية. ولا أستبعد أن يتحول العنف إلى معتقد تتبناه الجماعات، ويأخذ به الأفراد، في ظل غياب العدالة على مستوى العالم وعلى مستوى الأفراد. وكلّ هذا يتعارض مع مكاسب الحداثة التي كانت تريد إحلال نسق من علاقات التفاعل والتواصل محل النزعات التدميرية التي تدفع بالأفراد والأمم إلى البحث عن حلول فردية قائمة على مبدأ العنف.
وتنبغي الإشارة إلى أنّ الفكر البراغماتي نظر إلى المجتمعات التقليدية على أنّها جماعات منفرطة وغير متجانسة، فهو فكر لا يعنى بفكرة المجتمع بوصفه بوتقة تنصهر فيها التشكيلات الإثنية والمذهبية والثقافية بما يؤدي إلى نشوء هويّة وطنية جامعة، إنّما نظر إلى المجتمع بوصفه جماعات متنافرة تنتظمها القوة والمصلحة، وهي تنسج هوياتها الضيقة في منأى عن الجماعات الأخرى، وعندما تتعرض مصالح الجماعات للخطر فإنها تعتصم بذاتها حماية لنفسها ولتحقيق مصالحها، وربما تتبنّى العنف لتحقيق ذلك. فلا وجود لفكرة المصير المشترك والهوية الشاملة والثقافة الجامعة، إنّما حلت محلّ كلّ ذلك انتماءات مدرسية ضيقة.
يفرض هذا التفسير للهويات تحيزات مذهبية وعرقية تؤدي إلى إنتاج العنف، ثم ممارسته على الجماعات الأخرى، حيث تتلاشى الجماعة إن لم تكن لها شوكة وقوة، والغاية تبرر الوسيلة، فالعنف مبدأ أساسي من مبادئ التفكير بالنسبة لهذه الجماعات. وما يعصف بالعالم العربي من عنف له صلة بهذا التفسير، وبخاصة بعد أن أخفقت مشاريع التنمية السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وحلّ الاستبداد محل التعدد والشراكة والديمقراطية، وسوف يتخذ العنف طابعاً مؤسسياً، وسيصبح نوعاً من العقيدة المذهبية أو العرقية.
المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A8%D9%8A%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D...