الوسطية في القرآن الكريم

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا

الدكتور علي محمد الصلابي

بسم الله الرحمن الرحيم  

المقدمة:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].

أما بعد:

فإن من نعمة الله على هذه الأمة وتشريفه لها أن جعلها أمة وسطا خيارا عدولا فقال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة:143].

        فهي خير الأمم التي أخرجت للناس وقد وصفها المولي عز وجل وشهد لها بذلك فقال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [آل عمران: 110].

ثم اصطفى الله سبحانه وتعالى لها رسولا من خيارها وأوسطها نسبا ومكانة فبعثه فيها نبيا رسولا: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنَفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتِّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 128].

وأنزل عليها أشرف كتبه وجعله مهيمنا على الكتب قبله شاملا لخير ما جاءت به: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) [المائدة: 48].

بهذا الرسول الكريم، وهذا القرآن العظيم، شرفت هذه الأمة، وبمتابعتهم والاهتداء بهديهما كانت خير الأمم وأوسطها وأعدلها.

وكان أسعد هذه الأمة باتباعهما وأحرصهم على هديهما قولا وعملا واعتقادا أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم تابعوهم، ثم التابعون لهم بإحسان من القرون الثلاثة المفضلة التي شهد لها النبي -صلى الله عليه وسلم- بالخيرة في قوله:

" خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".

فهؤلاء هم خيار الأمة ثم يلحق بهم كل من كان على مثل ما كانوا عليه من الهدى والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- في كل زمان ومكان فهؤلاء جميعا خيار هذه الأمة وأوسطها وأعدلها.

فإنه بعد انتقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى جوار ربه، ومضي عصر الخلافة الراشدة بدأ في عهد أمير المؤمنين  علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ظهور التفرق والاختلاف، فخرجت الخوارج ببدعها، وظهرت الشيعة بغلوها وفتنها، ثم توالي ظهور البدع وتكونت الفرق، وتوارثت الأجيال كثيرا من الانحرافات العقدية والسلوكية وغيرها، وابتعدت عن منهج الاعتدال والتوسط الذي رسمه القرآن الكريم ومارسه في الحياة سيد المرسلين فإن المتدبر في الواقع الذي تعيشه الأمة اليوم يري فرقا شاسعا في أهدافها واختلافا في منطلقاتها وغاياتها وفي مشاربها، يرى الإفراط والتفريط والغلو والجفاء والإسراف والتقتير في عموم الأمة، فإذا انتقلنا إلى حال الدعاة والمصلحين الذين أقض مضاجعهم هذا الواقع المؤلم لأمتهم، فشرعوا في البحث عن طرق العلاج ومعرفة أسباب النجاة والتمسك بها لإخراج البشرية من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى، نجد تأثير واقع الأمة على وضعهم، فمنهم المشرق، ومنهم المغرب، ترى المفرط والمفرط، نرى بين هؤلاء الدعاة والمصلحين من غلا وأفرط في الغلو، وعادت أفكار الخوارج القديمة، وهناك من فرط وجفا، وأضاع معالم الدين وأصول العقيدة، حرصًا على جمع الناس دون تزكيتهم وتعليمهم الكتاب والسنة فانتشر الإرجاء وضاعت معالم التوحيد وحقيقة العبادة.

وبين هؤلاء وأولئك وقفت فئة تقتفي الآثر، وتصحح المنهج وتقود الناس إلى الصراط المستقيم على منهج أهل السنة والجماعة وسلف الأمة، ينفون عن هذا الدين غلو الغالين وانتحال المبطلين وتفريط الكسالى والمرجئين ودعاوى المرجفين الزائغين، ووسط هذا الواقع المؤلم والاضطراب المهلك تشتد الحاجة إلى إرشاد الأمة إلى الصراط المستقيم والمنهج الوسط القويم لإنقاذها من كبوتها وإيقاظها من رقدتها، وتذكير الدعاة والمصلحين بالمنهج الحق والطريق البين الواضح:

(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) [الأنعام: 153].

ولقد تأملت طويلا عند قضية الغلو والجفاء، والإفراط والتفريط؛ وأيقنت أن الأمة بأمس الحاجة إلى منهج الوسطية منقذا لها من هذا الانحراف الذي جلب عليها الرزايا والمصائب والنكبات.

وجدت أن القرآن الكريم، قد رسم لنا هذا المنهج في جميع جوانبه أصولا وفروعا وعقيدة وعبادة وخلقا وسلوكا وتصورا وعملا.

ولقد جاء منهج الوسطية من خلال القرآن الكريم  في أساليب عدة تصريحا وإيماء، مفصلا، مجملا، خبرًا وإنشاء وأمرًا ونهيا.

واقتناعا مني بأهمية هذا الموضوع ومسيس الحاجة إليه فقد رأيت أن أقدم بحث الماجستير في موضوع يتعلق بالوسطية من خلال البحث في آيات القرآن الكريم  متأملا لآيات الذكر الحكيم، متفكرا في دلالاته محاولا أن استوعب ما كتبه المفسرون حول تقرير القرآن لمنهج الوسطية وسميته (الوسطية في القرآن) وقد شجعني على ذلك مشايخي وأساتذتي حفظهم الله للغوص في هذا الموضوع وأخص بالذكر الدكتور مبارك رحمة –حفظه الله- الذي شجعني ورغبني في هذا الاختيار فجزاه الله خيرًا.

علي محمد محمد الصلابي

 

القسم الأول ملامح الوسطية في القرآن

الباب الأول: في تعريف الوسطية في اللغة والاصطلاح وأسسها:

ويشتمل على فصلين:

الفصل الأول: في تعريف الوسطية في اللغة والاصطلاح:

ويشتمل على ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: معني الوسطية في اللغة.

المبحث الثاني: الوسطية في استعمال الشارع.

المبحث الثالث: تحرير معنى الوسطية.

الفصل الثاني: في أسس الوسطية.

ويشتمل على أربعة مباحث:

المبحث الأول: الغلو والإفراط.

المبحث الثاني: التفريط والجفاء.

المبحث الثالث: الصراط المستقيم.

المبحث الرابع: الصلة بين الوسطية والصراط المستقيم.

الباب الثاني: في ملامح الوسطية

ويشتمل على ستة فصول:

الفصل الأول: في الخيرية.

ويشتمل على مبحثين:

المبحث الأول: أقوال المفسرين في آية الخيرية.

المبحث الثاني: أبرز أوجه خيرية هذه الأمة.

الفصل الثاني: في العدل

ويشتمل على أربعة مباحث:

المبحث الأول: أقوال المفسرين في "أمة وسطا".

المبحث الثاني: وجوب العدل على هذه الأمة.

المبحث الثالث: اعتراف أعداء هذه الأمة بعدالتها.

المبحث الرابع: العدل عند أهل الكتاب.

الفصل الثالث: في اليسر ورفع الحرج:

ويشتمل على ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: تعريف اليسر والوسع في اللغة والاصطلاح.

المبحث الثاني: رفع الحرج.

المبحث الثالث: أدلة التيسير ورفع الحرج.

الفصل الرابع: في الحكمة.

ويشتمل على أربعة مباحث:

المبحث الأول:  الحكمة في اللغة والاصطلاح.

المبحث الثاني: العلامة بين التعريف اللغوي والشرعي.

المبحث الثالث: أنواع الحكمة.

المبحث الرابع: أركان الحكمة.

الفصل الخامس: في الاستقامة

ويشتمل على ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: أدلة القرآن.

المبحث الثاني: أدلة السنة.

المبحث الثالث: أقوال العلماء في الاستقامة.

الفصل السادس: في البينية.

ويشتمل على مبحثين:

المبحث الأول: أقوال العلماء في البينية.

المبحث الثاني: دليل تطبيقي لملامح الوسطية.

الخاتمة: وفيها عرض موجز لما وصلت إليه من نتائج مهمة ي هذا البحث، ثم فهرسا للموضوعات.

وأسأل الله -عز وجل- أن يجعل هذا العمل المتواضع خالصا لوجهه الكريم، وأن يغفر لي أي خطأ أو زلل وقع فيه، إنه سميع قريب.

 

 

الباب الأول

الوسطية في اللغة والاصطلاح وأسسها

الفصل الأول:

الوسطية في اللغة والاصطلاح

المبحث الأول معني الوسطية في اللغة

مادة (وسط):

تدل على معان متقاربة كما يقول ابن فارس([1]): (الواو والسين والطاء بناء صحيح يدل على: العدل، والنصف وأعدل الشيء أوسطه ووسطه...)([2]).

الأول: (وسط) بسكون السين، فتكون ظرفا بمعني (بين) قال في لسان العرب([3]): (وأما الوسط بسكون السين فهو ظرف لا اسم، جاء على وزن نظيره في المعني وهو (بين) نقول: جلست وسط القوم أي بينهم...).

ومنه قول سوار بن المضرب:

إني كأني أرى من لا حياء له

 

ولا أمانة، وسط الناس عريانا([4])

الثاني: (وسط) بفتح السين.

وتأتي لمعان متعددة متقاربة، فتكون:

1- اسما لما بين طرفي الشيء وهو منه فنقول: قبضت وسط الحبل، وكسرت وسط القوس، وجلست وسط الدار([5]).

2- تأتي صفة بمعني (خيار) وأفضل، وأجود، فأوسط الشيء أفضله وخياره كوسط المرعي خير من طرفيه، ومرعى وسط أي: خيار، منه:

إن لها فوارسا وفرطًا

 

ونضرة الحي ومرعى وسطا([6])

وواسطة القلادة: الجوهر الذي وسطها وهو أجودها([7])، ورجل وسط ووسيط: حسن([8]).

3- وتأتي وسط: بمعنى (عدل) كما تقدم قول ابن فارس: إنه يدل على العدل.. وأن أعدل الشيء أوسطه.

وفي لسان العرب: (ووسط الشيء وأوسطه أعدله)([9]).

وفي القاموس([10]): (الوسط: محركة من كل شيء أعدله)([11])، وكذلك قال الجوهري([12]) في الصحاح([13]).

4- وتأتي وسط: بمعني: الشيء بين الجيد والرديء قال الجوهري: (ويقال أيضًا شيء وسط: أي بين الجيد والرديء)([14]).

وقال صاحب المصباح المنير: (الوسط بالتحريك، المعتدل يقال شيء وسط أي: بين الجيد والرديء...)([15]).

وكيفما تصرفت هذه اللفظة، تجدها لا تخرج في معناها عن معاني العدل والفضل والخيرية، والنصف والبينية والمتوسط بين الطرفين فتقول:

(وسوطا) بمعنى: المتوسط المعتدل ومنه قول الأعرابي: (علمني دينا وسطا لا ذاهبا فروطا ولا ساقطا سقوطا، فإن الوسوط ههنا المتوسط بين الغالي والتالي([16]).

و(وسيطا): أي حسيبا شريفا، قال الجوهري: وفلان وسيط في قومه إذا كان أوسطهم نسبا وأرفعهم محلا قال العرجي:

كأني لم أكن فيهم وسيطا

 

ولم تك نسبتي في آل عمرو([17])

و(الوسيط) أي المتوسط بين المتخاصمين([18]).

و(التوسط): بين الناس من الوساطة([19]).

و(التوسيط): أي تجعل الشيء في الوسط([20]).

و(التوسيط) قطع الشيء نصفين.

و(وسوط الشمس): توسطها السماء([21]).

و(واسطة القلادة): الجوهري الذي هو في وسطها وهو أجودها([22]).

وقال فريد عبد القادر([23]): استقر عند العرب أنهم إذا أطلقوا كلمة (وسط) أرادوا معاني الخير، والعدل، والجودة، والرفع، والمكانة العلية.

والعرب تصف فاضل النسب بأنه وسط في قومه، وفلان من واسطة قومه، أي: من أعيانهم، وهو من أوسط قومه، أي: من خيارهم وأشرافهم([24]).

ومن خلال ما سبق اتضح لنا المعني اللغوي لكلمة (وسط) وما تصرف منها، وأنها تؤول إلى معان متقاربة، ولله الحمد.

المبحث الثاني الوسطية في استعمال الشارع

وردت مادة (وسط) في القرآن الكريم  في عدة مواضع، وذلك بتصاريفها المتعددة، حيث وردت بلفظ: (وسطا) و(الوسطي) و(أوسط) و(أوسطهم) و(وسطن).

وسنين معني كل كلمة على وفق ورودا في القرآن الكريم  مسترشدين بأقوال المفسرين ببعض أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- في توضيح معاني تصاريف كلمة الوسط.

أولا: كلمة وسطا:

وردت في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة: 143]، وقد ورد تفسير هذه الكلمة في السنة النبوية، كما ذكر لها المفسرون عدة معان وتفصيل ذلك كما يلي:

1- وقد ورد تفسير هذه الكلمة عن أبي سعيد الخدري([25]) -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يدعي نوح يقوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته فيشهدون أنه قد بلغ"، (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)([26])، فذلك قوله – جل ذكره-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) والوسط: العدل.

وروى الطبري([27]) بإسناده عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) قال: عدولا([28]).

وقد ساق الطبري عددًا من الروايات في هذا المعنى: ثم ذكر تفسير هذه الآية منسوبا إلى بعض الصحابة والتابعين، كأبي سعيد، ومجاهد([29]) وغيرهما، حيث فسروها بـ(عدولا)([30]).

2- قال الإمام الطبري:

وأما الوسط فإنه من كلام العرب: الخيار، يقال منه: فلان وسط الحسب في قومه، أي متوسط الحسب، إذا أرادوا بذلك الرفعة في حسبه.

وهو وسط في قومه وواسط، قال زهير بن أبي سلمي([31]) في الوسط:

هم وسط يرضى الأنام بحكمهم

 

إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم

قال: وأنا أرى أن الوسط في هذا الموضوع هو الوسط الذي بمعنى الجزء، الذي هو بين الطرفين، مثل وسط الدار، وأرى أن الله – تعالى ذكره- إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه، كغلو النصارى الذين غلوا بالترهب، وقولهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه، كتقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله، وقتلوا أنبيائهم، وكذبوا على ربهم وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها.

وأما التأويل فإنه جاء أن الوسط العدل –كما سبق- وذلك معنى الخيار؛ لأن الخيار من الناس عدولهم([32]).

3- قال محمد رشيد رضا([33]) في تفسيره: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة: 143]، هو تصريح بما فهم من قوله: (وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ) [البقرة: 213].

أي على هذا النحو من الهداية جعلناكم أمة وسطا.

قالوا: إن الوسط هو العدل والخيار، وذلك إن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنقص عنه تقصير وتفريط، وكل من الإفراط والتفريط ميل عن الجادة القويمة، فهو شر ومذموم، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر، أي المتوسط بينهما.

4- وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي([34]) –رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) أي: عدلا خيارا، وما عدا الوسط فأطراف داخلة تحت الخطر، فجعل الله هذه الأمة وسطا في كل أمور الدين، وسطا في الأنبياء بين من غلا فيهم كالنصارى، وبين من جفا منهم كاليهود، فأن آمنوا بهم كلهم على الوجه اللائق بذلك.

ووسطا في الشريعة، لا تشديدات اليهود وآصارهم، ولا تهاون النصارى، وفي باب الطهارة والمطاعم، لا كاليهود الذين لا تصح لهم صلاة إلا في بيعهم وكنائسهم، ولا يطهرهم الماء من النجاسات، وقد حرمت عليهم طيبات عقوبة لهم.

ولا كالنصارى الذين لا ينجسون شيئا ولا يحرمون شيئا؛ بل أباحوا ما دب ودرج، بل طهارتهم –أي هذه الأمة- أكمل طهارة وأتمها، وأباح لهم الطيبات من المطاعم، والمشارب، والملابس، والمناكح، وحرم عليهم الخبائث من ذلك.

فلهذه الأمة من الدين أكمله، ومن الأخلاق أجلها، ومن الأعمال أفضلها ووهبهم من العلم الحلم والعدل والإحسان ما لم يهبه لأمة سواهم، فلذلك كانوا (أُمَّةً وَسَطًا) كاملين معتدلين ليكونوا (شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) بسبب عدالتهم وحكمهم بالقسط، يحكمون على الناس من سائر الأديان، ولا يحكم عليهم غيرهم([35]).

5- ويقول سيد قط([36]- رحمه الله- في تفسيره لهذه الآية: (وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط، سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو الوسط بمعناه المادي والحسي، أمة وسطا في التصور والاعتقاد، أمة وسطا في التفكير والشعور، أمة وسطا في التنظيم والتنسيق، أمة وسطا في الارتباطات والعلاقات، أمة وسطا في الزمان، أمة وسطا في المكان([37]).

هذه أهم أقوال المفسرين في تفسير هذه الآية، ومن خلال هذا التفسير تبينت معان لها أهميتها عند الحديث عن منهج القرآن في تقرير الوسطية في مباحث قادمة.

ثانيا: كلمة (الوسطي):

وقد وردت هذه الكلمة في قوله في سورة البقرة: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ) [البقرة: 238].

ومن أقوال المفسرين في هذه الآية نجد أن لها علاقة بمعنى الوسط حيث سنبين سبب تسميتها بذلك، هل لأنها متوسطة بين الصلوات أو لأنها أفضل الصلوات أو لكليهما معًا؟ دون الوقوف عند أي الصلوات هي، وما سيرد في هذه المسألة فهو لإيضاح المعني فقط.

1- ذكر الإمام الطبري أقوال العلماء في الصلاة الوسطى، وأطال في ذكر أدلة من قال: إن الصلاة الوسطي هي العصر، ثم قال بعد أن رجح أن الصلاة الوسطي هي العصر: وإنما قيل لها الوسطي: لتوسطها الصلوات المكتوبة الخمس، وذلك أن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين، وهي بين ذلك وسطاهن والوسطي: الفعلي من قول القائل: وسطت القوم أوسطهم (وسطة) ووسوطا، إذا دخلت وسطهم، ويقال للذكر فيه: هو أوسطنا، وللأنثى: هي وسطانا([38]).

وعندما ذكر من قال: إن الوسطي هي صلاة المغرب، عقب الطبري على هذا القول وقال: إن أصحابه وجهواقوله: (الوسطى) إلى معنى التوسط، الذي يكون صفة للشيء يكون عدلا بين الأمرين، كالرجل المعتدل القامة، الذي لا يكون مفرطا طوله، ولا قصيرة قامته، ولذلك قال: ألا ترى أنها ليست بأقلها ولا أكثرها، والذين ذهبوا إلى أن الصلاة الوسطي هي المغرب، قالوا: ألا ترى أنها ليست بأقلها ولا أكثرها، ولا تقتصر في السفر وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يؤخرها عن وقتها ولم يعجلها([39]).

2- وجه ابن الجوزي([40]) أقوال العلماء في المراد بالصلاة الوسطي قائلا: وفي المراد بالوسطي ثلاثة أقوال:

أحدها: أنها أوسط الصلوات محلا.

والثاني: أوسطها مقدارا.

والثالث: أفضلها.

ووسط الشيء خيره وأعدله، ومنه قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة: 143].

فإن قلنا إن الوسطي بمعنى الفضلي، جاز أن يدعي هذا كل ذي مذهب فيها، وإن قلنا: إنها أوسطها مقدارا، فهي المغرب، لأن أقل المفروضات ركعتان، وأكثرها أربعا، وإن قلنا: إنها أوسطها محلا، فللقائلين: إنها العصر أن يقولوا: قبلها صلاتان في النهار، وبعدها صلاتان في الليل، فهي الوسطي.

ومن قال هي الفجر، قال عكرمة([41]): هي وسط بين الليل والنهار، ومن قال هي الظهر، قال: هي وسط النهار فأما من قال: هي المغرب، فاحتج بأن أول صلاة فرضت الظهر، فصارت المغرب وسطى ومن قال: هي العشاء، فإنه قال: هي بين صلاتين لا تقصران([42])، ومن خلال ما ذكرنا يتأكد ارتباط كل قول بمعنى الوسط في ضوء المعاني التي سبق بيانها.

3- وقال القاسمي([43]) في تفسيره: (الصلاة الوسطي: أي الوسطي بين الصلوات، بمعنى المتوسطة، أو الفضلى منها، من قولهم للأفضل: الأوسط.

فعلى الأولى يكون الأمر لصلاة متوسطة بين صلاتين، وهل هي: الصبح، أو الظهر، أو العصر، أو المغرب، أو العشاء، أقوال مأثورة عن الصحابة والتابعين.

وعلى الثاني: فهي صلاة الفطر أو الأضحى أو الجماعة أو صلاة الخوف أو الجمعة أو المتوسطة بين الطول والقصر، أقوال أيضًا عن كثير من الأعلام.

ثم قال: سنح لي –عرض لي- وقوي بعد تمعن احتمال قوله تعالى: (وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى) بعد قوله: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ) لأن يكون إرشادًا وأمرًا بالمحافظة على أداء الصلاة أداء متوسطًا، لا طويلا، ولا مملا، ولا قصيرًا مخلا، أي: والصلاة المتوسطة بين الطول والقصر، ويؤيده الأحاديث المروية عنه -صلى الله عليه وسلم- في ذلك قولا وفعلا.

ثم مر بي في القاموس حكاية هذا قولا، حيث ساق في مادة (وسط) الأقوال في الآية، ومنها قوله: أو المتوسطة بين الطول والقصر، قال شارحه الزبيدي([44])، وهذا القول رده أبو حيان([45]) في البحر المحيط، ثم سنح لي احتمال وجه آخر، وهو أن يكون قوله: (وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى) أريد بها وصف الصلاة المأمور بالمحافظة عليها بأنها فضلى، أي ذات فضل عظيم عند الله، فالوسطي بمعني الفضلى من قوله للأفضل الأوسط([46]).

4- أما محمد رشيد رضا –رحمه الله- فقال: (والصلاة الوسطي هي إحدى الخمس، والوسطي مؤنث الأوسط ويستعمل بمعنى التوسط بين شيئين أو أشياء لها طرفان متساويان، وبمعني الأفضل، وبكل من المعنيين قال قائلون، ولذلك اختلفوا في أي الصلوات أفضل، وأيتها المتوسطة)([47]).

5- وأما ابن عاشور([48]) –رحمه الله- قال: (فأما الذين تعلقوا بالاستدلال بوصف الوسطي فمنهم من حاول جعل الوصف من الوسطي بمعنى الخيار والفضل، فرجع إلى تتبع ما ورد في تفضيل بعض الصلوات على بعض، ومنهم من حاول جعل الوصف من الوسط، وهو الواقع بين جانبين متساويين من العدد، فذهب يتطلب الصلاة التي هي بين صلاتين من كل جانب وبهذا التفسير لمعنى (الوسطى) من أقوال المفسرين المتقدم نلاحظ: الارتباط بين هذه الكلمة وموضوع الوسطية الذي هو مدار هذا البحث، سواء أكانت بمعنى التوسط بين شيئين أم بمعنى الخيار الأفضل، وسيأتي مزيد بيان لهذه القضية إن شاء الله – بعد عرض جميع الآيات.

ثالثاً: كلمة (أوسط):

وقد وردت هذه الكلمة في آيتين: الأولى في قوله تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) [المائدة: 89]، والثانية في سورة القلم في قوله تعالى: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ) [القلم: 28].

وقد ذكر المفسرون معنى كل كلمة في مواضعها، فمنهم من جعل معناهما واحدًا، ومنهم من فرق بين مدلوليهما، وإليك تفصيل ذلك:

الأولى: آية سورة المائدة:

1- قال الطبري: يعني تعالى ذكره بقوله: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) أعدله، قال عطاء([49]) –رحمه الله- أوسطه: أعدله.

وقال بعضهم: معناه: من أوسط ما يطعم من أجناس الطعام الذي يقتاته أهل بلد المكفر أهليهم، ومن ذلك قول ابن عمر([50]) من أوسط ما يطعم أهله الخبز والتمر، والخبز والسمن، والخبز والزيت، ومن أفضل ما يطعمهم: الخبز واللحم.

وقال آخرون: من أوسط ما يطعم المفكر أهله، قال إن كان ممن يشبع أهله أشبع المساكين العشرة، وإن كان ممن لا يشبعهم لعجزه عن ذلك أطعم المساكين على قدر ما يفعل من ذلك في عسر ويسره، ثم عقب الطبري على ذلك بقوله: (وأولى الأقوال عندنا قول من قال: من أوسط ما تطعمون أهليكم في القلة والكثرة)([51]).

2- وقال ابن الجوزي:

في قوله: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) قولان:

أحدهما: من أوسطه في القدر، قاله عمر([52])، وعلي([53]).

الثاني: من أوسط أجناس الطعام، قاله ابن عمر، وعبيدة([54])، والحسن([55])، وابن سيرين([56])، رحمهم الله جميعًا.

3- وقال القرطبي([57]) –رحمه الله-:

تقدم في سورة البقرة أن الوسط بمعنى الأعلى والخيار، وهو هنا بمنزلة بين المنزلتين، ونصفا بين طرفين.

وعن ابن عباس([58])، قال: كان الرجل يقوت أهله قوتا فيه سعة، وكان يقوت أهله قوتا فيه شدة، فنزلت: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) [المائدة: 89]، وهذا يدل على أن الوسط ما ذكرناه، وهو ما كان بين شيئين([59]).

4- وقال الزمخشري([60]) –رحمه الله-: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) من أقصده، لأن منهم من يسرف في إطعام أهله، ومنهم من يقتر([61]).

5- وقال سيد قطب –رحمه الله- في ظلال القرآن: (وأوسط تحتمل من أحسن، أو من متوسط، فكلاهما من معاني اللفظ، وكان الجمع بينهما لا يخرج عن القصد، لأن المتوسط هو الأحسن، فالوسط هو الأحسن في ميزان الإسلام([62]).

الثانية: آية سورة القلم:

1- قال الطبري –رحمه الله-: وقوله: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ) [القلم: 28]، يعني أعدلهم وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، قال ابن عباس: أوسطهم: أعدلهم، وبمثل ذلك قال مجاهد، وسعيد بن المسيب([63])، رحمهم الله تعالى.

وقال قتادة([64]) –رحمه الله-: (أي أعدلهم قولا، وكان أسرع القوم فزعًا، وأحسنهم رجعة([65]).

2- وقال اقرطبي: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ) أي: أمثلهم وأعدلهم وأعقلهم)([66]).

3- وقال ابن كثير([67]): (قَالَ أَوْسَطُهُمْ)، قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير([68]) وعكرمة وقتادة: أعدلهم وخيرهم([69]).

4- وقال ابن الجوزي: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ) أي أعدلهم وأفضلهم([70]).

5- وقال القاسمي: (أي: أعدلهم وخيرهم رأيا)([71]).

مما سبق ذكره من أقوال المفسرين اتضح أن كلمة (أوسط) في آية المائدة فسرت على عدة أوجه وبعدة معاني، منها: الأفضل، وبين القليل والكثير، وبين الجيد والرديء، أو الشدة والسعة، أما آية القلم فاتفق المفسرون على تفسيرها بمعنى الأفضل والخيار وهو الأعدل.

رابعًا: كلمة (فوسطن):

وردت في قوله تعالى: (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) [العاديات: 5].

وقد ذكر المفسرون أن معناها من التوسط في المكان، وهذه جملة من أقوالهم:

1- قال الطبري –رحمه الله-: (يقول تعالى ذكره: فوسطن بركبانهن جمع القوم، يقال: وسطت القوم – بالتخفيف-، ووسطته بالتشديد، وتوسطته بمعنى واحد([72]).

2- وقال ابن الجوزي –رحمه الله-: (وقال ابن مسعود: (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا)، يعني مزدلفة)([73]).

3- وقال القرطبي –رحمه الله-: (جمعا) مفعول به (فوسطن) أي فوسطن بركبانهم العدو يقال: وسطت القوم أوسطهم وسطا وسطه أي –صرت وسطهم يقال: وسطت القوم – بالتشديد والتخفيف – وتوسطتهم بمعنى واحد، وقيل: معنى التشديد: جعلها الجمع قسمين، والتخفيف: صرن وسط الجمع([74]).

4- وقال القاسمي –رحمه الله-: (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) أي فتوسطن ودخلن في وسط جمع الأعداء ففقرته وشتته، يقال: وسطت القوم –بالتخفيف- ووسطته بالتشديد وتوسطته بمعنى واحد([75]).

5- قال سيد قطب –رحمه الله-: (وهي تتوسط صفوف الأعداء على غرة، فتوقع بينهم الفوضى والاضطراب([76]).

ومما سبق ذكره اتضح أن معناها التوسط والوسط، ومن المفيد أن أذكر أحاديث نبوية في بيان معنى الوسط، ذلك لأن السنة النبوية شارحة للقرآن الكريم ومبينة له، ومن ثم نبين علاقة ذلك بالوسطية التي هي موضوع بحثنا وذلك يعطينا فهما دقيقا على مدلول مصطلح الوسطية.

1- عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يدعي نوح يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فقال لأمته: هل بلغكم؟ فيشهدون ما أتانا من نذير: فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ". (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا).

فذلك قوله – جل ذكره-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) والوسط العدل([77]).

والمراد بهذا الحديث واضح، وهو أن الوسط فسر هنا بالعدل، وهو المقابل للظلم، حيث إن أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، شهدوا بما علموا، (وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا ) [يوسف: 81] وهو الحق، فلم تكن شهادتهم لهوى مع نوح –عليه السلام- وحاشاهم من ذلك- ولم يشهدوا مع قوم نوح بالباطل، وأني لهم ذلك، وهذا هو العدل؛ لأن الظلم له طرفان والعدل وسط بينهما، فالشهادة مع أحد الخصمين بدون حق ظلم والشهادة بالحق دون النظر لصاحبه عدل، فأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- ممن قال الله فيهم (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف: 181].

2- روى الترمذي([78]) –رحمه الله-: (قال لما نزل قوله تعالى: (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ

* فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ *فِي بِضْعِ سِنِينَ) [الروم: 1-4]، خرج أبو بكر الصديق([79]) يصيح في نواحي مكة: (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ *فِي بِضْعِ سِنِينَ) قال ناس من قريش لأبي بكر:فذلك بيننا وبينك، زعم صاحبك أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك؟! قال: بلى وذلك قبل تحريم الرهان – فارتهن أبو بكر -رضي الله عنه- والمشركون، وتواضع الرهان، وقالوا لأبي بكر: كم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين، فسم بيننا وبينك وسطا تنتهي إليه، فسموا بينهم ست سنين)([80])، والست هنا هي الوسط بين ثلاث وتسع، فقبلها وبعدها ثلاث.

3- عن عبد الله بن معاوية الغاضري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان، من عبد الله وحده، وعلم أنه لا إله إلا الله، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه، رافدة عليه كل عام، ولم يعط الهرمة، ولا الدرنة، ولا المريضة ولا الشرط اللئيمة، ولكن من وسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشره"([81]).

والوسط هنا ما بين أجود الغنم وبين السيئ والمعيب، وهو مثل قوله تعالى: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) [المائدة: 89].

4- عن جابر بن عبد الله([82]) -رضي الله عنه- قال: (كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فخط خطا، وخط خطين عن يمينه، ثم تلا هذه الآية: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) [الأنعام: 153].

والوسط هنا: هو الشيء بين الشيئين، متوسط بينهما ونجد بيان هذا الصراط في الحديث الآتي: عن النواس بن النعمان([83]) –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى كنفي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى الصراط داع يدعو يقول: يا أيها الناس اسلكوا الصراط جميعا، ولا تعرجوا، وداع يدعو على الصراط، فإذا أراد أحدكم فتح شيء من تلك الأبواب قال: ويلك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط الإسلام والستور حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، والداعي الذي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوقه واعظ الله يذكر في قلب كل مسلم"([84]).

5- وقال –صلى الله عليه وسلم-: "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة أو أعلى الجنة"([85]).

قال الحافظ بن حجر([86]) –رحمه الله-: (أوسط الجنة أو أعلى الجنة، والمراد بالأوسط هنا: الأعدل والأفضل، كقوله تعالى: (كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)([87]).

6- وقال -صلى الله عليه وسلم-: "البركة تنزل في وسط الطعام، فكلوا من حافتيه ولا تأكلوا من وسطه"([88]).

والوسط هنا: أشبه ما يكون بمركز الدائرة ومنتصفها أي: هي نقطة الالتقاء بين أطراف متساوية.

7- وعن عبد الله بن مسعود([89]) -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خط خطًا مربعا، وخط وسط الخط المربع، وخطوطا إلى جانب الخط الذي وسط الخط المربع، وخطا خارجا من الخط المربع، فقال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "هذا الإنسان الخط الأوسط، وهذه الخطوط إلى انبه الأعراض تنهشه"([90]).

والوسط هنا: هو ما كان بين عدة أطراف والمسافة بينه وبين كل طرف متساوية.

8- وقال -صلى الله عليه وسلم-: "وسطوا الإمام وسدوا الخلل"([91]). أي اجعلوه وسط الصف – في منتصفه – من أمامه، بحيث يكون طرفا الصف متساويين بالنسبة لموقف الإمام.

9- وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لعن الله من جلس وسط الحلقة"([92]) وهو الذي يجلس في وسط الحلقة، ولو لم يكن في منتصفها تماما وأن من جلس في داخلها بعيدا عن أطرافها فهو في وسطها.

10- وقال -صلى الله عليه وسلم-: "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه"([93]). والوسط هنا ما كان بين الربض والأعلى.

11- وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لأن أمشي على جمرة أو سيف أو أخصف نعلي برجلي أحب إلي من أن أمشي على قبر مسلم، وما أبالي أوسط القبر قضيت حاجتي أو وسط السوق"([94])، والمراد بالوسط هنا الوسط المكاني.

12- وقال -صلى الله عليه وسلم-: " ليس للنساء وسط الطريق"([95]) ومعنى الوسط كما في الحديث الذي سبقه من الوسط المكاني، وهو ما كان بين الشيئين وهو منه، لأن المشروع في حق المرأة أن تكون بجانب الطريق لا في وسطه، لما يحدث من فتنة بسبب بروزها وتعرضها للرجال.

هذه بعض الأحاديث التي وردت وفيها لفظ (الوسط)، ومعناه، ومنها ما يدل على معني الوسطية، ومنها ما ليس كذلك، إذ لا تلازم بين الوسط والوسطية، فكل وسطية هي وسط، ولا يلزم من كل وسط أن يكون دليلا على الوسطية، فقد يكون من الوسط المكاني أو الزماني ونحوه، كما سيأتي بيانه – إن شاء الله-.

المبحث الثالث تحرير معني الوسطية

من خلال ما سبق اتضح لنا أن كلمة (وسط) تستعمل في معان عدة أهمها:

1-   بمعنى الخيار والأفضل والعدل.

2-   قد ترد لما بين شيئين فاضلين.

3-   وتستعمل لما كان بين شيئين وهو خير.

4-   وتستعمل لما كان بين الجيد والرديء، والخير والشر.

5- وقد تطلق على ما كان بين شيئين حسا، كوسط الطريق، ووسط العصا، وقد تأتي لمعان أخرى قريبة من هذه المعاني والمهم –هنا- متى يطلق لفظ (الوسطية) بل على ماذا يطلق هذا المصطلح؟ فهناك من جعل مصطلح الوسطية مرادفا للفظ الخيرية، ولو لم يكن بين شيئين حسا أو معنى.

قال فريد عبد القادر: ومن جملة ما سبق بيانه نستطيع أن نستخلص تعريفا خاصا محدد للوسطية، فنقول: بأن الوسطية هي: مؤهل الأمة الإسلامية من العدالة، والخيرية للقيام بالشهادة على العالمين، وإقامة الحجة عليهم ثم قال: أما ما شاع عند الناس وانتشر من الوقوف عند أصل دلالتها اللغوية، أي التوسط بين طرفين، مهما كان موضوع هذا الوسط –الذي تم اختياره- من صراط الله المستقيم، التزاما وانحرافا، فليس بمفهوم صحيح وفق ما تبينه الآيات والأحاديث([96]).

ويؤكد هذا المعني في محل آخر فيقول: ولا يلزم لكل ما يعتبر وسطا في الاصطلاح أن يكون له طرفان، فالعدل وسط ولا يقابله إلا الظلم، والصدق وسط ولا يقابله إلا الكذب([97]).

وهناك من جعل (الوسطية) من التوسط بين الشيئين دون النظر إلى معنى الخيرية التي دل عليها الشرع.

قال الأستاذ فريد عبد القادر: (وقد شاع كذلك عند كثير من الناس استعمال هذا الاصطلاح الرباني، استعمالا فضفاضا يلبس أي وضع أو عرف أو مسلك أرادوه، حتى أصبحت الوسطية في مفهومهم تعني التساهل والتنازل.

وما ذكره الأستاذ فريد في تعريفه للوسطية، وكذلك ما نقله عن غيره ففيه نظر، ويتضح ذلك فيما سيأتي: لأن المتأمل في ما ورد في القرآن والسنة والمأثور من كلام العرب فيما أطلق وأريد به مصطلح الوسطية يتضح له أن هذا المصطلح لا يصح إطلاقه إلا إذا توفرت فيه صفتان:

1-   الخيرية: أو ما يدل عليها كالأفضل والأعدل أو العدل.

2-   البينية: سواء أكانت حسية أو معنوية.

فإذا جاء أحد الوصفين دون الآخر فلا يكون داخلا في مصطلح الوسطية، والقول بأن الوسطية ملازمة للخيرية –أي أن كل أمر يوصف بالخيرية فهو (وسط) – فيه نظر، والعكس هو الصحيح، فكل وسطية تلازمها الخيرية، فلا وسطية بدون خيرية، ولا عكس فلا بد مع الخيرية من البينة حتى تكون وسطا.

وكذلك البينية – أيضًا- فليس كل شيئين أو أشياء يعتبر وسيطا وإن كان وسطا، فقد يكون التوسط حسيا أو معنويا، ولا يلزم بالوسطية كوسط الزمان أو المكان أو الهيئية ونحو ذلك؛ ولكن كل أمر يوصف بالوسطية فلابد أن يكون بينيا حسا أو معنى.

ومن هنا نخلص إلى أن أي أمر اتصف بالخيرية والبينية جميعا فهو الذي يصح أن نطلق عليه وصف: الوسطية، وما عدا ذلك فلا، وإلى هذا الرأي ذهب الدكتور ناصر بن سليمان العمر في كتابه الوسطية في ضوء القرآن([98]).

وإليك بعض الأمثلة توضح ما ذهبت إليه:

1- جاء وصف هذه الأمة بالوسطية في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة: 143]، وصح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه فسر الوسط بالعدل([99]).

وفي رواية: عدولا([100]) والمعنى واحد.

2- وإذا نظرنا في تفسيرها بمعني العدل وجدناه يتضمن معنى الخيرية، والعدل كذلك يقابله الظلم، والظلم له طرفان، فإذا مال الحاكم إلى أحد الخصمين فقد ظلم، والعدل وسط بينهما، دون حيف إلى أي منهما([101]).

 

3- وما رواه أبو داود([102]) قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان، من عبد الله وحده، وعلم أنه لا إله إلا الله، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه، رافدة عليه كل عام، ولم يعط الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة، ولا الشرط اللئيمة ولكن من وسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشره"([103]).

وهنا نجد أن الوسطية واضحة في هذا الحديث النبوي، فالبينية صريحة في الحديث، أما الخيرية فهي ظاهرة بالتأمل من خلال ما يلي:

1- أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذلك دليل على هذه الخيرية فلا يأمر -صلى الله عليه وسلم- إلا بخير: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) [الأعراف: 29]، وهل أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلا شرع من الله يوحي إليه.

2- أننا عندما نريد أن ن ستخرج معنى الخيرية في السمينة السليمة الأفضل مما هو من أجود الأغنام وأغلاها.

وإذا نظرنا إلى خيرية الغني – في الدنيا- قلنا إن الأسهل عليه أن يخرج الضعيفة الهزيلة ونحوها. ولكن الخيرية الكاملة أن ننظر إلى مصلحة الفقير ومصلحة الغني – صاحب المال- جميعا، دون ترجيح لإحدى المصلحتين على الأخرى، وهذه هي الوسطية، وذلك باستخراج ما بين أفضلها وأضعفها – هي الوسط- وذلك مثل قوله تعالى: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ) [المائدة: 89] هنا اتضح التلازم بين الخيرية والبينية في تحقيق معني الوسطية.

روى الإمام البخاري([104]) في صحيحه أن أبا بكر –رضي الله عنه- خطب يوم السقيفة، وكان مما قال يخاطب الأنصار: "ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارًا"([105]) والوسطية المرادة هنا يظهر فيها معني الخيرية جليا لا لبس فيه، فأين البينية؟

فالبينية تتضح إذا علمنا ما امتازت به قريش من صفات أهلتها لأن تكون خير العرب، وهذه الصفات من الشجاعة والكرم وسائر الصفات الحميدة، هي في حقيقتها صفات اتصفوا بأفضلها، دون إفراط أو تفريط، أو غلو أو جفاء، ولذلك فقد نالوا هذه المنزلة الرفيعة من كون العرب لا تدين إلا لهم وما ذلك إلا لثقتهم في عدلهم من قبائل وأطراف متنافرة في أخلاقها، متباينة في طباعها، وذلك لخصيصة الوسطية فيهم، ويصدق فيهم قول زهير.

هم وسط يرضي الأنام بحكمهم

 

إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم([106])

والعدل هو سبب قبول حكمهم، والعدل فيه صفة البينية بين نوعي الظلم، ولذلك كان وسطيا، فكذلك سائر صفاتهم وبهذا يتضح أن الخيرية والبينية –المعنية- هي التي أهلته لأن يكونوا وسطًا نسبا ودارًا.

وتأمل معني ما قاله الشيخ محمد رشيد رضا –رحمه الله-: (قالوا إن الوسط هو العدل والخيار، وذلك أن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنقص عنه تفريط وتقصير، فالخيار هو الوسط بين طرفي أي: المتوسط بينهما)([107]).

وذهب الدكتور زيد عبد الكريم الزيد([108]) في كتابة الوسطية في الإسلام إلى ما ذكرته وقررته، حيث قال:

الوسط من كل شيء أعدله، فالوسط إذن ليس مجرد كونه نقطة بين طرفين، أو وسطية جزئية، كما يقال فلان وسط في كرمه، أو وسط في دراسته ويراد أنه وسط بين الجيد والرديء، فهذا المفهوم وإن درج عند كثير من الناس، فهو فهم ناقص مجتزأ، أدى إلى إساءة فهم معنى الوسطية المقصودة.

وعلى هذا فالوسط المراد والمقصود هنا هو العدل الخيار والأفضل إلى أن قال: وبالتالي لم يبق معنى الوسطية مجرد التجاوز بين الشيئين فقط، بل أصبح ذا مدلول أعظم، ألا وهو البحث عن الحقيقة، وتحصيلها والاستفادة منها.

ثم يقول: وهو معنى يتسع ليشمل كل خصلة محمودة لها طرفان مذمومان، فإن السخاء وسط بين البخل والتبذير، والشجاعة وسط يبن الجبن والتهور، والإنسان مأمور أن يتجنب كل وصف مذموم، وكلا الطرفين هنا وصف مذموم ويبقى الخير والفضل للوسط([109]).

ومن خلال الأمثلة السابقة اتضح لنا التلازم بين الخيرية والبينية – حسية أو معنوية- في إطلاق مصطلح (الوسطية) ولهذا فعندما استخدم هذا المصطلح في بحثي هذا فإنني أقصد به ما ينطبق عليه هذا الفهم دون سواه.

الفصل الثاني

في أسس الوسطية

مما سبق اتضح لنا أن الوسطية لابد لها من توافر أمرين وهما: الخيرية والبينية، وإذا أردنا أن نعرف الوسطية على الوجه الدقيق، هناك أسس لا بد من بيانها، ليحدد معنى الوسطية.

وهذه الأسس هي:

1-   الغلو أو الإفراط.

2-   الجفاء أو التفريط.

3-   الصراط المستقيم.

فالصراط المستقيم، وهو وسط بين الغلو والجفاء، أو الإفراط والتفريط، كما يمثل الخيرية ويحقق معناها وبذلك يتحقق في الصراط المستقيم أمران من لوازم الوسطية، وفي هذا المبحث سأبدأ في بيان هذه الأسس مبتدئا بالغلو والإفراط، ثم الجفاء والتفرتيط، ثم أوضح معنى وحقيقة الصراط المستقيم، وبضدها تتبين الأشياء، وسأركز على تحديد معنى هذه الأسس من خلال القرآن الكريم  والسنة المبينة لذلك، ثم كلام المفسرين وغيرهم من العلماء، ومن الله أستمد السداد والإعانة والتوفيق.

المبحث الأول الغلو والإفراط

أولا: الغلو: أما الغلو فقد عرفه أهل اللغة بأنه مجاوزة الحد، فقال ابن فارس: غلو: ا لغين واللام والحرف المعتل أصل صحيح يدل على ارتفاع ومجاوزة قدر، يقال: غلا السعر يغلو غلاء، وذلك ارتفاعه، وغلا الرجل في الأمر غلوا، إذا جاوز حده، وغلا بسهمه غلوا إذا رمي به سهما أقصى غايته([110]).

وقال الجوهري: وغلا في الأمر يغلو غلوا، أي جاوز فيه الحد([111]) وقال صاحب لسان العرب: وغلا في الدين والأمر، والأمر يغلو: جاوز حده، وفي التنزيل: (لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) [النساء: 171]([112]).

وقال بعضهم: غلوت في الأمر غلوًا وغلانية وغلانيا إذا جاوزت فيه الحد وأفرطت فيه وفي الحديث: "إياكم والغلو في الدين.."([113])أي التشدد فيه ومجاوزة الحد، كالحديث الآخر: "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق".

وغلا السهم نفسه: ارتفع في ذهابه وجاوز المدى، وكله من الارتفاع والتجاوز. ويقال للشيء إذا ارتفع: قد غلا، وغلا النبت: ارتفع وعظم([114])، هذا معنى الغلو في اللغة: وقد جاءت آيتان في القرآن الكريم  فيهما النهي عن الغلو بلفظه الصريح، قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ) [النساء: 171].

قال الإمام الطبري –رحمه الله-:

(لا تجاوزوا الحق في دينكم فتفرطوا فيه، وأصل الغلو في كل شيء مجاوزة حده الذي هو حده، يقال منه في الدين غلا فهو يغلو غلوا)([115]).

وقال ابن الجوزي –رحمه الله- في تفسير هذه الآية، والغلو: الإفراط ومجاوزة الحد ومنه غلا السعر، وقال: الغلو: مجاوزة القدر في الظلم.

وغلو النصارى في عيسى قول بعضهم: هو الله، وقول بعضهم: هو ابن الله، وقول بعضهم هو ثالث ثلاثة، وعلى قول الحسن: غلو اليهود فيه قولهم إنه لغير رشدة، وقال بعض العلماء لا تغلو في دينكم بالزيادة في التشدد فيه([116]).

وقال ابن كثير: ينهي تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء وهذا كثير في النصارى، فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاها الله إياه، نقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدونه، بل غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه، فادعوا فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه، سواء كان حقا أو باطلا أو ضلالا أو رشادًا، أو صحيحا أو كذبا ولهذا قال تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ) [التوبة: 31]([117]).

أما الآية الثانية فجاءت في سورة المائدة: قال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ) [المائدة: 77].

قال الطبري –رحمه الله-: (لا تفرطوا في القول فيما تدينون به من أمر المسيح فتجاوزوا فيه الحق إلى الباطل، فتقولوا فيه: هو الله، أو هو ابنه، ولكن قولوا هو عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه)([118]).

قال ابن تيمية([119]) –رحمه الله-: والنصارى أكثر غلوا في الاعتقادات والأعمال من سائر الطوائف، وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن([120]).

ومن غلو النصارى ما ذكره الله في سورة الحديد: (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) [الحديد: 27].

قال ابن كثير –رحمه الله-: في تفسير آية المائدة: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ) [المائدة: 77]،أي لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق، ولا تطروا من أمرتم بتعظيمه فتبالغوا فيه حتى تخرجوه من حيز النبوة إلى مقام الإلهية، كما صنعتم في المسيح، وهو نبي من الأنبياء فجعلتموه إلها من دون الله([121]).

وقد وردت بعض الأحاديث التي تنهي عن الغلو، وذكر بعضها يساعد على فهم معناه وحده:

1- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غداة جمع: "هلم القط لي الحصى" فلقطت له حصيات من حصى الخذف، فلما وضعهن في يده قال: "نعم بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين"([122]).

قال ابن تيمية –رحمه الله-: وهذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال، وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار، وهو داخل فيه، مثل الرمي بالحجارة الكبار بناء على أنها أبلغ من الصغار، ثم علله بما يقتضي مجانبة هديهم، أي هدي من كان قبلنا إبعادًا عن الوقوع فيما هلكوا به، وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه من الهلاك([123]).

2- عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "هلك المتنطعون" قالها ثلاثًا([124]).

قال النووي([125]): هلك المتنطعون: أي المتعمقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم([126]).

3- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول: "لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار" (وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) [الحديد: 27]([127]).

4- وعن أبي هريرة([128]) -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة"([129]).

قال ابن حجر –رحمه الله-: والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب([130]).

قال ابن رجب([131]) –رحمه الله-: والتسديد العمل بالسداد، وهو القصد والتوسط في العبادة، فلا يقصر فيما أمر به، ولا يتحمل منها ما لا يطيقه([132]).

5- وروى الإمام أحمد([133]) –رحمه الله- في مسنده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اقرؤوا القرآن ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلو فيه"([134]).

6- وروي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغاليين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين"([135]).

والأحاديث السابقة ترشدنا إلى أن الغلو خروج عن المنهج وتعدي للحد، وعمل ما لم يأذن به الله ولا رسوله -صلى الله عليه وسلم- والأحاديث التي تنهي عن الغلو كثيرة وليس هدفي في هذا البحث حصرها، وإنما اكتفيت ببعض الأحاديث التي لها دلالة على ما نحن بصدده، وهو تحديد معنى الغلو ومفهومه وحكمه، ومن ثم علاقته بالوسطية، ولعلماء المسلمين تعريفات كثيرة لمعنى الغلو، واخترت منها في بحثي هذا تعريفين:

أولا: تعريف ابن تيمية –رحمه الله-: الغلو مجاوزة الحد: مجاوزة بأن يزاد في الشيء في حمده أو ذمه على ما يستحق ونحو ذلك([136]).

ثانيا: تعريف ابن حجر –رحمه الله-: إذ يقول: الغلو: المبالغة في الشيء والتشديد فيه بتجاوز الحد([137]).

وضابط الغلو هو التعدي ما أمر الله به، وهو الطغيان الذي نهي عنه([138]) في قوله تعالى: (وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) [طه: 81]، ومما سبق من التعريف اللغوي وما ورد فيه من آيات وأحاديث وكذلك من تعريف العلماء يتضح لنا أن الغلو هو: مجاوزة الحد في الأمر المشروع، وذلك بالزيادة فيه أو المبالغة إلى الحد الذي يخرجه عن الوصف الذي أراده وقصده الشارع العليم الخبير الحكيم.

وقد أفاد وأجاد الشيخ عبد الرحمن بن معلا اللويحق في إيضاح حقيقة الغلو وكشف حدوده ومعالمه في رسالته العلمية: الغلو في الدين.

وقسم الغلو إلى أقسام:

أولا: أن منشأ الغلو بحسب متعلقة ينقسم إلى ما يلي([139]):

أ- إلزام النفس أو الآخرين بما لم يوجبه الله –عز وجل- عبادة وترهبا، ومقياس ذلك الطاقة الذاتية حيث إن تجاوز الطاقة في أمر مشروع يعتبر غلوا، والأدلة على ذلك كثيرة منها:

ما رواه أنس بن مالك([140]–رضي الله عنه- قال: دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- المسجد فإذا حبل ممدود بين ساريتين فقال: "ما هذا الحبل؟" فقالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت به، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "حلوه ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد"([141]).

قال ابن حجر –رحمه الله- في شرحه لهذا الحديث: وفيه الحث على الاقتصاد في العبادة، والنهي عن التعمق فيها([142]).

ب- تحريم الطيبات التي أباحها الله على وجه التعبد، أو ترك الضرورات أو بعضها ومن أدلة ذلك قصة النفر الثلاثة، حيث روى أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادته فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا، قال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا.

فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"([143]).

وكذلك لو اضطر مسلم إلى شيء محرم، كأكل حيوان محرم أو ميتة، وترك ذلك يؤدي به إلى الهلكة، فإن ذلك من التشدد، وبيان ذلك: أن الله هو الذي حرم هذا الشيء في حالة اليسر، وهو سبحانه الذي أباح أكله في حالة الاضطرار، قال سبحانه: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [لبقرة: 173].

3- أن يكون الغلو متعلقا بالحكم على الآخرين، حيث يقف من بعض الناس موقف المادح الغالي، ويقف من آخرين موقف الذام الجافي، ويصفهم بما لا يلزمهم شرعا كالفسق أو المروق من الدين ونحو ذلك، وفي كلا الحالين يترتب على ذلك أعمال هي من الغلو، كالحب والبغض، والولاء والهجر، وغير ذلك.

ثانيا: أن الغلو في حقيقته حركة في اتجاه الأحكام الشرعية والأوامر الإلهية، ولكنها حركة تتجاوز في مداها الحدود التي حدها الشارع، فهو مبالغة في الالتزام بالدين، وليس مروقا عنه في الحقيقة، بل هو نابع من القصد في الالتزام به([144]).

ثالثا: أن الغلو ليس هو الفعل فقط؛ بل قد يكون تركا([145]) فترك الحلال كالنوم والأكل ونحوه من أنواع الغلو، إذا كان هذا الترك على سبيل العبادة والتقرب إلى الله كما يفعل بعض الصوفية والنباتيين([146]).

رابعًا: الغلو على نوعين: اعتقادي وعملي.

الاعتقادي على قسمين:

اعتقادي كلي، واعتقادي فقط.

والمراد بالغلو الكلي الاعتقادي ما كان متعلقا بكليات الشريعة وأمهات مسائلها.

أما الاعتقادي فقط فهو ما كان متعلقا بباب ا لعقائد دون غيرها كالغلو في الأئمة وادعاء العصمة لهم، أو الغلو في البراءة من المجتمع العاصي أو تكفير أفراده واعتزالهم.

ويدخل في الغلو الكلي الاعتقادي الغلو في فروع كثيرة إذ أن المعارضة الحاصلة به للشرع مماثلة لتلك المعارضة الحاصلة بالغلو في أمر كلي([147]).

أما الغلو الجزئي العملي، فهو ما كان غلوًا في جزئية من جزئيات الشريعة ومتعلقا بباب الأعمال دون الاعتقاد، فهو محصور في جانب الفعل سواء أكان قولا باللسان أم عملا بالجوارح([148]).

والغلو الكلي الاعتقادي أشد خطرًا، وأعظم ضررًا من الغلو العملي إذ أن الغلو الكلي الاعتقادي هو المؤدي إلى الشقاق والانشقاق، وهو المظهر للفرق والجماعات الخارجة عن الصراط المستقيم، وذلك كغلو الخوارج([149]) والشيعة([150]).

خامسًا: أنه ليس من الغلو طلب الأكمل في كمية العبادة، بل يدخل في تحديد الأكمل أمور عدة تتعلق بالعمل، وبمن قام بالعمل، وكذلك من له صلة بهذا العمل.

فالصدقة –مثلا- يراعي فيها: المتصدق والمتصدق عليه، والمال المتصدق به، ولا يسمى كمالا كليا بالنظر للكمال الجزئي، وذكر ابن حجر –رحمه الله- ما يؤيده هذا المعنى ونسبه إلى ابن المنير فقال: وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة، فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملل أو المبالغة في التطوع المفضى إلى ترك الأفضل([151]).

سادسًا: أن الحكم على العمل بأنه غلو، أو أن هذا المرء من الغلاة، باب خطير لا يقدر عليه إلا العلماء الذين يدركون حدود هذا العمل، وتبحروا في علوم العقائد وفروعها، لأن الحكم على الشيء فرع من تصوره، فقد يكون الأمر مشروعا ويوصف صاحبه بالغلو، وها نحن نرى اليوم أن الملتزمين بشرع الله، المتمسكين بالكتاب والسنة يوصفون بالغلو والتطرف والتزمت ونحوها، ولذلك فإن المعيار في الحكم على الأعمال والأفراد والجماعات هو الكتاب والسنة وليست الأهواء والتقاليد والأعراف والعقول، وما تعارف عليه الناس، وقد ضل في هذا الباب أمم وأفراد وجماعات.

وبعد أن اتضح لنا معنى (الغلو) لغة وشرعا، وما يتعلق به من معان وأقسام، أوضح معنى (الإفراط) بإيجاز، حيث ستتضح صلته بالغلو.

ثانيا: الإفراط:

لغة هو: التقدم ومجاوزة الحد.

قال ابن فارس: يقال: أفرط: إذا تجاوز الحد في الأمر، ويقولون: إياك والفرط، أي لا تجاوز القدر، وهذا هو القياس، لأنه إذا جاوز القدر فقد أزال الشيء عن وجهته([152]).

وقال الجوهري: وأفرط في الأمر: أي جاوز في الحد([153]).

والفرطة – بالضم- اسم للخروج والتقدم، ومنه قول أم سلمة([154]) لعائشة([155]) -رضي الله عنهما-: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهاك عن الفرطة في البلاد"، وفي رواية نهاك عن الفرطة في الدين، يعني السبق والتقدم ومجاوزة الحد.

والإفراط: الإعجال والتقدم وأفرط في الأمر: أسرف وتقدم وكل شيء جاوز قدره فهو مفرط([156]).

قال تعالى: (إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى) [طه: 45].

قال الطبري -رحمه الله-: وأما الإفراط فهو الإسراف والإشطاط والتعدي، يقال منه: أفرطت في قولك، إذا أسرف فيه وتعدى، وأما التفريط فهو التواني، يقال منه فرطت في هذا الأمر حتى فات، إذا تواني فيه([157]).

ونخلص مما سبق أن معنى الإفراط: تجاوز الحد، والتقدم عن القدر المطلوب وهو عكس التفريط سيأتي:

وقد تبين مما سبق من تعريفي الغلو والإفراط أن كلا منهما يصدق عليه تجاوز الحد، وقد فسر الغلو بالإفراط كما سبق وإن كل واحد منهما يحمل م عنى أبلغ من الثاني في بعض ما يستعمل فيه، فالذي يشدد على نفسه بتحريم بعض الطيبات، أو بحرمان نفسه منها وصف الغلو ألصق به من الإفراط، والذي يعاقب من اعتدى عليه عقوبة يتعد بها حدود مثل تلك العقوبة وهكذا.

والذي يهمنا في هذا المبحث أن كلا من الغلو والإفراط خروج عن الوسطية، فكل أمر يستحق وصف الغلو أو الإفراط فليس من الوسطية في شيء.

المبحث الثاني التفريض والجفاء

أولا التفريط: وبعد أن اتضح لنا معنى الغلو والإفراط، وما يدل عليه كل منهما، نقف الآن مع ما يقابلهما، وهو التفريط والجفاء، والتفريط في اللغة هو التضييع كما في لسان العرب.

وفي حديث علي -رضي الله عنه-: (لا يرى الجاهل إلا مفرطا أو مفرطا) وهو بالتخفيف المسرف في العمل، وبالتشديد المقصر فيه، وفرط في الأمر يفرط فرطا أي: قصر فيه وضيعة حتى فات، وكذلك التفريط([158]).

ومنه قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "أما إنه ليس في النوم تفريط"([159]) وإذن فالتفريط هو التقصير والتضييع والترك.

قال ابن فارس -رحمه الله-: وكذلك التفريط، وهو التقصير، لأنه إذا قصر فيه فقد قعد عن رتبته التي هي له([160]).

وقال الجوهري -رحمه الله-: فرط في الأمر فرطًا، أي قصر فيه وضيعه حتى فات، وكذلك التفريط([161]).

وقد ورطت مادة (فرط) في القرآن في عدة مواضع.

قال تعالى: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا) [الأنعام: 31].

قال الطبري -رحمه الله-: يا ندامتنا على ما ضيعنا فيها([162]).

وقال القرطبي -رحمه الله-: وفرطنا معناه ضيعنا، وأصله التقدم، فقولهم: فرطنا، أي قدمنا العجز.

وقيل: (فرطنا) أي جعلنا غير الفارط السابق لنا إلى طاعة الله و تخلفنا([163]).

وقال تعالى: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ) [الأنعام: 38].

قال الطبري -رحمه الله-: ما ضيعنا إثبات شيء منه([164]).

وقال ابن عباس -رضي الله عنه-: ما تركنا شيئا إلا قد كتبناه في أم الكتاب([165]).

وقال تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ) [الأنعام: 61]([166]).

قال الطبري -رحمه الله-: قد بينا أن معنى التفريط: التضييع فيما مضى قبل، وكذلك أوله المتأولون في هذا الموضع، قال ابن عباس -رضي الله عنه- (لاَ يُفَرِّطُونَ): لا يضيعون([167]).

وفي سورة يوسف: (وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ) [يوسف: 80].

قال الطبري -رحمه الله-: ومن قبل فعلتكم هذه تفريطكم في يوسف، يقول: أو لم تعلموا من قبل هذا تفريطكم في يوسف([168]).

قال القاسمي -رحمه الله-: (فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ) [قصرتم في شأنه([169]).

وقال تعالى: (وَيَجْعَلُونَ للهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ) [النحل: 62].

قال سعيد بن جبير -رحمه الله-: (وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ) منسيون مضيعون، وقال قتادة -رحمه الله- (مضاعون).

وقال آخرون: إنهم معجلون إلى النار مقدمون إليها، وذهبوا في ذلك إلى قول العرب: أفرطنا فلانا في طلب الماء إذا قدموه لإصلاح الدلاء، وقيل غير ذلك، ورجح الطبري -رحمه الله- أن معنى (مفرطون) مخلفون متروكون في النار، منسيون فيها([170]).

وقال تعالى في سورة الكهف: (وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف:28] روى عن مجاهد -رحمه الله-: (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) ضائعا وروى عنه: ضياعا.

قال الطبري -رحمه الله-: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معناه: ضياعا وهلاكا، ومن قولهم: أفرط فلان في هذا الأمر إفراطًا، إذا أسرف فيه وتجاوز قدره، وكذلك قوله: (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) معناه: وكان أمر هذا الذي أغفلنا قلبه عن ذكرنا الرياء والكبر، واحتقار أهل الإيمان، سرفًا قد تجاوز حده فضيع بذلك الحق وهلك([171]).

وقال ابن الجوزي -رحمه الله-: في الآية أربعة أقوال أحدها: أنه أفرط في قوله.

والثاني: ضياعا، والثالث: ندما، والرابع: كان أمره التفريط، والتفريط: تقديم العجز([172]).

وفي سورة الزمر (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِن كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) [الزمر: 56].

قال الطبري -رحمه الله-: يقول: على ما ضيعت من العمل بما أمرني الله به، وقصرت في الدنيا في طاعة الله([173]).

وقال القاسمي -رحمه الله-: (يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطَتُ ) أي قصرت (فِي جَنْبِ اللهِ) أي في جانب أمره ونهيه([174]).

هذا تفسير الآيات التي ورد فيها ما يدل على التفريط، ومن خلال أقوال المفسرين تبين أنها تدل على الترك والتهاون والتقصير والتضييع مع اختلاف بسيط بين مدلول هذه المعاني وكلها في مقابل الإفراط والغلو.

ثانيا: الجفاء:

فقال ابن فارس -رحمه الله-: الجيم والفاء والحرف المعتل يدل على أصل واحد: نبو الشيء عن الشيء، من ذلك: جفوت الرجل، جفوة، وهو ظاهر الجفوة، أي الجفاء، وجفاء السرج عن ظهر الفرس، وأجفيته أنا. وكذلك كل شيء إذا لم يلزم شيئا، يقال: جفا عنه يجفو.

والجفاء: خلاف البر، والجفاء: ما نفاه السيل، ومنه اشتقاق الجفاء([175]).

وقال ابن منظور([176]): جفا الشيء يجفو جفاء وتجافي: لم يلزم مكانه، كالسرج يجفو عن الظهر وكالجنب يجفو عن الفراش، وفي التنزيل: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) [السجدة:16] وفي الحديث: "اقرؤوا القرآن ولا تجافوا عنه"([177]) أي تعاهدوه ولا تبتعدوا عن تلاوته.

وفي الحديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار"([178]).

وفي الحديث أيضًا: "من بدا جفاء"([179])، بدا: بالدال المهلة، خرج إلى البادية، والجفاء غلظ الطبع، وفي صفته -صلى الله عليه وسلم- ليس بالجافي المهين أي: ليس بالغليظ الخلقة ولا الطبع([180]).

وقال تعالى: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً) [الرعد:17].

قال الطبري -رحمه الله-: زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أن معنى قوله: (فَيَذْهَبُ جُفَاءً) تنشفه الأرض، وقال: يقال: جفا الوادي وأجفى،: في معني نشف([181]).

وقال تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) [السجدة: 16]، قال الطبري -رحمه الله-: تتنحى جنوب هؤلاء الذين يؤمنون بآيات الله الذين وصفت صفتهم، وترفع عن مضاجعهم التي يضجعون لمنامهم، ولا ينامون.

تتجافى: تتفاعل من الجفاء، والجفاء النبو، وإنما وصفهم – تعالى ذكره- بالتجافي في جنوبهم عن المضاجع لتركهم الاضطجاع للنوم شغلا بالصلاة.

ثم قال: إن الله وصف هؤلاء القوم بأن جنوبهم تنبو عن مضاجعهم شغلا منهم بدعاء ربهم وعبادته خوفا وطمعا، وذلك نبو جنوبهم عن المضاجع ليلا.. إلخ([182]).

وبذلك يتضح أن الجفاء هو النبو والترك، والبعد، وهو غالبا ما يحدث خلاف الأصل والعادة، وأكثر ما تستعمل كلمة جفاء لما هو محرم منهي عنه كالجفاء بما يقابله الصلة والبر، والجفاء الذي هو من الشدة والغلظة وهذه أمثلة يتضح فيها معنى التفريط والجفاء.

1-   عقوق الوالدين: جفاء.

2-   تأخير عمل اليوم إلى الغد – دون سبب-: تفريط.

3-   إهمال تربية الأولاد: تفريط.

4-   ترك الأخذ بالأسباب: تفريط.

5-   رؤية المنكرات وعدم إنكارها مع القدرة على ذلك: تفريط.

6-   الغلظة في المعاملة: جفاء.

7-   تأخير الصلاة عن وقتها: تفريط.

8-   السلبية مع واقع المسلمين وشؤونهم وشجونهم: جفاء وتفريط.

9-   عدم القيام بحقوق العلماء وضعف الصلة بهم: جفاء وتفريط.

10-         قطع الأرحام وعدم صلتهم: جفاء وتفريط.

وبهذا يتبين معنى التفريط والجفاء، وأن بينهما عموما وخصوصا وهما يقابلان معنى الغلو والإفراط.

وعند التأمل في استعمال العرب لهما يلاحظ.

أن الجفاء يستعمل –غالبا- فيما فيه قصد الأمر من الترك والبعد وسوء الخلق. أما التفريط فمنشؤه –غالبا- التساهل والتهاون.

أن كل أمر اتصف بالتفريط أو بالجفاء فإنه يخالف الوسطية، وبمقدار اتصافه بأي من هذين الوصفين يكون بعده عن الوسطية وتجافيه عنها.

المبحث الثالث الصراط المستقيم

إننا بدون فهم معنى (الصراط المستقيم)، وتحديد مدلوله، لا نستطيع فهم الوسطية على معناها الصحيح، وقد ورد لفظ الصراط المستقيم، في القرآن الكريم  عشرات المرات، وجاء أيضًا بلفظ (صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا) [الفتح: 2]، و(صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) [الأعراف: 16]، (صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) [الأنعام: 153] ونحو ذلك.

ففي سورة الفاتحة نجد قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة: 5]. ثم يفسره بأنه (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) [الفاتحة: 7].

وفي البقرة جاء قوله تعالى: (يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [البقرة: 142] وجاء بعد هذه الآية مباشرة (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ) [البقرة: 143]، وسيأتي بيان العلاقة بين هاتين الآيتين، وعيسى –عليه السلام-، في سورة آل عمران يقول لقومه: (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) [آل عمران: 51].

ونجد أن سورة الأنعام من أكثر السور التي ورد فيها الحديث عن الصراط المستقيم (مَن يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الأنعام: 39]، (وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الأنعام: 87]، (وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا ) [الأنعام: 126]، (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ) [الأنعام: 153]، (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الأنعام: 161].

وفي سورة إبراهيم سماه صراط العزيز الحميد: (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [إبراهيم: 1]، وفي سورة طه، وصفه بالسوي فقال: (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى) [طه: 135].

وفي سورة الحج أضافه للحميد فقال: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) [الحج: 24] وفي سورة المؤمنون عرفه دون وصف أو إضافة: (وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ) [المؤمنون: 74]، وفي مريم يقول إبراهيم –عليه السلام- لأبيه: (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا) [مريم: 43].

وقول الله في سورة الأنعام: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) [الأنعام: 153].

هذه بعض الآيات التي وردت في (الصِّرَاطِ) فما معناه؟

قال الطبري -رحمه الله-: في قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة:5].

أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعا على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، وذلك في لغة جميع العرب، ومن قول الشاعر:

أمير المؤمنين على صراط

 

إذا اعوج الموارد مستقيم([183])

وقال ابن عباس: قال جبريل لمحمد -صلى الله عليه وسلم-: اهدنا الصراط المستقيم: يقول ألهمنا الطريق الهادي، وهو دين الله الذي لا عوج له([184]).

قال الطبري -رحمه الله-:

وإنما وصفه الله بالاستقامة، لأنه صواب لا خطأ فيه([185]).

وقال: وكل حائد عن قصد السبيل، وسالك غير المنهج القويم فضال عند العرب، لإضلاله وجه الطريق([186]).

وقال ابن كثير -رحمه الله-:

واختلفت عبارات المفسرين من السلف والخلف في تفسير الصراط، وإن كان يرجع حاصلها إلى شيء واحد، وهو المتابعة لله ورسوله([187]).

وإليك أقوال المفسرين في الصراط المستقيم:

فقد روى الطبري عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ذكر القرآن فقال: "هو الصراط المستقيم"([188]).

وقال علي: الصراط المستقيم، كتاب الله تعالى.

وبمثل ذلك فسره عبد الله بن م سعود -رضي الله عنه- وقال جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-: اهدنا الصراط المستقيم الإسلام، قال: هو أوسع مما بين السماء والأرض، وقال ابن عباس: ذلك الإسلام، وقال ابن عباس -رضي الله عنه- هو الطريق([189]).

وقال القاسمي -رحمه الله-: أشار شيخ الإسلام ابن تيمية في مبحث له مهم ننشره عنه هنا لما فيه من الفوائد الجلية، قال -رحمه الله-: ينبغي أن يعلم أن الاختلاف الواقع من المفسرين وغيرهم على وجهين: أحدهما ليس فيه تضاد وتناقض، بل يمكن أن يكون كل منهما حقا، وإنما هو اختلاف تنوع، أو اختلاف في الصفات أو العبادات وعامة الاختلاف الثابت بين مفسري السلف من الصحابة والتابعين هو من هذا الباب، فالله –سبحانه وتعالى- إذا ذكر القرآن اسما مثل قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة: 5]، فكل من المفسرين يعبر عن الصراط المستقيم بعبارة يدل بها على بعض صفاته، وكل ذلك حق، بمنزلة ما يسمى الله ورسوله، وكتابته بأسماء كل اسم منها يدل على صفة من صفاته.

فيقول بعضهم: الصراط المستقيم: كتاب الله أو اتباع كتاب الله.

ويقول الآخر: الصراط المستقيم هو الإسلام أو دين الإسلام.

ويقول الآخر: الصراط المستقيم: هو السنة والجماعة.

ويقول الآخر: الصراط المستقيم: طريق العبودية، أو طريق الخوف والرضا والحب، وامتثال المأمور واجتناب المحظور، أو متابعة الكتاب والسنة، أو العمل بطاعة الله، ونحو هذه العبارات والأسماء، ومعلوم أن المسمي هو واحد، وإن تنوعت صفاته وتعددت أسماؤه([190]).

ثم قال في موضع آخر: فإن الصراط المستقيم أن تفعل في كل وقت ما أمرت به في ذلك الوقت من علم وعمل، ولا تفعل ما نهيت عنه، وهذا يحتاج في وقت إلى أن تعلم ما أمر به في ذلك الوقت، وما نهي عنه، وإلى أن يحصل لك إرادة  جازمة لفعل المأمور، وكراهة لترك المحظور، والصراط المستقيم قد فسر بالقرآن أو الإسلام، وطريق العبودية، وكل هذا حق، فهو موصوف بهذا وبغيره([191]).

قال القاسمي -رحمه الله-: الصراط المستقيم أصله الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف، ويستعار لكل قول أو عمل يبلغ به صاحبه الغاية الحميدة، فالطريق الواضح للحس، كالحق للعقل، في أنه إذا سير بهما أبلغنا  السالك النهاية الحسنى([192]).

وقال ابن عاشور -رحمه الله-: والصراط في هذه الآية (آية الفاتحة) مستعار –لمعنى الحق الذي يبلغ به مدركه إلى الفوز برضى الله، لأن ذلك الفوز هو الذي جاء الإسلام بطلبه، والمستقيم: اسم فاعل من استقام، مطاوع قومته فاستقام، والمستقيم: الذي لا اعوجاج فيه ولا تعاريج، وأحسن الطرق الذي يكون مستقيما، وهو الجادة لأنه باستقامته يكون أقرب إلى المكان المقصود من غيره، فلا يضل فيه سالكه، ولا يتردد ولا يتحير، والمستقيم هنا مستعار للحق البين الذي لا تخالطه شبهة باطل، فهو كالطريق الذي لا تتخلله بنيات، ثم قال: والأظهر عندي أن المراد بالصراط المستقيم: المعارف الصالحات كلها من اعتقاد وعمل([193]).

هذه بعض أقوال المفسرين في معنى الصراط المستقيم، كما ورد في سورة الفاتحة وحيث وردت آيات كثيرة ذكر فيها الصراط المستقيم سبق ذكر بعضها فإن معناها من هذا المعنى الذي سبق تقريره، ولإيضاح ذلك أذكر تفسير بعض هذه الآيات باختصار:

قال تعالى: (وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الأنعام:87].

قال مجاهد -رحمه الله-: وسددناهم فأرشدناهم إلى طريق غير معوج وذلك دين الله الذي لا عوج فيه، وهو الإسلام الذي ارتضاه ربنا لأنبيائه، وأمر به عباده([194]).

وفي قوله تعالى: (وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا) [الأنعام: 126].

قال الطبري -رحمه الله-: هو صراط ربك، يقول: طريق ربك، ودينه الذي ارتضاه لعباده (مُسْتَقِيمًا) يعني قويما لا اعوجاج به عن الحق([195]).

وفي قوله تعالى: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الأنعام: 161].

قال الطبري -رحمه الله-: يقول: قل لهم إنني أرشدني ربي إلى الطريق القويم، وهو دين الله الذي ابتعثه به، وذلك الحنيفية المسلمة، فوفقني له([196]).

وفي سورة الأعراف: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيم) [الأعراف: 16]، قال الطبري -رحمه الله-: يقول لأجلسن لبني آدم صراطك المستقيم، يعني طريقك القويم، وذلك دين الله الحق، وهو الإسلام وشرائعه([197]).

وفي قوله تعالى: (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا) [مريم: 43]، قال الطبري -رحمه الله-: يقول أبصرك هدى الطريق المستوى الذي لا تضل فيه إن لزمته، وهو دين الله الذي لا اعوجاج فيه([198]).

وفي قوله تعالى: (وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ) [المؤمنون: 74] قال الطبري -رحمه الله-: يقول عن محجة الطريق، وقصد السبيل، وذلك دين الله الذي ارتضاه لعباده العادلين([199]).

وبهذا يتضح أن معنى الصراط في جميع هذه الآيات معنى واحد، وإن اختلفت العبرة والسياق.

المبحث الرابع الصلة بين الوسطية والصراط المستقيم

مما تقدم يتضح أن معنى الصراط المستقيم يدل على الوسطية في مفهومها الشرعي الاصطلاحي الذي سبق تقريره، وبخاصة أن ما جعلته لازما لمفهوم الوسطية وإطلاقها قد تحقق في معنى الصراط المستقيم، فالخيرية والبينية ظاهرتان في هذا الأمر، فنجد في سورة الفاتحة لما قال تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة: 5] عرفه فقال: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)[الفاتحة: 6] ثم حدده فقال: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) [الفاتحة: 7] فجعل الصراط المستقيم طريق الأخيار، وهم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وهو بين طريقي المغضوب عليهم والضالين.

وكذلك في سورة البقرة قال تعالى: (يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [البقرة: 142] فقال بعدها مباشرة: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ) [البقرة: 143]، وقد تحدث المفسرون عن الكاف في هذه الآية، وذكر غير واحد (الكاف) للربط بين جعلهم أمة وسطا وهدايتهم للصراط المستقيم([200]).

وهذه بعض الأحاديث التي تزيد الأمر وضوحا:

فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فخط خطا وخط خطين عن يمينه، وخط خطين عن يساره، ثم وضع يده على الخط الأوسط، فقال: هذا سبيل الله، ثم تلا هذه الآية: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ)([201]).

وذكر القرطبي -رحمه الله- في تفسيره: أن رجلا قال لابن مسعود -رضي الله عنه-: ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد -صلى الله عليه وسلم- في أداه وطرفه في الجنة، وعن يمينه جواد، وعن يساره جواد، وثم رجال يبدعون من مر بهم، فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار، ومن أخذ عن الصراط انتهى به إلى الجنة، ثم قرأ ابن مسعود: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) [الأنعام: 153]([202]).

وبالتأمل فيما سبق يتضح لنا ما يلي:

1-         أن الصراط المستقيم: يمثل قمة الوسطية وذروة سنامها وأعلى درجاتها، وآيتا الفاتحة والبقرة حجة قاطعة في ذلك.

2-   أن الوسطية تعني الخيرية، سواء أكانت خير الخيرين أو خيرًا بين شرين، أو خيرًا بين أمرين متفاوتين، وقد سبق تفصيل ذلك.

3-   أن المقياس لتحديد الخيرية هو الشرع، وليس هوى الناس أو ما تعارفوا عليه أو ألفوه، فإن مفهوم الوسطية عند كثير من الناس تعني التنازل أو التساهل؛ بل والمداهنة أحيانا، حيث يختارون الأمر بين الخير والشر وهو إلى الشر أقرب في حقيقته ومآله، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

4-   أن هناك عوامل كثيرة، وأصولا معتبرة([203])، تجب مراعاتها عند ضبط مفهوم الوسطية وتطبيقها على أمر من الأمور، حيث إن قصر النظر على أمر دون آخر يؤدي إلى خلاف ذلك ومجانبته.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الباب الثاني

ملامح الوسطية

 

الباب الثاني 

ملامح الوسطية

تمهيد:

للوسطية ملامح وسمات تحف بها، وتميزها عن غيرها، بمجموع تلك الملامح لا بأفرادها، وقد طالعت ما ورد في وسطية هذه الأمة بين الأمم، وكذلك ما كتبه بعض الذين بحثوا في الوسطية، ومن خلال استقراء القرآن الكريم  توصلت إلى تحديد سمات وملامح الوسطية.

وتحديد هذه الملامح مهمة أساسية في مثل هذا البحث، حتى لا تكون الوسطية مجالا لأرباب الشهوات وأصحاب الأهواء، ذلك أن الوسطية مرتبة عزيزة المنال، غالية الثمن، كيف لا وهي سمة هذه الأمة، ومحور تميزها بين الأمم؟! جعلها الله خاصية من خصائصها، تكرما منه وفضلا: (ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الجمعة: 4].

إن من أهم سمات الوسطية ما يلي:

-       السمة الأولى: الخيرية.

-       السمة الثانية: العدل.

-       السمة الثالثة: اليسر ورفع الحرج.

-       السمة الرابعة: الحكمة.

-       السمة الخامسة: الاستقامة.

-       السمة السادسة: البينية.

وكل سمة من هذه السمات يدخل تحتها عدد من أفرادها، وسأبين لكل سمة بما يلائم المقام، ويفي بالغرض، والله الهادي إلى سواء السبيل، وأظن أن هذه الملامح بمجموعها تصلح ضابطًا لتحديد الوسطية ومعرفتها، بما يرد على السؤال الذي لا بد أن يرد في أذهان الكثيرين أين ضابط الوسطية وكيف نميزها عن غيرها؟

 

الباب الثاني

ملامح الوسطية

الفصل الأول الخيرية

قال الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) وقال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران: 110] وقد بينت أن من معاني الوسطية الخيرية.

المبحث الأول

أقوال المفسرين في آية الخيرية

قال ابن كثير -رحمه الله-: والوسط هنا: الخيار والأجود، كما يقال لقريش أوسط العرب نسبا ودارًا، أي خيرها([204]). وفي تفسيره لقوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) قال: يعني الناس للناس، والمعنى: أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس، إلى أن قال: كما في الآية الأخرى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة: 143] أي خيارًا([205]).

وقال الطبري -رحمه الله-: مقررًا خيرية هذه الأمة (الأمة الوسط): فإن سأل سائل فقال: وكيف قيل: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ)؟ وقد زعمت أن تأويل هذه الآية هذه الأمة خير الأمم التي مضت، وإنما يقال: كنتم خير أمة لقوم كانوا خيارًا فتغيروا عما كانوا عليه؟! قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما ذهبت إليه، وإنما معناه أنتم خير أمة، كما قيل: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) [الأنفال: 26]، وقد قال في موضوع آخر: (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ)  [الأعراف: 86]، فإدخال (كان) في مثل هذا وإسقاطها بمعنى واحد، لأن الكلام معروف معناه، ولو قال أيضًا في ذلك قائل: (كنتم) بمعنى التمام، كان تأويله خلقتم خير أمة، أو وجدتم خير أمة، كان معنى صحيحا([206])، وفي تفسيره لقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة: 143]، قال: وأما التأويل فإنه جاء بأن الوسط العدل، وذلك معنى الخيار، لأن الخيار من الناس عدولهم([207]).

ومما سبق يتضح أن الخيرية مما فسر به معنى الوسطية التي ذكرها الله من خصائص هذه الأمة، فما هي هذه الخيرية التي نعرف بها وسطية هذه الأمة؟

قال الطبري -رحمه الله-: معنى ذلك: كنتم خير أمة أخرجت للناس، إذا كنتم بهذه الشروط التي وصفهم –جل ثناؤه- بها، فكان تأويل ذلك عندهم: كنتم خير أمة تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله، أخرجوا للناس في زمانكم([208]).

قال أبو مسعود([209]) -رحمه الله-: (تؤمنون بالله) أي إيمانا متعلقا بكل ما يجب أن يؤمن به من رسول وكتاب وحساب وجزاء، وإنما لم يصرح به تفصيلا لظهور أنه الذي يؤمن به المؤمنون، وللإيذان بأنه هو الإيمان بالله تعالى حقيقة([210])، وقال القاسمي -رحمه الله-: ثم بين وجه الخيرية بما لم يحصل مجموعه لغيرهم بقوله: (تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [آل عمران: 110]، فبهذه الصفات فضلوا على غيرهم ممن قال تعالى فيهم: (كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة: 79]، (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) [النساء: 150].

وقال محمد رشيد -رحمه الله-: والحق أقول: إن هذه الأمة ما فتئت خير أمة أخرجت للناس، حتى تركت الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ثم قال: وقد بين الفخر الرازي كون وصف الأمة هنا بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإيمان علة لكونها خير أمة أخرجت للناس، فقال: واعلم أن هذا الكلام مستأنف والمقصود منه بيان علة تلك الخيرية، كما تقول: زيد كريم، يطعم الناس ويكسوهم، ويقوم بما يصلحهم.

وتحقيق الكلام أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم مقرونا بالوصف المناسب له يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف، ههنا حكم تعالى بثبوت وصف الخيرية لهذه الأمة، ثم ذكر عقيبه هذا الحكم وهذه الطاعات، أعنى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإيمان، فوجب كون تلك الخيرية معللة بهذه العبادات([211]).

وقد وردت بعض الأحاديث التي تدل على خيرية هذه الأمة منها:

1-         روى الترمذي في تفسيره لهذه الآية أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله"([212]).

2-         وقال -صلى الله عليه وسلم-: "أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء"، فقلنا: يا رسول الله ما هو؟ فقال: "نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعل التراب لي طهورا، وجعلت أمتي خير الأمم"([213]).

فهذه الأحاديث مع آية آل عمران تبين خيرية هذه الأمة، التي جعلها الله أمة وسطا، وقد جمع المفسرون بين معنيي الخيرية والوسطية، حتى جاء أحدهما تفسيرًا للآخر، كما مر معنا، ولأهمية بيان معنى الخيرية، سأذكر أبرز أوجه هذه الخيرية ليتضح لنا معنى الوسطية.

المبحث الثاني

أبرز أوجه هذه الأمة([214])

لم تنل هذه الأمة هذه المكانة السامقة بين الأمم، مصادفة، ولا جزافا ولا محاباة، فالله سبحانه وتعالى منزه عن أن يكون في ملكه شيء من ذلك، فكل شيء عنده بمقدار، وهو يخلق ما يشاء ويختار، وهو سحانه عندما أخبر أن هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، بين وجه ذلك وعلته في نفس الآية فقال: (تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بالله) [آل عمران: 110]، فبهذه الأمور الثلاثة العظيمة القدر كانت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، على أن هذه الأمور ليست هي كل ما كانت به هذه الأمة خير أمة، إذ هناك أمور وخلال كثيرة أهلت هذه الأمة لهذه الخيرية، ولكن هذه الثلاثة أهمها وأعظمها، إذ لا تدوم ولا تستمر هذه الخيرية ولا تحفظ إلا بإقامتها وأدائها، فإن فقدت هذه الأمور في جيل من أجيال هذه الأمة لم يكن حريا بهذه الخيرية التي حظيت بها هذه الأمة.

وسأعرض فيما يأتي لأهم أوجه هذه الخيرية، محاولا الإيجاز وعدم الإطالة، فأقول وبالله التوفيق:

الوجه الأول: إيمانها بالله –عز وجل-:

إن إيمان هذه الأمة يتميز عن إيمان سائر الأمم بأنه إيمان عام وشامل، يشمل جميع الرسل التي أرسلت، والكتب التي أنزلت على جميع الأمم التي خلت: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة: 285].

وقال -صلى الله عليه وسلم- في حديث جبريل المشهور في بيان حد الإيمان الواجب على هذه الأمة: "أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسوله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"([215]). فحصل لهذه الأمة المحمدية من الإيمان بجميع الرسل، وجميع الكتب ما لم يحصل لغيرها باعتبار ما يأتي:

1- أن هذه الأمة هي آخر الأمم، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نحن الآخرون السابقون.."([216])، وقال في حديث آخر: "نكمل اليوم سبعين أمة نحن آخرها وخيرها"([217]). وفي حديث آخر: "نحن آخر الأمم وأول من يحاسب"([218])، فآمنت بجميع الرسل والكتب التي قبلها، مع إيمانها برسولها الخاتم، وكتابها المهيمن على جميع الكتب، ولم يقع ذلك إلا لها، فحق لها أن تكون خير الأمم، لأنها جمعت خير ما عندهم من الإيمان بالكتب والرسل.

2- أن كثيرًا من الأمم التي قبلها، لم تؤمن بمن كان قبلها من الرسل والكتب، بل كذبوا وكفروا بهم، وهذا الوجه وإن جاء في الآية تقديم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمعنى اختلف المفسرون في تحديده([219])، إلا أنه باتفاق الجميع هو الأساس التي يبني عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا لم يكن ثمة إيمان على أساسه يتصور المعروف فيؤمر به، والمنكر فينهى عنه، فليس هناك أمر بمعروف ولا نهي عن منكر بالمعنى الشرعي.

الوجه الثاني: أنها أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر:

وهذا من أعظم ما كانت به هذه الأمة خير أمة أخرجت الناس، فهو من أظهر خصائصها، وأبرز ما تتميز به عن سائر الأمم، ولذلك قدمهما الله –عز وجل- في الذكر على الإيمان به تعالى، مع كونه –أي الإيمان- متقدما عليهما في الوجود والرتبة، فقال: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [آل عمران: 110]، وقد أمر الله هذه الأمة بأن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأن يكون فيها من يقوم بذلك فقال –عز وجل-: (وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: 104]، كما أوجب النبي –صلى الله عليه وسلم- ذلك على أمته على حسب الاستطاعة وهي مراتب فقال: "من رأي منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"([220]).

قال الإمام النووي -رحمه الله-:  وأما قوله -صلى الله عليه وسلم- "فليغره" فهو أمر إيجاب بإجماع الأمة، وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وهو أيضًا من النصيحة التي هي الدين، ولم يخالف في ذلك إلا بعض الرافضة، ولا يعتد بخلافهم.. ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام ه بعض الناس سقط الحرج عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ولا خوف([221]).

ولما كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بهذه المثابة، عدهما كثير من السلف شرطا في استحقاق الخيرية المشار إليها في الآية مع الإيمان بالله –عز وجل-، كما روى ابن جرير -رحمه الله-:  بسنده عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، أنه في حجة حجها قرأ هذه الآية: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) الآية، ثم قال: يا أيها الناس من سره أن يكون من تلك الأمة ليؤد شرط الله منها([222])، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وأخرج عن مجاهد -رحمه الله-:  في قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)، يقول: على هذا الشرط: أن تأمروا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر وتؤمنوا بالله([223]).

ولقد كانت هذه الأمة أكثر الأمم قياما بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل لم يكن في أمة من الأمم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مثل ما في هذه الأمة، إذ كانت أعظم الأمم التي قبلنا وهم بنو إسرائيل مفرطين فيهما غير قائمين بهما، كما قص الله –عز وجل- علينا خبرهم في قوله تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ *كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة: 78-79].

فلما قامت هذه الأمة بهذا الأمر مع تقصير غيرها من الأمم وتفريطها فيه، كانت جديرة بما أثبته الله ورسوله لها من الخيرية، إذ خير الناس آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر، كما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الإمام أحمد في مسنده عن درة([224]) بنت أبي لهب قالت: "قام رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو على المنبر فقال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "خير الناس أقرؤهم وأتقاهم، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم للرحم"([225]).

الوجه الثالث: كونها خير الأمم للناس وأنفعهم لهم:

وذلك أن هذه الأمة لما قامت بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان من أعظم المعروف الذي تأمر به الإيمان بالله –عز وجل- وعبادته وحده، ومن أنكر المنكر الذي تنهي عنه وتحذر الناس منه: الإشراك بالله و عبادة غيره من دونه، كما قال عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: "تأمرونهم بالمعروف، أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، والإقرار بما أنزل الله، وتقاتلوهم عليهن ولا إله إلا الله هو أعظم المعروف، وتنهونهم عن المنكر، والمنكر هو التكذيب، وهو أنكر المنكر"([226]).

إنما كانت في الواقع تدعو الناس إلى ما فيه نفعهم ونجاتهم، وتنهاهم عما فيه هلاكهم، باذلة في سبيل ذلك النفس والنفيس، ليس لها هدف إلا القيام بما أوجبه الله عليها من هداية الخلق إلى طريق النجاة، وإخراجهم من ظلمات الجهل والشك، والوثنية، إلى نور التوحيد والإيمان، وتحريرهم من عبودية العباد إلى عبودية الخالق جل وعلا، كما قال ربعي بن عامر([227]) -رضي الله عنه- لرستم([228]) قائد الفرس لما سأله: ما جاء بكم؟ قال: الله ابتعثنا، والله جاء بنا، لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبي قاتلناه حتى تفضي إلى موعود الله، قال: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبي، والظفر لمن بقي([229])...

لقد كان هذا الصحابي الجليل خير سفير لهذه الأمة إلى رستم وقومه، بين له مهمة هذه الأمة، وهدفها، وهو أنها لم تخرج لطلب ملك، أو مال أو دنيا وسلطان، وإنما أخرجها الله وابتعثها، كما قال –عز وجل: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران: 110] بالبناء للمجهول للدلالة على أنها لم تخرج بنفسها لهوى أو مصلحة ذاتية، وغنما أخرجت للناس، والله هو الذي أخرجها، لتدعو الخلق إلى عبادة الخالق دون المخلوق، ليس لها هدف سوى ذلك، فإن هو تحقق كان ذلك غاية ما تطمح إليه وتسعد به (فمن قبل منا ذلك، قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه يليها دوننا)([230]).

من أجل ذلك كانت هذه الأمة خير الأمم للناس، لأنها تدعوهم إلى الخير، ولا ترجو منهم ثمنا له، بل تجاهد من يحول بينها وبين تبليغ عباد الله دين الله، حتى يخلي بينهم وبينه، ثم بعد ذلك من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، إذا تبين للناس الرشد من الغي كما قال تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) [البقرة: 256]، (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) [الكهف: 29].

لكن هذه الأمة بما أوتيت من حب الخير للغير، تكره للناس أن ينتهوا إلى هذا المصير الرهيب، وتجهد نفسها – في غير من ولا أذى- في سبيل أن تحول بينهم وبينه، إن أمة تحمل للبشرية كل هذا الخير، غير مبالية بما يلقى من عنت وتعب ونصب، بما في ذلك القتل والقتال، وفراق المال والعيال، لهي بحق خليقة بأن تكون: (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) لأنها تسعى لنفعهم وهدايتهم وإنقاذهم من العذاب والعقاب الذي ينتظرهم.

يقول الصحابي الجليل أبو هريرة -رضي الله عنه- في هذا المعني: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) قال: خير الناس للناس، تأتون بهم السلاسل في أعناقهم حتى يدخلون في الإسلام([231])، وكذا قال غير واحد من السلف كابن عباس([232]) ومجاهد، وعكرمة وغيرهم([233]).

الوجه الرابع: كونهم أكثر الناس استجابة للأنبياء:

أشار إلى هذا الوجه الإمام ابن جرير -رحمه الله-:  بقوله: (وقال آخرون إنما قيل: () لأنهم أكثرهم الأمم استجابة للإسلام، ثم روى عن الربيع([234]) أنه قال في الآية: لم تكن أمة أكثر استجابة في الإسلام من هذه الأمة فمن ثم قال: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)([235]).

يدلل على ذلك ما جاء في الحديث الصحيح من كونه -صلى الله عليه وسلم- أكثر الأنبياء تبعا، كما في حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنا أول شفيع في الجنة لم يصدق نبي من الأنبياء ما صدقت، وإن من الأنبياء نبيا ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد"([236]).

وعنه أيضًا قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أنا أكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة وأنا أول من يقرع باب الجنة"([237]).

يوضح النبي -صلى الله عليه وسلم- مبلغ هذه الكثرة فيقول في الحديث الذي رواه ابن عباس -رضي الله عنهما-: "عرضت علي الأمم، فجعل النبي والنبيان يمرون معهم الرهط([238])، والنبي ليس معه أحد، حتى رفع لي سواد عظيم، قلت: ما هذا؟ أمتي هذه؟ قيل: بل هذا موسى وقومه، قيل: انظر إلى الأفق، فإذا سواد يملأ الأفق، ثم قيل لي: انظر هاهنا، وهاهنا – في آفاق السماء- فإذا سواد قد ملأ الأفق، وقيل: هذه أمتك، ويدخل الجنة من هؤلاء سبعون ألف بغير حساب"([239]).

وهذه النصوص صريحة في بيان أن المؤمنين المتبعين للنبي -صلى الله عليه وسلم- من هذه الأمة، أكثر من المتبعين لأي نبي من الأنبياء من الأمم السابقة، فهذه الأمة أقرب الأمم إلى الحق واعتناقه، وهذه علامة الخير والرشد، وبذلك كانت (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) لكون المؤمنين والمهتدين منها أكثر منهم في الأمم قبلها.

الوجه الخامس: كونها لا تجتمع على ضلالة:

وذلك أنها أمة ورثت الرسل في القيام بهداية البشر ودعوتها إلى ما دعا إليه سائر الرسل من الإيمان بالله وعبادته وحده، فهي ذات رسالة تبلغها، وتستمر في إبلاغها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولذلك ما كان لهذه الأمة أن تضل عن مهمتها ورسالتها مهما طال عليها الأمد، وامتد بها الأجل لأنها إن ضلت هي فلن يهتدي أحد، لانقطاع الوحي والرسالة.

وقد يضل بعض أفرادها وطوائفها عن الحق، بل قد يكفر ويلحد وينافق طوائف منها ولكنها لا تجمع ولا تجتمع على ذلك أبدًا، بذلك أخبرنا الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-، فقال فيما رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "إن الله قد أجار أمتي أن تجتمع على ضلالة"([240]).

بخلاف من قبلها من الأمم، فإنه كان الحق يغلب فيهم حتى لا تقوم به طائفة منهم، فهؤلاء أهل الكتاب، اليهود منهم والنصارى، اندثر الحق والدين الصحيح بينهم وانقرضت الفرقة التي كانت على الحق أو انحرفت، وأصبحت فرقهم كلها على ضلال وكفر وشك، فهاهم بسائر فرقهم وطوائفهم قد أجمعوا على الضلالة والكفر وأعرضوا عما جاء به الإسلام من الحق فليس منهم رجل رشيد.

أما هذه الأمة فإنها والحمد لله لا تجتمع على ضلالة أبدًا، بل لا بد أن تبقى طائفة منها على الدين الصحيح ظاهرة قائمة به، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون"([241]). وفي رواية أخرى: "لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة"([242]).

فأمة تثبت على الهدى والتوحيد، ولا يذهب فيها نور النبوة والقرآن؛ بل لا يزال مشتعلا مضيئا في يدها تحمله جيلا بعد جيل إلى أن تلقى الله به آخر طائفة منها، لا شك أنها خير الأمم التي عرفتها البشرية، بما لم توغل كما أوغل الكثير من الأمم قبلها في الكفر والضلالة، وبما يبقى فيها من الخير والهدى ما لم يبق في غيرها من الأمم([243]).

الوجه السادس: كون الكتاب الذي أنزل عليها خير الكتب السماوية، وذلك من وجوه:

1- إنه الكتاب الذي وصفه الله بأنه أحسن الحديث الذي أنزله.

فقال تعالى: (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَّشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الزمر: 23].

قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-:  (هذا مدح من الله عز وجل لكتابه القرآن العظيم المنزل على رسول الكريم)([244]). وهو نص في أن القرآن الكريم  أفضل وأحسن من غيره من الكتب السماوية التي أنزلها الله –عز وجل- قبله.

2- إنه الكتاب السماوي الوحيد الذي تكفل الله بحفظه وصيانته من الزيادة والنقصان ومن التحريف والتبديل.

فقال جل وعلا: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9]. فالمراد بالذكر: القرآن، والضمير في قوله: (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) راجع إليه على الصحيح.

قال فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي([245]) -رحمه الله-:  (... وهذا هو الصحيح في معنى هذه الآية، أن الضمير في قوله تعالى: (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) راجع إلى الذكر الذي هو القرآن، وقيل الضمير راجع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كقوله: (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة:67]، والأول هو الحق كما يتبادر من ظاهر السياق)([246]).

وأخبر جل وعلا: أن الباطل لا يتطرق بحال، فقال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت: 41-42]، فكتاب هذه الأمة محفوظ بحفظ الله له، وقد مضى علىنزوله الآن أربعة عشر قرنا من الزمان ولا يزال كما أنزله الله على عبده ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- لم يستطع أحد أن يزيد فيه حرفا، أو ينقص منه حرفا، أو يبدل فيه حرفا مكان آخر، فهو محفوظ في السطور والصدور، يحفظه عشرات الآلاف من المسلمين، ولو أراد أحد أن يزيد فيه حرفا أو ينقصه منه لرد عليه صغار أبناء المسلمين قبل كبارهم وذلك من حفظ الله له([247]).

وهذه حقيقة ملموسة يعترف بها أعداء الإسلام فضلا عن أبنائه، يقول وليم ميمور في كتابه (حياة محمد) –وهو معروف بتحامله على الإسلام ونبيه -صلى الله عليه وسلم-: (لم يمض على وفاة محمد -صلى الله عليه وسلم- ربع قرن حتى نشأت منازعات عنيفة، وقامت طوائف وقد ذهب عثمان -رضي الله عنه- ضحية هذه الفتن ولا تزال هذه الخلافات قائمة، ولكن القرآن ظل كتاب هذه الطوائف الوحيد، إن اعتماد هذه الطوائف جميعا على هذا الكتاب تلاوة، برهان ساطع على أن الكتاب الذي بين أيدينا اليوم هو الصحيفة التي أمر الخليفة المظلوم بجمعها وكتابتها، فلعله هو الكتاب الوحيد في الدنيا الذي بقي نصا محفوظا من التحريف طيلة ألف ومائتين سنة)([248]).

ويقول وهيري في تفسيره للقرآن، (إن القرآن أبعد الصحف القديمة بالإطلاق عن الخلط والإلحاق، وأكثر صحة وأصالة)([249]).

ويقول المستشرق([250]) لين بول (1832-1895): (إن أكبر ما يمتاز به القرآن أنه لم يتطرق شك إلى أصالته، إن كل حرف نقرؤه اليوم نستطيع أن نثق بأنه لم يقبل أي تغيير منذ ثلاثة عشر قرنا)([251]).

وذلك بخلاف الكتب السماوية السابقة، التي طرأ عليها الكثير من التحريف والتبديل، والزيادة والنقصان، بل والضياع أيضًا، وكان من ذلك ما أراد إليه الحق تبارك وتعالى في غير ما آية من كتاب العزيز كقوله تعالى: (أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة: 75]، وقوله: (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ) [البقرة: 79].

وقوله –عز وجل-: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران: 78]، وذلك لأن الله –عز وجل- لم يتكل بحفظها، وإنما وكل ذلك إلى أهلها فضيعوا وحرفوا وبدلوا، قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) [المائدة: 44].

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-:  (فإن قيل: ما الفرق بين التوراة والقرآن، فإن كلا منهما كلام الله أنزله على رسول من رسله صلوات الله عليهم، والتوراة حرفت، وبدلت.. والقرآن محفوظ من التبديل والتحريف، ولو حرف منه أحد حرفا واحدًا فأبدله بغيره أو زاد فيه حرفا أو نقص منه آخر لرد عليه آلاف الأطفال من صغار المسلمين فضلا عن كبارهم.

قال: فالجواب: أن الله استحفظهم التوراة، واستودعهم إياها، فخانوا الأمانة ولم يحفظوها، بل ضيوعها عمدا، والقرآن العظيم لم يكل الله حفظه إلى أحد حتى يمكنه تضييعه، بل تولى حفظه جل وعلا بنفسه الكريمة المقدسة كما أوضحه بقوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) وقوله: (لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ) [فصلت: 42] إلى غير ذلك من الآيات)([252]).

3- إنه الكتاب المهيمن على الكتب قبله:

لما كان القرآن الكريم  هو آخر الكتب السماوية المنزلة، وهو الكتاب الذي يحمل الصورة الأخيرة لدين الله، وهو المرجع الأخير في هذا الشأن، المرجع الأخير في عقائد الناس، وشرائعهم ونظام حياتهم([253])، فقد جعله الله الكتاب المهيمن على الكتب المنزلة قبله، فقال جلا وعلا: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ)، أي: هو الشهيد والأمين والمؤتمن والرقيب والحاكم على كل كتاب قبله كما أثر ذلك عن ابن عباس وغيره([254]).

يقول العلامة ابن كثير -رحمه الله-: (وهذه الأقوال كلها متقاربة في المعنى، فإن اسم المهيمن يتضمن هذا كله، فهو أمين، وشاهد، وحاكم على كل كتاب قبله، جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها، وشملها وأعظمها وأحكمها، حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره، فلهذا جعله شاهدًا وأمينا عليها كلها وتكفل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة قال: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9]([255]).

4- إنه الكتاب الوحيد الذي تحدى الله البشر أن يأتوا بسورة من مثله:

القرآن الكريم  معجزة الله الخالدة التي آتاها نبيه -صلى الله عليه وسلم- للدلالة على صدقه ونبوته، فتحدى به الجن والإنس أن يأتوا بمثله فقال: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) [الإسراء: 88]، وقال تعالى: (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ) [الطور: 34]، ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله، فقال: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [هود. 13].

فلما لم يستطيعوا تحداهم أن يأتوا بسورة فقال: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [يونس: 38] وهذا التحدي من خصائص هذا الكتاب العزيز، ولم يقع لكتاب قبله، لأن الله لم يجعلها معجزة لأنبيائه، وإنما اختص كل نبي منهم بمعجزة رئيسية من جنس ما برع فيه قومه، فكانت معجزة موسى –عليه السلام- إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص لبروز قومه في الطب، ثم جعل معجزة نبينا -صلى الله عليه وسلم- هذا الكتاب الكريم المعجز بنظمه ومعناه فتحدى به العرب مع فصاحتهم وبلاغتهم التي عرفوا بها.

يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ما من الأنبياء نبي إلا أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله، فأرجو أن أكون أكثر تبعا يوم القيامة"([256]).

قال الإمام ابن كثير في معنى قوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث: "إنما كان الذي أوتيته وحيا" أي الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه بخلاف غيره من الكتب الإلهية، فإنها ليست معجزة والله أعلم([257]).

وبعد: فهذا غيض من فيض من فضائل هذا الكتاب العظيم، الذي أنزل على هذه الأمة، فهو الكتاب الوحيد الذي وصفه الله بأنه أحسن الحديث، والكتاب الوحيد الذي تكفل الله بحفظه وصيانته من بين سائر كتبه، وهو الكتاب الذي جعله الله مهيمنا وشاهدًا على ما قبله من الكتب، حاويا لأفضل وأحسن ما جاء فيها وزائدًا عليها بفضائل كثيرة وهو الكتاب الوحيد الذي تحدى الله الجن والإنس أن يأتوا بمثله أو بمثل سورة من سوره.

وإن اختيار الله –عز وجل- لكتاب بهذه العظمة وهذا الفضل ليكون الكتاب الذي ينزل على هذه الأمة ليدل على فضل هذه الأمة وخيريتها، وقال الحافظ ابن حجر مبينا مناسبة إيراد الإمام البخاري لحديث ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم، كما بين صلاة والعصر ومغرب الشمس، ومثلكم ومثل اليهود والنصارى، كمثل رجل استعمل عمالا، فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ فعملت اليهود،  فقال: من يعمل لي من نصف النهار إلى العصر؟ فعملت النصارى، ثم أنتم تعملون من العصر إلى المغرب بقيراطين قيراطين، قالوا: نحن أكثر عملا وأقل عطاء، قال: هل ظلمتكم من حقكم؟ فقالو: لا، قال: فذاك فضلي أوتيه من شئت"([258]). ومناسبة الحديث؛ من باب من جهة ثبوت فضل هذه الأمة على غيرها من الأمة على غيرها من الأمم وثبوت الفضل لها بما ثبت من فضل كتابها الذي أمر بالعمل به([259]).

الوجه السابع: كون نبيها أفضل الأنبياء والرسل عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام:

لقد بين –عز وجل- في كتابه الكريم أنه فضل بعض الرسل والأنبياء على بعض فقال: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) [البقرة: 253]، وقال في آية أخرى: (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا) [الإسراء: 55].

قال الإمام ابن كثير -رحمه الله-:  (... ولا خلاف أن الرسل أفضل من بقية الأنبياء وأن أولى العزم منهم أفضلهم، وهم الخمسة المذكورون نصا في آيتين من القرآن في سورة الأحزاب: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) [الأحزاب: 7]، وفي الشورى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى: 13] ولا خلاف أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أفضلهم ثم بعده إبراهيم ثم موسى على المشهور)([260]).

فنبينا -صلى الله عليه وسلم- أفضل الخلق قاطبة، وهو سيد البشر، كما أخب عن ذلك -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون بم ذاك؟"([261]) ثم بين -صلى الله عليه وسلم- أنه يشفع للخلق يوم القيامة حين لا يشفع هذه الشفاعة العظمى غيره من الأنبياء والرسول عليهم أفضل الصلاة والسلام، قال -صلى الله عليه وسلم- في حديث آخر: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشف عنه القبر، وأول من شافع وأول مشفع"([262])، وهو -صلى الله عليه وسلم- حين يقول ذلك ويخبر به لا يقوله من باب التفاخر والتعالى، فقد صرح بنفي الفخر في رواية أخرى، فقال: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر"([263]). وإنما قاله لوجهين.

أحدهما: امتثال قوله تعالى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى: 11].

والثاني: أنه من البيان الذي يجب عليه تبليغه إلى أمته ليعرفوه ويعتقدوه ويعملوا بمقتضاه ويوقروه -صلى الله عليه وسلم- بما تقتضي مرتبته، كما أمرهم الله تعالى([264]).

ولأنه لا يمكننا معرفة ذلك إلا بخبره -صلى الله عليه وسلم- إذ لا نبي بعده يخبرنا بعظيم قدره عند الله([265])، ولا يشكل على تفضيله -صلى الله عليه وسلم- على غيره من الأنبياء والمرسلين، ما ورد من قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي هريرة: "لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي أو كان ممن استثني الله"([266]).

وقوله -صلى الله عليه وسلم- في رواية أخرى: "لا تفضلوا بين الأنبياء"([267]).

وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا ينبغي لعبد أن يقول إني خير من يونس بن متى"([268]). فإن المراد بالنهي: التفضل المؤدي إلى تنقص المفضول من الأنبياء وهذا غير لازم لتفضيل النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنهم أفاضل وهو أفضلهم من غير نقص أو تنقص لمكانتهم صلوات الله وسلامه عليهم.

وقال بعض أهل العلم: (المراد بالنهي: التفضيل المؤدي إلى الخصومة والتنازع وقال بعضهم إنه -صلى الله عليه وسلم- نهى عن تفضيله على موسى أو غيرهم من الأنبياء تواضعا وتأدبا وإلا فهو أفضلهم)([269]).

عموم رسالته:

وإن من أعظم ما به فضل نبي هذه الأمة صلوات الله وسلامه عليه، ما خصه الله به، من عموم البعثة، وشمول الرسالة لجميع الأمم، وليس ذلك لأحد قبله من إخوانه الرسل والأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام وفي بيان عموم رسالته يقول المولى تبارك وتعالى: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) [الأعراف: 58].

قال الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره -رحمه الله-:  (يقول –تعالى ذكره—لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- قا يا محمد للناس كلهم: (نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) لا إلى بعضكم دون بعض، فمن كان منهم أرسل كذلك، فإن رسالتي ليست إلى بعضكم دون بعض، ولكنها إليكم جميعكم)([270]).

وقال الإمام ابن كثير -رحمه الله-:  (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) [البقرة:21] وهذا خطاب للأحمر والأسود، والعربي والعجمي، (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) [الأعراف:158]، أي جميعكم وهذا من شرفه وعظمته أنه خاتم النبيين، وأنه مبعوث إلى الناس كافة، ثم ذكر بعض الآيات الدالة على ذلك وقال: والآيات في هذا كثيرة، كما أن الأحاديث في هذا أكثر من أن تحصر، وهو معلوم من دين الإسلام ضرورة أنه صلوات الله وسلامه عليه رسول إلى الناس كلهم)([271]).

ومن الآيات الدالة على عموم رسالته -صلى الله عليه وسلم- قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) [سبأ: 28]، (   وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107].

ومن الأحاديث الواردة في ذلك ما جاء في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة"([272]).

وكل الأنبياء والرسل قبله صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، كانوا يبعثون إلى أقوامهم خاصة دون غيرهم كما أخبر الله –عز وجل-، فقال عن نوح: (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) [نوح: 1]. وقال: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) [الأعراف: 59]، وقال عن هود –عليه السلام-: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا) [الأعراف: 65].

وقال عن صالح –عليه السلام-: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا) [الأعراف: 73]، وقال عن لوط –عليه السلام-: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ) [الأعراف: 80]، وقال عن شعيب –عليه السلام-: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا) [الأعراف 85]، وقال عن موسى –عليه السلام-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ) [هود: 96-97]، وقال عن عيسي –عليه السلام-: (وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) [آل عمران: 49].

وقال في حق محمد -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ) [سبأ: 28]، لجميع الناس، بل والجن أيضًا فقد ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- مرسل إليهم أيضًا، وقد بلغهم -صلى الله عليه وسلم- كما أخبر المولى بذلك في قوله: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنْذِرِينَ* قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الأحقاف: 29-31].

وقال الإمام ابن كثير في تفسيره -رحمه الله-:  (فيه دلالة على أنه تعالى أرسل محمدًا صلوات الله وسلامه عليه إلى الثقلين الإنس والجن حيث دعاهم إلى الله وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين وتكليفهم ووعدهم ووعيدهم، وهي سورة الرحمن ولهذا قال: (أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ)([273]).

ومما يدل على مبلغ فضله -صلى الله عليه وسلم- وعلو مقامه، أن الله ختم به النبوات وبرسالته تمت الرسالات، فلا تحتاج البشرية بعده إلى نبي، ولا بعد رسالته ودينه الكامل الشامل إلى رسالة أو دين يقول –عز وجل-: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رَّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) [الأحزاب: 40].

وفي الصحيح من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين"([274]).

وبعد: فإن هذه الأمة إنما حازت قصب السبق إلى الخيرات بنبيها محمد -صلى الله عليه وسلم- فإنه أشرف خلق الله وأكرم الرسل على الله، بعثه الله بشرع كامل عظيم، لم يعطه نبيا قبله ولا رسولا من الرسل، فالعمل على منهجه وسبيله، يقوم القليل منه ما لا يقوم العمل الكثير من أعمال غيرهم مقامه([275]).

ولأمة يختار الله أفضل رسله، وأعلاهم مكانة ومنزلة عنده وأحبهم إليه فيبعثه فيها هاديا ونبيا ورسولا لهي أمة حرية بأن تكون خير أمة، لأنها أمة خير الخلق والرسل منه تعلمت وعلى يديه تربت وبه فاقت الأمم([276]).

الوجه الثامن: تقديمها على الأمم في الحشر والحساب يوم القيامة ودخول الجنة مع كونها آخر الأمم:

إن مما يدل على فضل هذه الأمة، كونها خير الأمم ما خصها الله به من التكريم والتشريف وتقديمها على سائر الأمم يوم القيامة في الحشر والحساب، كما قال -صلى الله عليه وسلم- "نحن آخر الأمم، وأول من يحاسب يقال: أين الأمة الأمية ونبيها؟ فنحن الآخرون والأولون"([277]).

وفي الصحيح أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدًا، والنصارى بعد غدًا"([278]).

يقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله-:  أي: نحن الآخرون زمانا السابقون منزلة، قال: والمراد أن هذه الأمة وإن تأخر وجودها في الدنيا عن الأمم الماضية، فهي سابقة لهم في الآخرة بأنهم أول من يحشر وأول من يحاسب وأول من يقضي بينهم، وأول من يدخل الجنة.

وقيل: المراد بالسبق: إحراز فضيلة اليوم السابق بالفضل وهو يوم الجمعة، ويوم الجمعة وإن كان مسبوقا بسبت قبله أو أحد لكن لا يتصور اجتماع الأيام الثلاثة متوالية إلا ويكون يوم الجمعة سابقا)([279]).

وظاهر الحديث يشمل الأمرين، فقد نص على سبقها يوم القيامة، كما هو نص في سبقها في الاهتداء لأفضل الأيام الذي هو يوم الجمعة مع تأخرها عن اليهود والنصارى في الزمان والله تعالى أعلم، وهي كذلك أول الأمم دخولا الجنة، مع كونها آخر الأمم زمانا، وذلك من تكريم الله لها، وتفضيله إياها، يقول -صلى الله عليه وسلم- في ذلك: "نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة"([280]).

الوجه التاسع: كونها أكثر أهل الجنة:

لما كانت هذه الأمة أكثر الأمم استجابة للرسل صلوات الله وسلامه عليهم، حتى كان -صلى الله عليه وسلم- أكثر الأنبياء تابعا، امتازت بأنها أكثر من يدخل الجنة من الأمم، وفي ذلك دلالة جلية على فضلها وخيريتها.

يقول -صلى الله عليه وسلم-: "أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة"؟ قلنا: نعم. قال: "أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة"؟ قلنا: نعم. قال: "أترضون أن تكونوا شطر أهل الجنة؟" قلنا: نعم. قال: "والذي نفس محمد بيده، إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة، وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر"([281])، وبذلك اتضحت لنا أوجه الخيرية لهذه الأمة، وبينا معنى من معاني الوسطية ألا وهو الخيرية.

 

 

الفصل الثاني العدل

المبحث الأول

أقوال المفسرين في (أمة وسطا)

أما العدل فقد صح فيه الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث فسر قوله تعالى: (أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة: 143]، بقوله: عدولا، وذلك في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري، حيث قال -رضي الله عنه-: "الوسط العدل"([282])، وفي رواية الطبري: قال: (أُمَّةً وَسَطًا) عدولا([283]).

وقال القرطبي -رحمه الله-: : الوسط: العدل، وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها، ثم قال: قال علماؤنا: أنبأنا ربنا تبارك و تعالى في كتابه بما أنعم علينا من تفضيله لنا باسم العدالة، وتولية الشهادة على جميع خلقه فجعلنا أولا مكانا، وكنا آخرًا زمانا كما قال –عليه السلام-: "نحن الآخرون والأولون"([284])، وهذا دليل على أنه لا يشهد إلا العدول، ولا ينفذ قول الغير على الغير إلا أن يكون عدلا"([285]).

ومما يدل على أن العدل من ملامح الوسطية قول الطبري -رحمه الله-:  وأما التأويل فإنه جاء بأن الوسط العدل، وذلك معنى الخيار، لأن الخيار من الناس عدولهم([286]) ثم ساق الأدلة من السنة وأقوال السلف في ذلك.

المبحث الثاني

وجوب العدل على هذه الأمة وصور من قيامها به

 العدل من الأسس والقيم التي جاءت بها جميع الشرائع السماوية، فأنزل الله به كتبه، وأرسل به رسله، (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد: 25]، أي العدل، فما من كتاب أنزل ولا رسول إلا أمر أمته بالعدل، وأوجبه عليها، والأمم بين طائع آخذ منه بنصيب، وحائد مائل عن العدل والقسط بجهل أو هوى، والرسل ما تزال تجدد ما نسيته الأجيال، وتذكر الناس بما نسوا إلى أن ختمت الرسالات بخاتم الأنبياء محمد -صلى الله عليه وسلم-. ولما كانت هذه الرسالة المحمدية خاتمة الرسالات، والنبي -صلى الله عليه وسلم-  خاتم الأنبياء والرسل، وهذه الأمة خاتمة الأمم، والأمة التي جعلها الله شاهدة على الناس وقيمة على البشرية، تبلغها دين الله، وتشهد لها بالإيمان أو عليها بالكفر والعصيان: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) فقد كان العدل من أهم ما يجب على هذه الأمة، بل ه و من أعظم ما يميزها عن الأمم، ولم يكتف الحق تبارك وتعالى بإيجاب العدل على هذه الأمة، بل أراد منها أن تجعله خلقا من أخلاقها، وصفة من صفاتها، وصبغة تصطبغ بها من دون الناس، فأمرها أن تكون قائمة بالعدل، بل قوامة به بين الناس لله –عز وجل- لا لأي شيء آخر فلا تحابي فيه قريبا لقرابته ولا تضار عدوا لعداوته: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة: 8].

قال الإمام ابن جرير في تفسير هذه الآية: (يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله، وبرسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله شهداء بالعدل، في أوليائكم وأعدائكم، ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم فتجاوزوا ما حددت لكم في أعدائكم لعداوتهم ولا تقصروا فيما حددت لكم من أحكامي، وحدودي في أوليائكم لولايته من لكم، ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدي واعملوا فيه بأمري)([287]).

وقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-:  (أي: كونوا قائمين بالحق لله –عز وجل- لا لأجل الناس والسمعة، وكونوا شهداء بالقسط، أي بالعدل لا بالجور (لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في كل أحد، صديقا كان أو عدوا)([288]) وقال في موضع آخر: (أي: لا يحملنكم بغض أقوام على ترك العدل، فإن العدل واجب على كل أحد في كل أحد في كل حال)([289]).

فالعدل الذي أمرت به هذه الأمة، حق عام لكل أحد من الناس، لا يحجبه عن مستحقه شنآن ولا عداوة، ولا يحول دونه اختلاف لون لا جنس ولا دين: (إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) [النساء: 58].

فالعدل حق لكل الناس وجميع الناس، لا عدلا بين المسلمين بعضهم وبعض فحسب، ولا عدلا مع أهل الكتاب دون سائر الناس، وإنما هو لكل إنسان بوصفه (إنسان) فهذه الصفة – صفة الناس- هي التي يترتب عليها حق العدل في المنهج الرباني، وهذه الصفة التي يلتقي عليها البشر جميعا، مؤمنين وكفارا، أصدقاء وأعداء، سودًا وبيضا، عربا وعجما، والأمة المسلمة قيمة على الحكم بين الناس بالعدل – متى حكمت في أمرهم-([290]).

العدل و اجب على هذه الأمة ولو كان فيه مراغمة لعواطف البغض والعداوة: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) وهو كذلك واجب لو كان فيه مراغمة لكافة عواطف الحب والمودة والقرابة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ) [النساء: 135]. والأمة مأمورة بأن تقوم بالعدل والقسط والشهادة لله وليس لأحد سواه، وأن يكون ذلك منهم بدافع التقوى والخوف من الله –عز وجل- حتى يصبح الجميع أمام العدل سواء بدون اعتبار لدوافع الحب والولاء والقرابة، أو البغضاء والشنآن والعداوة، لأنها إنما تقوم بالعدل والقسط بين الناس وبأمر الله، والعدل بهذه الصورة الشاملة، لم تعرفه البشرية قط إلا على يد هذه الأمة، ولم تنعم به البشرية قط إلا تحت حكم الأمة المسلمة.

ثانيا: قيام هذه الأمة بالعدل:

لم يكن العدل في حياة هذه الأمة المحمدية الخاتمة مجرد مثل عليا، أو وصايا تفخر بها دون ممارسة أو تطبيق، ولكنه كان واقعا عاشته هذه الأمة ومارسته، وطبقته في واقع حياتها، على مر تاريخها الطويل، على تفاوت في ذلك التطبيق بين زمان وزمان، ودولة ودولة، وحسب اشتعال جذوة الإيمان في قلوب الحاكمين وخبوئها، غير أن ما يقطع به أنه لم يخل زمان ممن يقيم الحق والعدل، ويقوم بالقسط ويحكم به من هذه الأمة.

وحسبنا أن نذكر فيما يلي صورًا من عدل هذه الأمة فيما بينها، ومع أعدائها وخصومها، وأهل ذمتها وسنختار هذه الصور من واقع الأمة من خلال تاريخها الطويل، ليعلم أن هذه الأمة لم تزل قائمة بالقسط بين الناس شاهدة به على الناس لله، وأنها جديرة بأن تكون الأمة الوسط الشاهدة على البشرية، وأولى هذه الصور نعيشها مع سيد الخلق وإمام العالمين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- إمام هذه الأمة ومعلمها الخير، وهو يضرب أروع الأمثلة ويلقن أمته أبلغ دروس العدل والإنصاف والمساواة([291]).

فها هو -صلى الله عليه وسلم- يقيد أصحابه من نفسه في طعنة طعنها إياه بالقدح في بطنه أثناء تسويته الصف للقتال، روى ابن إسحاق([292]) أنه -صلى الله عليه وسلم-: (عدل صفوف أصحابه يوم بدر وفي يده قدح([293]) يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية([294]) وهو مستنتل من الصف، قال ابن هشام([295]): ويقال: مستنصل([296]) من الصف- فطعنه في بطنه بالقدح – وقال: استو يا سواد، فقال: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك بالحق والعدل فأقدني، فكشف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بطنه: وقال: "استقد". قال: فاعتنقه فقبل بطنه، فقال: "ما حملك على هذا يا سواد؟" قال: يا رسول الله، حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك فدعا له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخير"([297]).

وجاء يهودي يشتكي إليه أحد أصحابه قائلا: (يا محمد: إن لي على هذا أربعة دراهم وقد غلبني عليها، قال: "أعطه حقه"، قال: والذي نفسي بيده، ما أقدر عليها، قد أخبرته أنك تبعثنا إلى خيبر فأرجو أن تغنمنا شيئا فأجع فأقضيه، قال: "أعطه حقه". وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قال ثلاثًا لم يراجع...)([298]).

وكان -صلى الله عليه وسلم- يقيم حدود الله على من وجب عليه ذلك في عدل وإنصاف لا تأخذه في ذلك لومة لائم ولا قرابة قريب ولا مكانة شريف، فها هو -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق البار في قسمه يقول: لو أن ابنته سرقت لأقام عليها الحد، لا يدفعه عنها كونها ابنة محمد -صلى الله عليه وسلم-.

وأخرج الإمام البخاري عن عائشة -رضي الله عنها-: (أن قريشا أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم رسول الله ومن يجترئ عليها إلا أسامة فقال: "أتشفع في حد من حدود الله؟" ثم قام: فخطب  فقال: "يا أيها الناس إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها"([299]).

فإن قيل: هذا محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وليس غريبا منه هذا العدل، ومن يعدل إن لم يعدل هو؟

قلنا: وهذا رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يهتدي بهدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقيم العدل والقسط بين الناس يحكم بالحق لرجل يهودي على مسلم، ولم يحمله كفر اليهودي على ظلمه والحيف عليه، أخرج الإمام مالك([300]) من طريق سعيد بن المسيب: (أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- اختصم إليه مسلم ويهودي، فرأى عمر أن الحق لليهودي فقضى له، فقال له اليهودي: والله لقد قضيت بالحق...)([301]).

وكان -رضي الله عنه- يأمر عماله أن يوافوه بالمواسم، فإذا اجتمعوا قال: أيها الناس إني لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم، ولا من أموالكم، إنما بعثتهم ليحجزوا بينكم، وليقسموا فيئكم بينكم، فمن فعل به غير ذلك فليقم، فما قام أحد إلا رجل واحد قام فقال: يا أمير المؤمنين إن عاملك فلانا ضربني مائة سوط، قال: فيم ضربته؟ قم فاقتضي منه، فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن فعلت هذا يكثر عليك ويكون سنة يأخذ بها من بعدك، فقال: أنا لا أقيد، وقد رأيت رسول الله يقيد من نفسه، قال: فدعنا فلنرضه، قال: دونكم فارضوه، فافتدي منه بمائتي دينار كل سوط بدينارين([302]). وإن لم يرضوه لأقاده([303]) -رضي الله عنه-.

وجاء رجل من أهل مصر يشكو ابن عمرو بن العاص واليه على مصر قائلا: (يا أمير المؤمنين عائذ بك من الظلم، قال: عذت معاذًا قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أتسبقني وأنا ابن الأكرمين؟

فكتب عمر إلى عمرو -رضي الله عنه- يأمره القدوم ويقدم بابنه معه، فقدم فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين، قال أنس: فضرب، فوالله، لقد ضربه ونحن نحب ضربه، فما رفع عنه حتى تمنينا أن يرفع عنه، ثم قال عمر للمصري: اصنع على صلعة عمرو، فقال: يا أمير المؤمنين إنما ابنه الذي ضربني وقد اشتفيت منه، فقال عمر لعمرو: منذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟! قال: يا أمير المؤمنين لم أعلم ولم يأتني([304]).

فانظر إلى هذه المواقف الرائعة لعدالة هذه الأمة، رجل من عامة لاناس وفي رواية أنه ذمي من أقباط مصر، يتظلم فيعطى حقه ويقاد من ابن الأمير يجاء به وبأبيه ليعطي الرجل حقه وينصف، ثم انظر إلى الحاضرين من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كيف أحبوا ذلك وأيدوه (فوالله، لقد ضربه ونحن نحب ضربه) لا تشفيا منه ولا شماتة بعمرو وابنه، فالقوم فوق ذلك وأبعد ما يكونون عن التشفي والشماتة، ولكنهم جيل أحب العدل وعاشه وتربى عليه على يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لذلك فهو يبغض الجور ولا يحب رؤيته في الأمة ولو كان رجلا مخالفا لها في عقيدتها ودينها وشرعها، ويفرح أشد الفرح لرؤية العدالة ترمي بجذورها في أعماق الأمة ليؤخذ حق ضعفائها وأتباعها من أقويائها([305]).

فإن قيل: هذا الخليفة الثاني أمير المؤمنين عمر الفاروق ومثله خليق بإقامة العدل في رعيته!

فإليك صورة أخرى بطلها ليس بخليفة ولا أمير، ولكنه رجل من عامة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو الصحابي الجليل عبد الله بن رواحة([306])، يكل إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- خرص مزارع خيبر التي تركها -صلى الله عليه وسلم- بيد اليهود، فيحاول اليهود رشوته ليخفف عليهم في الخرص، فيشتد غضبه -رضي الله عنه- أن ساوموه على أمانته وعدالته ويقول مخاطبًا إخوان القردة والخنازير: (يا معشر اليهود: أنتم أبغض الخلق إلي، قتلتم أنبياء الله –عز وجل-، وكذبتم على الله، وليس يحملني بغضي إياكم على أن أحيف عليكم وقد خرصت عشرين ألف وسق من تمر، فإن شئتم وإن أبيتم فلي، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض قد أخذنا فاخرج عنا)([307]).

وأقر اليهود بعدم ظلمه واعترفوا بعدله وإنصافه، فإن قيل هذا صحابي جليل تربى على يد الرسول -صلى الله عليه وسلم- فليس ببدع أن يعدل ويحكم بالقسط إذا وكل إليه الحكم في أمر من الأمور.

قلنا: لندع جيل الصحابة رضوان الله عليهم، فإنهم جيل فريد الأصل فيهم الخير والعدالة، ولنتجاوزهم إلى غيرهم ممن جاء بعدهم: فهذا شريح القاضي([308]) -رحمه الله-:  يتحاكم إليه أمير المؤمنين وخليفة المسلمين ورجل ذمي فيحكم شريح يرحمه الله للذمي على أمير المؤمنين، فقد أخرج البيهقي([309]) بسنده عن الشعبي([310]) قال: خرج علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- إلى السوق فإذا هو بنصراني يبيع درعا قال: فعرف علي -رضي الله عنه- الدرع، فقال: هذه درعي، بيني وبينك قاضي المسلمين، قال: وكان قاضي المسلمين شريح، كان علي -رضي الله عنه- استقضاه، قال: فلما رأي شريح أمير المؤمنين قام من مجلس القضاء وأجلس عليا -رضي الله عنه- في مجلسه، وجلس شريح قدامه إلى جانب النصراني، فقال له علي -رضي الله عنه- يا شريح لو كان خصمي مسلما لقعدت معه مقعد الخصم، ولكني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لا تصافحوهم ولا تبدؤهم بالسلام، ولا تعودوا مرضاهم، ولا تصلوا عليهم، ولجوهم إلى مضايق الطريق، وصغروهم كما صغرهم الله"([311]). اقض بيني وبينه يا شريح فقال شريح: ما تقول يا أمير المؤمنين؟ قال: ف قال علي -رضي الله عنه- هذه درعي ذهبت مني منذ زمان قال: فقال شريح: ما تقول يا نصراني؟([312]).

قال: فقال: ما أكذب يا أمير المؤمنين الدرع هو درعي، فقال شريح: ما أرى أن تخرج من يده فهل من بينة؟ فقال علي -رضي الله عنه- صدق شريح. قال: فقال النصراني: أما أنا أشهد أن هذه أحكام الأنبياء أمير المؤمنين يجيء إلى قاضيه، وقاضيه يقضي عليه، هي والله يا أمير المؤمنين درعك، اتبعتك من الجيش وقد زالت عن جملك الأورق، فأخذتها، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، قال: فقال علي -رضي الله عنه- أما إذا أسلمت فهي لك، وحمله على فرس عتيق، قال فقال الشعبي: لقد رأيته يقاتل المشركين)([313]).

ويبين لنا هذا النص كيف كان قضاة المسلمين يصدرون أحكامهم العادلة فيما يعرض عليهم من قضايا في حرية تامة ولا تأخذهم في إقامة العدل لومة لائم، القوى والضعيف، الحكم والمحكوم، المسلم والذمي، الراعي والمرعي، الأمير والحقير كل أمام القضاء سواء. لذا حكم القاضي شريح على أمير المؤمنين -رضي الله عنه- للنصراني بما رأه حقا، وأمير المؤمنين -رضي الله عنه- يرضى بالحكم ويصدق شريحا على صحة ما قضى به، لأنه حكم بمقتضى قواعد الشرع، فكان ذلك كله سببا في إسلام نصراني واهتدائه لما رأي من قيام هذه الأمة في رعاياها وأهل ذمتها بالعدل والقسط الذي هو من أحكام الأنبياء([314]).

المبحث الثالث

اعتراف أعداء هذه الأمة بعدالتها

بلغت عدالة هذه الأمة يوم أن كانت في أوج قوتها ونفوذ سلطانها، وقدرتها على البطش والظلم –إن أرادت- حدًا أذهل الأعداء والخصوم، وجعلهم مشدوهين أمام عظمة هذه الأمة، والدين الذي تدين به وتدعو الأمم إليه، ومما جعلهم – على ما في قلوبهم من غل وحقد وحسد- يشيدون بعدالة هذه الأمة وسماحتها وقيامها بالقسد مع صومها ومن يعيش في كنفها من أهل الديانات الأخرى قبل أبنائها ومواطنيها فنطقت ألسنتهم بما رأوا ولمسوا من العدل والإنصاف والسماحة التي عاشوها وعوملوا بها في رحاب هذه الأمة وتحت سلطانها، وحين تأتي الشهادة لهذه الأمة من الأعداء والخصوم، فهي شهادة غير متهم ولا محاب، بل هي شهادة عدو، وخصم أنطقه واقع العدل الذي نعم به في جوار هذه الأمة والرحمة التي مسته مما لم يجد لها مثيلا حتى من بني قومه وعقيدته.

وقديما قيل: والفضل ما شهدت به الأعداء.

وهذه مجموعة من اعترافات وشهادات الأمم وأهل الأديان الأخرى بعدالة هذه الأمة وإنصافها لمن عاش تحت شريعتها منهم.

1- روى البلاذري([315]) من طريق سعيد بن عبد العزيز([316]) قال: بلغني أنه لما جمع هرقل([317]) للمسلمين الجموع وبلغ المسلمون إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك، ردوا على أهل حمص([318]) ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: قد شغلنا عن نصرتكم، والدفع عنكم، فأنتم على أمركم، فقال أهل حمص: لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم([319]) ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم...)([320]).

وكان أهل حمص نصارى، صالحهم المسلمون على أن يدفعوا الجزية والخراج ويتكفل ولي أمر المسلمين بحمايتهم، ودفع الأعداء عنهم، وقد كانوا قبل حكم المسلمين تحت حكم الروم وهم على دينهم.

فلما رأى المسلمون أنهم غير قادرين على الوفاء لهم بشرط الحماية ردوا عليهم ما أخذوا منهم، فأكبر ذلك أهل حمص، لأنهم لم يعهدوا مثله في أمة غير المسلمين وأشادوا بعدل المسلمين وحسن ولايتهم عليهم، وأنهم أحب إليهم من الروم مع كونهم على دينهم. وهذه شهادة صريحة بعدالة هذه الأمة التي مارست منهم القرآن في حياتها.

وهذا اعتراف آخر وشهادة أخرى من أهل وادي الأردن: لقد كتبوا إلى قائد المسلمين آنذاك وهو أبو عبيدة عامر بن الجراح([321]) -رضي الله عنه- معربين عن تمنيهم لحكم المسلمين لما لمسوا من عدالتهم ووفائهم ورأفتهم بهم وأنهم يفضلونهم على الروم وإن كانوا على دينهم، قائلين: (يا معشر المسلمين أنتم أحب إلينا من الروم، وإن كانوا على ديننا، أنتم أوفى لنا وأرأف بنا، وأكف عن ظلمنا وأحسن ولاية علينا ولكنهم غلبونا على أمرنا وعلى منازلنا)([322]).

2- شهادة المستشرق توماس و. آرنولد([323]): يقول في كتابه: (الدعوة إلى الإسلام) وهو يتحدث عن اضطهاد الفرس للمسيحيين، موازنا بين سلوكهم وسلوك المسلمين: ولكن مبادئ التسامح الإسلامي حرمت مثل هذه الأعمال – التي كان يمارسها الفرس على رعاياهم من المسيحيين التي تنطوي على الظلم – بل كان المسلمون على خلاف غيرهم، إذ يظهر لنا أنهم لم يألوا جهدًا في أن يعاملوا كل رعاياهم من المسيحيين بالعدل والقسطاس)([324]).

وقال عن إيثار أهل القدس وفلسطين لحكم المسلمين واغتباطهم به: (ومن المؤكد أن المسيحيين من أهل هذه البلاد، أي: القدس قد آثروا حكم المسلمين على حكم الصليبيين)([325]).

3- شهادة واعتراف المستشرق الأمريكي وول ديورانت: وهذا مستشرق يهودي صهيوني حاقد وضع في كتابه (قصة الحضارة) السم في الدسم، وطعن في الإسلام ونبيه -صلى الله عليه وسلم- وتعرض للمسيح –عليه السلام- بالطعن كثيرا، مما يجعلني أن أحذر من هذا الكتاب وأذكر من أراد أن يطلع عليه أن يتوخى الحذر ويتنبه لتلك السموم التي نشرها في كتابه هذا، ومع هذا أراد الله أن يظهر الحق على لسان هذا العدو اللدود.

يقول ديورانت مبينا أوضاع حال أهل الذمة الذين يعيشون في ظل الدولة الإسلامية: ولقد كان أهل الذمة المسيحيون، والزرادشتيون([326]) واليهود، والصابئون([327]) يتمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد لها نظيرًا في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحرارًا في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم، ولم يفرض عليهم أكثر من ارتداء زي ذي لون خاص، وضريبة عن كل شخص، تختلف باختلاف دخله... ولم تكن هذه الضريبة([328]) تفرض إلا على غير المسلمين القادرين على حمل السلاح، ويعفى منها الرهبان، والنساء، والذكور الذين هم دون البلوغ والأرقام والشيوخ، والعجزة، والعمى، والفقر الشديد. وكان الذميون يعفون في نظير هذه الضريبة من الخدمة العسكرية... ولا تفرض عليهم الزكاة... وكان لهم على الحكومة أن تحميهم)([329]).

وهذا الشاهد التاريخي من مستشرق يهودي صهيوني يثبت أن المسلمين في الأندلس عاملوا أهل ذمتهم وفق القواعد التي وضعها وحددها الإسلام، وهي قواعد توفر لأهل الذمة الحماية وعدم الظلم وتسبغ الرحمة والعطف على الفقراء وذوي الأعذار، وتوفر لهم حرية ممارسة دينهم، وحرية الاكتساب، وهذا غاية العدل؛ بل هو إلى الفضل أقرب.

4- اعتراف المستشرق ستانلي لين بول:

نقل عنه صاحب (قصة الحضارة) العبارة التالية: لم تنعم الأندلس طول تاريخها بحكم رحيم، عادل، كما نعمت به في أيام الفاتحين)([330]).

ثم عقب المستشرق اليهودي –بقوله-: (ذلك حكم يصدره مستشرق مسيحي عظيم) ثم علب عليه حسده وخبثه وحقده وأراد أن يقلل من شأن هذه الشهادة والإشادة مع اعترافه بصحة حكم إستانلي، قائلا: (قد يتطلب تحمسه شيئا من التقليل من ثنائه، لكن هذا الحكم بعد أن نقص منه ما عساه أن يكون فيه من التحمس يظل مع ذلك قائما صحيحا)([331]).

المبحث الرابع

العدل عند أهل الكتاب

إذا تكلمنا عن العدل عند أهل الكتاب، وبينا ما وصلوا إليه من ظلم وجور، وجنوح عن الإنصاف والقسط، وهم أهل كتاب أنزل الله عليهم الكتب، وأرسل إليهم الرسل تترى، ومع ذلك حادوا عن الحق وحرفوا وظلموا وطغوا و استبدوا فكيف بغيرهم من الأمم التي لم تحظ بما حظوا به من توالي الرسالات وكثرة لأنبياء ولذلك نكتفي بالعدل عند أهل الكتاب خشية الإطالة.

وسأبين العدل عند اليهود أولا فيما بينهم، ثم يما بينهم وبين غيرهم من الناس، ثم عن العدل عند النصارى كذلك فيما بينهم، ثم فيما بينهم وبين الأمم الأخرى.

أولا: مبدأ العدل عن اليهود:

أ- العدل فيما بينهم:

لقد أمرهم أنبياؤهم أن يقوموا بالعدل والقسط، وأن لا يتظالموا ولا يظلموا أحدًا، وأنزل الله عليهم التوراة فيها هدى ونور، وفصل لهم فيها الحدود والأحكام والقصاص العادل، كما أخبر الله بذلك في القرآن الكريم، حيث يقول تبارك وتعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [المائدة: 44-45].

وبقي بين أيدي اليهودي من أسفار التوراة –مع تحريفهم وتبديلهم لها- أثر مما ورد ذكره في القرآن الكريم، وسأورد فيما يلي بعض نصوص أسفار التوراة، التي توجب على اليهود الحكم بالعدل والقسط، وتحذرهم من الظلم والجور في القضاء والكيل والوزن، ففي (سفر اللويين) أن الرب كلم موسى -عليه السلام- قائلا: (لا ترتكبوا جورا في القضاء، ولا تأخذوا بوجه مسكين ولا تحترم وجه كبير، بالعدل تحكم لقريبك)([332]).

وفيه أيضًا: (وإذا نزل عندكم غريب في أرضكم فلا تظلموه، كالوطني منكم يكون لكم الغريب النازل عندكم وتحبه كنفسك، لأنكم كنتم غرباء في أرض مصر، أنا الرب إلهكم لا ترتكبوا جورًا في القضاء لا في القياس ولا في الوزن ولا في الكيل، ميزان حق ووزنات حق وإيفة حق وهبن حق تكون لكم أنا الرب إلهكم الذي أخرجكم من أرض مصر فتحفظون كل فرائضي وكل أحكامي وتعملونها أنا الرب)([333]).

وفيه أيضًا ما يدل على القصاص وأن النفس بالنفس: (وإذا أمات أحد إنسانا فإنه يقتل)([334])، ومن قتل بهيمة يعوض عنها ومن قتل إنسانًا يقتل، حكم واحد يكون لكم، الغريب يكون كالوطني إني أنا الرب إلهكم)([335]).

وفي (سفر الخروج): (من ضرب إنسانا فمات يقتل قتلا)([336])، فقد دل إذن القرآن الكريم، وأسفار التوراة التي بقيت بأيديهم على وجوب العدل عليهم والقصاص الحق عندهم، وتحريم الظلم والجور، فماذا فعل اليهود؟ لقد تلاعبوا بالنصوص وبدلوها وحرفوها، ولم يقوموا فيها بينهم بالعدل والقسط، وفرقوا بين القوى والضعيف، والحاكم والمحكوم والغني والفقير والشريف والوضيع، ولم يعدلوا بين الخلق في إقامة القصاص والحدود، كما أخبرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنهم في حديث المخزومية التي سرقت فقطع يدها وغضب ممن جاء يشفع فيها وقام فيهم خطيبا قائلا: "أيها الناس إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد..."([337]).

ومن الأدلة على هذه المسلك المشين ليهود ما أخرجه أبو داود وغيره عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان قريظة والنظير، وكان النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به، وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فودى بمائة وسق من تمر، فلما بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- تل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا: ادفعوه لنا نقتله، ف قالوا: بيننا وبينكم النبي -صلى الله عليه وسلم- فأتوه فنزلت على الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) [المائدة: 42]، والقسط النفس بالنفس، ثم نزلت: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة: 50]([338]).

فانظروا كيف مالوا عن حكم الله –عز وجل- وتلاعبوا بحدوده، فأقاموا الحد، والقصاص على الضعيف فيهم، وصرفوه عن ذي المكانة والقوة والمنعة، والعجب لا ينقضي من تمالئهم على ذلك واتفاقهم عليه، وهذا شاهد آخر على اختلاف ميزان العدل عند اليهود، ومبلغ ظلمهم وجورهم، وتعطيلهم لحدود الله –عز وجل-: أخرج الإمام البخاري -رحمه الله-:  عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: "إن اليهود جاؤوا إلى رسول الله فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟" فقالوا: نفضحهم، ويجلدون، قال عبد الله بن سلام([339]): كذبتهم إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال عبد الله بن سلام: ارفع يدك،  فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم، قالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرجما، فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة"([340]).

وفي رواية مسلم([341]): "أن اليهود حمموا وجه الزاني وجلدوه ولما سألهم النبي -صلى الله عليه وسلم- قائلا: أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم قالوا: نعم، فدعا رجلا من علمائهم فقال: "أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟" قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك نجده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف، والوضيع فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم.."([342]).

وفي سفر التثنية من التوراة جاء في شأن حد الزاني النص الآتي: (ولكن كان هذا الأمر صحيحا لم توجد عذرة الفتاة، يخرجون الفتاة إلى باب بيت أبيها ويرجمها رجال مدينتها بالحجارة حتى تموت، لأنها عملت قباحة في بني إسرائيل بزناها في بيت أبيها، فتنزع الشر من وسطك.

وإذا وجد رجل مضطجعا مع امرأة زوجة بعل يقتل الاثنان الرجل المضطجع مع المرأة والمرأة، فتنزع الشر من إسرائيل.

إذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل فوجدها رجل في المدينة فاضطجع معها فأخرجوهما كليهما إلى باب تلك المدينة وارجموها بالحجارة حتى يموتا، الفتاة من أجل أنها لم تصرخ في المدينة، والرجل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه، فتنزع الشر من وسطك"([343]).

ب- العدل عند اليهود مع غيرهم من الأمم:

إن نظرة اليهود إلى غيرهم من الأمم والشعوب نظرة تعال وازدراء، فهم يرون أنهم شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله وأحباؤه كما أخبر الله عن مقالتهم هذه وكذبهم فيها، فقال جل وعلا: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَّشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [المائدة: 18].

وكانوا يرون أن غيرهم من الأمم لا حق لهم في عدل ولا نصف، بل ويستحلون منهم الدماء والأنفس والأموال بحجة أن غير اليهود كفار مشركون لا حرمة لهم، وقد نبأنا الله خبرهم وقولهم هذا وعدهم كذبة مفترين في ذلك فقال –عز وجل-: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران: 75].

ومرادهم بالأميين العرب والمشركين وكل ما ليس بيهودي، روى ابن جرير عن قتادة -رحمه الله-:  في قوله: (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) قال: ليس علينا في المشركين سبيل، يعنون من ليس من أهل الكتاب([344]).

وفي أسفار التوراة المحرفة ما يشي بهذا المسك الذي انتهجه يهود تجاه الأمم الأخرى: ففي (سفر الخروج) ضمن الوصايا العشر التي يزعمون أن موسى -عليه السلام- تلقاها من ربه: (لا تشهد على قريب شهادة زور، ولا تشته بيت قريبك لا تشته امرأة قريبك، ولا أمته ولا ثوره، ولا حماره، ولا شيئا مما لقريبك)([345]). فمفهوم قوله (قريبك) في هذا النص، أن غير القريب يجوز لهم اشتهاء امرأته وبيته و... وقد فهم اليهود هذا الفهم، ونص (التلمود)([346]) على ذلك كما سيأتي ذكر نصوص منه.

وفي (سفر التثنية) إباحة التعامل بالربا مع غير اليهود، وتحريمه على اليهودي: (للأجنبي تقرض بربا ولكن لأخيك لا تقرض بربا)([347]) بل يمنع التلمود إقراض غير اليهودي إلا بربا: (غير مصرح لليهودي أن يقرض الأجنبي إلا بالربا)([348]) ولقد أخبرنا الحق تبارك وتعالى أنه نهاهم عن أكل الربا وأكل أموال الناس بالباطل وأنهم لما خالفوا وظلموا وأكلوا الربا حرم عليهم بعض الطيبات التي كانت حلالا عقوبة لهم في الدنيا، قال تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا *وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [النساء: 160-161].

وهذه بعض النصوص من التلمود التي تسمح لليهود أن تعتدي على أموال الأميين بل ودمائهم وأعراضهم، نسوق منها أمثلة ليتضح مدى ظلم اليهود وجورهم.

1- إباحة دماء غير اليهود:

يقول التلمود: (أقتل الصالح من غير الإسرائيليين، ومحرم على اليهودي أن ينجي أحدًا من باقي الأمم من هلاك، أو يخرجه من حفرة يقع فيها، لأنه بذلك يكون حفظ حياة أحد الوثنيين)([349]).

(ومن العدل أن يقتل اليهودي بيد كل كافر، لأن من يسفك دم الكافر يقرب قربانا لله)([350])، وكل من ليس بيهودي فهو كافر عندهم.

2- إباحة عرضه:

يقول التلمود: (لا يخطئ اليهودي إذا تعدى على عرض الأجنبي، لأن كل عقد نكاح عند الأجانب فاسد، لأن المرأة التي لم تكن من بني إسرائيل كبهيمة والعقد لا يوجد مع البهائم وما شاكلها)([351]).

قال ميموند اليهودي: (إن لليهود الحق في اغتصاب النساء الغير مؤمنات، أي الغير يهوديات)([352]).

3- إباحة ماله:

يقول التلمود: (إن الله حلل أموال باقي الأمم لبني إسرائيل لما رآهم قد خالفوا السبع الوصايا المختصة بعبادة الأوثان، والزنى والقتل والسرقة، وأكل لحم الحيوانات الغير مذبوحة، وخصاء الإنسان وإيلاد الحيوان من غير جنسه)([353]).

وفي شأن رد الأموال المفقودة لغير اليهود يقول التلموذ: (إن الله لا يغفر ذنبا ليهودي يرد للأمي ماله المفقود، وغير جائز رد الأشياء المفقودة من الأجانب)([354]).

وبهذا يتضح أن اليهود أهل ظلم وجور وفساد يظلمون الناس ويستحلون دماءهم وأعراضهم وأموالهم ويعدون ذلك دينًا، قاتلهم الله أني يؤفكون.

ثانيا: العدل عند النصارى:

أ- العدل فيما بينهم:

النصارى يتبعون التوراة في الأحكام والتشريعات، وما أمر به اليهود من العدل في الأحكام والحدود، وإيفاء الكيل والوزن وخلاف ذلك فإنه يسري على أمة النصارى كذلك.

لكن لما بغى اليهود وقست قلوبهم، وأحلوا ما حرم الله، وأكلوا أموال الناس بالباطل، جاء المسيح ليردهم إلى الجادة فلم يأمرهم بالعدل فحسب بل تجاوزه إلى الفضل والعفو، وأمرهم ألا يقابلوا الإساءة بمثلها، وأن لا يعتدوا على من اعتدى عليهم؛ بل قال لهم كما جاء في إنجيل (متى) الذين يزعمون أنه مما أنزل على عيسى -عليه السلام- (قد سمعتم أنه قيل: العين بالعين، والسن بالسن، أما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشرير؛ بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فخل له رداءك أيضًا، ومن سخرك ميلا فامش معه اثنين، ومن سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا تمنعه، وقد سمعتهم أنه قيل: أحبب قريبك وابغض عدوك، أما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم وأحسنوا إلى من يبغضكم، وصلوا لأجل من يعنتكم ويضطهدكم)([355]).

لكن أمة النصارى لم تهتد، بل حرفت وبدلت فضلت عن سواء السبيل، ولئن كان اليهود مغضوب  عليهم فإن النصارى ضالون، كما ثبت عن المصطفي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في تفسير قوله تعالى: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) [الفاتحة:7]، قال: "إن المغضوب عليهم اليهود وإن الضالين النصارى"([356]).

وأول ضلالهم وعظم جورهم وبغيهم أن عدلوا بربهم غيره، وجعلوا له شركاء، إذ جعلوه ثالث ثلاثة، وتارة جعلوا المسيح -عليه السلام- هو الإله، وأخرى ابن الإله، قال تعالى عن كفرهم وضلالهم: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) [المائدة: 17]، وقال في آية أخرى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) [المائدة: 72].

وقال –عز وجل- في آية أخرى: (اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [المائدة: 73]، وقال سبحانه: (وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ)[التوبة: 30].

والشرك بالله، واتخاذ غيره معه، من أعظم الظلم كما أخبر الحق تبارك وتعالى على لسان العبد الصالح لقمان: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13].

ولما نزل قوله –عز وجل-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام: 82]، شق ذلك على الصحابة وقالوا: وأينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا قول العبد الصالح: (يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [إنما هو الشرك"([357]).

وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره قوله –عز وجل-: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)،أي هو أعظم الظلم([358]).

فإذا كان القوم قد ارتكبوا أعظم الظلم والجور وظلموا أنفسهم بجعلهم الله أندادًا ومعه شركاء فماذا نتوقع منهم –وقد ضلوا وظلموا- غير الظلم والجور في جل حياتهم، لأنه بنوا دينهم عليه، فلم يكونوا قائمين بالعدل والقسط فيما بينهم، وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في قصة المخزومية التي سرقت: "إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد"([359])، يشملهم وإن كان هو في اليهود أظهر، وهؤلاء رهبانهم الذين هم عبادهم وعلماؤهم، وهم الصفوة فيهم والقدوة، والذين يفترض أن يكونوا أقرب القوم إلى العدل وعدم الظلم فإذا هم ظلمة جائرين معتدين على أموال الناس بالباطل كما أخبرنا الله بذلك عنهم، وكما يدل عليه واقع الكنائس وسيرتها يقول الله –عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ) [التوبة: 34].

يقول الحافظ ابن كثير: (ذلك أنهم يأكلون الدنيا بالدين ومناصبهم ورياستهم في الناس، ويأكلون أموالهم بذلك)([360]).

ولعل من أبرز مظاهر ذلك ما تمارسه الكنيسة من إصدار ما عرف بـ(صكوك الغفران)([361])، وهي صكوك يصدرها أهل السلطة في الكنيسة من البانوات والمطارنة والبطارقة، والقساوسة، باسم الكنيسة، يغفر بمقتضاها لحاملها ما اقترفه من الآثام والخطايا في حياته، مقابل أن يدفع مبالغ للكنيسة وهذا إلى جانب كونه أكلا لأموال الناس بالباطل فهو أيضًا قول على الله بلا علم وافتراء عليه، و تعد على ألوهيته -عز وجل- إذ لا يملك غفران الذنوب والعفو عنها إلا هو سبحانه ولكن القوم ضلوا ضلالا بعيدًا.

ومن صور جور هذه الأمة وعدم عدلها، أن كل فرقة وطائفة منها إذا تسلطت على الفرق الأخرى أذاقتها ألوانا من الظلم والبطش والاضطهاد، ولم ترقب فيهم إلا ولا ذمة، يقول د. أحمد شلبي: (تكرر في تاريخ المسيحية حدث عظيم لم يختلف، وهو التجاء الجانب القوى إلى أعنف وأقسى وسائل الاضطهادات والتعذيب، والتنكيل والحرق، والإفناء يسلطها على الجانب الضعيف.. والعجيب أن المسيحيين اضطهدوا من اليهود والرومان، ونزلت بهم الويلات في القرون الثلاثة الأولى، فلما بدأ جانبهم يشتد رأيناهم ينزلون نفس الويلات بمخالفيهم من أبناء دينهم، ومن أتباع الأديان الأخرى، ومن هنا فنيت مذاهب مسيحية كثيرة كان بعضها في وقت ما له الغلبة في العدد، ولكن تنقصه القوة والسلطان، وكان فناء هذه المذاهب بسبب قوة اليهود والرومان أحيانا، وأحيانا بسبب قسوة فرق مسيحية أخرى قويت واشتدت بالأباطرة وذوي النفوذ)([362]).

وهذا مصداق قوله تعالى وتعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [المائدة: 14].

قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-:  (... أي فألقينا بينهم العداوة والتباغض لبعضهم بعضا، ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة، وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين، يكفر بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا، فكل فرقة تحرم الأخرى ولا تدعها تلج معبدها، فالملكية([363]) تكفر اليعقوبية([364]) وكذلك الآخرون، وكذلك النسطورية([365]) والآريوسية([366]) كل طائفة تكفر الأخرى...)([367]).

وكمثال على ما ذكر من ظلم أمة النصارى وجور بعضهم على بعض، ما لاقاه أقباط مصر – وهم من الطائفة اليعقوبية- من ظلم واضطهاد على يد أبناء دينهم البيزنطيين الذين كانوا يحكمونهم قبل الفتح الإسلامي لمصر.

يقول المستشرق توماس آرنولد: (... فإن اليعاقبة –وهم الأقباط- الذين كانوا يكونون السواد الأعظم من السكان المسيحيين، قد عوملوا معاملة مجحفة من أتباع المذهب الأرثوذكسي([368]) التابعين للبلاط، الذين ألقوا في قلوبهم بذور السخط والحنق اللذين لم ينسهما أعقابهم حتى اليوم، كان بعضهم يعذب ثم يلقى بهم في اليم، وتبع كثير منهم بطريقهم إلى المنفى لينجوا من أيدي مضطهديهم، وأخفى عدد كبير منهم عقائدهم الحقيقية، وتظاهر بقبول قرار خلقدونية([369]).

وقد جلب الفتح الإسلامي إلى هؤلاء القبط – ذلك اللفظ الذي يطلق على المسيحيين من اليعاقبة في مصر – حياة تقوم على الحرية الدينية التي لم ينعموا بها قبل ذلك بقرن من الزمان)([370]).

وكثيرا ما كان الفتح الإسلامي مخلصا لكثير من طوائف النصاري من حقد واضطهاد وظلم، وبجانب عامل العدل والتسامح الذي عرف به الفاتحون المسلمون كان هذا من العوامل التي جعلت الكثير من المسيحيين يفضلون الحكم الإسلامي على حكم أبناء دينهم من أتباع الطوائف الأخرى([371]).

ثالثا: العدل فيما بينهم وبين غيرهم من الأمم:

وإذا فتحنا ملفات التاريخ وجدنا النصارى قد بلغو منتهى الظلم والاضطهاد لمن يقع تحت حكمهم وسلطانهم من أهل الأديان الأخرى من قتلهم وترحيلهم واضطهادهم، وكانت أعمالهم الانتقامية سياسية ثابتة تستهدف إفناء الخصوم ومحو آثارهم، فقد ارتكبوا الكثير من المذابح التي دبرت ونفذت بوحشية بالغة ارتكبوا فظائع وجرائم يندي لها جبين الإنسانية ومن الشواهد التاريخية في ذلك ما فعلوه بسكان بيت المقدس إبان استيلائهم عليها، عندما تخاذل العبيديون للدفاع عنها، إذ اكتفى واليهم آنذاك –افتخار الدولة- بتأمين نجاته مع حرسه الخاص، وترك المدينة للصليبيين يعيثون فيها فسادًا، بعد أن دافع عنها دفاعا هزيلا، ذرا للرماد في العيون([372]).

وإليك ما قاله (القس ريمند) وهو شاهد عيان من النصارى: (وشاهدنا أشياء عجيبة، إذ قطعت رؤوس عدد كبير من المسلمين، وقتل غيرهم رميا بالسهام، أو أرغموا على أن يلقوا بأنفسهم من فوق الأبراج، وظل بعضهم يعذب عدة أيام، ثم أحرق في النار، وكنت ترى في الشوارع أكوام الرؤوس والأيدي والأرجل والأقدام، وكان الإنسان أينما سار فوق جواده يسير بين جثث الرجال والخيال)([373]).

ويقول المستشرق ستيفن ونسيمان في وصف ذلك: (على أنه لم ينج من المسلمين بحياتهم إلا هذه الفئة القليلة – وهم افتخار الدولة والي العبيدين على القدس وحرسه الخاص – إذ أن الصليبيين وقد زاد في جنونهم ما أحرزوه من نصر كبير بع شقاء وعناء شديد، انطلقوا في شوارع المدينة، وإلى الدور والمساجد يقتلون كل من يصادفهم من الرجال والنساء والأطفال، دون تمييز، استمرت المذبحة طوال مساء ذلك اليوم وطوال الليل ولم يكن علم تانكرد([374]) عاصما للاجئين إلى المسجد الأقصى من القتل، ففي الصباح الباكر من اليوم الثاني دخلت باب المسجد ثلة من الصليبيين فأجهزت على جميع اللاجئين وحينما توجه ريموند آجيل في الضحى لزيرة ساحة المعبد أخذ يتلمس طريقه بين الجثث والدماء التي بلغت ركبتيه. وفر يهود بيت المقدس جميعا إلى معبدهم الكبير، غير أنه تقرر إلقاء القبض عليهم بحجة أنهم ساعدوا المسلمين فلم تأخذهم الرحمة والرأفة، فأشعلوا النار في المعبد، ولقي اليهود بداخله مصرعهم محترقين. يقول: (وتركت مذبحة بيت المقدس أثرًا عميقا في جميع العالم، ليس معروفا بالضبط عدد ضحاياها([375]) غير أنها أدت إلى خلو المدينة من سكانها المسلمين واليهود)([376]).

فانظر الفرق الشاسع بين دخول الصليبيين هذه المدينة المقدسة لدى المسلمين والمسيحيين واليهود، وبين دخول القائد المسلم صلاح الدين، وفي الأندلس عندما استولى النصارى الحاقدين ألحقوا بالمسلمين ضروبا من الأذى والظلم والجور والعدوان، يصور ذلك الدكتور توفيق الطويل في إيجاز فيقول:

(وقد استنفدت الكنيسة جهدها في إقناع المسلمين المقيمين في إسبانيا، لكي يرتدوا عن دينهم ويعتنقوا المسيحية دينا، وعلى غير جدوى ما بذلت من جهود، فاستجمعت محكمة التفتيش كل قواها، و اعتصمت بالجرأة والتعصب، وصبت عذابها على المسلمين في غير رفق ولا عدالة حتى اعتنق النصرانية من خر في ميدان الكفاح، وهاجر من خار بين التمسك بعقيدته، واحتمال آلام العذاب، وفي عام 1609 و1910 تم إجلاء ألوف المسلمين عن إسبانيا بعد أن أغرقوا بدمهم أرضها، وكتبوا في المقاومة أنصع الصفحات في تاريخ الجهاد في سبيل الله)([377]).

وأما في العصر الحاضر فأقرب الشواهد إلى الذاكرة على ظلم النصارى ومبلغ حقدهم واضطهادهم، ما فعله نصارى لبنان الموارنة ضد المسلمين الفلسطينيين في مخيمي (صبرا وشاتيلا) من مجازر ومذابح أودت بأرواح الآلاف من قاطني المخيمين مع ما صاحب ذلك من النهب والتدمير الشامل لمحتويات المخيمين وذلك عقب اجتياح الجيش اليهودي الصهيوني لمدينة بيروت وغيرها من المدن اللبنانية عام 1982م، 1402هـ.

يقول أحد شهود العيان: (... دفنت في يوم واحد عددًا إجماليا مائة وثلاثة جثث.. وعندما دخلت المخيم رأيت اللحم ملزقا على الحيطان وتستطيع أن تقول كل أساليب القتل قد استخدمت: الساطور، البارود، الرصاص، العصى، كاتم الصوت... وكان بين الضحايا من كان عمره تسعين سنة... ومن بين الذين دفناهم أطفال أعمارهم بين 6-7 سنوات ونساء من مختلف الأعمار، كانوا أي: النصارى –يقتلون كل شيء يتحرك أمامهم)([378]).

فقد أصبحت معلومة لكل إنسان على وجه المعمورة من اغتصاب وقتل وذبح وتشريد. إن النصارى ما كانوا في عدائهم عدولا، ولا رحماء بمخالفيهم، كما هو شأن الإسلام، فقد كانت أعمالهم بخصومهم تفوق كل وصف، ولولا ما نقله شهود العيان مما أنزلوه بغيرهم من الظلم والعدوان لما استطاع المرء أن يصدق هذه الأعمال الموغلة في الوحشية والشناعة، من قوم لا دين لهم، فضلا عن قوم يدعون انهم أتباع المسيح -عليه السلام-، وبهذه اتضح ملمح من ملامح الوسطية وكيف مارسته أمة الإسلام مقارنا مع غيرها من أهل الكتابين واتضح لنا أنهم حادوا عن العدل إلى الظلم.

 

الفصل الثالث

اليسر ورفع الحرج

تمهيد:

إن من أول ما يتبادر إلى أذهاننا عندما نطلق كلمة (الوسطية) هو معنى اليسر والتيسير، ورفع الحرج، وهذا الفهم صحيح فإن من أبرز سمات الوسطية: التيسير ورفع الحرج.

وقد تقرر فيما مضى أن هذا الدين هو دين (الوسط) فلا غلو ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط. واليسر ورفع الحرج مرتبة عالية بين الإفراط والتفريط، وبين التشدد والتنطع وبين الإهمال والتضييع.

يقول الدكتور صالح بن حميد: (إن رفع الحرج والسماحة والسهولة راجع إلى الاعتدال والوسط، فلا إفراط ولا تفريط، فالتنطع والتشدد حرج من جانب عسر التكليف، والإفراط والتقصير حرج فيما يؤدي إليه من تعطيل المصالح وعدم تحقيق مصالح الشرع)([379]).

وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة: 143]، فالتوسط هو منبع الكمالات، والتخفيف والسماحة ورفع الحرج على الحقيقة هو في سلوك طريق الوسط والعدل)([380]).

ولأهمية بيان عناية الإسلام بهذا الجانب وتأكيده عليه، فسأذكر بعض ما ورد في ذلك من الكتاب والسنة، وأئمة السلف من الصحابة وغيرهم مع ذكر أقوال بعض المفسرين حول آيات التيسير ورفع الحرج وقبل أن أبدأ في ذكر الأدلة من الكتاب والسنة أذكر تعريفا موجزًا للتيسير ورفع الحرج فأقول:

المبحث الأول

تعريف اليسر والوسع في اللغة والاصطلاح

أ- اليسر والوسع في اللغة:

قال ابن منظور في تعريف اليسر: (اليسر: اللين والانقياد، والميسرة: السعة والغني وتيسر الشيء واستيسر: تسهل، واليسر: ضد العسر)([381]).

ب- في الاصطلاح (عند المفسرين والعلماء):

وذكر الزمخشري -رحمه الله-:  في تعريف اليسر والوسع: (إن الوسع هو ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه، ولا يحرج فيه، فالله لا يكلف النفس إلا ما يتسع فيه طوقها، وتيسير عليها دون مدى غاية الطاقة والمجهود، فقد كان في طاقة الإنسان أن يصلي أكثر من الخمس، ويصوم أكثر من شهر ويحج أكثر من حجة)([382]).

وذكر القاسمي في تفسيره أن اليسر: (عمل لا يجهد النفس ولا يثقل الجسم)([383]).وقال الدكتور صالح بن حميد: (إن اليسر والوسع: ما يقدم عليه الإنسان من غير أن يلحقه مشقة زائدة، ومن غير أن يحتاج لبذل كل ما لديه من طاقة ومجهود)([384]).

المبحث الثاني

رفع الحرج

أ- في اللغة: الحرج: (أضيق الضيق، وحرج فلان على فلان: إذا ضيق عليه)([385]).

ب- في الاصطلاح: (كل ما أدى إلى مشقة زائدة في البدن أو النفس أو المال حالا أو مآلا)([386]).

قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله:

(وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) [الحج: 78].

(توسعة الإسلام، ما جعل الله من التوبة والكفارات)([387]).

وقال الضحاك([388]) في تفسير الآية: (جعل الدين واسعا ولم يجعله ضيقا). وقال مقاتل بن حيان([389]): (لم يضيق الدين عليكم ولكن جعله واسعا لمن دخله، وذلك أنه ليس مما فرض عليهم فيه إلا وقد ساق إليهم عند الاضطرار فيه رخصة).

وبعد هذا التعريف للحرج يكون رفع الحرج هو:

(إزالة ما يؤدي إلى هذا المشاق الموضحة في التعريف، ويتوجه الرفع والإزالة إلى حقوق الله –سبحانه وتعالى-؛ لأنها مبنية على المسامحة، ويكون ذلك إما بارتفاع الإثم عند الفعل، وإما بارتفاع الطلب للفعل، وحينا يرتفع كل ذلك ترتفع حالة الضيق التي يعانيها المكلف حينما يستشعر أنه يقدم على ما لا يرضي الله، وهذا هو الحرج النفسي والخوف من العقاب الأخروى.

كما يرفع الحرج الحسي حينما يكون التكليف شاقا فيأتي العفو من الله –سبحانه وتعالى- إما بالكف عن الفعل الموقع في الحرج، وإما بإباحة الفعل عند الحاجة إليه)([390]).

المبحث الثالث

أدلة التيسير والوسع ورفع الحرج

من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة والتابعين

أولا: الأدلة من القرآن الكريم:

وردت آيات كثيرة جدًا تبين أن هذا الدين دين يسر، وأن الله قد رفع الحرج عن هذه الأمة فيما يشاق عليها، حيث لم يكلفها إلا وسعها، وسأبين أدلة التيسير، ثم أدلة رفع لاحرج، ثم أدلة عدم التكليف بغير الوسع والطاقة.

1- أدلة التيسير والتخفيف:

قال تعالى: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185]، وقال سبحانه: (يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا) [النساء: 28]، وقال -عز وجل-: (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى) وقال في سورة الشرح: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) [الشرح: 5-6] وفي سورة الطلاق: (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا)[الطلاق: 7].

هذه بعض الآيات التي تفيد التيسير على هذه الأمة، قال القاسمي في تفسير آية البقرة قال الشعبي: (إذا اختلف عليك أمران، فإن أيسرهما أقربهما إلى الحق لهذه الأمة)([391]).

وقد ذكر المفسرون في تفسيرهم لهذه الآيات أن الله أراد لهذه الأمة اليسر ولم يرد لها العسر([392]).

2-  أدلة رفع الحرج:

من أقوى الأدلة في الدلالة على رفع الحرج قوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: 78].

قال الطبري في تفسير هذه الآية: (جعل الدين واسعًا ولم يجعله ضيقا). قال ابن كثير: (أي: ما كلفكم ما لا تطيقون وما ألزمكم بشيء يشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجا ومخرجا)([393]).

وقال سبحانه: (مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة: 6]، وفي سورة التوبة: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ) [التوبة: 91].

وقال في سورة الأحزاب: (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللهُ ) [الأحزاب: 38]. وفي سورة النور: (لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ) [النور: 61].

وفي هذه الآيات دلالة ظاهرة على رفع الحرج عن هذه الأمة، وأن الله لم يجعل في التشريع حرجا، وبعض هذه الآيات وإن كانت خاصة في أحكام معينة، ولكننا نجد التعليل عاما، فكأن التخفيف ورفع الحرج في هذه الأحكام والفروض بإعادة الشيء إلى أصله وهو رفع الحرج عن هذه الأمة، فكل شيء يؤدي إلى الحرج لسبب خاص أو عام فهو معفو عنه، رجوعا إلى الأصل والقاعدة([394]).

3- أدلة عدم التكليف بما يضاد الوسع والطاقة:

 قال سبحانه في سورة البقرة: (لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) وقال الله تعالى كما في الحديث الصحيح: "قد فعلت"([395])، وكذلك قوله: (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا) [البقرة: 286].

قال الدكتور صالح بن حميد: (والوسع ما يسع الإنسان فلا يعجز عنه ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه، فقوله تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) أي: لا يحملها إلا ما ت سعه وتطيقه ولا تعجز عنه أو يحرجها دون مدى غاية الطاقة، فلا يكلفها بما يتوقف حصوله على تمام صرف القدوة، فإن عامة أحكام الإسلام تقع في هذه الحدود، ففي طاقة الإنسان وقدرته الإتيان بأكثر من خمس صلوات وصيام أكثر من شهر، ولكن الله جلت قدرته ووسعت رحمته أراد بهذه الأمة اليسر ولم يرد بها العسر)([396]).

ومن الأدلة على أن التكليف بحدود الوسع والطاقة قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [الأعراف: 42] ويقول سبحانه في سورة المؤمنون: (لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا).

قال القاسمي: (فسة الله جارية على أنه لا يكلف النفوس إلا وسعها)([397])، وجاء التأكيد على هذه القاعدة عند ذكر بعض الأحكام الفرعية فقال سبحانه: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا) [البقرة: 233].

 

وكذلك في سورة الطلاق: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا) [الطلاق:7]، وكذلك أيضًا في سورة الأنعام: (وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) [الأنعام: 152].

هذه هي الآيات التي وردت مبينة أن التكليف بحسب الوسع والطاقة، لا شك أن الأحكام الشرعية إذا كانت مطلوبة في حدود الوسع والاستطاعة دون بلوغ الطاقة، ففي ذلك الدلالة الظاهرة على أن الحرج مرفوع، وأن اليسر سمة هذا الدين، والتوسعة على العباد خاصة من خصائصها، فهي الحنيفية السمحة والوسطية التي لا عنت فيها ولا مشقة([398]).

ثانيا: الأدلة من السنة النبوية:

نعت الله نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- بأنه رحيم بأمته يعز عليه كل ما فيه مشقة عليهم قال تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنَفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتِّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 128]، وظهرت شفقته ورحمته بأمته في السنة النبوية في أقواله عليه الصلاة والسلام وأفعاله وجميع سيرته، بل كان عليه الصلاة والسلام يخشى أن يكون قد أمر أمته أو سلك فيهم طريقا فيه مشقة أو إعنات، كما كان عليه أفضل الصلاة والسلام ينهي أصحابه عن سلوك طريق التعمق والتشدد، وسأبين أحاديث وردت في يسر هذا الدين وسماحته ورفع الحرج عنه، وأحاديث توضح لنا خشية النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكون قد شق على أمته، وأحاديث في أمر الصحابة بالتخفيف عن التعمق والتشديد وإنكار ذلك عليهم.

وما سأذكره من أحاديث يبين أن الدين كله يسر لا عسر فيه ولا حرج، وفيه ما يتعرض لقضايا جزئية كبعض أحكام الصلاة و نوافل العبادات، ولا شك أن كل ذلك يدل بمجموعة دلالة قاطعة على رفع الحرج عن هذا الدين وبعده عن العسر والمشقة.

أ- أحاديث في بيان يسر هذا الدين وسماحته ورفع الحرج عنه:

1-         أخرج البخاري في صحيحه تعليقا: "قيل يا رسول الله: أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: "الحنيفية السمحة"([399]).

2-         أخرج البخاري في صحيحه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما أرسل معاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري -رضي الله عنهما- قال لهما: "يسرًا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفر"([400]).

3-         وأخرج البخاري في صحيحه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الدين يسر ولن يشاد ا لدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا"([401]).

4-         روت عائشة -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا، ولكن بعثني معلما ميسرا"([402]).

5-                           وفي مسند الإمام أحمد، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره"([403]),

وأهل الكتاب يعلمون أنه -صلى الله عليه وسلم- قد بعث بالتخفيف واليسر ولهذا لما زني رجل منهم في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- قال بعضهم لبعض اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه بعث بالتخفيف إلى آخر القصة التي أنكروا فيها الرجم في شريعتهم([404]).

ب- أحاديث تدل على خشيته -صلى الله عليه وسلم- أن يكون قد شق أمته:

ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- جملة أحاديث تدل على شفقته التامة على أمته، وخشيته أن يكون قد جلب عليها ما يعنتها أو يشق عليها وتجنبه كل طريق يؤدي إلى ذلك وإليك بعض منها:

1- صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التراويح ليلة فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم، فلما أصبح قال: "قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم، -وفي الرواية الأخرى- فتعجزوا عنها"([405]).

2- قال -صلى الله عليه وسلم-: "لولا  أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك"([406])، بل أنه عليه الصلاة والسلام يخفف الصلاة ويتجوز فيها – وهي قرة عينه وفيها الراحة التي ينشدها – رفقا بحال المؤمنين ومراعاة لضعفهم و انشغال بالهم ودفعا لكل ما يدخل المشقة عليهم.

3- قال -صلى الله عليه وسلم-: "إني لأقوم إلى الصلاة وأنا أريد أو أطول فيها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز كراهية أن أشق على أمه"([407]).

والأحاديث في هذا الشأن من باب المثال لا من باب الحصر.

ج- في أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بالتخفيف ونهيهم عن التعمق والتشديد وإنكار ذلك عليهم:

بل كان -صلى الله عليه وسلم- يتتبع أحوال بعض الصحابة الذين ينسب إليهم ذلك فينكر عليهم ويوجههم إلى طريق اليسر والاعتدال، وهذه مجموعة من الأحاديث التي توضح هذا وتبينه:

1- كان معاذ بن جبل([408]) -رضي الله عنه- يصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يأتي فيؤم قومه، فصلي ليلة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم أتى قومه فأمهم فافتتح بسورة البقرة فانحرف رجل فسلم ثم صلى وحده وانصرف، فقالوا له: أنافقت يا فلان؟ قال: لا والله، ولآتين رسول الله فلأخبرنه، فأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: إنا أصحاب نواضح – وهي الإبل التي يستقي عليها –نعمل بالنهار، وإن معاذا صل معك العشاء ثم أتى فافتتح بسورة البقرة، فأقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على معاذ فقال: "يا معاذ أفتان أنت؟ اقرأ بكذا" وفي الرواية الأخرى: "سبح اسم ربك الأعلى، والليل إذا يغشى والضحى"([409]).

2- جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا، يقول راوي الحديث – وهو أبو مسعود الأنصاري([410])- فما رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ، فقال: "أيها الناس إن منكم منفرين، فأيكم أم الناس فليوجز فإن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة"([411]).

بل قد بلغ الحال ببعض الصحابة رضوان الله عليهم، أن أرادوا الأخذ بعزائم الأمور ومخالفة الرسول في بعض ما كان يترخص به – ظنا منهم أنه طريق التقوى والخشية- وأن ترخصات النبي -صلى الله عليه وسلم- خاصة به لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

وكأن هؤلاء القوم فهموا أن الأخذ بالأشد هو الأتقى وهو الأقرب إلى الله –سبحانه وتعالى-، لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أوضح لهم أن الطريق الصحيح هو في الاتباع والاقتداء، وأن اتباع اليسر والسهولة والأخذ برخص الله هو منهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو أعلم الناس بشرعة وأشدهم له خشية([412]).

3- يوضح ذلك: ما روته عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أمرهم من الأعمال بما يطيقون قالوا: "إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله، إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيغضب حتى يعرف الغضب في وجهه ثم يقول: "إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا"([413]).

فهو -صلى الله عليه وسلم- الجامع للقوتين العلمية وعمله ومنهجه هو المنهج المستقيم، وفي هذا الحديث بيان أن الطريق الصحيح والمنهج السليم هو الوقوف عند ما حدده الشرع من عزيمة أو رخصة، واعتقاد أن الأخذ بالأرفق الموافق للشرع أولى من الأشق المخالف له، كما أعلمهم -صلى الله عليه وسلم- أنه وإن كان الله قد غفر له، لكنه مع ذلك أخشى الناس لله وأتقاهم فما فعله -صلى الله عليه وسلم- من عزيمة أو رخصة فهو في غاية التقوى والخشية، ومن هنا ندرك غضبه -صلى الله عليه وسلم- على هؤلاء الذين حاولوا سلوك منهج التعمق والتشدد ظنا منهم أن ذلك طريق النجاة، وإذا فلا غرابة أن رأيناه -صلى الله عليه وسلم- يتعقب الذين يلتزمون التشديد والأخذ بالأشق([414]).

4- ودخل -صلى الله عليه وسلم- مرة المسجد فإذا حبل ممدود بين ساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ فقالوا: حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت به، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "حلوه ليصل أحكم نشاطه فإذا فتر فليرقد"([415]).

5- وفي السنن عن عقبة بن عامر([416]) أن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا فلتركب" وفي رواية: "إن الله لغني عن مشيها مروها فلتركب"([417]).

هذه هي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وطريقته: سلوك الطريق الوسط وأتباع اليسير، وسلوك غير ذلك رغبة في سنة رسول الله – فيه الخطر الشديد والوعيد العظيم المؤدي إلى منهج التنطع والإفراط، بل لقد ثبت نهيه -صلى الله عليه وسلم- لبعض أصحابه عن التشديد والتكلف ممن التزموا هذا الجانب ما يؤدي بهم إلى الانقطاع وعدم التمكن من المواصلة وإهمال حقوق وواجبات للنفس والأهل وكل من له به تعلق.

6- فهذا عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-([418]) يقول: "قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم تصوم النهار وتقوم الليل؟" فقلت: بلي يا رسول الله، قال: "فلا تفعل، صم وأفطر وثم ونم فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقًا، وإن لزورك عليك حقا، وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها فإن ذلك صيام الدهر كله"، فشددت فشدد علي، قلت: يا رسول الله إني أجد قوة، قال: "فصم صيام نبي الله داود -عليه السلام- ولا تزد عليه"، قلت: وما كان صيام نبي الله داود -عليه السلام-؟ قال: "نصف الدهر"، فكان عبد الله يقول بعد ما كبر: يا ليتني قبلت رخصة النبي -صلى الله عليه وسلم-([419]).

7- وحينما نهي عليه الصلاة والسلام عن الوصال في الصيام: فقال له رجل من المسلمين: فإنك تواصل يا رسول الله؟ قال: "وأيكم مثلي، إني أبيت يطعمني ربي ويسقين"، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم رأوا الهلال فقال: لو تأخر لزدتكم، كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا، وفي الرواية الأخرى قيل: إنك تواصل؟ قال: "إني أبيت يطعمني ربي ويسقين، فاكلفوا من العمل ما تطيقون"([420]).

وتوجيهات رسول الله في هذا مما يجل عن الحصر في مثل هذا المقام فالسهولة والرفق والأخذ بالأيسر ومراعاة الأحوال ديدنة -صلى الله عليه وسلم-.

ثالثا: فهم الصحابة والتابعين لرفع الحرج في الشريعة:

أ- الصحابة:

صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هم الفئة الذين اختارهم الله ليشاهدوا تنزل الوحي، ويسمعوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقواله، ويشاهدوا أفعاله ويأتمروا بأوامره مباشرة، ويسترشدوا بتوجيهاته ويقتدوا بتطبيقاته، فهم الذين عاشوا عصر النبوة، كما عاشوا الإسلام خالصا نقيا لذا فإن أفعالهم وأقوالهم نماذج عملية لإرادة تطبيق الإسلام النقي الصافي، وفي هذا المقام سأورد بعضا مما أثر عنهم مما يوضح جوانب عملية في التطبيق والفتوى في العصر الإسلامي الأول بكل ما يتمتع به من سهولة ويسر.

1- يقول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- في وصف منهج إخوانه من الصحابة والاقتداء بهم: "من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة"، "أولئك أصحاب محمد كانوا أفضل هذه الأمة وأبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا، اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم على أثرهم وسيرتهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم"([421]).

ويقول أيضًا: "إياكم والتنطع وإياكم والتعمق وعليكم بالعتيق"([422]).

هؤلاء هم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا هو منهجهم رسوخ في العلم وبعد عن التكلف وصلاح في القلوب ومقاومة للتنطع والتشدد لقد كانوا على الهدى المستقيم والطريق الواضح.

2- عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: (كنا عند عمر -رضي الله عنه- فسمعته يقول: "نهينا عن التكلف"([423]).

قال الدكتور صالح بن حميد: (هذه الصيغة وإن كان لها حكم المرفوع، غير أنها تدل على أن البعد عن التكلف هو منهج عمر وغيره من الصحابة)([424])، وقد مر عمر -رضي الله عنه- في طريق فسقط عليه شيء من ميزاب، فقال رجل مع عمر: (يا صاحب الميزاب، ماؤك طاهر أو نجس؟ فقال عمر -رضي الله عنه-: يا صاحب الميزاب لا تخبرنا، ومضى)([425]).

ب- التابعين:

نهج التابعون -رضي الله عنه- نهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام علما وعملا وتوجيها وإرشادًا واقتداء، ولقد كان من طريقهم البعد عن الشدة والتكلف والأخذ باليسير من الأمر وإليك أمثلة من أقوالهم.

1- قال الإمام الشعبي -رحمه الله-: (إذا اختلف عليك أمران فإن أيسرهما أقربهما إلى الحق([426]) لقوله تعالى:

(يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185]([427]).

2- وقال معمر([428]) وسفيان الثورى([429]): (إنما العلم أن تسمع بالرخصة من ثقة فأما التشديد فيحسنه كل أحد)([430]).

3- وقال إبراهيم النخعي([431]): (إذا تخالجك أمران فظن أن أحبها إلى الله أيسرهما)([432]) فإن المتأمل لهذه الآثار من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة يلحظ أن هذا المعنى غائب عن واقع وفهم كثير من المسلمين، وقليل منهم من يدرك هذه الحقيقة ويتعامل معها، حيث إنه يوجد هناك من لو سئل عن هذا الأمر لأجاب الإجابة الصحيحة، ولكن عند التأمل في واقعه وتعامله والتزامه ومنهجه لا نجد إلا الإفراط أو التفريط.

والعجب أن بعض هؤلاء كأنه أغير على دين الله من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بل من الله جل وعلا الذي يقول: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) [الحج: 78]، ويقول تعالى: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185]، ويقول: (يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا) [النساء:28].

وهذا لا يعني –أيضًا- التفريط والتساهل والتهاون بحجة أن هذا الدين يسر، والتوسعة إلى الشارع لا إلى أهواء الناس ورغباتهم وما ألفوه ودرجوا عليه، فلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا جفاء (كلا طرفي قصد الأمور ذميم) ثم إن قضية التيسير والتوسعة قضية منهج متكامل وليست تتعلق بجزئية أو جزئيات كما يتصور بعض الناس.

وبهذا التعريف والشمول ندرك أن هذا الأمر يندرج في منهج الوسطية، التي هي سمة من سمات هذه الأمة، وخاصية من خصائصها، فلن نستطيع أن ندرك حقيقة الوسطية إلا إذا فهمنا سمة اليسر والتوسعة ورفع الحرج، وألا تصبح الوسطية معنى مفرغا من حقيقته، وقولا نظريا لا وجود له في الواقع، وبذلك يفقد هذا الدين خاصة لها أثرها في حياة الناس ومآلهم(

الأكثر مشاركة في الفيس بوك