أمريكا اللاتينية والرؤية المستقبلية المشتركة للجمهور والسياسة

ريناتو جانين روبيرو

عادة ما تجدنا أَمْيَل ما نكون إلى أن ننجذب إلى تصور الثقافات كما لو كانت هي تنتظم انتظاما في بضعة كتل معدودة. وهكذا تجدنا نبادر إلى تصنيف الثقافات ضمن كتلة العالم الغربي (وأغلبه مسيحي العقيدة)، والعالم العربي أو لربما الإسلامي (وبين هذين المفهومين ما بينهما من التباين؛ إذ يحيلان على شعوب متباينة)، والعالم البوذي، وبعض كتل أخرى. لكن، علينا أن نستحضر بعض الفروق الدقيقة المهمة التي تقوم داخل كل كتلة من هذه الكتل المذكورة. وهكذا، فإنه لدينا في البرازيل، كما لدى معظم شعوب أمريكا الجنوبية، ما دعوته "ثقافة غربية منشقة انشقاقا قويا". فحتى بلد مثل البرازيل - الذي ما حافظ قط على سكانه الأصليين اللهم إلا فيما ندر- يختلف اختلافا تاما عن أوربا؛ بما في ذلك عن بلده الأم البرتغال، فضلا عن اختلافه عن أمم شمال الأطلسي. 

والحال أن العنصر القوي في ثقافة البرازيل -كما في ثقافات بعض شعوب أمريكيا اللاتينية- هو ذاك التعلق الوجداني الكبير بالمجتمع؛ وهذا يعني أن حكم القانون [سيادة القانون] والمقاربة العقلانية للعالم، ما كانا أبدا العنصرين الأساسيين عندنا. ولعل هذا الأمر هو الذي يقف خلف العديد من المشاكل التي عانت منها بلادنا، بما في ذلك استشراء الفساد على نطاق واسع. على أنه خلال العقد الأخير أو العقدين الماضيين توقف هذا الفارق عن أن يكون يشكل عائقا، ليستحيل بالضد من ذلك سمة فارقة مميزة إيجابية؛ وذلك بما أنه صار قادرا على إدماج أغلبية الساكنة التي تميل لغتها إلى الاستنارة بالعاطفة أكثر مما تميل إلى الاستهداء بالعقل؛ أعني إدماجها بتصيير أعضائها مواطنين فاعلين ونشطاء. ومن الأهمية بمكان صرف العناية إلى ما حدث منذ أن تقدم حزب العمال بقيادة "لولا"، المكنى عنه اختصارا بالحرفين الأوليين لتسمية الحزب P.T، الذي صار مقتدرا على مخاطبة الناس بشأن مسائل سياسية وبنبرة حديث مخالفة لتلك التي اعتدنا عليها خلال العقود السابقة، بل وحتى خلال القرون الماضية. 

ولقد كان الغرب قادرا طيلة القرون الخمسة الماضية على تأمين هيمنته على العالم برمته، وذلك باد في فرضه وجهات نظره الاقتصادية والاجتماعية وحتى الثقافية (لكن ما كانت هيمنته الثقافية والروحية على الدرجة نفسها من القوة التي تم بها البعدان الآخران، وذلك على الأقل بإفريقيا وآسيا). وهكذا - مثلا- صارت العديد من بلدان أمريكا اللاتينية "صفحة بيضاء" كتب عليها الغزاة ما أحبوا كتابته؛ إذ تم تدمير تماثيل الأهالي، وامتهان الديانات المحلية، واستعباد الرجال والنساء والأطفال. لكن في آسيا وإفريقيا تم احترام الأديان والعوائد على نحو أكبر. ومرد هذا الأمر - في جزء منه- إلى قوة النزوع الإسلامي. غير أن هذا الأمر حدث حتى بالنسبة إلى شعوب تحمل اعتقادات مختلفة. وبالجملة، فقدت أمريكا اللاتينية الكثير من مقومات ثقافتها الأصلية، هذا في حين استطاع الآسيويون والأفارقة صون العديد من مقومات ثقافتهم. 

وبطبيعة الحال، فإن هذا "الغرب" القوي التوسعي تم تحديده بوفق عدة طرق تحديد متباينة. لقد بدأ مع البرتغال وإبحاراته، ثم انتقل بعد ذلك إلى إسبانيا وإلى هيمنة آل هابسبورغ، وانتهى بعد ذلك إلى الخلاف بين الفرنسيين والبريطانيين حول السيطرة على العوالم الجديدة التي تم اكتشافها تباعا، بما في ذلك "الهندان"، الهند الشرقية والهند الغربية. ثم أفضى الأمر إلى "القرن الأمريكي"، القرن 21، حين صارت الولايات المتحدة الأمريكية البلد الأغنى والأكثر قوة في العالم. وحدث أن تغير خصوم الغرب بدورهم خلال هذه القرون: من المسلمين لما بدأ التوسع الغربي إلى السوفيات في القرن الأخير. وإلى حدود منتصف الألفية الثانية، كان الغرب -على وجه الدوام- يتم تحديه وهزيمته من لدن العرب. وابتداء من عشرينيات القرن الماضي حتى سبعينياته كاد الغرب يهزم من لدن العدوين الفاشستي والشيوعي. 

ولقد تغير معنى الثقافة الغربية بدوره أثناء انتشارها في عدة أوقات. ولربما أمكننا القول: إن سمتها الإيجابية الأصلية التي غلبت عليها إنما كانت هي حكم القانون أو سيادته. وهو الأمر الذي يعني أن من شأن القانون أن يكون مستقرا ومستقلا عن أهواء الحكام، وأن على المسائل القانونية أن تناقش من لدن قضاة مستقلين عن السلطة التنفيذية، وأنه ليس ينبغي للقانون أن يتغير بحسب مكانة الشخص؛ وإنما ينبغي أن ينطبق على الجميع على قدم المساواة. على أنه كان ثمة عيب أكيد أصاب هذا التحديد العظيم: لقد نزع هذا الأمر إلى خلق هوة سحيقة بين جماعتين اجتماعيتين أو إثنيتين؛ وذلك سواء في البلدان الأوربية أو- فيما بعد- في المستعمرات التي كانت منتشرة عبر أرجاء العالم. من جهة أولى، كان على جماعة أن تستفيد من كل الامتيازات التي يوفرها حكم القانون، وبعد ذلك أن تستفيد من القيم الديمقراطية والجمهورية معا. أما الجماعة الأخرى - من جهة ثانية- فقد كان يتم اعتبار أن لاحق لها في الاستفادة من مزايا المواطنة. وهكذا مثلا عُدَّ العبيد - فضلا عن السكان الأصليين في أغلب القارات التي استعمرها الأوربيون- سكانا من الدرجة الثانية أقل درجة من المواطنين. ومن حظ العديد من البلدان أنها ما خضعت أبدا إلى الاستعمار من لدن الأوربيين. 

ومع ذلك، أثبتت حقوق الإنسان والقيم المرتبطة بها أنها من القوة بحيث صارت تستجلب هي أكثر فأكثر أولئك الذين كانوا محرومين من جني فوائدها. ويمكن أن نضرب مثلا على ما نقول بالقارة الإفريقية التي كانت القارة الأخيرة التي تحصل على استقلالها؛ إذ سعى العديد من الأفارقة إلى الحصول على الحقوق المدنية نفسها مثل سائر أولئك الذين ولدوا بالدول المستعمرة القديمة. على أنه سوف يكون من غير المكتمل رسم صورة عن تاريخ القرون الخمسة الماضية، وذلك بالاقتصار على وصفها بأنها كانت انتصارا تدريجيا للقيم الغربية، وكذلك عولمة لها. والسبب في ذلك راجع إلى حقيقة مستجدة هي التي تكمل الصورة الناقضة. وهي أنه في العقود القليلة الماضية، أو لنقل: في السنوات القليلة الأخيرة، أمست مختلف الثقافات السياسية تعلن أن لديها ما تقوله في معنى السياسة وأن لها كلمتها في هذا المضمار. وما عادت تريد فحسب نقل ما ثبت بالعيان أنه كان ناجحا في الغرب، والسعي إلى تقليده، وإنما أمست تتطلع - بل وأحيانا تبدي الحاجة- إلى أن تضيف شيئا أصيلا يكون من عندياتها؛ شيئا خاصا بثقافتها وبقيم قوية قوة الحرية والديمقراطية، أو لنقل ببساطة: إنما أرادت أن تسهم بشيء يتعلق بالطريقة التي نعيش بها العيش المشترك. 

ولسوف أركز هاهنا في هذا المقام على الثقافات التي أعرفها معرفة أفضل؛ أعني ثقافة البرازيل وأمريكا اللاتينية. والحال أن إسهاماتنا الجوهرية في فهم الديمقراطية - بل وحتى في إعادة تشكيلها- لتتعلق - على الأرجح- بأهمية المشاعر والأحاسيس في السياسة؛ ذلك أنه كان قد تم من ذي قبل استبعاد العواطف استبعادا لطيفا من الديمقراطية والجمهورية بالغرب طوال القرون الأخيرة الماضية. وبصفة عامة، عُدَّ حضور الأحاسيس في حقل السياسة أمرا يسعى إلى تكريس التحيز. وهكذا، تم الاعتقاد بأن على القضاة أن يكونوا نزيهين ومحايدين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. وحتى الحكام المنتخبون - شأن الرؤساء والنواب البرلمانيين- كان عليهم أن يتجنبوا أن يكونوا متحيزين. وكان عليهم أن يمنعوا أن تتدخل عواطفهم في اتخاذهم لقراراتهم. وحتى العبارات التي عادة ما يستعملها الملوك من ذوي الحكم المطلق، نظير العبارة: "يسرني أن أصدر إليكم الأوامر بفعل كذا..."، كان عليها أن تفهم - من قبل في النظام القديم- على أنها مجرد تعابير ما كان لها أن تعني سوى أن إرادة الملك سبب كاف حتى يصير قرار معين قانونا. والأمر نفسه يقال بالإضافة إلى العبارة الرومانية "للأمر الذي يروق إلى الأمير قوة القانون"، والتي تفيد أن إرادة الأمير ـ أو لربما إرادة جمعية، بعدما كان عليهم أن يستبدلوا الأمراء باعتبارهم أصحاب سيادة، وذلك بعد الثورتين الإنجليزية والفرنسية ـ كانت كافية لسن قانون. ومع مر الأيام صارت السياسة عقلانية أكثر فأكثر. 

وعادة ما كان السياسيون الذين يلجأون إلى العواطف من بين رجال السياسة المحافظين؛ وذلك مثيل "هي لونغ" بلويزيانا و"هتلر" و"موسليني" بأوربا و"خوان بيرون" بالأرجنتين وطائفة من زعماء اليمين بالبرازيل؛ نظير كل من حاكم إقليم باهيا، "أنطونيو كارلوس ماغالهايس"، وحاكم إقليم ساوو باولو، "باولو سليم معلوف". لكن بغاية فهم ما هو قمين بالانتباه إليه حقا، يلزمنا أن نركز على هذين السياسيين البرازيليين؛ ذلك أن الأول كان له تأثير عارم في البلد على مدى أزيد من عقدين من الزمن. أما الثاني ـ وهو من أصل لبناني ـ فإنه كاد ينتخب رئيساً للبلاد عام 1985. وقد أمسى الرجلان عدوين لدودين عام 1984. على أن كل واحد منهما وظف رسما للقلب في دعايته؛ إذ كتب الأول اسم سلفادور ـ عاصمة باهيا ـ بتضمينه رسم قلب محل الحرف اللاتيني O، أما معلوف ـ الذي لطالما تمت إعادة انتخابه حاكما على إقليمه ـ فقد استعمل التعبير "أنا (يليها رسم يصور "قلبا") نيويورك؛ [أي أنا أحبّ نيويورك]" مستبدلا نيويورك بساوو باولو. فما كان عبارة سياحية غير سياسية بنيويورك استحال إلى أداة دعاية سياسية حقيقية بالبرازيل. وما كانت عمدة هذه القطعة المثمرة للدعاية السياسي سوى القلب، قلب العاطفة الوجدانية. 

ومن المهم كذلك أن نشير إلى أنه على الضد من هؤلاء الحكام الشعبويين اليمينيين، الذين كانوا ذوي شعبية واسعة في دوائرهم الانتخابية؛ فإن حزب فرناندو هنريكي كاردوزو ـ الحزب الاجتماعي الديمقراطي البرازيلي المعروف اختصارا بالأحرف الاختزالية اللاتينية PSDB ـ وقد كان الحزب المثقف، لجأ إلى استعمال شعارات شأن "النزاهة والكفاءة"، إلا أنه ما كان لهذه الشعارات ـ بطبيعة الحال ـ إلا تأثير شعبي أدنى مما كان للشعارات الشعبوية التي رفعها السياسيون السابقو الذكر. 

على أن المسألة المطروحة هي أنه منذ بداية حكومة الرئيس "لولا" تم استعمال سلسلة من الاستعارات من لدنه كان لها أثر بالغ على المنتخبين، بل حتى إنها صيرته أشهر رئيس في تاريخ البرازيل. وقد قارن التأخرات التي شهد عليها تنفيذ الوعود التي قطعها على نفسه إبان الحملة الانتخابية بالتسعة أشهر التي تستلزم ولادة المولود، أو بالحولين الذين يلزمانه حتى يدرج، أو بالعشر سنين التي تلزم شجرة العنب البرازيلية الشهيرة ـ المدعوة شجرة "جابوتيكاباس" ـ حتى تأتي ثمارها الشهية. أما سلفه العالم فرناندو هنريكي كاردوزو، فإنه كان يفضل الاستشهاد بماكس فيبر لكي يعدد آجال التأخير نفسه التي يستلزمها تنفيذ سياساته. لكن يبدو من البدهي أن التسويغ للتأخيرات الذي تم التعبير عنه بوفق لغة التجربة الوجدانية أنفذ إلى قلوب الجماهير من ذاك الذي استعمل أفضل المراجع الأكاديمية. 

وأيا يكن الأمر، فإنه لئن كان "لولا" قد اقتدر على تعويض ما سميته في مكان آخر "الوجدانية ذات السلطان"، أو قُلْ: "العاطفية النافذة المؤثرة" بشيء يمكن أن يدشن ضربا جديدا من "الديمقراطية العاطفية"(1) -المهتمة أكثر بالفقراء- فإن الواقع الذي واجهه ما كان ليختلف اختلافا جذريا عن ذاك الواقع الذي يمكن أن يشاهد في الولايات المتحدة الأمريكية أو في فرنسا أو في إيطاليا؛ ذلك أن كل هذه البلدان لما كانت وقتها أشد افتخارا بسياساتها من اليوم، إنما انتخبت رؤساء أو رؤساء وزراء كانوا من علية القوم، أكثر مما كانوا من عوام الناس. وهكذا، فإن رجال دولة من عيار فرانكلين روزفلت وجون كيندي وشارل دوغول وفرانسوا ميتران إنما كانوا أكثر ثقافة، كما كانوا سليلي طبقات راقية، وذلك حتى وإن كانت سياستهم اقتدرت على مساعدة الساكنة الفقيرة. على أنه في العشريات الأخيرة، وجدنا أكثر فأكثر رجال سياسة ينحدرون من العوام. وما كان عليهم - لا ولا كان ينبغي لهم- أن يكشفوا لمنتخبيهم عن ثقافة عليا أو يُبدوا قدرة فكرية راقية، بوسمها مزايا يراهنون عليها ويعتدون بها، وإنما صارت هذه المزايا بالضد عوائق مانعة. ذلك أن زعماء أنظار جورج بوش الابن ونيكولا ساركوزي وبرلسكوني إنما عرف عنهم - أحق ذلك أم بطل- أنهم أقل ثقافة من خصومهم السياسيين أو من النخب التي حكمت بلادهم من قبل. ولقد تقدم أنه في بلدانهم، حتى لو كانت السلطة تمنح من لدن التصويت الشعبي، فإن الناس تعودوا على أن ينتخبوا رؤساءهم ورؤساء وزرائهم من بين "أفضل" الناس؛ أي من بين أولئك الذين يملكون الثقافة والثروة. والحال أن هذا الأمر ما عاد بمثل ما كان عليه؛ إذ صار على الناس اليوم أن يصوتوا للأشخاص الذين يعتبرونهم أشبه ما يكونون بهم، وليس أجدر منهم وأحق بحكمهم. وهذا يعني أن نمطا جديدا من الخطاب السياسي سائر في طريقه إلى أن يصير هو المعيار. 

وفي الفترة الأخيرة، كنت قد أجريت حوارا مع الرئيس البرازيلي السابق فرناندو هنريكي كاردوزو واستطلعت رأيه في هذا الأمر، ولقد سألته بالخصوص عما كان حققه الزعيم الشعبي الكبير غيتوليو فارغاس الذي كان ديكتاتورا في البرازيل من عام 1930 إلى عام 1945، فرئيسا من عام 1951 إلى عام 1954. وكان حقا هو صاحب الفضل في معظم الحقوق الاجتماعية التي يتمتع بها العمال اليوم؛ إذ تم إنشاء العديد من الاتحادات العمالية بإيعاز منه. وقد أجابني كاردوزو بالقول: "[على الرغم من الفارق بيني وبين "لولا"]، فإننا معا بادرنا بالتوجه بالحديث إلى الجماهير. أما في أوقات أخرى، فما كان الأمر يستدعي ذلك. ما كان على غيتوليو فارغاس أن يتحدث إلى الجماهير بمثلما صرنا نفعل اليوم؛ إذ كان يلقي على الناس خطبا فضفاضة ومضجرة". ولما سألت كاردوزو عما إذا كان الناس البسطاء يفهمون ما كان يلقيه عليهم فارغاس، أضاف: "أنا لا أعتقد ذلك؛ إنما كان على الناس أن يدركوا رمزا. كان يتحدث إلى الجماهير وقد ارتدى قبعة والسيجارة في فمه، بل لعب حتى الغولف. يبدو هذا الأمر غريبا، لكن في تلك الأزمان كانت وسائل التواصل التي يحظى بها المجتمع أقل مما صار متوفرا منها له اليوم، وكانت رقابة الدولة أشد". كان كاردوزو -الذي ما كان من رجال السياسة الشعبويين- قادرا على أن يرسم لنفسه صورة تظهر أنه أفضل من فارغاس؛ هذا الذي اعتبر لزمن طويل الزعيم الشعبي النموذجي بالبرازيل. ويعتبر كاردوزو نفسه مختلفا عن "لولا"؛ وذلك بحكم كونه "أكثر عقلانية". إلا أنه سرعان ما يضيف بأن "لولا": "يستعمل العقل" على مستوى الحس المشترك، حتى يفهمني [يفهمه] الناس. لكل واحد طريقته الخاصة في التعبير عن ذاته، لكن لئن أنت لم تتصور أي طريق [للتعبير عن ذاتك]، ولئن أنت لم تذهب إلى أبعد من طوقك، كيف لك إذن أن تصير آنها زعيما سياسيا؟ كلا، ليس لك أن تصير كذلك قطعا"(2). وإذا كان الرئيس أوباما قد قال عقب لقائهما الأول عن "لولا" إنه: "الفتى"(2 أبريل 2009)، قاصدا بذلك أن "لولا" كان أشهر زعيم سياسي في العالم، فلأن ذلك كان على الأرجح بسبب قدرة "لولا" الكارزمائية، وهي المقدرة التي أضحى المطلوب من معظم رجال السياسة اليوم أن يتقاسموها، تحت طائلة أن افتقادهم إليها يعجزهم عن قيادة شعوبهم. ويبدو أن الأمر يتضمن الإعلان عن نهاية عهد حكم "الحاكم النبيل"، وذلك مثلما يقتضي بروز رجال سياسة جدد ذوي شعبية. 

وإني سوف أجازف ههنا بطرح فرضية، وهي أن تلك البلدان - التي اعتبرت إلى حد الآن أكثر الدول ديمقراطية واقتصاداتها، الاقتصادات الأفضل- إنما صارت تبدي مؤخرا مسيس الحاجة إلى طراز جديد من الزعامة، وقد أمست السمة الوجدانية أو العاطفية مطلبا بارزا عند -إذا ساغ القول- توصيف هؤلاء الزعماء الجدد، وراح الشعب -ولست أعني هاهنا الشعب المثالي الذي لطالما تحدثت عنه الفلسفة السياسية الكلاسيكية، لا ولا أنا أقصد الفاعل العاقل الذي تحدث عنه بعض علماء السياسة المحدثين- يستحدث أجندة سياسية جديدة، بحيث أمسى مطلب التواصل هو الأساس؛ بمعنى أنه صار على الزعماء أن يكونوا قادرين على التجديد الدائم لما يعتقدون فيه، وذلك تبعا لكونهم ناطقين باسم أغلب الناس ومتحدثين إليهم أيضا. ولقد أتى على الناس حين من الدهر كان المطلوب فيه من الزعماء أن يتحدثوا باسم شعوبهم، على نحو ما كان يفعل الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت منذ ثمانين حولا خلت، لكن مع فارق كبير، وهو أن الرئيس الأمريكي الذي وضع سياسة "الخطة الجديدة" كان عليه أن يخفي عن شعبه أنه كان مقعدا؛ بينما لو حدث هذا الأمر اليوم لكانت سوف تعدّ هذه الخاصية السمة البارزة في شخصيته؛ ذلك أن مرضه الذي كان سيمنعه من أن يصير رئيسا في الثلاثينيات من القرن الماضي، هو بالضد اليوم ما يمكن أن يحملنا على أن ننظر إليه بنظرة ملؤها الإعجاب، وذلك لدرجة أنه يمكن أن يشكل إحدى أهم نقط قوته الأساسية(3). 

وأخيرا، فإن هذه الرياح التي تهب من أمريكا اللاتينية، حيث يعتبر الناس أكثر بساطة وانبساطا وعفوية، وما كانوا بالعقلانيين الصارمين، وأشد عاطفية ووجدانية وانطلاقا من بلدان شمال الأطلسي، يمكنهم أن يكونوا الأقدر على إعادة تشكيل الطريقة التي فهمت بها السياسة ومورست بوفقها حتى أيامنا هذه. وإذا ما كان على المجتمعات الحديثة أن تدمج الناس أكثر فأكثر، وإذا كان الناس الأقل تعلما والأدنى ثقافة ـ كما يقال ـ منذ قرن خلى، صاروا اليوم يقررون منح أصواتهم برغبة منهم وليس بناء على تقليد قدرة "خيارهم"؛ أي النبلاء والأرستقراطيين، فإن التواصل اللفظي والعقلاني صار مطالبا بأن يترك مكانا أوسع للتواصل غير اللفظي ولسمات التواصل المدعوة "غير عقلانية". فإذن يلزم أخذ المشاعر بعين الاعتبار. وإن التحدي الأكبر لهو تشكيل وجدانية جديدة؛ تشكيل شيء عليه أن يقطع مع استعمالات للعواطف بالية تمنع الناس من إعمال فكرهم وتصيرّ الواحد منهم إِمَّعَة إِمَّرَة في الحياة السياسية. والحقيقة أنه لن يكون القيام بهذا الأمر شأنا سهلا، لكن مع ذلك يبقى أمرا ممكن التحقيق. إنما الشيء الذي يتطلبه القيام بهذا الأمر هو بذل جهد كبير ليس فحسب في الحقول السياسية؛ وإنما أيضا بل وأساسا في حقول ذات طبيعة تربوية. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1) راجع كتابي: 

O afeto autoritário: televisão, ética e democracia, São Paulo: Ateliê editorial, 2004

2) تم نشر الحوار بالمصدر التالي: 

Sociologia, ciência e vida¸30 (2010)

وهو متوفر بالموقع التالي: 

athttp://sociologiacienciaevida.uol.com.br/ESSO/Edicoes/30/artigo181631-1.asp.

3) علينا ألا ننسى أنه في عام 2008 كان إفريقي أمريكي وامرأة مرشحين عن الحزب الديمقراطي ذوي حظ لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية. والحال أن إمكان تجاوز الصعوبات، مثل أن يكون المرء مقعدا أو أفريقيا أمريكيا أو امرأة، صار أمرا يمكن أن يكون إيجابيا.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/10/210

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك