المؤسسات الدينية الإسلامية والزمن الإصلاحي.. التجديد والطهورية

مسفر بن علي القحطاني

مقدمة:

المؤسسات الدينية في الغالب هي قرون استشعار أي تحولات وإصلاحات تمر بها المجتمعات الإنسانية، فالتصاقها بالمجتمع وتقاربها مع مختلف مكوناته؛ تجعل لديها القدرة الاستشعارية لملاحظة أي حراك سياسي ومجتمعي، وفي بعض الأحوال تكون القائد والمحرك التغييري للمجتمع، ويتعاظم دورها وتتوسع سيطرتها بتحالف السلطة السياسية معها، حينها سيشكلان ثنائيا مستبدا يرضخ فيه الدين والمجتمع لإملاءات وتأويلات رجال الدين والسياسة كما في مثال (الإكليدوس) في العصور الوسطى، هذا التوصيف يصدق في مؤسسات الدولة ذات المرجعية الدينية، بخلاف ما لو كانت الدولة علمانية وفي مجتمع ليبرالي حيث تقبع المؤسسات الدينية في أقل الدوائر تأثيرا، ويتصاغر دورها في مجالات اختيار الأفراد في بعض شؤونهم الشخصية، أو في بعض أعيادهم ومناسباتهم الدينية، ليبقى الأثر فرديا أكثر منه مجتمعيا. 

وأما المؤسسات الدينية في الإسلام -سواء أكانت قضائية أم إفتائية أم تعليمية-فمرجعيتها التامة للوحي؛ حيث جعل لديها تناغما تتوافق عليها دون اختلاف لوضوح دلالة معنى الوحي وثبوت سنده؛ وهذا ما يتعلق بالقطعي من الشريعة، أما الظني منها فهو يعطي مساحةً واسعةً للنقاش والاجتهاد، أثمرت تنوعا في المدارس الفقهية التي لا تزال حتى اليوم، أما من الناحية التاريخية لدور المؤسسات الدينية في الإسلام فقد اكتسبت في عهد النشأة الأولى وفي عصور الخلافة الإسلامية وما بعدها سلطان شبه مستقلة، لم يمنعها من الاستقلال التام والشمولي غير سلطان الخليفة أو الحاكم العام الذي يهيمن على كافة مؤسسات الدولة والدين، ولا يختلف الحال اليوم بالنسبة للدولة الحديثة فلا تزال الهيبة الدينية بمؤسساتها المختلفة تحظى بحضور مجتمعي يتفوق على معظم مؤسسات الدولة المدنية، حتى لو رفعت الدولة شعار العلمانية في دساتيرها.

وهنا يأتي السؤال المحوري لهذه الورقة حول دور هذه المؤسسات الدينية في عصر المطالبات الإصلاحية التي تشهدها المنطقة العربية اليوم، ومدى قدرتها لتقديم الحلول الناجعة لمشكلات المجتمع الراهنة وتطوير أدائها لمواجهة التحديات المستقبلية، وبتحليل هذا الواقع لمعرفة الإجابة من خلال دور مؤسسات الفتيا والقضاء والتعليم الديني؛ فإن الواقع المشهود يُشعر بضعف ملحوظ في التصدي لهذه المشكلات، وتقاعس عن بلوغ المأمول الذي تستلهمه الجماهير، ويمكن رصد أهم هذه الإشكالات من خلال الإشارة للجانب التجديدي والطهوري المنفكين عن لوثات التقليد وملوثات السياسة والنفعية المادية، ولعلي أبرز في هذه الورقة الحديث عن المؤسسة القضائية والسلطة الفقهية في شقيها التعليمي والاجتهادي.

أولا: المؤسسات القضائية: التجديد والطهورية

تشهد المؤسسات القضائية في عالمنا العربي شللا يبطّئ قدرتها على مواكبة احتياجات الناس لفضّ خصوماتهم وتسوية خلافاتهم، وتخلفا عن إدخال التقنيات المعاصرة التي تدفع بتجاوز البيروقراطية الإدارية إلا في معاملات قليلة وأحيانا غاية في التعقيد، كما أن هناك تأخرا كبيرا في مواعيد الجلسات القضائية أدت إلى تحول الكثير من الشركات والأفراد نحو الجهات الدولية للتحكيم بدلا من إنهائها في أروقة المحاكم الشرعية.

وأهم ما يجب عمله ابتداءً لإصلاح الجهاز المؤسسي للقضاء في شقيه التجديدي والطهوري؛ هو التأكيد على استقلال القضاء وإزالة العقبات المانعة من ذلك، بما يؤكد صراحةً أن مبدأ استقلال القضاء يجب ألا يخضع لغير سلطان الحق والعدل، بما يدل عليه من كفاءة القاضي ونزاهته واجتهاده في الحكم، مع ضمان العمل والتطبيق من دون تدخل أي سلطة في مسيرة التنفيذ، لهذا ينبغي النظر عند التحقق من استقلالية القضاء في دولة ما؛ النظر إلى مدى عدم خضوع القضاء قسرياً لأي سلطة أخرى في شؤونه المالية والإدارية والتأديبية، فإذا كان خاضعاً لسلطة أخرى في أي من هذه النواحي؛ فإن هذا يمثل طعناً في استقلاليته وحياده. ومبدأ فصل السلطات في دولة القانون يأتي على أساس استقلال السلطات الثلاث الرئيسة في أي نظام سياسي وهي (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، وهذا مبدأ أساس ظهر في ممارسات النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- من خلال فصله بين تصرفاته كقاضي وحاكم ونبي رسول، وقد استفرغ الإمام القرافي في بيان الفصل بينهما (1)، ليؤكد مبدأ عدم التداخل بين تلك التصرفات التي استقرت عمليا في بعض مراحل تاريخنا الإسلامي. 

والنظريات السياسية المعاصرة استقرت على أهمية هذا المبدأ، والنظام الديموقراطي الحديث يعمل على "تنظيم الفصل": مثل فصل المهن أو تقسيم العمل، فصل السلطات، فصل الكنيسة عن الدولة، الفصل بين المجتمع المدني والدولة، ويبدو هنا فصل السلطات -في المقام الأول- كمبدأ تقسيم تقني لعمل الدولة. لهذا ميّز أرسطو في كتابه (السياسة) بين فئات من السلطة، مع أنه لم يتحدث عن "فصل سلطات"، وإنما كان يبحث عن عقلنة تنظيم الحاضرة مميزاً بين وظيفة المداولة، ووظيفة التنفيذ، ووظيفة القضاء (2).

ثم ظهرت النظرية الكلاسيكية لفصل السلطات في عصر التنوير، في كتاب جون لوك في القرن السابع عشر (1632 - 1704) حول "الحكومة المدنية". ومونتسكيو في القرن الثامن عشر (1689 - 1755) في كتاب (روح القوانين)، وارتبطت بالفلسفة السائدة في ذلك العصر(3).

وجون لوك لما كتب حول هذا الموضوع أعطى الذين يمتلكون السلطة: سلطة وضع القوانين، وسلطة تنفيذها، وهذا الأمر يثير إغراءات قوية جداً عند هؤلاء لتجاوز سلطتهم، نظراً إلى طبيعة الإنسان المبنية على نزعات الطموح. من هنا ظهرت ضرورة فصل السلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية، ولم يتحدث عن السلطة القضائية(4). 

أما مونتسكيو فكتب أنه عندما تجتمع السلطة التشريعية مع السلطة التنفيذية في الشخص نفسه، أو الهيئة السيادية نفسها تختفي الحرية؛ لأن الملك نفسه أو مجلس الشيوخ سيصدر القوانين الجائرة لينفذها بجور. كما لا توجد الحرية أيضاً إذا كانت السلطة القضائية غير مفصولة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية. فإن كانت مُنضمّة إلى سلطة التشريع تصبح تعسفية على حياة المواطنين وحرياتهم؛ لأن القاضي يصبح مشرّعاً، وإذا كانت مُنضمّة إلى السلطة المنفذة، فإن القاضي سيملك سلطة الطاغية. وعليه فإنه يدعو إلى حكومة "اعتدال"؛ لأن الحريات العامة لا يمكن أن توجد إلا في ظل مثل تلك الحكومة(5).

وبالرغم أن جميع الدساتير العربية تنص على استقلال القضاء فإن هناك خروقات لا تمنحه الطهورية أو التجديد، لذلك أكدّت المواثيق الحقوقية والإعلانات العالمية التي صادقت عليها كثير من الدول العربية على استقلال القضاء بشكل تام، مثل ما جاء في (م10) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948م حيث تشير إلى أنه: "لكل إنسان الحق -علي قدم المساواة التامة مع الآخرين- في أن تنظر قضيته أمام محكمة مستقلة نزيهة نظراً عادلاً علنياً للفصل في حقوقه والتزاماته وأية تهمة جنائية توجه إليه". 

وقد أكدت لجنة حقوق الإنسان في مؤتمر "سانتياجو" سنة 1961 على أن "وجود قضاء مستقل يعد أفضل الضمانات للحريات الشخصية، وأنه يتعين وجود نصوص دستورية أو قانونية ترصد لتأمين استقلال السلطة القضائية من الضغوط السياسية وتأثير سلطات الدولة الأخرى عليها، وذلك بالحيلولة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية وبين ممارسة أية وظيفة قضائية أو التدخل في إجراءات القضاء". وفي السياق نفسه، نجد العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي اُعتمد وعرض للتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 2200 أ د -21 (المؤرخ في 16 ديسمبر 1966 تاريخ بدء النفاذ: 24 مارس 1976) وهو يؤكد في (م 14) منه علي أن "الناس جميعا سواء أمام القضاء، ومن حق كل فرد -لدي الفصل في أية تهمة جزائية توجه إليه أو في حقوقه والتزاماته في أية دعوى مدنية- أن تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من قبل محكمة مختصة مستقلة حيادية، منشأة بحكم القانون".

أما واقع القضاء في البلدان العربية فإنه يشكو الكثير من الانتهاكات لمبدأ استقلال القضاء، أذكر منها على سبيل المثال: 

1- تعيينات القضاة وترقياتهم غالبا ما تكون بيد السلطة التنفيذية، أو تجري بطريقة لا تضمن النزاهة في الاختيار والترقية؛ وخاصة من على رأس السلطة القضائية سواء أكان كبير القضاة، أم رئيس مجلس القضاء أم رئيس المحكمة الدستورية أم غيرهم من أصحاب المناصب العليا الذين قد يؤثر تَدَخُّلُ مَنَ عَيَّنهم في طبيعة عملهم واستقلالهم بأحكامهم.

2- عدم استقلالية النواحي المالية والإدارية الخاصة بالقضاء وبقاؤها في يد السلطة التنفيذية، مما يجعل القاضي تابعا في أكثر أموره التنفيذية والإدارية لسلطة أخرى غير القضاء.

3- محاسبة القاضي أو عزله لا ينبغي أن تتدخل فيه أي سلطة أخرى غير السلطة القضائية، من أجل مراعاة حقه في الحصانة وأن يكون التأديب أو المحاكمة ممن يوازي مرتبته التنظيمية.

4- من التجاوزات التي تقع في صلاحيات السلطة القضائية إلزامها بالتعاميم والقرارات الإدارية للوزارات التنفيذية التي تتعارض مع استقلالية القاضي في النظر، فينبغي أن تكون هذه القرارات مُعْلمة ولا ينبغي أن تصل إلى درجة الإلزام في التنفيذ وهي من اختصاص القضاء.

5- وجود محاكم استثنائية تمارس الدور القضائي يتم تعيينها بقرارات رئاسية تخالف استقلال القضاء وتبعية الأجهزة القضائية، كالمحاكم العسكرية والأمنية والاستثمارية وغيرها.

6- عدم وجود رقابة قضائية على دستورية بعض النظم والقوانين، بحيث تصبح المحاكم العليا أو الدستورية هي المخولة بالرقابة والضمان لسلامة التشريعات في البلاد(6).

ثانيا: سلطة الفقه.. ودورها الإصلاحي:

الحديث عن السلطة في الإسلام يعد من الموضوعات الشائكة والملتبسة، وتخضع أدبياتها لمن يملك القوة والمكانة في المجتمع، ولذا غلب إطلاقها على السلطة الحاكمة لنفوذها الغالب على كافة مكونات المجتمع، كما أن وجود سلطات أخرى في المجتمع الإسلامي أدى لمزاحمة السلطة السياسية، وهذا بدوره أدى إلى الدخول في صراعات حادة أظهرت عددا من الفرق الإسلامية، أما المعتزلة -كفرقة تأسست على نظرية خاصة للسلطة - فقد جعلت من ضمن أهم أصولها المعتمدة مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كمبرر تشريعي يدفع السلطة إلى عدم الاتكاء التأويلي على الطاعة الجبرية التي تعززت في العهد الأموي، أما صراع الشيعة مع السلطة فهو الأوضح في جانبه العقدي من حيث اعتماد قول الأئمة الإثني عشر نصا بحد ذاته وسلطة دينية ومدنية واحدة في دوامة (الاستنصاص والتنصيص)(7)؛ أي طلب النص بعد الحاجة إليه وتصنيع النص بطريقة تريكيبية موافقة للأحداث، حصل ذلك من خلال تطوير ولاية الإمام المعصوم إلى ولاية الفقيه بعد التوقف الزمني للتداول الوراثي للسلطة في عصر الغيبة، ولم تَسلم تلك المنازعات من انتقادات علمية واسعة سواء من طرف السلطة الشرعية أو السلطات المنافسة لها.

والمراد من طرح فكرة سلطة الفقيه هنا، هو معرفة مدى شرعية تلك السلطة وما هو استمدادها الشرعي وما هي المساحة المجتمعية المتأثرة بها؟ هذه التساؤلات تقضي أن نرسم دلالات مفهوم (السلطة) أولا لنعرف مدى التقاطع والتوافق مع السلطة السياسية ذات الحكم المطلق في المجتمع.

فالسلطة في المعنى اللغوي هي السيطرة والتمكّن والقهر والتحكم، ومنها اُستمد معنى السلطان؛ أي صاحب ولاية التحكم والسيطرة في الدولة، ولها معانٍ عدة: كالسلطة النفسية، التي تعني قدرة الإنسان على فرض إرادته على الآخرين؛ لقوة شخصيته وثبات جنانه وحسن إشارته وسحر بيانه، وهناك السلطة الشرعية: وهي السلطة المعترف بها في القانون كسلطة الحاكم والوالد والقائد، وهناك أيضا السلطة الدينية: التي تتقرر من الوحي والنص الديني، واجتهادات الأئمة في تأويله، وجمع السلطة سُلُطات، وهي الأجهزة الاجتماعية التي تمارس السلطة كالسلطات السياسية، والتربوية، والقضائية وغيرها(8).

فالمعنى اللغوي والاستخدام الفقهي للسلطة في الغالب يستعمل في سلطة الحاكم العام، خليفةً أو أميراً، لكن هناك أنواعا من السلطات التي فرضت قوتها بفعل النص التشريعي، كسلطة الإفتاء أو سلطة القضاء التي تكمن قوتها من استقلالها التام، وعدم تبعيتها لأي سلطة أخرى، أو أنواع السلطات التي تأتي من خلال التفويض السياسي من صاحب السلطة الأعلى إلى من هم دونه، كسلطة المحتسب على السوق أو سلطة الوالي الشرعية على إقليمه الخاص، فتبقى تابعة غير مستقلة إلا في حدود المهمة المناطة بها من الحاكم العام أو الخليفة.

ويبقى السؤال الأكثر إلحاحا ومعاصرة وهو مقصودنا من التناول؛ والمتعلق بسلطة الفقيه سواء مارس الإفتاء أو الاجتهاد أو التبليغ والتعليم، ما نوعها ومشروعيتها في الاستحواذ والتمكن على سيادة المجتمع في مجاله الفكري والاجتماعي؟ وهل ستكون أنموذجا للتجديد والطهورية؟ وفي هذا نجد الدكتور عبد المجيد الصغير يشير "أنه رغم عدم امتلاك العالم أو الفيلسوف (ومثلهم الفقيه) لزمام القرار؛ فهو يمتلك قدرة على التحليل، والتقويم، ومؤهل للنقد، والتأثير، والتوجيه، الشيء الذي يجعل معرفته (سلطة) مؤثرة وبالتالي منافسة لتلك التي يتمتع بها رجل السياسة"(9).

ويكفي في إثبات مصداقية السلطة الفقهية، دورها التشريعي والاجتهادي الذي يجعلها محط أنظار الخلق في معرفة مراد الحق سبحانه وتعالى فيما ينزل بهم من وقائع لا نص صريح يثبت حكم الله تعالى فيها، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أو الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (سورة النساء: 83) أو كما جاء في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ (سورة النساء: 59) فهنا جاء الأمر بالردّ إلى أولي الأمر في معرفة مراد الشرع فيما ينزل ويستجد، وهو تقرير رباني بالرجوع لهم، يقول ابن القيم في معنى ولاة الأمر بعدما ذكر الخلاف هل هم الأمراء أو العلماء: "والصحيح أنها متناولة للصنفين جميعا؛ فإن العلماء والأمراء: ولاة الأمر، الذي بعث الله به رسوله؛ فإن العلماء ولاته حفظا وبيانا وذبا عنه وردا على من ألحد فيه وزاغ عنه وقد وكلهم الله بذلك"(10).

وبالتالي تتجه الأنظار إلى علماء الشريعة لرفع الحرج وإيجاد الحل للمشكل الفقهي أو المعرفي الذي وقع الناس فيه، وهذه المكانة تؤسس في القلوب انجذابا واحتياجا للفقيه، وتنعكس على الواقع سلطة شرعية تمنح العلماء الطاعة والقبول، فإذا مارسوا معها العمل القضائي فإن سلطة عليا تنافس سلطة الحاكم قد تهيأت لهم وزادت من نفوذ سلطتهم الفكرية والمجتمعية على كافة الأفراد. والتاريخ قد أثبت لعدد من علماء الإسلام هذه المنحة السلطوية لأجل مهمتهم في التبليغ والتحكيم، جعلت منهم أحيانا المرجعية العليا في الدولة، كما حصل للعز بن عبد السلام وموقفه من المماليك حتى لقّب بسلطان العلماء وبائع الملوك، أو كما حصل على النقيض من ذلك من حيث النتيجة؛ عندما تصادمت السلطة الفقهية مع السلطة السياسية في ثورة الفقهاء تحت راية ابن الأشعث في مقابل سلطة الخليفة والممثلة بالحجاج بن يوسف، وانتهت بانهزام الفقهاء في معركة دير الجماجم، وما حصل بين أهل الحديث بزعامة أحمد بن نصر الخزاعي والخليفة المأمون وانتهت كذلك لصالح الخليفة، هذه الصراعات تمثّل ذروة الصدام بين سلطة الفقهاء وسلطة الحاكم، ومع وقوع هذا الصدام الشرس بين السلطتين؛فإننا يجب ألا نختزل العلاقة بينهما بهذه الصور الحادة من المواجهة؛ بل هناك مساحة شاسعة ومتعددة الألوان من العلاقات التكاملية والأدوار المتبادلة ما سمحت بوجود سلم سلطوي بين تلك المكونات المجتمعية.

وإذا ركزنا الحديث على واقعنا المعاصر فإن الحالة التصالحية تغلب الحالة التصادمية بين تلك السلطات وكلاهما موجود؛ إلا أن نسبة توافق الفقهاء مع سلطة الحاكم تكاد تكون هي الغالبة في المشهد الفقهي والسياسي، ولعلي أعلق على ذلك ببعض المسائل على النحو التالي: 

أوَّلا: تحولت في كثير من المجتمعات الإسلامية سلطة الفقهاء إلى ديوان مخملي في البلاط الحاكم باسم فقهاء السلطة، الخاضعين لأهواء الدولة بالترغيب أو بالترهيب أحيانا، ما جعل هذا الخضوع سببا لكثير من الظلم والاستبداد والفساد مارسته السلطة دون خوف من الرقابة الدينية التي أصبحت جزءًا من المنظومة الحاكمة، وأصبحت حتى المخالفات الدينية الصريحة مبررة بالطاعة العمياء والتسليم السلبي لأهواء السياسية، وعلى العكس من ذلك التطرف، هناك من نازع السلطان في ثوب حُكمه، وتطفّل على مهامه، وطلب خصومته من غير مبرر شرعي يقتضي هذا الخصام الخطير، وحشد بالتالي كل النصوص وأقوال السلف التي تبرر له الخروج عن الطاعة وإحداث المواجهة، من خلال تأويل يخالف مقاصد الشرع الكلية ومصالحه القطعية، وتوظيف للأحداث التاريخية التي مرّت في عهد ثورات الطالبيين وبعض التابعين، وبذا تحتاج المجتمعات الإسلامية اليوم دورا معتدلا وسطيا للفقهاء، يعززون فيه سلطتهم الدينية بالتكامل الإيجابي مع الدولة نصحا وإرشادا، والمحافظة على سيرها دون جنوح وانحراف، ثم التعالي على إغراءات المال والمناصب مع عدم التعالي عن حاجات الناس ومطالبهم المعاشية، وهذا الأنموذج الصالح هو الصمام الوقائي من انفلات السلطة عن عقال الرشد، أو انفلات المجتمع نحو التمرد والغضب.

ثانيا: أن أساس سلطة الفقيه أو العالم الديني ليس في منصبه الحكومي أو نفوذه الجماهيري، بل تكمن سلطته في قوته العلمية وسيرته الذاتية ومدى تحقق العدالة والحيادية في حياته، مع البرهان المعرفي والحجج العقلية التي تمنح له القبول والانتشار في المجتمع، وهذه قبل أن تنتج سلطة مطاعة لهذا العالم أو الفقيه هي تحمّله مسؤولية النصح لله والتواضع للخلق. وعلى هذا الأساس خفتت تلك السلطة من الظهور في المجتمعات المعاصرة إلا في حالات محدودة، ما يجعل بروز هذا الأنموذج الفريد يتطلب وجود محاضن تربوية وتعليمية تضمن التأهل العلمي والتزكية النفسية لتعيد للمجتمع توازنه التكويني بوجود العلماء الناصحين المصلحين.

ثالثا: يحتاج الفقيه المعاصر -لتبقى له المرجعية المجتمعية والسلطة التأثيرية على الأفراد - أن يطوّر خطابه الفقهي ويجدّد أسلوبه البلاغي، بحيث يكون أسرع الناظرين للمعطيات الحديثة والإفادة منها، والخطاب الفقهي عليه ان يتجاوز حاجة الفرد لمعرفة مسائله الطبيعية المتكررة إلى حاجات المجتمع التي تتطلب إصلاحا لمؤسسات الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا يمكن أن يتطور هذا الخطاب إلا إذا انطلق في اجتهاده من المقاصد الكلية للشريعة واستفاد من تجارب الأمم وثقافات الحضارات المختلفة، وأبدع حلولا جديدة وأسس لمنهجية تفكيرية عصرية هي فريضة العصر التي يفهمها جيل اليوم، فعلى سبيل المثال: هناك أزمات اقتصادية تخنق الكثير من المجتمعات الإنسانية، فالاجتهاد في حلولها بالعودة لمقصد حفظ المال واستلهام القواعد المصلحية الحاكمة التي جاءت في الكتاب والسنة، كتحريم الربا والغرر والقمار والميسر والضرر، وفتح البدائل عند المنع كالقرض الحسن، والمشاركة المتبادلة، والضمانات لصحة التعاقدات بين الناس مع رفع الحرج والتوسعة عند الاحتياج العام، مما يعين الفقيه المعاصر على تقديم نظرية علاجية قد تطور أدوات الحل العالمية، كما أن الخطاب الفكري ببراهينه العقلية ينبغي أن يكون حاضرا في لغة الفقيه لمزيد الإقناع وإثبات الحِجاج، حينها سوف يدخله في العالمية التي تتجاوز خصوصيته الدينية والجغرافية.

رابعا: قد يبلغ الفقيه والعالم منزلةً بين جمهوره وأتباعه من خلال دعوى احتكاره الصواب وزعمه الوصول للحق في آرائه واجتهاداته، وهذا الحال المشهود في كثير من الدوائر العلمية بروزه ينذر بروح المغالبة في توسيع مساحات التأثير بين الأتباع والجمهور، وقد يكون بسبب تأثير التلاميذ التعصبي لآراء أشياخهم، ما يجعلهم يكسبونهم هالة الصحة وأحيانا العصمة، ويترك المجتمع مشتت الانتماء بين الفقهاء والمشايخ، وليس على أساس المشروعات والمبادرات المجتمعية العامة التي ينتفع بها الفرد في معاشه ومتطلباته اليومية، دون أن يتعسكر ويخاصم غيره عند أي نقاش فقهي يحدث في مسجد أو مجلس، والتراث الفقهي قد حمل معه تلك الخلافات وتوارثتها الأجيال وتعاقبت على قبولها؛ إلا أنه في عصرنا الحاضر -بما فيه من مستجدات واقعة وتحديات هائلة تهدد العقيدة والهوية- ينبغي أن نجعل هذا الاختلاف بين الفقهاء رحمة وسعة للمعاصرين للعمل بما يلائم حاجة العصر ويوافق مقصد الشرع، على أن يتربى الأتباع على التعددية الفكرية وليس على الحزبية والمشيخية، التي تجعل بعضنا يشعل حربا ويعسكر خلقا من الناس على عدد درجات المنبر أو دخول الحذاء في المسجد أو تقصير الثوب وإطلاق اللحية؛، بينما المجتمع من حولهم يعجّ بموجات الإلحاد والتطرف دون أن يثير ذلك الغيورين لحراك راشد يسعى لجعل السلطة للشرع المنزّل وليس للرأي المبدّل.

ثالثا: مأسسة الاجتهاد الفقهي المعاصر

يتضح مما سبق الدور الجوهري للفقيه، الذي أعطاه سلطة واقعية يهيمن من خلالها على المجتمع بفعل المنزلة الدينية التي تبوأها، وهذا الواقع يقودنا نحو أهمية مأسسة دوره الفقهي الاجتهادي بدلا أن يكون نزعة فردية قد تميل به عن الوصول للمراد في بيان الحق ونصح الخلق، ومن هنا قرر فقهاء الشريعة أن الله تعالى أكمل وأتم شريعته ببعثة خاتم المرسلين -صلَّى الله عليه وسلَّم- فلم يبق أمر من أمور الدنيا أو الآخرة أو للناس فيه مصلحة خاصة أو عامة إلا ووضحه وبينه وجعل الناس على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. 

يقول الله -عزَّ وجلَّ- عن هذه النعمة العظيمة: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإسْلامَ دِينًا﴾ (المائدة: 3)، فمبادئ الإسلام وشرائعه العامة واضحة جلية، أما الجزئيات فبعضها قد تضمنته النصوص وبعضها ترك للاجتهاد؛ لأن الجزئيات التي تتولد عن الحوادث المستجدة لا تتناهى؛ بينما النصوص تتناهى، ولو أُلزم الناس في كل قضية جزئية أن يحكمها نص لوقع الناس في حرج، وأيضاً فإن القضايا قد تتغير صورها وملابساتها وأنواعها من زمن إلى آخر، فلو وضعت لها نصوص تشريعية، فسيقيّد ذلك من حركة المجتمع والدولة ويعطل مسيرتها، ولكن الشارع جعل لما يستجد في حياة الناس وما هو قابل للتغير قواعد كلية ومبادئ عامة يعود الناس إليها ليجدوا فيها الحكم عن طريق الاجتهاد والقياس أو غيره من مسالك الاجتهاد، كالاستحسان والمصلحة المرسلة والعرف وسد الذرائع وغيرها، يقول الشاطبي: "فلم يبق للدين قاعدة يحتاج إليها من الضروريات والحاجيات أو التكميليات إلا وقد بُيِّنت غاية البيان، نعم يبقى تنزيل الجزئيات على تلك الكليات موكولاً إلى نظر المجتهد فإن قاعدة الاجتهاد أيضاً ثابتة في الكتاب والسنة فلا بد من إعمالها ولا يسع تركها، وإذا ثبتت في الشريعة أشعرت بأن ثمَّ محالاً للاجتهاد، ولا يوجد ذلك إلا فيما لا نص فيه... بحسب ما يحتاج إليه من القواعد الكلية التي يجري عليها مالا نهاية له من النوازل"(11).

فإذا كان الاجتهاد ضرورياً في حياة أسلافنا فهو أكثر ضرورة في حياتنا اليوم؛ ذلك أن أوضاعنا الحياتية قد تغيرت عما كان عليه الماضي تغيراً كبيراً، وتطورت تطوراً مذهلاً خاصة فيما يتعلق بمستجدات العصر الراهن في قضايا السياسة والدولة وطرق الحكم الرشيد ومساحة الحريات المدنية إذا تقاطعت مع الديني، وما هو دستور الوطن القومي متعدد الثقافة والدين، والموقف من الخروج على الحاكم، والوقوف مع الثورات على الأنظمة، إلى غيرها من نوازل تترى كل يوم، مما يوجب مواجهتها باجتهادات يُبيَّن فيها حكم الشريعة حتى يكون المجتمع المسلم على بينةٍ من أمره فيما يدع وفيما يذر.

وهذه النوازل المستجدة ذات تعقيدات وملابسات وتداخلات بعلوم ومعارف أخرى، مما جعل الاجتهاد يختص بالنظر في أمرين مهمين:- 

الأمر الأول: أن تتوفر في أهل النظر والاجتهاد في تلك النوازل سعة علم في التشريع الإسلامي والمعارف الإنسانية الأخرى حتى يكون الاجتهاد في تلك القضايا متكاملاً وناضجاً ومستوعباً كل جوانب النازلة المجتهد فيها ويكون حكمه عليها صحيحاً، وهذا القدر الكبير من العلوم والمعارف لا يمكن توفره في عصرنا الراهن في عالم واحد؛ وإنما يحتاج إلى عدد من العلماء ليكمل بعضهم بعضاً. 

فالعالم المجتهد في العلوم الشرعية يكمله عالم متخصص متبحر في العلوم الإنسانية وحتى لو افترضنا أن رجلاً لديه إلمام بكل العلوم؛ فإن تعرضه للخطأ أكثر احتمالاً من تعرض الجمع الكثير، لذلك فالاجتهاد الجماعي أكثر إصابة للحق وأقل خطأ من الاجتهاد الفردي، فهو مطلب حاجي لا بد منه حتى تتسع الشريعة وتشمل الكثير من القضايا الاقتصادية والعلمية والطبية والاجتماعية والسياسية وكل ما له صلة بالحياة اليومية، ولا بد للبحث فيها ودراستها دراسة علمية مفيدة من تصور صحيح واستيفاء كامل لكافة جوانبها الواقعية والعلمية أولاً، ثم الشرعية ثانياً، ولن يتم ذلك على الوجه الأكمل إلا عبر الاجتهاد الجماعي(12). 

يقول الشيخ مصطفى الزرقا: "لقد كان الاجتهاد الفردي ضرورة في الماضي، وهو الآن ضرر كبير؛ فالمحاذير التي كانت مخاوف يخشى وقوعها في القرن الرابع الهجري، ولأجلها أغلق فقهاء المذاهب الاجتهاد قد أصبحت اليوم أمراً واقعاً. 

فإذا أردنا أن نعيد للشريعة وفقهها روحها وحيويتها بالاجتهاد الواجب استمراره في الأمة شرعاً، والذي هو السبيل الوحيد لمواجهة المشكلات الزمنية الكثيرة بحلول شرعية جريئة، عميقة في البحث، متينة الدليل، بعيدة عن الشبهات والريب والمطاعن، قادرة على أن تهزم الآراء والعقول الجامدة والجاحدة على السواء؛ فإن الوسيلة الوحيدة إلى ذلك هي أن نؤسس أسلوباً جديداً للاجتهاد، وهو اجتهاد الجماعة بدلاً من الاجتهاد الفردي، وبذلك نرجع بالاجتهاد إلى سيرته الأولى في عصر أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-"(13). 

الأمر الثاني: أن من الأمور المهمة التي ينبغي للقائمين على الاجتهاد في النوازل أن يراعوها -تحقيقاً لأهمية الاجتهاد الجماعي للنظر في النوازل المعاصرة ومحافظة على حسن أدائه - التأكيد على دور (المجامع الفقهية) التي تضم أغلب وأشهر المجتهدين في الشريعة؛ ليبذلوا وسعهم في التوصل إلى أحكام تلك النوازل.

والنوازل السياسية اليوم هي أعقد أنواع المستجدات، وطبيعتها تجعل الفقهاء في حذر من الخوض فيها، نظرا لخطورة مآلاتها، ومَظِنّة ما تحمله لأصحابها من المواجهة مع أصحاب النفوذ، وترك النظر فيها يشجع أنصاف العلماء للتصدر في بيانها فيغمط الحق أو تشتعل فتنة، وتخذل الأمة في علمائها بصمتهم عن نوازل مدلهمة تجعلهم في حيرة وتخبط عن معرفة الحق أو المخرج الأسلم من تلك النوازل.

فموقف الفقيه في البُعد عنها والخوف من القول فيها لم يعد مبررا؛ فالخطورة في الصمت على مستوى الأمة أعظم من سلامة الفرد في البُعد عنها وترك الأمر لغيره ممن لا يحسن الفهم والتنزيل، وخروجا من هذا المأزق وتبعاته المسلطة على رأس الفقيه، كان ينبغي أن تمارس المجامع الفقهية دورها ويصبح الاجتهاد عملا مؤسسيا، يخفف وطأة الضغط على الفقيه، ويسدد الخلل من قصور التصور أو ضعف التأصيل، كما يساعد على حسن التنزيل وتأمين الموقف بما يحفظ للأمة مصالحها وللحق ظهوره وللعلم حضوره، والاجتهاد المؤسسي من خلال المجامع والهيئات لا ينبغي خضوعه للتسييس؛ لأن مقصد وجوده تخفيف نوازع الهوى وتقوية النظر، وليس جسرا لنظام أو تبريرا لواقع مخالف، خصوصا أن تلك الهيئات العلمية الرسمية كمجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، والمجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي، وهيئة كبار العلماء بالسعودية، ومجمع البحوث الإسلامية بمصر، والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، كلها من الهيئات المحترمة والمقدرة في الأمة وغالبها لا يخضع إلا لسلطان الشرع، فدورها اليوم آكد في الحضور والتأثير، ونوازل السياسة من أشد مزالق الفتوى المعاصرة، فالأمان الحقيقي هو بعودة هذا الفقه لأهله، وأن ينظروا إلى ميزان الشرع ومصالح الخلق بما يحفظ للأمة ضروراتها الكلية.

رابعا: استقلال الخطاب الفقهي.. طريقه نحو التجديد والطهورية:

ذكرت في المسألة السابقة أهمية مأسسة الفتوى خصوصا السياسية منها؛ لأن الفقه المعاصر اليوم يعيش حالة مختلفة عن عصور الفقه السابقة، والفقيه اليوم لو قام بحفظ متون الفقه وشروحها فلن يجد في غير كتاب العبادات إلا القليل الذي ينطبق على عصره، فلغة الفقه التراثي وواقعه الذي صنّف فيه يكاد يغاير في شكله ومضمونه عالمنا المعاصر، فالمساكن والمراكب، والعلاقات والمعاش وطبيعة الاحتياجات وطرائق الكسب، ومجالات التعلم والعمل، والدولة والمجتمع، والحرب والسلم، كل ذلك اختلف عن حاله قبل قرنين أو ثلاثة، يعني هذا أننا في عصرنا الحاضر مطالبون بما كان الأوائل مطالبون به من صياغة فقهية تتوافق مع طبيعة الواقع، وتتلاءم مع احتياجات المجتمع، دون أن نخترع دينا جديدا أو نضلل من سبق، فالنصوص لا تزال حاكمة في مقاصدها الكلية وعللها الجزئية على ما يستجد وينزل؛ ولكن وفق معايير التأويل الأصولي وليس التجهيل العلماني المجتث لقواعد اللسان العربي في الفهم ومراتب الحجج في الدلالة على الحكم.

والمتابع اليوم للشأن الفقهي يشعر بمرارة عميقة، كيف أصبح الفقه يُفصَّل وفق مزاج الفرد النافذ، ويُحكم بالمناصب الرسمية التي تحدد العالِم بمرسوم، وتمنع الآخر من الأهلية لأنه مرفوض وفق شروط يحددها المنفذون تخدم مصالح السلطة لا الأمة.

كما أن الفقه أصبح قليل النفع في حل مشكلات عالم اليوم في مجالاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية وغيرها، وأصبح القانون البشري المستورد هو الحل السحري لاحتياجاتنا التشريعية، ومع ما يسعى لتحقيقه بعض الفقهاء اليوم من علاجات خاصة لبعض النوازل؛ فإن العجز يبقى واضحا في مجالات الدولة وطبيعة الحكم وتداول السلطة وأنواعها، كما أنه تقاصر عن حلول الاقتصاد إلى ترقيع بعض الصور الممنوعة المقلّدة وإلحاقها بتعسف بأحكام الشريعة؛ ما يجعل المضمون الربوي يبقى والغش التجاري يرقى في صلب العقود ولا يُنهى، أما مسائل الفن والإعلام الجديد والسياحة والترفيه فلا تزال في بداياتها حتى اليوم.

ما سبق يشعرنا كثيرا بالأسى ولكن ما يزيد من الألم والضيم أن يصبح الفقه أداة طيعة للاستبداد ووسيلة قريبة للتوظيف الديني لضرب الخصوم، وبأيد متوضئة ينطقون بالآيات والأحاديث، ويغارون على حياض الدين من الانتهاك؛ لكنهم أصبحوا سلاحا فتّاكا يخوض به المستبدون معركة غير مقدسة، فكم من الفتاوى سطرها التاريخ استبيحت بسببها دماء علماء، وقُتل بسببها أبرياء، وتشوه بها الحق وتلبَّس به الباطل، ولا يزال هذا المسلسل يعيد نفسه في عصور التخلف والتبعية للأهواء والطغيان؛ ما يجعل فقهنا السامي في أصعب لحظاته وأضعف حلقاته في تاريخ الأمة، بالرغم من كثرة كليات الشريعة وآلاف الخريجين ومثلها آلاف الأطروحات العلمية التي يشتغل عليها باحثون ويعكفون لسنوات طويلة لمنجز معرفي ينالون عليه أوسمة الترقي الأكاديمي؛ فإنها ما عالجت أزماتنا المعرفية، وتداخل المفاهيم وغياب المعايير والتلاعب القيمي بمبادئنا العامة.

ألم يقل النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «سَيَأْتِي عَلَى الناسِ سَنَوَاتٌ خَداعَاتٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصادِقُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَونُ فِيهَا الْأَمِينُ وَيَنْطِقُ فِيهَا الروَيْبِضَةُ»، قِيلَ: وَمَا الروَيْبِضَةُ؟ قَالَ: «الرجُلُ التافِهُ يتكلم فِي أَمْرِ الْعَامةِ» [ابن ماجه (4036) وصحَّحه الألباني]، بمعنى أن هناك خلطا كبيرا لا بد لأجله من تدخل العلماء لضبط معايير القيم وصحة المفاهيم؛ لأن هناك أدوات معرفية جديدة تلبّس على الناس الحقائق كما أشير لها في الحديث بالرويبضة، وهذا النوع لا يملك أدوات العلم وليس مؤهلا للحديث في الشأن العام، ومع ذلك يمارس هذا الدور، ويبدو أن له منبرا عاما يقتضي أن يكون حديثه مشتهرا ومنتشرا، ولعل الإعلام اليوم ومواقع التواصل الاجتماعي قد تسعى في تحقق هذا الانتشار بسرعة ودون فحص لقيمة ما ينشر ومدى صوابية الحديث.

هذا كله يجعل دور الفقيه المعاصر أمام عدة تحديات معرفية وواقعية، لذلك ينبغي تطوير الفقه من خلال تطوير مؤسساته وتحديث منهجيات النظر بمعايير علمية وواقعية جديدة، وهذا ما يجب أن ينصّب عليه الاهتمام، كما أن استقلال الفقيه من أي تبعية سلطوية - تمارس عليه ضغوطا ليتماهى مع ظرف سياسي أو معاشي؛يعدّ من أهم التحديات في نجاح الفقيه في أداء رسالته وقبوله في الناس.

وأجمل عبارة في بيان دور الفقيه في مثل ظروف عصرنا والتحديات التي تواجهه ما قاله ابن تيمية -رحمه الله- في معرض حديثه عن الفقيه والعالم وما ينبغي أن يكون عليه، يقول: "وأئمة السنة والجماعة وأهل العلم والإيمان فيهم العلم والعدل والرحمة، فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة، سالمين من البدعة ويعدلون-من العدل- على من خرج منها ولو ظلمهم؛ كما قال تعالى: ﴿كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [سورة المائدة:8] ويرحمون الخلق، فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، لا يقصدون الشر لهم ابتداء؛ بل إذا عاقبوهم، وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم؛ كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا"(14).

فمن الرؤى المقترحة التي أعتقد أنها يجب أن تسهم في استقلال الفقه ونجاحه في الواقع:

أولا: أن تستقل الجامعات والكليات الشرعية في إداراتها وأموالها عن الحكومات بأوقاف مسجلة لهذه المؤسسات التعليمية، وهذا ما يجري عليه العمل في أبرز الجامعات الناجحة في الغرب وحتى في الشرق، والكليات اللاهوتية عند المسيحيين جارية على هذا الشأن من قرون طويلة.

ثانيا: أن منهجية النظر الفقهي اليوم، تحتاج إلى تطوير يرقى بها نحو التفاعل مع احتياجات المجتمع المتنوعة والمتسارعة، فيكفي خدمةً للشروح والحواشي ذات القيمة البسيطة، وينبغي الانتقال إلى مشاريع بحثية تتوسع في احتياجاتنا الظرفية، خصوصا في قضايا العمران البشري، والحقوق الإنسانية، ومفاهيم العيش المشترك، ومستجدات السياسة والاقتصاد والتقنية وغيرها، مما يقتضي أن يكون هناك منهجية علمية في رصد الواقع وتحليل المسائل المستجدة وفق معايير علمية موحدة، ثم بحثها وفق أدوات الاجتهاد الأصولي.

ثالثا: تشكيل هيئات الفتوى ومجامع الفقه، وفق تزكية العلماء وترشيح المؤسسات العلمية لهم، بعيدا عن تدخل السياسة وأصحاب النفوذ في آليات الاختيار والترشيح، وخضوع هذه الهيئات والمجامع الفقهية لنظام مستقل ولوائح ضابطة يضعها العلماء أنفسهم، هذه الإجراءات وغيرها قد تدفع نحو استقلال الفقهاء عن الاستغلال، أو وضع الأغلال على قلوبهم بالخوف وعقولهم بالجمود.

إن ما سبق من رؤى ومقترحات هي بعض ما جال في النفس من تأملات للشأن الفقهي اجتمع في الذهن عبر سنوات من حضور المؤتمرات والندوات واللقاءات وغيرها، يشعر المرء عندها بشيء من الحسرة والضيق عندما يلحظ ضعف التغيير نحو الأفضل، وتماهي النظرة الدونية للفقه الإسلامي بعدما كان محرّك التجديد ومدبّر ومقنّن التشريعات التنظيمية في عدد من الدول العربية والغربية أيضا، والأمل بعد الله تعالى في جيل فقهي جديد يحمل التجديد بنظرٍ مسددٍ رشيد.

خاتمة:

من خلال ما سبق تظهر لنا حاجة المؤسسات الدينية القضائية أو الاجتهادية إلى مشاريع تجديد واستقلال تحميها من خطر الانحراف عن مقاصدها، أو الذوبان في أوعية السياسة، أو الجمود عن مواكبة العصر ومستجداته المتلاحقة، وهذه الحاجة تقتضي العودة مرة أخرى إلى المأسسة الحقيقية لتلك الدوائر الدينية؛ بتجريدها من النفعية المادية أو سيطرة أصحاب النفوذ، واستقلالها إداريا وماليا عن أي جهات قد تحول بينها وبين مقاصدها المصلحية، مع تطوير يسعى إلى تحسين أداء الفقهاء وتوسيع مداركهم بالاطلاع على مستجدات الفكر ومكتشفات العصر العلمية وغيرها، لعلها تدفع بمؤسساتنا الدينية نحو تجديد علمي وطهورية عملية تقودنا إلى إصلاح مجتمعي نحن في أمس الحاجة إليه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1) انظر: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام؛تأليف العلامة شهاب الدين القرافي؛ تحقيق الشيخ: عبد الفتاح أبي غدة؛ طبعة مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب 1416هـ.

2) انظر: الفلسفة عند اليونان، د. أميرة حلمي، دار النهضة العربية، ص339-347.

3) انظر: فلسفة القانون، هنري باتيفول، ترجمة: د. سموحي فوق العادة، مكتبة الفكر الجامعي، ص11-15.

4) انظر: رسالة في التسامح لجون لوك، ترجمة د. عبد الرحمن بدوي، نشر: مركز عبد الرحمن بدوي للإبداع الطبعة الأولى، 1988، ص85-89.

5) انظر: روح القوانين لمنتسكيو، ترجمة: عادل زعيتر، نشر اللجنة الدولية لترجمة الروائع الإنسانية 1954م مكتبة المنارة الأزهرية 1/433 بتصرف.

6) انظر: دراسة (إصلاح القضاء في ظل الربيع العربي) إعداد: الشبكة الأوروبية المتوسطية لحقوق الإنسان؛ فبراير2012م http: //www.euromedrights.org، والدراسة العلمية (استقلال القضاء في العالم العربي) مقدمة إلى مؤتمر العدالة الثاني إعداد الدكتور عادل عمر شريف والدكتور ناثان ج. براون؛ القاهرة في فبراير 2003م.

7) انظر: السلطة في الإسلام، للمستشار عبد الجواد ياسين، الجزء الثاني، نقد النظرية السياسية، دار التنوير، الطبعة الثانية 2012م، ص24. 

8) انظر: معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية للدكتور محمود عبد المنعم 2/287، دار الفضيلة بمصر، المعجم الفلسفي جميل صليبا، ص670، الطبعة الأولى، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1981م.

9) انظر: الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام، الطبعة الأولى، دار المنتخب العربي، بيروت 1994م، ص7.

10) الرسالة التبوكية لابن القيم، تحقيق محمد جميل غازي، مكتبة المدني بجدة، ص41.

11) انظر: الاعتصام، أبو إسحاق الشاطبي، تحقيق سليم الهلالي، دار ابن عفان، الخبر، الطبعة الرابعة، 1412هـ، 2/817.

12) انظر: مناهج البحث في الفقه الإسلامي، د. عبد الوهاب أبو سليمان، دار حزم والمكتب المكية، الطبعة الأولى، 1416هـ. ص98-99.

13) انظر: الاجتهاد الجماعي ودور الفقه في حل المشكلات، مصطفى الزرقا، جمعية الدراسات والبحوث، الأردن، ص49-50.

14) الرد على البكري لشيخ الإسلام ابن تيمية، مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة المنورة، الطبعة الأولى 1417، ص251.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/10/205

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك