التنوير والدين

عثمان أشقرا

ليس التنوير خصما مطلقا للدين: فهذه فكرة مسبقة خاطئة بالمطلق... أو أنها دسيسة مغرضة. 

فثمة -بالتأكيد- نزعة تنويرية فيما يخص الموقف من الدين قد تصل حد التشكيك [البالغ تخوم الإلحاد]، لكن ثمة، بالمقابل، النزعة المؤمنة في شقها -أولا- الإلهيThéisme و-ثانيا- الربوبي Déisme، ثم-ثالثا- الشق الماسوني، وأخيرا النزعة العقلية الأخلاقية الخالصة. 

وبالطبع، فهذه النزعات "التنويرية" المؤمنة تتمايز من حيث المنطلق النظري والمنهجي، ولكنها -وبمعنى من المعاني- تتفق فيما يمكن أن ننعته برؤية عقلية وتحررية وأخلاقية وعملية للدين. 

1- يمكن التأكيد بأن النزعة الشكية/الإلحادية تتطابق -بالكامل- مع "فلسفات" من يمكن نعتهم ب"الماديين الفرنسيين": لامتري La Mettrie (1709-1751)، هلفسيوس Helvétius (1715-1771) وهولباخ D’Holbach (1723-1789) وديدرو Diderot (1713-1784). 

والواقع أن هذه خاصية فرنسية بامتياز حيث إن الكنيسة الكاثوليكية لم تعرف أي إصلاح حقيقي، مقارنة مع ألمانيا البروتستانتية، وإنكلترا الانجليكانية، وأمريكا التي هاجرت إليها الكثير من الطوائف الدينية المتحررة والمجددة. 

وعليه، كان الصراع الديني (فكريا وسياسيا) بالغ الحدة والعنف في فرنسا ما قبل ثورة 1789، وإبان عصر الإرهاب الثوري (+1793). 

ولكن الموقف الممعن في التطرف -ليس وحسب ضد رجال الدين ولكن ضد الدين نفسه من حيث هو ميتافيزيقا و"معرفة" مزعومة بالله والإنسان والطبيعة- تضمنته مؤلفات صريحة في نزعتها المادية الإلحادية مثل كتاب الإنسان الآلي للامتري (1747) [والعنوان بالغ الدلالة]، وكتاب في الفكر لهلفسيوس (1758) وكتاب نظام الطبيعة لهولباخ (1770). 

ويبقى الفيلسوف والكاتب ديدرو متميزا في هذا الصدد، باعتبار -من جهة- غزارة إنتاجه وتنوعه (مقالات- حوارات- روايات- مسرحيات...)-ومن جهة أخرى- ارتباط اسمه -ديدرو- بمشروع الموسوعة أو الإنسيكلوبيديا التنويري الضخم. 

والواقع أن ديدرو قد بدأ ربوبيا (ترجم كتاب شافتسبوري المعنون ب Essai sur le mérite et la vertu سنة 1745 وهو الكتاب المناهض صراحة للتعصب والخرافة والمقر بعدم ارتباط الأخلاق ضرورة بالدين) ولم ينته -ديدرو- ملحدا تماما، ولكن شخصيته المعقدة والملتبسة تعكس في عمقها تعقد والتباس طرح المسألة الدينية في فرنسا -فرنسا القرن الثامن عشر بالتحديد. 

ففي 1746 نشر ديدرو مؤلفه المعنون ب الأفكار الفلسفية Les pensées philosophiques المتضمن لمحاورة رباعية بين مسيحي وربوبي وملحد وشكاك، وعلى الفور سيمنع الكتاب ويدان "باعتباره ضد الدين والعوائد الحسنة". وسيعيد ديدرو الكرة في مؤلف الرسالة حول العميان ليستعملها الذين يبصرون La lettre sur les aveugles à l’usage de ceux qui voient (1749) الذي يطرح مسألة المعرفة بين "العقل" و"الإحساس" ومسألة الأخلاق بين مطلقية القيم ونسبيتها، ويبرز ديدرو ماديا ملحدا في هذا الصدد، مما سيعرضه للاعتقال والسجن. والواقع أن تجربة السجن ستجعله يخفف من "تطرفه" خاصة وأنه قد انخرط في مغامرة الموسوعة. وهذا في الواقع ما يتناسب مع نزوعه العقلي والنفسي غير الميال إلى الحسم فيما هو دفق شعوري عارم وما هو تفكير "علمي" خالص:فليس فقط أن ديدرو كان يهوى المسرح وإبداع المواقف الدرامية، ولكن مؤلفاته "الفلسفية" ذاتها هي في شكلها ومضمونها حوارات تمسرح "الأفكار الفلسفية"، إضافة إلى حياته الشخصية التي كانت عبارة عن دراما حقيقية. 

من جهة أخرى، يبرز تعقد والتباس طرح المسألة الدينية في فرنسا في موقف رجال ثورة 1789 الذين لم "يمحقوا العار" (قولة فولتير الشهيرة) وحسب، ولكنهم أقروا نوعا من عبادة "الإله العقل" la déesse Raison [وهذا قريب من الإلحاد] أو "الكائن الأسمى" [وهذا قريب من مذهب الربوبية]. 

والواقع أن ثورة 1789في فرنسا هي في حد ذاتها واقعة تاريخية وفكرية بالغة التعقيد والالتباس. 

تاريخيا: تجاوز تأثيرها نطاق فرنسا ليشع أوروبيا وعالميا (من إعلان حقوق الإنسان والمواطن إلى سلسلة الثورات والتمردات التي اندلعت في سياقها قاريا وعالميا). 

فكريا: حمل الثوار لواء "فلسفة الأنوار" واعتبروا أنفسهم امتدادا ل"أنوار" فولتير وروسو. ولكن ما انقلب إليه حال الثورة بين 1793و1799 من "إرهاب" و"استبداد" و"فوضى" جعل الحكم في هذا المجال يتراوح بين التقويم المتمثل في موقف العداء الصريح من الثورة (إدمون بورك الإنكليزي وجوزيف دو مايستر الفرنسي) أو موقف الاعتدال والحكم التاريخي الموضوعي (توكفيل). 

و عليه، يمكن في هذا الصدد إقرار ما يلي: لا يمكن البتة الخلط بين منطق فلسفة الأنوار -الذي هو منطق إيديولوجي/فكري- ومنطق الثورة الفرنسية -الذي هو منطق تاريخي/سياسي- بدون زعم حدوث القطيعة بينهما (هذا غير وارد). ولكن الثوار الفرنسيون، وإن رفعوا شعارات فلسفة الأنوار، فأفعالهم، وردود أفعالهم، خضعت، بالأساس، لمنطق جريان وتدفق الأحداث السياسية، اعتبارا من 5ماي 1789 (= افتتاح اجتماع ما سمي بles états généraux)، إلى تأسيس "الجمعية الوطنية" (17يونيو 1789)، إلى احتلال الباستيل يوم 14 يوليو الذي يدشن التاريخ الرسمي للثورة الفرنسية... ثم تسلسل باقي الأحداث التاريخية المعروفة، وأبرزها فرض حكم الإرهاب الثوري... حتى وقوع انقلاب نابليون بونابرت في 9-10نوفمبر [18-19 برومير بالتقويم الجمهوري الجديد] 1799. 

بتعبير آخر: لقد انخرطت فرنسا في ثورة عارمة نتيجة استفحال الوضع الداخلي وعجز النخبة الحاكمة (الملك لويس السادس عشر تحديدا) عن التحكم فيه، فضلا عن إصلاحه. ولم تنفجر الثورة نتيجة تدبير ثوري محكم ومخطط له مسبقا. وبالتالي، فما تحكم أساسا في سير الأحداث هو تناقضات المجتمع الفرنسي ذاته المتراوحة ما بين تمرد الفلاحين نتيجة بؤسهم الاقتصادي المستفحل مع بقائهم أسرى الإيديولوجية التقليدية، وانفجار العاصمة باريس، حيث السلطة صارت ل"الشعب" الغاضب والهائج. ومن هنا الطابع العائم (الأشبه بالكرنفالي) للثورة ومظاهر التردد والتقلب في مواقف الثوار (من ملكيين معتدلين les Monarchiens إلى جمهوريين متطرفين les Jacobins.)

وهذا ما انعكس عموما في الموقف من الدين عامة والمسيحية خصوصا. 

ففي البدء(1) -بدء الثورة- كان هناك انضمام جزء من القساوسة الحاضرين في les états généraux كممثلين لمناطقهم النائية والفقيرة. والواقع أن هؤلاء القساوسة كانوا يمثلون الفئة السفلى من طبقات رجال الدين بحيث كانوا، من جهة، معايشين لوضع الفلاحين المزري والظلم المسلط عليهم، ومن جهة أخرى، خضوعهم أنفسهم لاحتقار كبار كهنوتهم (الأساقفة) المنحدرين حصريا من النبلاء. ومن هنا، قابلية هؤلاء القساوسة الصغار والفقراء للاقتراب من "الطبقة الثالثة" le Tiers-étatالممثلة لعموم "الشعب" مقابل فئة النبلاء والإكليروس في اجتماعات les états généraux. 

وهذا ما حدث بالفعل يوم 13يونيو 1789 لما التحق ثلاثة قساوسة بالقاعة الخاصة باجتماع "الطبقة الثالثة" معلنين تمردهم على "طبقتهم" الأصلية فاستقبلوا بحماس كبير. ومع إعلان "الجمعية الوطنية" على أنقاض les états généraux المتهاوية، كان جزء كبير من هؤلاء القساوسة "الفقراء" قد حسموا أمرهم، وانخرطوا في الصيرورة "الثورية" المنطلقة. وبلغ ذلك أوجه مع تكريس وثيقة "الدستور المدني لرجال الدين" (12 يوليو 1790) والالتزام بأداء قسم الوفاء "للأمة والقانون والملك والدستور ". 

وعليه، يمكن الحديث في هذا الصدد عن نوع من "التعايش" بين "الثورة" والدين مثلما كان الحال أيضا (لكن في منحى آخر) مع الملكية. 

وهذا ما سيتغير جذريا مع إعلان الجمهورية يوم 22 سبتمبر 1792 وفرض التقويم الزمني الجمهوري الذي هو إعلان عن إرادة القطع نهائيا مع المسيحية والدين. وهو الأمر الذي سيشتد تماما إبان السنة الثانية الموصوفة بسنة الإرهاب الثوري الخالص (من النصف الثاني من 1792 إلى النصف الأول من 1793) حيث ستفرض نفسها سياسة متشددة يعقوبية Jacobine تعتبر رجال الدين أعداء ظاهرين أو متسترين للثورة وتلغي كل مظاهر ومناسبات الدين والتدين مستبدلة إياها بالأعياد القومية وعبادة العقل والكائن الأسمى. بل إن يوم الأحد المعتبر يوم راحة أسبوعية سيستبدل بيوم يسمى Décadi يحل كل عشرة أيام ويكون مناسبة للراحة والاحتفال الدنيوي. 

ولن تنته هذه "الحمى" الثورية الشاذة والنافرة في تاريخ الثورات الحديثة إلا مع التخلص من روبسبيير زعيم التيار اليعقوبي المتشدد، و"تهدئة" الوضع الثوري نسبيا، وصدور مرسوم 21فبراير 1795 المقر لحرية الدين والتدين. 

2- النزعة المؤمنة:

ويمكن التمييز داخلها بين ثلاث مسارات:

- مسار ألوهي/ ربوبي. 

- مذهب الفضيلة و"الحس الأخلاقي". 

- الماسونية. 

2-1المسار الألوهي/الربوبي: 

- إسحاق نيوتن (1643-1727): يرتبط اسمه عادة بنظرية الجاذبية التي تفسر الكون تفسيرا فيزيائيا رياضيا. وهذا هو أساس الثورة العلمية الحديثة كما دشنها كوبرنيك (1473-1553) وكبلر (1571-1630) وغاليلي (1574-1642). ولكن إسحاق نيوتن لم يكن وحسب فيزيائيا خالصا ولكن كان "لاهوتيا" منشغلا بمسائل الله (المسيح) والدين (الخلاص). فبالإضافة إلى كتابه الرئيسي والشهير الذي عرض فيه نظرية الجاذبية تحت عنوان المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية (1687)، فله مؤلفات أخرى تطرح قضايا دينية ولاهوتية صريحة وخالصة:

- كرونولوجيا المماليك القديمة (1728). 

- ملاحظات حول تنبؤات دانيال وقيامة القديس يوحنا (1733). 

- عرض تاريخي للتحريفين البارزين للكتابة المقدسة (1754). 

والملاحظة البارزة هنا هي أن كل هذه الكتب لم تنشر إلا بعد وفاة نيوتن. وهذا أمر له دلالته حيث إنه يعكس جانب الحذر والتحفظ في شخصية نيوتن بالرغم من أن الآراء "اللاهوتية" المعبر عنها في هذه الكتب تظل في محيط الاعتدال و"التعقل". فصاحب نظرية الجاذبية يؤمن بإله خالق للكون ومدبر له هو "إله إبراهيم وموسى وعيسى". ولكنه يتحفظ في ما يخص الطبيعة الإلهية للمسيح بحيث إنه يقترب هنا من جماعة السوسيانيين الناكرين لمبدأ التثليث المسيحي. كما أن نيوتن يؤكد على أطروحات دينية ثلاثة تبدو متميزة بل نافرة(2):

- أسبقية الأخلاق في كل تأويل للكتاب المقدس الذي وجد من أجل تعليم الإنسان مكارم الأخلاق وليس نظريات الميتافيزيقا. 

- ضياع المعنى الأصلي والأصيل لرسالة السيد المسيح في سياق فرض السلطة الكهنوتية لدوغما بعينها يمكن نعتها بالتحريف. 

- رفض الطبيعة الإلهية للمسيح (= وحدة الجوهر) والتأكيد على علاقة الله بالإنسان كخالق وأب رحيم لكل البشر لكي يتحابوا فتتحقق مملكة الله مرتبطة بالتفويض الإلهي للمسيح الذي هو السيد والمولى Le seigneur. 

- جون لوك (1632-1704). 

يتقدم جون لوك -عموما- كبروتستاني أنكليكاني، من جهة، يرفع شعار التسامح ويدافع عنه، ومن جهة أخرى، يجري عملية المصالحة بين العقل والإيمان. 

ففي رسالة في التسامح الشهيرة (1689-1690) يبرز موقف مبدئي واضح وصارم من كل أشكال التعصب الفكري والديني، ودعوة صريحة إلى عدم فرض الإيمان بمنطق القوة والتسلط. إن الإيمان الديني هو مسألة قلبية وفردية خالصة ترتبط بالضمير والقناعة الشخصية. والإلزام في هذا الصدد هو مستهجن بل ولا عقلاني. والمهم هو فصل ما هو مدني وسياسي عما هو ديني اعتقادي. وعليه يشجب لوك تدخل الحاكم في الأمور الاعتقادية الخاصة بالمحكومين. فكل فرد هو حر في نهج السبيل التي يرى فيها خلاص روحه. ومهمة الحكم المدني هي توفير شروط إنتاج الخيرات المادية وحماية الحقوق الفردية والجماعية. وهذا هو عين العقل الذي يرى لوك بأنه لا يتعارض مع جوهر المسيحية. وهذا ما سعى إلى البرهنة عليه في كتابه الأقل شهرة المسيحية العاقلة وعنوانه الكامل: المسيحية العاقلة كما هي ممثلة في الكتابات المقدسة (1695). والعقلانية هنا ليست بمعنى اعتماد العقل باعتباره الوسيلة الوحيدة لإدراك نوع من الإيمان العقلي الخالص (دين كوني مثلا) ولكن المقصود هو عدم تعارض المسيحية الأصلية مع العقل والتفكير المنطقي والعلمي. إن لوك هو مؤمن مسيحي وإيمانه يستند إل مبدأ الوسطية والاعتدال: فهو يعادي الإلحاد ويدعو إلى عدم التسامح مع الملحدين (؟) في نفس الوقت الذي يناقش فيه المعجزات المذكورة في الكتاب المقدس بدون أن يتخذ موقفا رافضا بالكل في هذا الصدد (خطاب حول المعجزات -1703). وعموما يبدو لوك أقرب إلى نوع من الدين الفطري مع " اعتبار عدم قدرة هذا الأخير لوحده على توفير معرفة تامة وكاملة بالأخلاق. فالسيد المسيح هو المشرع الكبير في هذا الصدد والمكلف بجعلنا ننخرط في حزب الفضيلة القويمة والمثلى". 

- فولتير(1694-1778): مثل بطله كانديد، عاش فولتير تجربة إيمان فلسفي تفاؤلي خالص سيوقظه من دوغمائيته زلزال ليشبونة (1755) وخبراته الحياتية المتتالية المتراوحة ما بين نجاحات مفرحة (قضية كالاس) وإخفاقات مؤلمة (المراهنة على المستبد المستنير من نموذج فريدريك الثاني). وسينعزل فولتير في سكناه على الحدود السويسرية-الفرنسية في نوع من تطبيق الشعار الذي رفعه كانديد نفسه في آخر مطافه الحياتي/الفلسفي: cultiver son jardin!

وحذار من سوء الفهم والتأويل هنا: فالأمر لا يتعلق البتة بانسحاب من الحياة العامة والانطواء على الذات الفردية ولكنه إعادة للتموقع إزاء "أوهام" و"مطلقات" كبرى وانخراط في أعمال "صغرى" و"محددة" بل محدودة ولكن ملموسة ومؤسسة وفعالة. فهمة فولتير لم تفتر البتة عن محاربة ما كان يدعوه ب"العار"L’Infame أي التعصب الديني(عنوان الجزء ما قبل الأخير من سيرة حياته عنوانه بالضبط: امحقوا العار!). 

ومن جهة أخرى، لقد كتب فولتير في 1739مسرحية بعنوان محمد أو التعصب على أساس وقائع قام ب"تحريفها" ليس بالمعنى الإبداعي الفني (هذا كان سيكون مقبولا) ولكن بقصد تقديم الإسلام كصورة متطرفة لنزعة التعصب الديني المستندة إلى الجهل وتصوير نبي الإسلام كشخصية سطحية مدعية تمارس العنف والقسوة بلا وخز ضمير. 

وكانت هذه زلة كبيرة من فيلسوف التنوير الكبير تسبب فيها -على ما يبدو- أمران:

- عداء فولتير الشديد للمسيحية وللمسيح وبالتالي موقفه السلبي -بدءا- من كل الأديان والأنبياء. 

- محدودية اطلاعه وقتئذ على الإسلام تاريخا وثقافة (= ترجمة جورج سالي Saleللقرآن في 1734وكتاب جان كانييه Gagnier حول حياة محمد المنشور في 1732). 

لذا سيتوقف عرض المسرحية سريعا لأن رجال الدين المسيحيين النافذين أثارتهم تلميحات فولتيرية اعتبروها تستهدف المسيحية ذاتها والمسيح تخصيصا من وراء التعرض للإسلام ونبيه. 

ولكن معرفة فولتير بالإسلام وشخصية محمد ستتسع وتتدقق (اطلاعه مثلا على موسوعة Herbelot المعنونة بالمكتبة الشرقية) فجاءت كتاباته التالية حول الإسلام والمسلمين أكثر إيجابية: من المقال المنشور في القاموس الفلسفي بعنوان القرآن (1748)-حيث سيعيد قراءة ترجمة سالي بنفس نقدي ومنفتح- إلى النص المنشور سنة 1763 بعنوان catéchisme de l’honnête homme حيث سيصل هجومه على المسيحية ذروته باعتبارها دين الخرافة والتعصب مقابل الإسلام الذي هو دين أقرب إلى الدين الطبيعي (= دين الفطرة والعقل السليم)(3). 

- جان جاك روسو(1712-1778):

يمثل نص Profession de foi du vicaire Savoyard المتضمن في كتاب إميل أو في التربية النص الأشهر والأيسر والأروع فيما يخص عرض "الدين الفطري"(4): إنه عبارة عن مونولوغ/حوار يقدم من خلاله كاهن مسن عصارة تجربته الدينية/الروحية إلى فتى يافع هو قيد التربية والترشيد (إميل/روسو). 

وهنا يبرز مضمون الدين الفطري متمحورا حول قواعد ثلاثة رئيسية:

- ثمة إرادة تحرك الكون وتنفخ الحياة في الطبيعة. 

- إذا كانت المادة المتحركة تفصح عن وجود إرادة، فالمادة المتحركة حسب قوانين بعينها تفصح عن وجود عقل محرك ومدبر. 

- إن الإنسان هو حر في أفعاله وبهذه الصفة فهو جوهر وروح. 

وعليه، فالإيمان الحقيقي مصدره القلب والباطن حيث يتوجه الكائن فطريا نحو إدراك الإله الذي يكشف عن "ذاته" و"يكلمنا" من خلال كل جزئية في الطبيعة التي هي كتاب كوني مفتوح. ومن هنا ليس وحسب ثقل الطقوس والشعائر الدينية بل خطورة المعتقدات اللاهوتية التي توهمنا بامتلاكها الخاص لحقيقة مزعوم الوحي بها، وبالتالي، تكفير الآخرين المحكوم عليهم بالعذاب الأبدي. وهذه-قطعا- ليست صورة الإله الرحيم العادل الذي هو إله كل البشر. 

- طوماس باين Thomas Paine (1737-1809)صاحب كتاب: عصر العقل [أو الرشد] Age of Raeson الذي سيتحول إلى نوع من "إنجيل" الفكر الحر أو الربوبي Deisme المؤمن بالله ولكن المعادي لكل دين مؤسساتي و"كنيسة". فالإيمان هو أولا وأخيرا مسألة فردية ومسألة ضمير شخصي وسلوك أخلاقي. "ضميري الخاص هو كنيستي"!

هكذا يكتب توماس بين في عصر العقل، وينطلق حاملا المعول (كما يصرح هو نفسه) ضد الكنيسة بخرافاتها وترهاتها وممارساتها المفضوحة والمستورة. ويعلن أن لا دين إلا دين الله خالق الكون والإنسان وما عدا ذلك فهو "خلق بشري" مشبوه. 

2-2:مذهب الفضيلة و"الحس الأخلاقي":

- شافتسبوري (1671-1713): ينتمي إلى فئة النبلاء (=لورد) وكان معلمه ومربيه هو جون لوك وقد عاش حياته -بالرغم من صحته العليلة- منغمسا في الاهتمام بالشأن العام (=السياسة) وممارسا لتأمل فلسفي وجمالي رفيع. ومن هنا جاذبية مذهبه الفكري الذي ينشدّ فيه السياسي إلى الفلسفي إلى الجمالي بواسطة خيط أخلاقي رفيع حسا ومعنى. فشاتسبوري هو-وبمعنى من المعاني- فيلسوف رواقي بامتياز... لكن رواقيتة هي -إذا جاز التعبير- حديثة ومتطورة. فالإنسان الفرد حامل في أعماقه لبذرة الفضيلة-باعتبار "الإنسان الفاضل هو جزء من النظام الكوني"-ولكن الواجب الأخلاقي -يؤكد شافتسبوري- ليس حاصل أو نتيجة الخوف من العقاب الأخروي، ولكن هو سابق عليه. بتعبير آخر:"ليس الاستدلال [الخارجي] هو مصدر الأحكام الأخلاقية ولكن مصدره هو الباطن و[ما يدعوه شافتسبوري]بالحس الأخلاقي". وبالتالي، فالخير الجماعي هو حاصل جماع الإرادات الفردية القادرة -من جهة- على ممارسة فضيلة الانضباط (وأساسه الاعتدال) ومن جهة أخرى فرض واقعة التوازن (توزيع السلط داخل المجتمع مثلا واحترام ذلك). من مؤلفاته: بحث حول الفضيلة والجدارة (1699)، الأخلاقيون: نشيد فلسفي (1706)، المناجاة (1710). 

2-3: الماسونية:

تعود بأصولها التاريخية إلى حركة البنائين التقليديين من حيث هم "عمال يدويين" منخرطين ومنتظمين في إطار حرفة لها قوانينها ومراتبها ورؤساؤها وطقوسها وأساطيرها (مخطوط Régius حوالي 1390؛ مخطوط Cook حوالي 1400-1410). وهذا ما كان ينعت بالماسونية العاملة أو الفاعلة opérative قبل أن يقع التحول في القرن السابع عشر مع التحاق بنائيين غير عاملين ولا فاعلين يدويين: وهذه هي بداية الماسونية الذهنية spéculative كما تحددت من خلال إقرار النص المؤسس المشهور ب Les constitutions d’Anderson في 1723المتضمن ل11فصلا تعيد تحديد بل وتتجاوز "واجبات" الأخ الماسوني القديمة Old charges فيما يخص موقفه الديني (الإيمان بإله خالق ومدبر للكون)، وعلاقته بالدولة والسلطات القائمة (مبدأ الالتزام والإخلاص بما يوافق التحولات السياسية التي عرفتها إنكلترا في سياق "الثورة المجيدة"). ثم تعرض الوثيقة وتفصل المعطيات المتعلقة بالحياة الداخلية (والسرية) للجماعة الماسونية مبرزة ومستندة إلى نوع من قاعدة الإنسانية الأخلاقية والكونية المتسامحة يبعدها عن روح المسيحية السائدة سابقا ويقربها من نزعة الربوبية المعاصرة. وفي هذا السياق ستبرز قوة الماسونية الإنكليزية ويزداد إشعاعها "التنويري" خاصة لما ستتحقق في 1813 الوحدة بين المحفلين المتنافسين في إطار المحفل الكبير الموحد تحت شعار التوافق بين النزعة الكونية الربوبية المبدئية والمعطيات القومية والدينية الخاصة. وهذا ما يضع نوعا من التقابل بين الماسونية الإنكليزية والماسونية في فرنسا كما تأسست ابتداء من خطاب Le chevalier deransg (1783-1686)وهيمنت عليها نزعة "الأخوة الإنسانية" ومرجعية "المهندس الأكبر للكون" في سياق قيام معطيات الثورة الفرنسية الجامحة. 

3- النزعة العقلية الأخلاقية الخالصة: وممثلها الأبرز-بدون جدال- هو الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724-1804). وليس هنا مجال استعراض الفلسفة النقدية في شموخها وعمقها كما هي متضمنة -بالخصوص- في الثلاثية الشهيرة: نقد العقل النظري (1781) -نقد العقل العملي (1788) -نقد ملكة الحكم (1790)، متمحورة حول الأسئلة الأساسية الكبرى: ماذا يمكنني أن أعرف؟ ماذا يمكنني أن أعمل؟ ماذا يمكنني أن آمل؟

لكن كانط هو أيضا صاحب النص الشهير: ما هو التنوير؟ (1784) والنص/الكتاب الأقل شهرة لكن الذي -وبمعنى من المعاني- يكثف و"يفعل" فكر كانط "العملي" حول الدين (الله) والأخلاق (الواجب): الدين في حدود مجرد العقل (1793). 

أولا: ما هو التنوير؟ 

في ديسمبر 1783نشرت المجلة البرلينية الشهرية Berlinische Monatschrift مقالا لرجل دين يدعى جوهان فريديريخ زولنر هو عبارة عن رد على مقال سابق منشور في نفس المجلة (سبتمبر 1783) ينتقد فيه باسم فكر التنوير -الصاعد والكاسح آنذاك في عموم أوروبا- إرادة استمرار تدخل الدين في الحياة المدنية من خلال واقعة محددة:الزواج. ورد القس زولنر -في الواقع- تجاوز مجرد البوليميك الديني السياسي إلى طرح سؤال إشكالي دقيق وعميق ورد على شكل ملاحظة في آخر المقال صيغت كالتالي: " ما هو التنوير؟ هذا السؤال الذي هو تقريبا في نفس أهمية سؤال: ما هي الحقيقة؟ يلزم أن يتلقى جوابا قبل أن نبدأ في التنوير!وإلى حد الآن لم أعثر على هذا الجواب في أي مكان!"(5)

وفي هذا السياق ستتلقى وتنشر المجلة المذكورة جوابين أساسيين:

- جواب موسى مندلسون (سبتمبر 1784). 

- جواب إيمانويل كانط (ديسمبر 1784). 

- جواب موسى مندلسون: حول السؤال: ماذا يعني التنوير؟

ينعت موسى مندلسون (1729-1786) بأنه رائد "التنوير اليهودي" أو "الهسكالا". وبهذه الصفة فهو على خط أسلافه الكبار (من موسى بن ميمون إلى باروخ سبينوزا) قد بادر إلى تجاوز "التقليد" و"الموروث" بالنسبة للدين والشريعة اليهوديين، والتفكير بمنطق الراهن الموسوم بالتعارض المزعوم بين الفلسفة والدين (زمن ابن ميمون)، وزحف العقلانية الكاسح (زمن سبينوزا) وشيوع قيم الأنوار والتنوير (زمن مندلسون). 

وأطروحة مندلسون الجريئة في هذا الصدد يمكن تحديدها انطلاقا من تمييزه بين الدين المنزل الفارض لحقائق "ميتافيزيقية" ثابتة ومطلقة ومجرد الشريعة المتضمنة لوصايا موحى بها في مكان وزمان بعينهما. وفي اعتقاد مندلسون فاليهودية ليست بالدين المنزل ولكنها مجرد شريعة إلهية. وعليه، يكتب مندلسون في كتابه: أورشليم أو السلطة الدينية واليهودية (1783) - الذي لا يتردد الكثيرون في نعه ب"بميثاق" التنوير اليهودي- ما يلي(6):" أعتقد أن اليهودية ليست ديانة منزلة بالمفهوم الذي يتصوره المسيحيون. الإسرائيليون لهم شريعة إلهية: قوانين، أوامر، وصايا، قواعد للحياة، تلقين إرادة الرب فيما يخص الطريقة التي عليهم [الإسرائيليين] التصرف بها حتى ينالوا السعادة الدنيوية والأخروية؛ وهذا كله كشف لهم عن طريق [النبي] موسى بواسطة المعجزة والفعل الخارق؛ إنها قضايا "تعليمية" وليست أفكارا "مذهبية" [...]فهذه الأخيرة كشف عنها الرب، [للإسرائيليين] كما لسائر البشر،، في كل زمن، بواسطة الطبيعة وأشياءها وليس بواسطة القول والكتابة". 

وعليه، فالعقل هو السبيل إلى إدراك هذه الديانة الكونية وهذا ما يشترك فيه كل البشر. 

كتب مندلسون في كتابه المذكور: "لا أعتقد أن قوى العقل الإنساني غير كافية لإدراك الحقائق الخالدة الضرورية لسعادة الإنسان، وبالتالي، فالرب كشف له عن ذلك بطريقة خارقة. إن الذين يؤكدون ذلك يرفضون منح قوة ورحمة للرب من جهة معتقدين أنهم يمنحونهما إياه من جهة أخرى. ففي رأيهم فهو رحيم إلى حد الكشف للناس عن الحقائق التي ترتبط بها سعادتهم، ولكنه أقل قوة ورحمة بحيث يمنحهم القوى ليكتشفوها بأنفسهم ". وهنا ندرك جواب مندلسون على سؤال التنوير. 

إن مندلسون يبدأ -أولا- بإجراء تحديد أو تقسيم دقيق وحاسم بين مفاهيم أو مصطلحات ثلاثة: الثقافة Kultur، التنويرAufklarung وما يمكن ترجمته بالحضارة Bildung التي هي لقاء أو اتساق الثقافة والتنوير. فالثقافة هي عملية (= حذق الصنعة ورهافة الذوق وحسن التدبير)، والتنوير هو هيمنة العقل على الأفكار والأفعال في أفق ما يمكن التعبير عنه بالمصير الإنساني (= "البحث عن الحقيقة، حب الجمال، إرادة الخير وإتيان الأفعال الحسنة"). وتكون أمة ما "مباركة" بمقدار توافق أصالتها الداخلية الصلبة مع مظهرها الخارجي الحي والجذاب (ما يدعوه مندلسون بالطلاء). وهذا رهن أيضا بحصول اتساق أو توافق ثان: حاجيات الإنسان (أفق التنوير العقلاني) مع حاجيات المواطن (أفق الثقافة السياسية). وهنا تبرز إرادة الفرد المستنير حرة وفاعلة ومسؤولة فيما يخص مصير "المواطن" ومصير "الإنسان". 

- ما هو التنوير؟ إيمانويل كانط:

ملفت للانتباه -أولا- أن كانط كتب جوابه على سؤال: ما هو التنوير؟ في خضم تفكيره وإنجازه لمشروعه الفلسفي النقدي الكبير (ثمانينات القرن الثامن عشر). وعليه، لا يمكن قراءة هذا النص الكانطي الشهير بدون استحضار ما يمكن اعتباره الأطروحة المركزية في مجمل المشروع الفلسفي النقدي الكانطي. وهذه الأطروحة تتمثل فيما يمكن التعبير عنه بمحدودية الإنسان "معرفيا" وحريته المطلقة "أخلاقيا". وإدراك هذه الواقعة الأولى يمثل -بدون شك- بداية حصول التنوير بمعنى "خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه. وهذا القصور هو عجزه عن استخدام عقله إلا بتوجيه من إنسان آخر,ويجلب الإنسان على نفسه ذنب هذا القصور عندما لا يكون السبب فيه هو الافتقار إلى العقل بل إلى العزم والشجاعة اللذين يحفزانه على استخدام عقله بغير توجيه من إنسان آخر. لتكن لك الشجاعة لاستخدام عقلك! ذلك هو شعار التنوير. " (من نص ما هوالتنوير؟). 

وعليه، فالأمر لا يتعلق هنا بتحصيل معرفة فلسفية نقدية ناجزة (مع الاعتراف بأهمية هذا المعطى)، ولكن خوض غمار تجربة إنسانية وجودية أصيلة وحقيقية عبر عنها الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (وهو يعيد قراءة نص:ما هو التنوير؟) ب"أنطولوجيا الراهن". ففلسفة كانط النقدية -وفي قلبها يكمن وجوب وفضيلة تحرر الفرد الإنساني من كل وصاية حاضرة أو مستقبلية- هي أكثر من مجرد "لحظة" في تاريخ الفلسفة الممتد. إنها اللحظة الفلسفية بامتياز: لحظة اكتشاف الشرط الإنساني من حيث هو شرط معرفي "أداتي" نهائي وشرط أخلاقي غائي ولا نهائي. لذا لا غرابة أن يستمر الحضور الكانطي في الفلسفة المعاصرة والراهنة ولا ينقطع: إن كل راهن هو لحظة سانحة للعقل لممارسة واجب وفضيلة التفكير في ذاته. فكانط هدم صرح الميتافيزيقا التقليدية ليعيد بناء العقل البشري وليس ليتجاوزه (=نقد العقل النظري). كما أنه كشف عن "الأمر الأخلاقي" العقلي الذي يجعل الإنسان جديرا بالسعادة والفضيلة و"الأمل" في تحقق اقترانهما (= نقد العقل العملي ونقد ملكة الحكم). وجواب كانط على سؤال: ما هو التنوير؟ يرتبط تحديدا بحضور العقل وتجليه عبر ثلاثة مستويات: 

- مستوى فعل التفكير الحر والمسؤول ذاته. 

- مستوى التمييز بين الاستعمال الخاص للعقل [المرتبط بمجال محدود أو مهنة معينة] والاستعمال العمومي [المرتبط بقضايا التنوير العمومي]. 

- مستوى المراهنة ليس على التغيير الثوري العنيف ولكن على التراكم السلمي للإصلاحات التي تفضي في آخر المطاف إلى تغيير ليس الأشياء في حد ذاتها ولكن منظور رؤيتنا وتقديرنا لها. 

ثانيا: الدين في حدود مجرد العقل (1793):

أنجز كانط كتابه الدين في حدود مجرد العقل وهو قد خرج لتوه من ملحمته النقدية الثلاثية. وعلى ما يبدو فالأمر لا يتعلق بإنجاز مستقل ومنفصل ولكن بما عبرنا من قبل ب" تكثيف" و"تفعيل" فكر كانط "العملي" حول الدين (الله) والأخلاق (الواجب) من خلال أنموذج واحد: المسيحية. 

بتعبير أخر: إن الأمر يتعلق هنا تحديدا ب"المسيحية في حدود مجرد العقل". ومن هنا، بالتأكيد، عدم رضا السلطات البروسية وزجرها لأول مرة لفيلسوف كونجسبرغ الهادئ الذي سيتقبل في مرارة 

الواقعة مراوغا مراوغة فاشلة(7). فماذا يعني بالضبط عنوان الكتاب: الدين في حدود مجرد العقل؟وما مضمونه الذي حرك الرقابة البروسية بل وأزعج بعض زملاء كانط من علماء الدين في الكلية؟

بصدد عنوان الكتاب ومضمونه (ثمة رباط وثيق بين الاثنين) كتب كانط في مقدمة الطبعة الثانية للكتاب (1794) ما يلي: "يستطيع الوحي أن يحتوي في ذاته على دين العقل الخالص ولكن هذا الأخير لا يستطيع، بالتبادل، أن يحتوي في ذاته العنصر التاريخي للوحي؛وعليه، فيمكنني اعتبار هذا الأخير مجال إيمان أرحب ودين العقل الخالص محال إيمان محصور متضمنا في الأول (...)، والفيلسوف ملزم بالبقاء في حدود المجال الثاني متجردا من كل تجربة. وفي هذا المنظور يمكنني القيام بمحاولة ثانية، أعني الانطلاق من وحي ديني مقرر متجردا من دين العقل الخالص (باعتباره يشكل نظاما مستقلا) واعتبار الوحي كنظام تاريخي بطريقة شذرية تبقي فقط على المفاهيم الأخلاقية متوقعا الوصول إلى ذات النظام العقلي الخالص للدين (...) وفي حال نجاح المحاولة يكون من حقنا التأكيد ليس فقط بوجود توافق ولكن وحدة بين العقل والكتاب المنزل بحيث أن الذي يتبع أحدهما (بتوجيه من المفاهيم الأخلاقية) سيلتقي ضرورة مع الآخر". 

وعلى ما يبدو فما سعى كانط إلى إنجازه في كتاب الدين في حدود مجرد العقل هو بالضبط نوع من "المحاولة الثانية" هذه: تجريد الدين (ويتعلق الأمر هنا تحديدا بالمسيحية) من نصيته وطقوسيته وحصره في نطاق ما هو عملي أخلاقي وعقلي ليس يمعنى استنباط الدين من العقل الخالص ["لأن هذا سيكون مثلا أعلى محضا"] ولكن اعتبار أن "الجوهري في كل عبادة لله يقوم في أخلاقية الإنسان". ومن هنا تتحدد أقسام كتاب الدين في حدود مجرد العقل الأربعة كالتالي: 

القسم الأول: حول تعايش مبدأ الخير ومبدأ الشر أو عن الشر الجذري في الطبيعة. 

القسم الثاني:الصراع بين مبدأ الخير ومبدأ الشر للسيطرة على الإنسان. 

القسم الثالث: انتصار مبدأ الخير على مبدأ الشر: تحقيق ملكوت الله على الأرض. 

القسم الرابع: العبادة الصحيحة والعبادة الخاطئة تحت سيادة مبدأ الخير أو الدين والكهنوت. 

إن كانط ينطلق من أن الإنسان ليس خيرا بالطبع ولا شريرا بالطبع. كما أنه لا يمكن إقرار حقيقة وسطية بين الاثنين: الإنسان خير من جهة وشرير من جهة. وفي الواقع ففي الإنسان استعدادات للخير وميول للشر. والمطروح هو تجاوز نطاق "الحيوانية" (الغرائز) ونطاق "الإنسانية" (ما يرتبط بالتحضر والتمدن مثل حب الذات وإرادة التفوق والسيطرة...) وحصول الاستعداد للشعور باحترام القانون الأخلاقي في ذاته ولذاته (نطاق الشخصية). وهذا ما يعبر عنه كانط ب"استرداد الاستعداد الأولي للخير فينا" الذي هو في جوهره "ثورة" و"ميلاد جديد"، وفي ظاهره سعي متدرج وعسير لأن يكون الإنسان مقتربا أكثر من "الكمال الأخلاقي" المتجسد في فكرة "الله". وعليه، فليس على الإنسان الاهتمام بكيفية سيجازيه الله على نهجه هذا السبيل الأخلاقي المتدرج والعسير ولكن المهم هو أن ينتهي "مرضيا عليه من الله" وجديرا بإدراك حالة اتحاد الفضيلة والسعادة كما تلوح في "مملكة الغايات" الإلهية. وفي هذا الصدد يؤول كانط المسيحية باعتبار "تاريخيتها" وتحولها إلى "مذهب لاهوتي" و"جهاز كهنوتي" أي "دينا وضعيا" و"دين عبادة وعبودية" مقابل "دين أخلاقي" يتجاوز الشكليات والطقوس من نذور وأضحيات وصلوات ودعوات مركزا على المجهود الذي يبذله الفرد ليكون دوما وباستمرار أفضل أخلاقيا. ف"الكمال الأخلاقي للإنسانية هو غاية الله من خلق العالم". ومضمون "الدين في حدود مجرد العقل" هو بالضبط اعتبار أخلاقية الدين والتدين أولا وأخيرا. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1) انظر بالخصوص:

Pierre Pierrard: l’Eglise et la Revolution- Michel Vovelle: la Revolution contre l’Eglise,De la Raison à l’Etre Suprême. 

2) Bernard Cottret: Le christ des lumières ;Ed cerf, Paris,1990 ,pp 23-34

3) Voltaire, et l’Islam ,Djavad Hadidi ;Publication Orientalistes de France ;Paris ;1974. 

4) في نفس السياق أشير إلى:

جون تولاند Toland (1670-1722) صاحب كتاب المسيحية بدون غموض ولا أسرار حيث يتم التأكيد على إيمان ديني متحرر من الطقوس الشكلية والمعتقدات الغامضة وبالتالي قريب من دين طبيعي أو فطري. 

أنطوني كولينز Collins (1676-1729 المعتبر زعيم "الفكر الحر" حيث تبرز حرية الفكر والتفكير باعتبارها القيمة الأسمى (كتابه المعنون بخطاب حول حرية التفكير). 

ماثيو ثندال Mathew Tindal (1657-1733) المنافح الأكبر عن الدين الطبيعي الذي هو دين الإنسان الأصلي قبل أن تفسده الكنيسة باستبدادها وزعمها احتكار الخلاص الإنساني (كتابه: المسيحية القديمة قدم الخليقة). 

5) نص مقال زولنر والمقالات المرتبطة بسؤال:ما هو التنوير؟ منشورة في كتاب:

Qu’est-ce que les Lumières ? Choix de textes,traduction ,préface et notes de Jean Mondot. Publication de l’université de Saint-Étienne 1961. 

6) Jérusalem ou pouvoir politique et judaïsme, Gallimard, Paris, 2007

7) في هذا الصدد أرسل ويلنر وزير فريديريك الثاني رسالة تأنيب وتهديد إلى كانط مما جاء فيه:" لقد لاحظ سمونا منذ زمن بمرارة وضجر الطريقة التي وفقها أسرفتم في فلسفتكم في تشويه واحتقار الثوابت الأساسية والرسمية للكتب المقدسة وللمسيحية... وذلك بخاصة في كتابكم الدين في حدود مجرد العقل... فإننا نلزمكم ضرورة بتبرير فعلكم ذاك، وإن لم تفعلوا فينبغي أن تنتظروا منا ما لا يعجبكم". وأجاب كانط: "إنني بوصفي مربيا للشباب أي ضمن دروسي الخصوصية لم أتعرض قط بأي نقد للكتب المقدسة ولا للمسيحية... وإنني لم أشكك أبدا في الدين الرسمي للدولة... وإن كتابي الدين في حدود مجرد العقل هو بالنسبة للعموم كتاب مستغلق غير مفهوم... وإنما هو مجرد نقاش بين علماء الكلية لا تعيره العامة أي اهتمام". كانط، نزاع الكليات (1798). نقلا عن أم الزين بنشيخة المسكيني: كانط راهنا أو الإنسان في حدود مجرد العقل، المركز الثقافي العربي، ص51.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/11/228

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك