التقليد والمجال العام في فكر حنة أرنت

عبد الله السيد ولد أباه

تكرس سردية التنوير فكرة ارتباط مفهوم الحرية وما يتصل به من قيم الديمقراطية التعددية ومنظومة حقوق الإنسان الجوهرية بالخروج من التقليد واستخدام العقل بمفهومه الذاتي الفردي(1).

على عكس هذه الفكرة السائدة, تذهب الفيلسوفة الألمانية/الأمريكية "حنة أرنت" إلى أن الظاهرة الكليانية التوليتارية هي نتيجة طبيعية للخروج من التقليد وأثرٌ لانحسار المجال العام أفقا للسياسة التي تحولت في عصر الليبرالية الفردية إلى تقنية اجتماعية. 
سنحاول في هذا البحث الإجابة على إشكالين محوريين في فلسفة حنة أرنت هما: إلى أي حد يمكن ربط الظاهرة الكليانية بالحداثة أفقا تاريخيا وفكريا؟وهل يكون الحل في الرجوع للتقليد من حيث هو شرط بناء عالم مشترك يتأسس عليه مجال عمومي بصفته إطار المواطنة وسياق التجربة السياسية في دلالتها التعددية التشاركية؟
أولا: الحداثة والكليانية:ضياع العالم المشترك
لا تفتأ "حنة أرنت" تبين في دراساتها الرائدة حول الظاهرة الكليانية totalitarianism أن الكليانية ليست هي الصورة الحديثة للاستبداد السياسي ولا هي نمطا من الديكتاتورية بمفهومها التقليدي المألوف.
إنها نموذج جديد تماما من الحكم لم يعرفه العالم قبل القرن العشرين, بل هو الحدث الأبرز المميز للعصور الحديثة, وبذا قوض كامل عدتنا النظرية وأدواتنا المفهومية.
تعالج "أرنت" في دراساتها حول الكليانية تجارب ثلاثاً كبرى من الأنظمة السياسية الحديثة هي:النازية والستالينية والإمبريالية من حيث كونها تلتقي في عنصر جامع يطلق عليه "الأسى" loneliness أو "الانعزال"isolation ويعني هنا الاغتراب الكامل إزاء العالم وافتقاد الصلة بالكيان الجماعي, بحيث يكون البشر فائضا زائدا (2).
ليس الانعزال هو الاعتزال، بصفته تجربة فردية حرة لا تعني الانقطاع عن العالم؛ وإنما حضور الذات مع نفسها كما يتم خلال عملية التفكير العميقة (لدى الفيلسوف مثلا), كما أنه يختلف عن "العزل" الذي تمارسه الأنظمة التسلطية الاستبدادية؛ حيث يتحكم فرد واحد في المجال السياسي؛ لكنه لا يستولي على باقي منافذ الترابط الجماعي والتفكير. 
الانعزال تجربة إنسانية قصوى تتعلق بكامل مستويات ودوائر الوجود الإنساني, حيث "يغترب" الإنسان عن ذاته ويتعرض للاستهداف في مجاله الحيوي والحميمي, فيغدو عديم الفائدة والقيمة superfluous,لا مكان له في العالم.
تبين أرنت أن الكليانية من هذا المنظور لا تقوم على الإكراه؛ بل تتسم مفارقتها الكبرى بأنها تقتضي انجراف الجموع المشتتة المستلبة؛ أي "الكتل المتجمهرة"masses التي هي التعبير عن تفكك المجموعة الإنسانية، التي تغدو عندئذ هشة وعاجزة أمام إستراتيجيات التعبئة والتحشيد والتنظيم. الجماهير لا تجمعها رؤية واحدة ولا مصالح مشتركة أو إطار طبقي؛ بل هي ذرات متناثرة تعيد الأنظمة الكليانية تشكيلها كعجينة لا جذور لها ولا مقومات تجمعها(3). 
ومن هنا دور الدعاية propaganda بصفتها - بالإضافة إلى الرعب terror - أداة تشكيل الكتل والحشود المشتتة. وعندما يصبح للنظام الكلياني السيطرة المطلقة تتقلص حاجته إلى الدعاية الترويجية التي يعوضها الإعداد الإيديولوجي والقولبة الفكرية القسرية indoctrination، فلا يعود العنف ضرورة لتخويف الناس؛ وإنما لفرض المعتقد الرسمي وتمويه "الأخطاء العملية".
تبين أرنت أن الدعاية ليست خطابا تحريضيا اعتباطيا فاقدا للدلالة, بل تستند إلى نمط ما من "النزعة العلموية الإيديولوجية"، وتعتمد ضربا من "التقنية الرسالية" الناجعة على الرغم من مضمونها الفارغ.
بيد أن "حنة أرنت" وإن رأت أن النزعة العلموية وما يرتبط بها من دعاية تحشيدية تتجاوز في الواقع الظاهرة الكليانية بما هي أداة واسعة الاستخدام في السياسة الحديثة, تتعلق بأفق التقانة وهوس التجريب العلمي الذي طبع العالم الغربي الحديث, إلا أن ما يميز الظاهرة الكليانية بالنسبة لها عن الإيديولوجيات الوضعية والنفعية هو رفضها أي مقاربة للطبيعة الإنسانية وانبناؤها على الإيمان العميق بإمكانية "تحوير الطبيعة الإنسانية". ما يتغير بالنسبة للأطروحة الوضعية التاريخانية هو سياق الظرفية الإنسانية وليس الانفعال البشري نفسه(4).
لا تعتمد الكليانية على الوقائع والتجربة العينية؛ ذلك أن معيار التعبئة التحشيدية ليس الحقيقة ولو مزيفة؛ وإنما "الانسجام" الذي لا يمكن أن يتحقق دون القطيعة مع "الحس المشترك".الهدف الحقيقي للدعاية التوليتارية ليس الإقناع؛ وإنما التنظيم الذي ليس عامل تجميع وترابط؛ بل هو تحشيد يشكل نوعا من "سور الحماية" الذي يفصل الكتل عن العالم الخارجي والواقعي من حيث إنه يخلق لديهم وهْم الاندماج الطبيعي في العالم. 
التوليتارية هي إذن حالة اغتراب وانفصام عن العالم, وتعني عبارة عالم world المجال المشترك بين الناس؛ أي سياق التواصل والتحاور بين البشر من حيث طابعهم التعددي المتنوع. العالم بهذا المعنى لا يكون إلا عموميا ومشتركا, في مقابل انعزال واغتراب الإنسان الحديث الذي تطحنه الآلية التوتايتارية.
ترجع "حنة أرنت " ظاهرة ضياع العالم إلى انحسار التقليد وانقطاع خيط التركة الواصلة بالماضي الذي يرتبط بالعصور الحديثة,حتى لو كانت تذهب في بعض النصوص إلى إرجاعه للجذور الأولية لفلسفة السياسة منذ اللحظة الأفلاطونية كما سنبين لاحقا.
تبرز ظاهرة "ضياع العالم" acosmism في مستويات ثلاثة رئيسة نقف عندها في أعمال حنة أرنت:

أولها:هيمنة "الشغل" labor على باقي مناحي حياة الإنسان العملية vita active , في مقابل "العمل" work والفعل action.

الشغل مرتبط بظرفية العيش بالمفهوم البيولوجي؛ أي بمجرد حفظ النوع البشري، وهو بُعْدٌ يلتقي فيه الإنسان مع باقي أنواع الحيوان, في حين أن العمل من حيث يصوغ "عالما مصطنعا من الأشياء" هو نشاط إنساني من حيث بُعده الإبداعي الذي يتجاوز الأفق الطبيعي, أما الفعل فهو النشاط الذي يعبر عن الوجود البشري المشترك في ترابطه وتفاعليته وتنوعه وهو بالتالي أفق الفعل السياسي. 
احتل الشغل في الحداثة المكانة التي كان يحتلها التأمل في العصور القديمة, فالإنسان الحديث -بما هو "إنسان صانع"homo faber - ولج الثورة الحديثة عن طريق الصناعة والاختراع بفضل الأداة التقنية, ومن ثم ارتبط التقدم العلمي منذ تلك المرحلة بالتصرف التقني والممارسة الأداتية. ومن الواضح أن أرنت هنا تستعيد بعض الأفكار الرئيسة التي قدمها أستاذها الفيلسوف الألماني "مارتن هايدغر" حول التقانة بصفتها "ميتافيزيقا العصور الحديثة " في عصر "العلم الذي لا يفكر"(5).
يترتب على هذا التصور أن تتحول الإنتاجية والاختراع إلى "أصنام" للعصور الحديثة, وأن ينتقل العلم من معرفة ماهيات الأشياء وطبائعها إلى مسارات تشكيلها وبنائها التجريبي؛ أي من موضوع الطبيعة والكون إلى موضوع التاريخ وقصة تكون الطبيعة والحياة, من مفهوم الوجود إلى مفهوم السيرورة (مسار الإنتاج الذي يسبق ضرورة وجود الأشياء).
في ظرفية الشغل, الوسيلة - حركية الاختراع - أهم من الغاية؛ أي المنتج النهائي نتيجة للمقاربة الميكانيكية للكون التي هي خلفية رؤية الإنسان الصانع القائمة على التوجس من الوظائف الإنسانية المدركة للحقيقة أي للمعطى الثابت، وفي المقابل الثقة الجديدة في الاشتغال الأداتي(6).
وتبين "حنة أرنت" أن الحداثة السياسية تندرج نظريا في هذا الحقل الجديد للشغل كعماد لظرفية الإنسان الحديث, موجهة النظر إلى محاولات بناء فلسفات سياسية تنسجم مع مشروع اختراع "حيوان سياسي اصطناعي" على غرار "اللفيتان" الهوبزي. 
فبالنسبة لهوبز -كما لدى ديكارت- "الشك هو المحرك الأول" و"الفن الإنساني" الذي من خلاله يحكم الإنسان عالمه "كما صنع الإله عالمه وسيره", ويتم ذلك من خلال "الاستبطان" الذي هو عملية التأمل الداخلي التي من خلالها يبني الإنسان وجوده دون الرجوع لأي حقيقة مفارقة خارجية , فمسار الاختراع الذي من خلاله تصنع الأشياء الطبيعية هو نفسه المتبع في مجال الشؤون البشرية.
وتعني هذه الملاحظة أن مبدأ الذاتية الذي هو مفتاح العصور الحديثة يتأسس على نموذج "الاختراع"؛ أي النظرة التجريبية الأداتية للطبيعة التي تمتد للمباحث الإنسانية. 
ومن هنا ندرك طبيعة النظرة الميكانيكية والوضعية للمبحث السياسي لدى فلاسفة الحداثة في دراستهم التجريبية للأهواء والانفعالات النفسية مادة للممارسة السياسية, بحيث تفضي "مسارات الحياة الباطنية" التي يقع استكشافها من خلال عملية التفكير الذاتي والاستبطان الداخلي إلى قواعد ومعايير لخلق الحياة "الآلية" لهذا "الإنسان المصطنع" (المجتمع السياسي المخترع) وفق التصور القائم على استبدال الأفكار بالمسارات الموجهة لأنشطة الإنسان الصانع الذي أفرزته العصور الحديثة (7).
وفي نقد جذري لفيلسوف الحداثة السياسية "توماس هوبز", تذهب جنة أرنت إلى أن إدماج مفاهيم الاختراع والحساب في الفلسفة السياسية أدى إلى العجز الكامل عن فهم الواقع السياسي أو حتى مجرد الإيمان به.
فما دام الشيء الذي سأصنعه هو الشيء الواقعي الوحيد الممكن (كما يستنتج من نظرية الاختراع)؛ فإن الواقع السياسي -بما هو حدث احتمالي- لا يمكن توقعه ولا التحكم فيه، ولا يخضع لمبدأ الحساب والقياس, ومن هنا فإن العقلانية السياسية الحديثة هي في عمقها "غير عقلانية"، وواقعيتها "غير واقعية"، مما يعني أن الواقع والعقل قد انفصما فيها (أدرك هيغل هذا الانفصام وحاول كغيره من فلاسفة التاريخ سده دون نجاح).
إن ما تبينه أرنت هو أن انتصار الإنسان الصانع على الإنسان المتأمل هو مصدر "اغتراب"alienation الإنسان الحديث عن العالم الذي يعني في الواقع الإنساني ضياع الفعل السياسي الذي يقتضي الخروج عن الضرورة الطبيعية والاندماج في ظرفية التعدد والتنوع البشري. وفي نقد جلي لماركس, ترى حنة أرنت أن الشغل ليس هو الذي يؤسس الوجود الإنساني المشترك؛ بل هو أكثر مستويات الظرفية الإنسانية انحطاطا وأبعدها عن الفعل الأصيل.
ثانيها:انحسار المجال العمومي public الذي هو مجال الفعل السياسي إثْر إبطال الحداثة للقسمة التقليدية بين بُعدي العام والخاص private، الذي نتج عنه الانتقال من الأفق السياسي إلى الأفق الاجتماعي المميز للعصور الحديثة. لقد كانت ثنائية العام والخاص جلية وواضحة لدى اليونان الذين ميزوا بين النشاط السياسي و"الترابط الطبيعي" المتمحور حول المنزل Oikia والأسرة. المدينة من هذا المنظور توفر للإنسان حياة ثانية تنضاف إلى حياته الطبيعية, بحيث ينتمي كل فرد لمستوين من الوجود يعبر أحدهما عن نمط عيشه الخاص، ويعبر الآخر عن نمط عيشه المشترك. يقوم نظام الأسرة على الأمر والطاعة والسلطة المطلقة,ويقوم نظام المدينة على الإقناع والمشاركة. المجال العمومي في المدينة اليونانية هو مجال الحرية التي يتمتع بها مواطنون متساوون, وتعني الحرية هنا الانعتاق من ضرورات الحياة ومن السلط المهيمنة, في حين يسود التحكم المطلق والسيطرة التامة في المنزل والأسرة (8).
مع العصور الحديثة انمحت هذه الحدود بين الخاص والعام، وتغيرت حدودها بانبثاق أفق جديد هو الأفق "الاجتماعي" social، الذي أصبح يأخذ دلالة الأفق السياسي المنمحي. انتقل مفهوم الخاص من دلالته المرتبطة بالتسيير التحكمي الإطلاقي في المنزل إلى دلالة "الحميمي" المتعارض مع البعد الاجتماعي (الذي لم يكن معروفا لدى اليونان) دون تضارب مع البعد السياسي ذاته.
بدأ مسار انمحاء السياسي وظهور الاجتماعي مع "جان جاك روسو" الذي أعاد طرح المسألة السياسية وفق ثنائية الفرد والمجتمع، وتصور الحرية كتحرر من تحكم وسلطة المجتمع.وما دام الخاص قد تحول إلى الجانب الحميمي intimate أي الضمير والوعي؛ فإنه لم يعد له موقع عيني يجسده في العالم, كما أن المجتمع الذي يواجهه لا يمكن أن يتجسد بطريقة عملية ودقيقة كما كان شأن المجال العمومي. وكما تقول أرنت بلغة ساخرة: إن الحميمي والاجتماعي بالنسبة لروسو هما "نمطان ذاتيان من الوجود"، وكأن روسو يثور ضد روسو نفسه(9).
وهكذا ظلت الذاتية الراديكالية الحديثة تعاني من هذا المأزق المتولد عن صراعاتها مع نفسها (العجز عن العيش داخل المجتمع والعجز عن الخروج عنه)، مما عكسه الأدب الحديث وخصوصا الرواية التي هي الشكل الأدبي الأنسب للتعبير عن تناقضات الذات ومآسيها الداخلية.
مع انبثاق الأفق الاجتماعي وانسحاب شكل الوجود السياسي,تغيرت دلالة المساواة التي أصبحت تعني "التطابق"conformism باعتبار أن المجتمع هو عائلة كبرى يتعين عليها أن تظهر في شكل مجموعة متحدة المصالح ومتجانسة الأفكار. ومن الملاحظ هنا أن انهيار العائلة بمفهومها التقليدي قد تزامن مع انبثاق المجتمع الذي يستوعب كامل أصناف التجمعات البشرية.
وتستنتج أرنت من هذا التحول أن تشكل المجتمع يلغي عمليا إمكانية الفعل بقدر ما كانت هذه الإمكانية ملغاة داخل العائلة اليونانية؛ لأن نظام المجتمع يقوم على القولبة وفرض التجانس وتقويض الخصوصيات. نلمس هنا جانبا آخر من جوانب ظاهرة تقويض العالم المشترك داخل "مجتمع أحادي" على غرار الخلايا الأسرية القديمة لا تنوع فيه ولا تعددية؛ ذلك "أن انتصار المساواة في العالم الحديث ليس سوى الاعتراف القانوني والسياسي بواقع كون المجتمع قد اكتسح المجال العمومي public realm,والاعتراف بأن التمييزات والاختلافات غدت أمورا خاصة تتعلق بالفرد"(10).
مع انبثاق المجتمع احتل "السلوك" موقع "الفعل" الذي هو الأفق السياسي من حيث كونه النشاط الجوهري في نظام العلاقات الإنسانية, فانتفت روح التنافس والتميز التي كانت تسم المجال العمومي بالمفهوم اليوناني وما يرتبط به من تصور للمساواة يختزن دلالة التسامي الفردي. ومن هنا تأتي مركزية علم الاقتصاد في منهجيته الإحصائية الكمية في رصد وتوجيه الفعل الاجتماعي وتحويل السلطة السياسية إلى تسيير بيروقراطي لمجتمع متجانس.
المجال العمومي هو "العالم ذاته بما هو مشترك بيننا"، وهو بذا متميز عن الموقع الذي نشغله فيه, إنه ما يربط البشر فيما بينهم وما يمنعهم من ذوبان بعضهم في الآخر، فيحقق لهم تميزهم، ويحافظ لهم على تنوعهم, في مقابل عالم الكتل المتجمهرة الذي لا يمكن تحمله باعتباره فاقدا لمقومات الجمع ومقومات التميز معا.
ثالثها: النظر لمسار الفلسفة السياسية بصفته تاريخ "نسيان الفعل"(على غرار نسيان الوجود لدى هايدغر).ومع أن أرنت ترجع هذا النسيان إلى اللحظة الأفلاطونية؛ فإنها ترى أن الحداثة السياسية جذرت هذا الاتجاه وأوصلته لمداه.
تقوم الأفلاطونية من هذا المنظور على إهمال جوهر الفعل السياسي (من حوار عمومي ونشاط تناغمي وتعددية فعلية) انطلاقا من حلم "مدينة الفيلسوف" الأحادية التي ينظر فيها للحوار العمومي كمجرد صراع بين آراء ظنية لا حقيقة لها.وترى أرنت أن الفلاسفة المحدثين عمقوا نسيان الفعل السياسي من خلال تصورهم للفكر من حيث هو انسحاب وانفصال عن الحياة العملية انطلاقا من مرجعية الوعي مع اختزال الفعل في الصناعة والاختراع. 
وهكذا أصبح الفهم الحديث للسياسة هو فرض نظام خارجي على مجتمع مفكك في كينونته الطبيعية ليس له بناء ذاتي من داخله, مع تقسيم الفعل السياسي إلى لحظتين متمايزتين، هما لحظة التصور ولحظة الإنجاز, وذلك ما يترتب عليه فهم الممارسة السياسية وفق ثنائية الأمر والخضوع، مع إلغاء الأبعاد الترابطية العضوية في الفعل السياسي.
إن الفكرة التي يتأسس عليها هذا التصور للنشاط السياسي هي أن البشر عاجزون بأنفسهم عن وضع قواعد تعايشهم المشترك، وكأنهم بحاجة للسند النظري الذي توفره الفلسفة من أجل تشكيل بنائهم السياسي المنظم."الفلسفة السياسية تقوم ضرورة على مسلك الفيلسوف إزاء السياسة:يبدأ تقليدها عندما يصرف الفيلسوف نظره عن السياسة لكي يعود إليها لفرض معاييره الخاصة على الشؤون الإنسانية"(11).
يندرج هنا النكوص عن التقليد بصفته نأيا عمّا يشكل الانتظام الذاتي الطبيعي للمجتمع الإنساني في تعدديته وتنوعه واستبداله بالطوبائيات النظرية التي لها مكان في الواقع.
بيد أن أرنت تبين أن فلاسفة القطيعة مع التقليد (أبرزهم ماركس وكيكغارد ونتشه) لم يتمكنوا من الخروج على تقليد الفلسفة السياسية في تناولهم للظواهر الحديثة، فاستخدموا "الأدوات التصورية" المستعارة من التقليد. بدأ التقليد الفلسفي السياسي باكتشاف أفلاطون بأن التجربة الفلسفية تقتضي صرف النظر عن "العالم المشترك للظواهر الإنسانية"، وانتهى التقليد عندما لم يبق من هذه التجربة سوى "التقابل بين الفكر والفعل" الذي أفضى إلى عدمية كاملة ينتفي فيها معنى الفكر والفعل معا(12).
السياسة وفق تعريف أرنت تقوم على مقوم جوهري هو التنوع الإنساني كما يتجسد في الفصل الواضح بين مجالين ينتمي إليهما الإنسان:مجال المواطنة بصفته إطار الاعتراف داخل عالم مشترك، ومجال الحياة الاجتماعية حيث الترابط الضروري لتحقيق الحاجات الطبيعية الحيوية (13), من دون هذا الفصل الحاسم لا يمكن الحديث عن مجتمع سياسي. وما تنتقده أرنت في الفلسفة السياسية الغربية هو تمويه هذا التمييز وإخفاؤه.
تلاحظ "حنة أرنت" أن ثمة سببين رئيسين لهذا التمويه هما:
أولا:تعريف الإنسان بأنه حيوان سياسي, وكأن السياسة جزء من ماهيته، في حين أن الإنسان كائن لا صلة فطرية تربطه بالسياسة؛ لأنه لا معنى للحديث عن السياسة خارج مجال الترابط الإنساني الجماعي. السياسة تنشأ في "الفضاء الوسيط" ومن داخل العلاقات بين البشر في تنوعهم واختلافهم.
ثانيا: التصور الديني للإنسان الذي خلقه الإله على صورته,بحيث يكون ثمة كائن إنساني واحد، ليس البشر في تنوعهم سوى نسخ متكررة منه, إنه الإنسان المتفرد المتوحد الذي لا يمكن أن ينتج عنه سوى الصراع والحرب (حرب الكل ضد الكل بالمفهوم الهوبزي) ما دام وجود الآخرين لا معنى له في تصورٍ ينطلق من كون الإله خلق كائنا واحدا على شاكلته (14).
ترى حنة أرنت أن الغرب حاول الخروج من هذا المأزق (استحالة السياسة من داخل النسق اللاهوتي) بتعويض السياسة بالتاريخ, بمعنى النظر إلى التنوع الإنساني ضمن منظور كلي للتاريخ الكوني بحيث يذوب في "فرد واحد يُدعى الإنسانية"(15).
هل يكون الخروج من مأزق الحداثة هو العودة للتقليد والقطيعة مع التصورات التاريخانية للسياسة والرجوع للمجال العمومي فضاءً أوحد للسياسة؟ وماذا يعني الرجوع للتقليد؟هل هو إحياء الماضي أو استكشاف آفاقه الغائبة وكنوزه المطمورة؟
ثانيا:العودة للتقليد:السلطة والدين
توحي بعض نصوص حنة أرنت بحنينها للتقليد ودفاعها عن سلطة الماضي مقابل الوضعية الراهنة للإنسان الحديث.
في هذا السياق يتعين تحديد ماذا تعنيه أرنت بثلاثية: "الدين,السلطة, التقليد" التي هي ثلاثية رومانية توفر فسحة نظرية خصبة لاستكناه إشكالية المجال العام كمحدد للفعل السياسي في الظرفية الراهنة.
في دراستها "ما هي السلطة؟" what is authority?(16), ترفض أرنت التصور السائد للسلطة بصفتها خضوعا وانقيادا أعمى.ليست السلطة إكراها ولا هيمنة, كما أنها ليست عملية إقناع وبرهنة, إنها المبدأ الذي تتأسس عليه الطاعة, ولذا لا يمكن الخلط بينها وممارسة السلطة, فهي تتعلق ببعد الثقة والقبول لا العنف أو الحيلة (17).
لا تنتفي الحرية مع السلطة؛ بل هي علاقة خضوع يحافظ فيها البشر على حرياتهم وقدراتهم الفعلية على النشاط والممارسة, في مقابل مبدأ الحرية الحديث الذي يخرجها من القدرة العينية إلى الإرادة الذاتية المجردة. السلطة هي واقع الاجتماع البشري التعددي الذي لا يمكن أن تمارس الحرية خارجه إلا إذا كانت حالة وجدانية أو نفسية لا تجربة واقعية حية. 
لا ينفصل مفهوم السلطة عن المكونين الآخرين من الثلاثية اللذين هما التقليد والدين, باعتبار أن السلطة تتأسس على الصلة بالماضي, فهي بهذا المعنى توفر للبشر "الاستمرارية" والديمومة اللتين يحتاجون إليهما من حيث كونهم عرضة للموت والفناء, ولذا فإن غياب السلطة يعني ضياع الأركان التي يقوم عليها الوجود الإنساني.
وتذهب حنة أرنت إلى القول: إن العصور الحديثة بنسيانها ثلاثية السلطة والتقليد والدين أضاعت الفعل السياسي, وإن كانت أرجعت الجذور البعيدة لهذا النسيان إلى تأثير الفلسفة اليونانية (الأفلاطونية على الأخص) والعقيدة المسيحية التي حرفت تجربة التأسيس الرومانية (بناء شرعية السلطة على مرجعية الأصول القديمة في الماضي) بإعطائها بعدا تاريخانيا مستقبليا (18).
وبقدر ما ترفض حنة أرنت النظر إلى السلطة بصفتها إكراها أو عنفا(إذا احتاجت السلطة إلى العنف تحولت إلى فعل استبدادي ولم تعد سلطة), وترفض اعتبار السلطة عملا برهانيا باعتبار أولوية المسبقات على الحكم والدليل (19), فإنها ترفض النظر للدين من حيث وظيفته الاجتماعية؛ أي كإيدولوجيا. 
مجال الدين هو التعالي في أفق أخروي, ولا يمكن تفسيره بغائيات نفعية أو مادية كما تحاول المقاربات المتأثرة بالمنهج الماركسي.وليس خط التمايز بين الدين والسياسة -حسب أرنت- هو بُعد التعالي نفسه؛ لأن السياسة من حيث هي فعل تواصلي منسق يجسد عالما مشتركا هي بالضرورة نشاط متعالٍ يتجاوز الحيز الاجتماعي الذي هو مجال تدافع المصالح الفردية. إلا أن ما يميز مفهوم التعالي السياسي عن التعالي الديني هو أنه لا يتجاوز الأفق البشري, في حين يتعلق التعالي الديني بخلاص الروح في عالم مفارق.غاية الفعل السياسي هي "الخلود" immortality؛ أي استمرارية العالم المشترك بين البشر، وغاية الدين هو بلوغ "الأزلية" eternity بمعنى ميتافيزيقي يتخطى الوجود البشري (20).لا تدعو أرنت إلى سيطرة الدين في المجال السياسي باعتبار أن نفاذ الدين للمجال العمومي لا يعني سوى تحقق مشروع "الإلحاد الراديكالي الحديث" في إذابة الدين في الحقل السياسي بحيث يصبح أداة من أدواته فيفقد أبعاده الروحانية المميزة.
ومع أنه لا يمكن النظر إلى حنة أرنت كفيلسوفة يهودية بالمعنى الديني أو اللاهوتي؛ إلا أنها في بعض نصوصها تذهب إلى قراءة رمزية "التيه" و"الشريعة" بالمفهوم اليهودي كتعبير عن فكرة الحرية بالمعنى الإيجابي والعيني في مقابل الحرية الذاتية غير المتعينة الحديثة ذات الجذور المسيحية. في التقليد اليهودي وفق هذا المنظور, القانون بصفته مدونة معيارية يخضع لها البشر بالتساوي مفهوم جديد غريب على الفكر اليوناني وهو الإسهام الأساسي لليهودية في الثقافة الإنسانية.
بيد أن الحداثة حرفت هذا الفهم للشرائع بإلغائها ثنائية القانون (المعايير المطلقة) والتنزيل العملي للمعايير الشرعية في الواقع؛ أي الحاجز بين الشرعية الوضعية ومعايير العدالة (المشروعية), فاتحة بذلك الباب للظاهرة الكليانية التي تحول القانون إلى عملية قولبة وتحريك للبشر ككتل جامدة لا يطلب منهم فعل ولا حكم.
القانون في التقليد الغربي له أهلية ودور للحد من الفعل البشري، ولذا لا يمكن أن ينبع من النشاط الإنساني نفسه؛ بل لا بد أن يكون خارجا عن المجال العمومي.ومن هنا الإشكالات العصية التي تطرحها مدونة حقوق الإنسان من حيث منزلتها في الممارسة القانونية.فما دام القانون قد تضاعفت قوته وهيمنته في الوقت الذي لم يعد مصدره إلهيا وإنما مجرد سيادة الدولة؛ فإن السؤال المتعلق بمصدر سلطة القانون يظل غير قابل للجواب(21).
لا يعني نقد مسار الحداثة السياسية وإعادة الاعتبار للتقليد نمطا من النكوص للماضي والرجوع لعصر ذهبي نموذجي,فحنة أرنت هي قبل كل شيء فيلسوفة الحدث, ترى أن سؤال الفلسفة هو التفكير في الحدث؛ أي التفكير في ظرف الإنسان الراهن. 
ويرتبط هذا الموقف الفلسفي بنظرتها العميقة للسياسة التي تعرفها بوضوح بقولها:"إن معنى السياسة هو الحرية"(22), وتعرف الحرية بأنها ترادف "البداية"beginning أو "الميلاد" natality.
عن طريق حدث الميلاد نلج إلى العالم؛ أي إلى المجال الواسع الذي يتجاوزنا, وكل ميلاد يضيف جديدا على العالم ويغير شكل العالم برمته,مما يجعل من المستحيل والخطير محاولة بناء قواعد صلبة ونهائية لنظام الاجتماع البشري على غرار ما تطمح إليه الإيديولوجيات الاجتماعية الحديثة, ومن هنا أهمية الذاكرة والسرد في تثبيت البناء الاجتماعي المتغير والمتحرك (23). 
لا تقول حنة أرنت بطبيعة إنسانية ثابتة؛ بل تقدم حسب عبارة "بول ريكور"نمطا من "الانتربولوجيا الفلسفية" تنزع فيها إلى تحديد المظاهر الأكثر ثباتا في ظرفية الإنسان؛ أي أقلها هشاشة في مواجهة تذبذبات وتصدعات الحداثة(24).
المفارقة الحاضرة بقوة في نصوص أرنت هي أن انقطاع حبل التقليد وإن كان المنقذ للكليانية بصفتها ضياعا للعالم المشترك ومن ثم نهاية السياسة؛ فإن نهاية التقليد تسمح من جهة أخرى بتدشين علاقة غير مسبوقة بالماضي, لا بصفته مرحلة تاريخية متجاوزة وفق سردية التقدم التي تنتقدها أرنت؛ وإنما من حيث هو منبع واسع للمعنى, بهذه الدلالة ليس التقليد مرادفا للماضي بما أنه يتضمن دوما تلك القدرة المتجددة على الابتداء والنشوء التي هي مضمون الحرية.
لكل مجموعة إنسانية "مجال تجربة معيشة" هو "هويتها السردية"(بلغة ريكور)؛ أي افقها المرجعي الذي يتشكل من ذاكرتها الحية ولا بد منه إطارا للفعل والنشاط, كما أن لكل مجموعة بشرية أيضا "أفق انتظار" يحدد توجهاتها وغائيات أفعالها, حتى ولو كان مجال التجربة قد تقلص في عصور الحداثة المهووسة بالقطيعة مع الماضي.(25)
لا نلمس لدى حنة أرنت نمطا من الحنين الطوبائي للماضي - النموذج (على غرار ليو شتراوس مثلا)؛ لكنها ترفض بوضوح لا لبس فيه الأطروحة التاريخانية التي تكرس القطيعة مع الماضي, مؤكدة أن للماضي" طلاوة غير متوقعة"، يستكشفها من له القدرة على حسن الاستماع، ومن هنا خطر نسيان الماضي الذي يعني التضحية بما في الوجود الإنساني من أعماق بعيدة. 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- راجع نص كانط الشهير حول ما هو التنوير؟
Kant (et M.Mendelssohn):qu'est-ce que les lumieres?
Mille et une nuits 2006. 
2 - Hannah Arendt: The origins of Totalitarianism A Harvard Book, 1979 p 474.
3- ibid p311.
4- ibid p 346-347.
5- M.Heidegger: Essais et conferences Gallimard 1958 p 9-48
حول علاقة حنة أرنت بهايدغر في نقد الحداثة والرؤية التقنية وعلاقتها بالجانب السياسي لأرنت راجع:
Dana R.Villa:Arendt et Heidegger:le destin du politique Payot, 2008, pp317-370.
6- H.Arendt: The human condition The Chicago university press, 1998 p 294-296.
7- ibid p 298-299.
8- ibid p24.
9- ibid p 39.
H.Arendt:On revolution Penguin Books 1990,
Chap:'The social question" p59-114.
10- H.Arendt: The human condition p4.
11- H.Arendt:Between past and future The Viking Press 1961 p p17-18.
12-ibid p25.
راجع في نقد حنة أرنت للفلسفة السياسية:
Miguel Abensour:Hannah Arendt contre la philosophie politique? Sens et Touka Paris 2006.
13- C.Lefort:"H.Arendt et la question du politique".
Essais sur le politique Seuil 1986 p 69
14- H.Arendt:Qu'est - que la politique?
Seuil 1995 p41-42
15- ibid p 42.
16-صدرت الدراسة عام 1958 ونشرت في كتابBetween past and future (p91-141).
17- ibid p 93.
18- ibid p 121-123.
19- حول الحكم المسبق راجع:
H.Arendt:Qu'est - que la politique? p49-61
20- راجع مقالة حنة أرنت حول الدين والسياسة:
"religion and politics" - Confluences, 2/3 sept 1953 p 105-126
21- راجع في الموضوع:
Martine Leibovici:Hannah Arendt et la question juive: le judaisme a l'epreuve de la secularization Editons Labor et Fides, 2003 p 29-32.
22- H.Arendt: Qu'est - que la politique? P64.
23- H.Arendt: The human condition p9.
24- Paul Ricoeur:"preface a la condition de l'homme moderne"
Le juste Editions Esprit 1995 p51.
25- Myriam Revault D'Allonnes:"Hannah Arendt penseur de la crise", Etudes, 2011,9, p197-206.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/11/221

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك