راية السلام العالمي يحملها الإسلام
راية السلام العالمي يحملها الإسلام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله النبي الأمي الأمين وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين، وبعد ؛
نؤمن يقيناً أن الأيام دول، وأن دولة الظلم ساعة وأن دولة الحق إلى قيام الساعة، كما نرى في الخطر المحدق بالإنسانية كلها ما يهدد قدرتها على البقاء والتطور والارتقاء، ونستشعر أن واجب الوقت يحتم على كل عاقل أن يتحرك لإيقاظ الإنسان من غفوته حتى لا يجهز عليه عدوه .
ومن ثم تكون وحدة الجنس الإنساني المرتبطة بأصل الرؤية النبوية المتبلورة في قوله صلى الله عليه وسلم "إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمهما بالآباء، الناس لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى " هي معيار الخلاص من هذا الواقع المرير الذي جرد الإنسانية من معانيها ليحولها إلى مادة مجردة تتناثر حول أشلائها قوانين الغاب التى تنتصر للأقوياء على حساب الضعفاء المقهورين .
كما يلزم للإنسانية أن تعود لأصل نهضتها ودعامة قوتها الممتدة من كونهم أبناء لآدم وتحتم عليها هذه الوحدة التعاون والتسالم والتراحم والتوجيه، ومع هذا تكون الأفضلية للاجتهاد في الفعل والانحياز للحق والعدل والحرية لرقي الإنسانية وهذا هو أصل نظرة الإسلام للإنسانية وهو كذلك ما يعتبره الإخوان المسلمين أساساً لمشروع نهضة الإنسان في العصر الحديث .
إن الإخوان المسلمين يدعون اليوم كل العالم لإعادة إعمال النظر في الرسالة الإسلامية للوقوف على دعائمها التي ترتقي بالبشر إلى علياء السماء وتحول دون استهلاكها لطاقاتها ومقدرات بيئتها في صراعات تأتي على الأخضر واليابس {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} (12البقرة)
كما يدعو الإخوان المسلمون كافة أصحاب العقول إلى التفاعل مع دعوة الله للبشرية كافة التي ساقها كتابه الكريم المتجاوز لحدود التقسيمات الجغرافية والتحالفات القطرية مخاطبًا كل العالمين (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً)(الفرقان:1) ( الفرقان ا)، ومستهدفاً وضع أساس روحي وعملي للوحدة العالمية عبر قوله جل في علاه {لتخرج الناس من الظلمات إلى النور}، وساعة يقف العقل البشري على حقيقة هذه الدعوة يكون قد أدرك أنها دعوة تسعى لصياغة وحدة رايتها السلام العالمي الذي يحمل النور لكافة البشر بعيداً عن محرقة المادية التي تأتي على الأخضر واليابس بدعوى فرض تطورها على الشعوب البائسة وحمايتها من مقاصل الذل والقهر .
ولقد استحالت الحضارة الحديثة واحدة من أدوات الفتك بالإنسان رغم زهوها بمفاتنها وإخضاعها للعالم كله بعلومها لكنها أمست تترنح أمام مطامعها ليتحول مشروعها السياسي إلى استبداد مقنع، وتتآكل مبادؤها الاقتصادية بفعل أنين الجياع وموجات الغلاء وبؤس البطالة، أما قواعدها المجتمعية فتتهاوى أعمدتها بمعاول الإباحية الجنسية وحرية المثلية الشاذة وموجات المد التي تثير الغرائز، ولا مجير من كل هذا بعدما استحالت كل منظمات العالم لعبة في يد القوى يطوع مؤتمراتها واجتماعاتها ومواثيقها ومعاهداتها حيثما أراد واشتهى .. يمنح لكي يأخذ الأضعاف ويعطي ليسلب المقدرات ويحمى ليغتصب، وصار السؤال الذي يطرح نفسه على الواقع ( ما المخرج ؟) .
وتأتي الإجابة عبر صفحات التاريخ التي تؤكد أن القيادة العالمية بين الشرق والغرب كانت تبادلية بين الحضارات إلى أن وصلت دفة القيادة للغرب ليقود ويهيمن ويصل بالعالم لسيادة شريعة الغاب .
ويحتم الواقع على الإنسانية أن تعيد النظر في رسالات السماء لتستظل بلواء الله تعالى وراية القرآن في فضاء النفوس الخاوية ليحييها الإيمان بعد موات ، ويوقظها بعد سبات (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (122الأنعام) .
وساعتها تعرف الإنسانية طريقها نحو النور متحررة من كل أغلال التبعية والانقياد {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}(الأعراف) مرددة مع ربعي بن عامر قوله نحن قوم ابتعثنا الله لنحرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة .
ويا أمة الإسلام
لئن كانت الظلمة حالكة والدروب في العتمة غارقة واليأس أسرع في التسلل إلى النفوس من الأمل والظلم رايته تواري رايات الحق فإن بين ظهوركم الحق وتحت ركام الواقع قلاع حضارتكم فصيغوا من قوة الحق الذي به تؤمنون وإليه تستندون وبه تسيرون ما يجعلكم في واقع الخيرية التي أكد عليها سبحانه وتعالى {كنتم خير أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ..} ساعين لنيل مرتبة الأمة الشاهده {وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } .
واعلموا أن العالم حالياً أحوج ما يكون لأن تعرضوا عليه بضاعتكم الربانية واثقين بنصر الله {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ } بشرط تحقيق معنى العبودية لله مخلصين له معلنين أن راية هذا الدين هي العدل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ} والكل أمام ميزان الإسلام سواء لأنه يرى في كل رسالات السماء إلى الأرض أن كل بني آدم أمام ميزان الحق سواء {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} .
وليكن فعل الخير في كافة مجالات الحياة هو نموذج الإنسانية في البناء الذي يعمر بفنون الحياة ممتثلين في ذلك كله دستور الحياة المبشر بالفلاح ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ومجالات الخير هي باب الفعل الذي يفرض واجب الوقت طرقه، لأن من سار على الدرب وصل وإن كان المنهج ربانياً بغير سعى فلن ينال أتباعه إلا الحسرة والتخلف والتبعية والانكسار لأن سمو المنهج لا تنال ثماره بالأماني (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً).
و أنتم أيها الإخوان
عندما يطالب اليوم الإخوان المسلمون كل العالم أن يعيد النظر إلى الإسلام ووضعه في ميزان العقل ليتأكد من امتلاكه مقومات خلاص الإنسانية فعلى أبناء دعوتنا أن يكونوا طليعة الخلق في عرض الإسلام طالما ارتضوا عهدهم مع الله هاتفين له ليل نهار بالثناء " الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله"- الأعراف 43 وساعين للهرب من ساحة من يستبدلهم الله يوم "يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومه لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء "المائدة. مستشعرين معنى الربانية التي تنطلق من حقيق الإيمان بالله غاية، ترفع من ينتسب إليها وتعز من يوقن بها .
فكونوا أيها الإخوان طليعة أقوامكم في الدعوة للنظر إلى الإسلام كمنهج حياة تجسده منكم الأفعال قبل الأقوال، وهذا لن يتأتى وربي إلا بالعمل الدؤب في ميادين الحياة الرحبة جهاداً في ساح العالم والتخطيط والتنمية والعمران، وليكن العمل الجاد شعار مرحلة تعلن فيها طليعة الأمة الإسلامية عن ميلاد الطبيب الذي سيداوي جراح البشرية بدوائها المحمدي {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً} .
ولا تطلبوا الأمر من غيركم فعلاً ومنكم قولاً بل كونوا أول الفاعلين عبادة وقدوة وإيماناً بـ{ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً}و قاوموا ثقافة اليأس بيقين المؤمنين وثبات المرابطين واجعلوا الإسلام ثقافة حياة للبشرية يحكم حياتكم عبر عقول واعية وقلوب مطمئنة وأبدان طاهرة . ومع هذا كله ثقة بوعد الله الحق { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} وما بعد هذا الوعد من قول إلا التواصي بالثبات على الحق والصبر عليه
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
القاهرة فى : 8 من جمادى الآخرة 1429هـ الموافق 12 من يونيه 1928هـ
المصدر: http://server/2011/warehousing.php?do=item_addnew