الحرب العادلة وأخلاقيات المسؤولية

جين بتكي ألشتاين

لا تظن أن [مفهوم] "الحرب العادلة" يختص بالحرب وحدها دون سواها؛ هذا هو الأمر الذي ما فتئت أنبه عليه منذ زمان؛ إنما يتعلق مفهوم "الحرب العادلة" بطريقة في التفكير ليست تخص الحرب وحدها دون ما عداها؛ وإنما تعم الحياة السياسية لتشملها برمتها، ولا سيما منها ذاك الجانب الذي يكون فيه استعمال قسر القوة أمراً وارداً، إن لم يكن قد لجئ إلى استعماله بالفعل في بعض المرات. والحال أن تلك الرؤية السياسية ـ أو الإطار السياسي ـ التي ترى أن الحرب العادلة أمر يقع داخل السياسة، ويساعد على تشكيلها من الأفضل أن نطلق عليها اسم "أخلاقية المسؤولية". ذلك أن موقف الحرب العادلة يتخذ لنفسه مجالا يضعه في تعارض مع القلب الصلب ل"واقعية" [سياسية] من ذاك الصنف الذي صوره الحوار الميلونيسي الفظيع الذي أورده [المؤرخ اليوناني الشهير] توقيديدس في كتابه الكلاسيكي "حرب البيلوبونيز"؛ إذ صور هذا العمل العظيم جنرالات أثينا وهم يعلنون بعجرفة إلى الأشقياء الميلونيسيين أن: "على القوي أن يفعل ما ينبغي عليه أن يفعله، وعلى الضعيف أن يتحمل ما ينبغي عليه أن يتحمله". هذا، كما أن الحرب العادلة تتعارض مع الادعاءات التي تجسدها النزعة السلمية بوصفها موقفا للحكامة السياسية ممكن التبني؛ وذلك بما يعني أنه -حسب رؤى مارثن لوثر [كينغ]- على وجه هذه البسيطة إذا وجدنا السبع يرقد إلى جانب الخروف، فإنه يلزم استبدال الخروف دائما. 

والآن -بطبيعة الحال- تنقدح في البال عدة سؤالات لما نحن نسلك بوفق هذه الطريقة في الحديث، ولما ننخرط في إطار أخلاقية مسؤولية ونلتزم بها: مسؤولية من؟ وإزاء ماذا؟ والحال أنه لئن كانت مسؤولياتنا لا تنتهي ـ أفكار "العدالة الكونية" أو شيء من هذا القبيل ـ فإنه ليس يمكننا أبدا أن نحصل جملة أفكار وأحداث. وهكذا، يكون علينا أن نجنح إلى ضرب من الأثير الكوني الذي نعوم فيه كل الأشياء، وذلك بحيث يصبح كل امرئ -بمعنى ما من المعاني- مسؤولا عن كل شيء. والحق أن تقليد الحرب العادلة إنما يجسد لنا تجسيدا ملموسا مجالا معينا من مجالات المسؤولية: مسؤولية رجال ونساء السياسة على السياسة التي ينهجونها، ومسؤولية نظام سياسي عن آخر، والمسؤولية المشتركة لكل الدول على نظام يساعد على الحفاظ على عالم مشكل من مختلف الهيئات السياسية. 

هذا ولقد انبنت أخلاقية المسؤولية هذه- فيما بعد الحرب العالمية الثانية- على أساس الطابع الكوني لحقوق الإنسان، وعلى التقزز المشترك من الإبادة الجماعية، وعلى صرخة: "أبدا، لن يتكرر هذا"؛ وذلك لما تعلق الأمر ببعض الفظاعات التي حدث أن ارتكبت. ولهذا السبب، لا ينبغي لنا أن نفاجأ من أن موضوع المسؤولية صار مطروحا مرة أخرى، وقد صيغ هذه المرة بوفق مفاهيم مسؤولية الحماية تحت قيادة الأمم المتحدة. وتقضي هذه الأخلاقية بأنه إذا ما كانت أمة أو طائفة من الأمم ضحايا عنف منظم وبيِّن ومسترسل، فإن من مسؤولية المجتمع الدولي أن يتحرك بقوة، وأن يتخذ خطوات إزاء هذا الوضع. وإذا ما رفضت الأمم المتحدة التحرك والفعل، فإنه يترتب عن ذلك أن دولة عضوا أو طائفة من الدول الأعضاء -إذا ما تم إجماع متقاسم واسع على الفظاعات المرتكبة- ينبغي عليها أن تتصرف شرعيا لمنع العنف ولاحتواء الفظاعة. 

وبما أن ثمة رهانا على الشلل الذي يصيب الأمم المتحدة، وبما أن القوى الأوربية عادة ما تقول قولاً كثيراً ولا تكون مهيأة لأن تفعل اللهم إلا القليل عن طريق "التدخل الإنساني"، على نحو ما أمسى يسمى اليوم، وذلك حتى في أوضاع يمكن للمرء الاستدلال فيها بالحجج وبالوثائق على أن هذه القوى كانت متورطة في النزاع (تعد رواندا مثالا صارخا وفاضحا على هذه المسألة)، فإن ما يستتبع ذلك هو أنه عادة ما تكون الولايات المتحدة -بوصفها الدولة التي تملك من القوة لإثناء أي دولة أخرى عن الكثير- هي التي يمكن أن يُطلب منها أو تحمل نفسها على أن تتحرك. ومهما يكن من أمر، فإن هذا المعيار الضمني للمسؤولية، إذا ما أضيف إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وإلى المعاهدة المتعلقة بالإبادة الجماعية -بما أنهما هما ما يرسم الخلفية- إنما هو سمة أساسية من ضمن حزمة سمات أخلاقية المسؤولية.

يضاف إلى ذلك التقليد المتعلق بالحرب العادلة. ما الذي تقوله لنا الحرب العادلة عن أهداف الحرب وغاياتها؟ وكيف ترتبط هذه بأخلاقيات مسؤولية؛ بما في ذلك أخلاقية إنهاء حرب والخروج منها، في حال ما إذا كانت دولة قد تدخلت في وضع معين؟ الحال أنه ينبغي أن ترتبط غاية الحرب ارتباطا داخليا بحجة إعمال قوة السلاح أولا؛ أي بإصلاح أو جبر ظلم شديد واقع أو عدوان غاشم حادث، ومعاقبة المعتدين. وقضية عادلة أخرى ينبغي أن تتمثل في المبادرة إلى الوقاية من ضرر جماعي شبه أكيد، وذلك مخافة أن يقع قبل أن يحدث، على الرغم من أن هذه المعضلة شكلت دوما محل تنازع بحيث انقسم مفكرو الحرب العادلة في شأن استعمال القوة أيكون أمرا اتقائيا أم وقائيا؛ لكن يتفق الجميع على أن هدف استعمال القوة استعمالا مبررا إنما هو تحقيق وضع أعدل من ذاك الذي يكون ذا صلة بما قبل نشوب النزاع المسلح. 

ولقد كان يسمى هذا الوضع -في الاهتمامات اللاهوتية الكلاسيكية التي دشنت تقليد الحرب العادلة بالغرب- "سكينة النظام أو هدوءه"؛ أي السلم المدني اللائق. والمعيار المحدد لاتخاذ قرار باستعمال القوة المسلحة إنما هو معيار حذر حكيم متعقل: هل تملك حظا وافرا للنجاح في مسعاك؟ فليس يسمح لامرئ أن يجعل وضعاً سيئاً أسوأ مما هو عليه، أو لنقُلْ بالأحرى: ما من امرئ إلا هو مجبر على فعل كل ما بوسعه لتفادي هذا الضرب من النتائج الكارثية التعيسة. وبالأخذ بعين الاهتمام في التقويم هذا الإطار الجاهز، يحق لنا أن نعرف ما الذي تدعونا مسؤولية أخلاقية حماية إلى فعله، لا سيما في أوضاع تكون فيها قوة متدخلة تتهيأ لمغادرة البلد الذي تدخلت فيه. وبعبارة أخرى، أركز فيما سوف يلحق هذا الكلام على أخلاقية إنهاء الحرب والخروج منها. ولئن كان المرء يتبنى معايير الحرب العادلة ومسؤولية الحماية، فما الذي عليه أن يلتزم به؟ يمكننا أن نسمي هذا الأمر أخلاقية تدخّل واحتلال عادلين مع إمكان سحب القوات المقاتلة. 

وقبل أن نبدأ بصوغ معايير أخلاقية خروج [من وضع التدخل] تكون متوافقة مع [مبادئ] التفكير في حرب عادلة وأخلاقية مسؤولية، علينا أن نتوفر -أولا- على وصف شامل ومناسب للوضع "على الميدان". على أن هذا أمر شديد الصعوبة بمكان؛ وذلك بما أن الأطراف المتنافسة بشأن حرب متجادل فيها سوف تسعى إلى توصيف الوضع بطرق تخدم استنتاجاتها الخاصة المتعلقة بما ينبغي أن يعمل والحالة هذه. وفي إطار تقليد محاججة أخلاقية مدعوة باسم "الواقعية" (والتي لا ينبغي خلطها مع مفهوم "مصلحة الدولة" الكلاسيكي)، فإنه يلزم المفكر الأخلاقي نفسه -سواء أكان ذكرا أم أنثى- بإيراد كل التفاصيل والحيثيات؛ أي بتجميع أكبر قدر من المعارف ممكن يتعلق بأي وضع معين. 

وهكذا -مثلا- فيما يتعلق ببعض التفاصيل الدائرة على حرب العراق، قيل لنا بأن البلد كان على شفا حفرة من حرب أهلية، ومن ثمة فإن الولايات المتحدة ـ وهنا تخطر المقارنة مع فيتنام على البال ـ منحشرة في أتون هذه الحرب الأهلية. والنتيجة التي تم التوصل إليها هي أن حضورها إنما كان من شأنه أن يجعل الأمور تسير نحو الأسوأ، وأن علينا أن ننجلي عن البلد بأسرع ما يكون، ملجئين بذلك العراقيين أنفسهم إلى التصالح فيما بينهم، حتى ولو مات منهم الآلاف المؤلفة قبل أن يتم بلوغ لحظة المصالحة تلك. 

من البين بذاته أن هذا السيناريو ما أفلح. وإذا ما نحن وصفنا النتيجة بطريقة مختلفة، فإنه سوف يكون علينا أن نقول بأنه بقدر ما لم نكن نحتاج إلا إلى قليل من الفِرَق الأمريكية، فإنه ما كانت ثمة في البدء ملامح حرب أهلية تلوح في الأفق، وإنما كانت ثمة -بالأحرى- "انتفاضة" تحاول أن تستثير حربا أهلية، وأنه -في النهاية- أدى هذا الانسحاب المتسرع للفرق الأمريكية -بالفعل- إلى قفزة كبرى نحو العنف، وأنه ما كان يمكن أن تكون ثمة -والحال هذه- "نهاية سعيدة" فيما بعد. 

أشرت إلى هذا الأمر المتعلق بكيف نأخذ بعين االاهتمام التفاصيل؛ لأنه عادة ما يتم عدم الأخذ بعين النظر هذه التفاصيل إذا ما المرء عالج تقليد الحرب العادلة كما لو كان حزمة من المبادئ المجردة يمكن للمرء -على نحو آلي بالأحرى- "أن يؤشر عليها" عندما يجد نفسه أمام وضع [حرب] معين. كلا، ما كان الأمر على هذا النحو، وإنما بالبدل من ذلك الحرب العادلة أمر أشد "قوة" من هذا، فهي منغرسة في أوضاع متجذرة فيها بعمق أكثر مما هي طلاء سطحي سميك يوضع على الأحداث ويؤشر عليها. إذ ينبغي على المرء أن يحاجج ههنا بإعمال مقولات بدلا من تنزيلها على الوقائع كما لو كانت "تمرينا" آليا. وبالأخذ بعين الاهتمام العواقب الممكنة على العراق، يبدو أن أولئك الذين رأوا أن تعزيزا للقوات الأمريكية أمر مطلوب بغاية تفادي رعب حرب أهلية شاملة كانوا على صواب، وأنهم إنما وصفوا الوضع العراقي القائم وصفا أدق وأنسب وأشد ملاءمة.

وما الذي تخبرنا به [مبادئ] الحرب العادلة عن أهداف الحرب؟ سبق لي أن ألححت على أنه ينبغي لأهداف وغايات الحرب أن ترتبط ارتباطا وثيقا بالحجة الأولية الأصيلة التي يبنى على أساسها قرار خوض الحرب، على نحو ما هو معبر عنه في معايير الحرب العادلة؛ أقصد رفع أو جبر ظلم حادث، ومعاقبة المعتدين؛ ذلك أن الهدف ـ ولنذكّر بهذا مرة أخرى ـ إنما هو تحقيق وضع أشد عدلا من ذاك الذي حمل من ذي قبل على اللجوء إلى قوة السلاح. وبالأخذ بالحسبان إطار التقويم هذا الأولي الجاهز، ما الذي تتطلبه أخلاقية خروج من الحرب إذا ما تبنى المرء معايير الحرب العادلة؟ 

ههنا عرض للمعايير في صورتها المختزلة، وفي تطابق مع الحرب العادلة، وهي تتمثل في أخلاقية احتلال عادل وخروج عادل باعتبارهما سمتين مركزيتين لأي أخلاقية مسؤولية شاملة: 

أولا؛ على البلد الذي انخرط في أعمال عسكرية أن يقوِّم درجة مسؤوليته في وضع ما بعد الحرب، وإذا ما كان دوره ضئيلا؛ فإنه يتم تقليص مسؤوليته تبعا لذلك. ومن المؤكد أنه على كل قوة كبرى أن تسهم ما أمكنها ذلك عندما تنخرط في الحرب، خصوصا إذا ما أخذنا بعين الاهتمام ما نعرفه عن شلل وعجز الأمم المتحدة لما يتعلق الأمر بجرائم الأنظمة الديكتاتورية وبتكاثر الانتهاكات التي ترتكبها الدول الفاشلة. ذلك أن من شأن انتظار تدخل الأمم المتحدة -في العديد من هذه الأوضاع- أن يكون أشد على النفس استثقالا من انتظار غودو [رمز لما يُنتظر الدهر كله ولا يأتي]. 

ثانيا؛ يتحمل البلد المنخرط في القسم الأكبر من العمليات العسكرية كذلك عبئا كبيرا في إصلاح الضرر الذي يصيب البنية التحتية والبيئة والذي يكون نتيجة مباشرة للعمليات العسكرية. مثلا، ينبغي على الفرق المدنية أن تركز على ضروريات الحياة الأولى: الماء والكهرباء. ثم بعد ذلك، يمكن إيلاء العناية للمدارس وللمستشفيات ولسائر المؤسسات الأساسية لأي نظام سياسي لائق. 

ثالثا؛ إصلاح البنية التحتية أمر ضروري؛ إذ إن الهدف الأساس في كل حرب عادلة إنما هو سلام عادل. وهذا يعني ترك الناسِ الذين يحيون في بلد كان ساحة نزاع في وضع أفضل مما كانوا عليه قبل أن يتم التدخل. ذلك أن البلد المعني عضو في المجتمع الدولي، وعليه أن ينتمي إلى بعض معايير دنيا باعتباره كذلك. وأنا أطلق على الدول التي يُفعل ذلك معها دولاً لائقة ـ ذات كرامة ـ ولو بأدنى درجات اللياقة. وبطبيعة الحال، توجد عدة دول أبعد ما تكون عن أن تتوفر على القدر الأدنى اللازم لكي يحيا فيها الناس بكرامة، على أن أحد أغراض التدخل والخروج ينبغي أن يكون من الناحية الأخلاقية العمل على إقامة نظام جديد ينتمي إلى معايير الدول ذات حد ولو أدنى من اللياقة والكرامة [أي التي لا يهان فيها مواطنوها، وإنما يعيشون العيش الكريم ولو في حده الأدنى]. 

تبدو هذه البُغية -بالنسبة إلى العديد- مفْرطة في التواضع، وتبدو للبعض الآخر شديدة "المثالية". إلا أن هذا الأمر ليس ينبغي أن يفاجئنا إذا ما نحن أخذنا بعين الاهتمام أن الحرب العادلة تنسج طريقها المعقد بين طوباويين [مثاليين حالمين] مختلفين، من جهة، ونواة صلبة من "الواقعيين" من جهة أخرى. والحال أن هذا الأمر يقتضي تحقيق توازن صعب بما أن المرء يعمل على إعادة السلطة، على أن الأمر يتعلق هذه المرة بسلطة شرعية. وإن النتيجة المحتملة والأكثر سوءا لتدخل ما في بلد معين لهي المتمثلة في ذلك السيناريو الذي يذكرنا به الفصل الثالث عشر من كتاب "اللوفياتن" ـ وهو المؤلف الكلاسيكي العظيم ـ أعني إنشاء عالم تستحيل فيه الحياة البشرية "غير مستساغة، وفظة، وقصيرة". فللمجتمع الدولي مصلحة كبيرة في مراعاة المآل وما يسفر عنه التدخل، وعليه أن يلعب دورا مساعدا وليس دورا عائقا وملغما. ذلك أن من شأن الدول المفلسة الفاشلة أن تشكل تهديدا للسلام العالمي، شأنها في ذلك شأن الدول المارقة. 

رابعاً؛ التخصيص المستمر لأموال تموين موصول للدفاع وللأمن؛ ذلك أنه لئن تم نزع سلاح بلد معين، فإنه يكون من مسؤولية السلطة المحتلة توفير الأمن للبلد المحتَل وحمايته من أعدائه الخارجيين والداخليين. أما مدى بقاء تموين الأمن، ومدى امتداده، فذاك أمر موكول إلى تقويم التهديد، وإلى درجة السرعة التي يعيد بها البلد المحتل بناء دفاعه، وإلى مدى قدرته على تحقيق الأمن الداخلي لنفسه. 

خامساً؛ وأخيرا، ثمة فائدة كبرى ومسؤولية [واقعة على عاتق الدولة المتدخلة] للعمل على الإثناء عن اقتراف أية فظاعة في المستقبل يتسبب فيها ـ إذا ما نحن بقينا في المثال العراقي ـ ضرب آخر من النظام يكون شبيها بنظام صدام [حسين]؛ أي ضرب من "جمهورية الخوف"؛ وذلك ما إن يبدأ في إبداء ملامح وجهه. ووجه تعقد الأمر هنا أن هذا الإثناء والردع يحمل بالضرورة طابعا "داخليا" و"خارجيا" معا، كما ينعكس ذلك في مفهوم "قانون ما بعد الحرب" Jus post bellum. فكما أن الولايات المتحدة حمت أوربا الغربية، بما في ذلك دولة ديمقراطية ألمانية جديدة، طوال الحرب الباردة وطيلة عقود من النظام الثنائي الأقطاب، فإن أحد سمات أخلاقيات الخروج [من الحرب] كانت تلزم الولايات المتحدة بالبقاء مرتبطة بعراق جديد بأساليب تكون "قوية". 

وكما أن الحلفاء ما كانوا ليسمحوا أبدا أن تبرز دولة نازية من جديد في ألمانيا، فكذلك نتحمل المسؤولية- إذا ما قوى الاستقرار الداخلية والحياة اللائقة الكريمة تضعضعت وانهارت- في القيام بالعمل نفسه في العراق، وقياسا عليه في كل وضع مشابه لهذا الوضع في المستقبل؛ فلا يمسي العراقيون (أو غيرهم) أبدا ضحايا مرة أخرى. وبطبيعة الحال، وقياسا على هذه الحالة وتعميما لها، فإن هذا المثال الخاص بالعراق يوصلنا إلى استنتاج أعم عبر هذه السطور. أنا أظن أنه لئن كانت معايير قانون ما بعد الحرب قد نوقشت وعدت عدا واضحا جزءا من مجمل المشاكل التي يطرحها قرار استخدام القوة، فإن هذا الأمر سوف يضيف لا محالة الشيء الكثير إلى عمق الوضع. وهذا أمر مناسب تماما من جهة نظر أخلاقية. 

ولئن كانت إدارة بوش نزيهة مستقيمة -وأعتقد أنها كانت بالفعل كذلك- فإن الحادي عشر من سبتمبر -فضلا عن هجومات التسعينات الإرهابية من القرن المنصرم- إنما تشير إلى واقعة أننا أمسينا حيا في محيط استراتيجي جديد. وقد ترتب عن هذا ولا يزال يترتب أن تفكيرنا في الحرب والسلم ينبغي أن يأخذ بعين الاهتمام هذا المحيط الجديد. فعلى مدى سنوات الحرب الباردة طرحت عدة قضايا عادلة ما كان من الممكن معالجتها، لا ولا كان من الممكن متابعتها بمتابعة عسكرية ـ مثلا التدخل المفتوح لصالح الهنغاريين الثائرين من أجل الحرية عام 1956 ـ وذلك بسبب مخاطر رعب قيام حرب نووية بين القوتين العظيمتين. 

على أن العديد من ضغوطات العالم الثنائي الأقطاب قد انتهت. وها نحن اولاء نحيا اليوم في إطار سيرورة ضغوطات جديدة، وفي سياق اعتبار مسؤوليات جديدة، ونفكر فيما عساها أن تكون في هذا الوضع الجديد. والحال أن العديد من هذه الضغوطات سوف تكون هي تلك التي نضعها في أنفسنا، وذلك على اعتبار أننا لا نواجه -على هذا المستوى- عدوا كبيرا يهددنا تهديدا مباشرا وبديا. ويترتب عن هذا أنه لمن الأمر الحسن بالنسبة إلينا أننا نتوفر على تقليد من التقييد حتى في قضية عادلة، وأن قانون ما بعد الحرب الذي نتحدث عنه إنما هو استمرار لتقليد التقييد هذا. وفي الوقت نفسه، ما كان التقييد ليعني الشلل أبدا، ولا ليعني عدم فعل أي شيء، لا ولا الإدانة الأخلاقية وحسب؛ إذ ثمة بعض عمل نشيط وفعال ينبغي اعتباره. وتشير إقامة أخلاقية المسؤولية وصياغتها إلى واقعة أن الإدانة وحدها ليست تكفي في مثل هذه الوضعيات. 

ثمة العديد ممن -بُعيْد الحرب العالمية الثانية- رثى لحال الفوضى التي بدا أنها ترتبت عن الوضع الجديد، أو لحال عدم اليقين الذي ساد؛ بما عنى عنده أن القيود التقليدية التي كانت موضوعة على القوة المسلحة قد تم التخلي عنها. لكن، يبدو أنه ما كان هذا هو الحال على التحقيق. حقا، ما دامت نقاشاتنا لهذه الأمور تتم بوفق مقولات تقليد الحرب الباردة، فإن التقييدات المتضمنة أمر لا سبيل إلى إنكاره؛ إذ تبقى حاضرة. وإننا لنحتاج من الآن فصاعدا إلى التفكير عبرها وبواسطة منها. 

على أن ما نحتاج إلى النظر إليه بالضرورة هو مرحلة قانون ما بعد الحرب التنازعية من جهة، بسبب أن العديد من صورنا عن أوضاع ما بعد الحرب وما بعد الاحتلال لا تزال إلى حد ما عتيقة. وإنني لأنظر إلى الأمر -بدءا- من خلال زاويتي نظر: من خلال الشهادات الماضية عن الحرب والدبلوماسية، ومن خلال الاستراتيجيات الكبرى الاستباقية. 

ثمة -أولا- الحجة الذاهبة إلى أن بغية الحرب إنما هي إعادة الوضع إلى ما كان عليه من قبل Status quo ante. والنموذج هنا نموذج مألوف عندنا: الدولة (أ) اجتاحت الدولة (ب)، والدولة (ب) عملت على تجنيد قواها ومحاربة مجتاحها، فكان أن حدث أن الدولة الغازية (أ) أُوقفت عند حدها، وأمست تفاوض من أجل السلام، وصارت الدولة (ب) تطالب بالعودة إلى حدود ما قبل الحرب التي كان قد تم اجتياحها؛ أي إلى الوضع القائم السابق للغزو. هذا نموذج كلاسيكي معروف، وثمة تنويعة عليه: الدولة (ب) -وقد ادعت أنها ضحية عدوان غاشم- تلح على ضرورة معاقبة الدولة (أ). والمعاهدة التي توقف النزاع تعاقب الدولة (أ) بضم جزء من أراضيها إلى الدولة (ب)، أو تلح على أن تدفع الدولة (أ) تعويضات عن الأضرار، وما إلى ذلك... هذا أمر معهود شائع. لكن؛ عودة الوضع إلى حال ما قبل الحرب ليس -في قسم كبير منه- هو ما يشكله مفهوم قانون ما بعد الحرب المعاصر، وذلك في حال ما إذا كان استهدف النزاع تجاوز نظام طغياني خطير وقمعي. فلربما ههنا ينبغي أن تظل الحدود كما كانت عليه. لكن لا شيء آخر أكثر من هذا. 

النموذج الثاني -وهو نموذج نحن مستأنسون به استئناساً على نحو أوسع في مثل هذه الظروف- ينحدر تاريخيا عن وضع معروف، هو وضع احتلال ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية. لقد تمت المزاوجة بين احتلال ألمانيا ونظام طغيان مسؤول عن موت عدد من البشر لربما كان أكبر من العدد الذي قضى بألمانيا هتلر؛ عنيت اتحاد ستالين السوفياتي الذي كان أحد المحتلين. والحال أن ثمة شيئا من الصعوبة في الحديث عن "احتلال عادل" [لألمانيا من لدن الاتحاد السوفياتي] في مثل هذه الظروف. 

ومهما يكن من أمر؛ فإنه لدى الجانب الغربي من التحالف كان الهدف ثابتا لا تغير فيه، وهو إقامة نظام جرماني ديمقراطي ودولة ديمقراطية؛ أو لنقُلْ: دولة لائقة في حدودها الدنيا. وقد تم بالفعل تحقيق هذا الأمر بألمانيا. أما في اليابان، فقد حدث شيء لا يمكن تصوره اليوم: دولة غربية قوية تكتب دستورا لدولة مغزوة، وتعمل على تنزيله. سوف يبدو لنا الأمر اليوم وكأنه ينم عن عجرفة، بل قد نذهب حتى إلى حد التساؤل عما إذا كان مثل هذا النظام نظاما مشروعا. لكن، في حال اليابان كانت الحصيلة قيام نظام ديمقراطي دستوري مستقر؛ إذ ما حدث أبدا أن كان ثمة تَحَمُّسٌ في اليابان -ولم يحدث مثل هذا الأمر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية- إلى عودة مجتمع شديد العسكرة ومفرط في الاستبدادية.

والحق أن لا مثال من النموذجين الذين ناقشناهما أعلاه "يغطي" وضعنا الحالي. إنما نحن بحاجة إلى أنموذج ثالث؛ أنموذج يستجيب إلى تحدي خلق دولة تملك الحد الأدنى اللائق كي تكون دولة وكي تكون مستقرة، وتقوم قياما واسعا على أساس عملية ديمقراطية لتحقيق بغية نظام سياسي يتسم بقدر أدنى من اللياقة والكرامة. وأنا أومئ هنا إلى الانتخابات وإلى الجمعيات التمثيلية وإلى التحالفات الاستشارية وإلى كتابة دستور والبقية تأتي. والحال أن هذا الطريق مليء بالصعاب، ومفروش بالشوك، بل ومن حيث المبدأ يفضي إلى مرحلة مليئة بعدم اليقين وبانتفاء الاستقرار؛ لكنه يقود -إذا ما سارت الأمور على خير ما يرام- إلى تنصيب حكومة جديدة تحظى بشرعية كانت ستفقدها لو هي صارت الأمور على نحو مغاير، لا سيما فيما يتعلق بالنزاعات التي تتورط فيها بلدان ذات مرويات واختلافات ثقافية شديدة التعارض كثيرة التباين. 

لنبقَ في المثال العراقي: الحال أنه لا يمكننا التأكد من المسار الذي سوف تتخذه الأمور بعد مضي أمد طويل. لكن لا يمكن فصل السيرورة المتواصلة بعد تخلينا عن التزامنا عن اعتبار من طبيعة أخلاقية جدي بكل الجدية. وليس يمكن إنكار أمر أنه مهما فعلنا من أمر، وكيفما فعلناه، فإن النتيجة سوف يُنظر إليها من لدن شعوب الشرق الأوسط ولأمد مديد على أنها مؤشر على ما سوف يبدو دوما عليه أي تدخل للولايات المتحدة الأمريكية واحتلال. وإن المأساة في مثل هذا الوضع قد كمنت في فشلنا المبكر في توفير ضروريات محيط آمن ومستقر لفترة ما بعد نزاع عسكري. آمل أن نكون قد تعلمنا دروسا عسيرة بسبب أننا إذ تحركنا بعدم تريث وبفقدان صبر -رغم انخراطنا الموصول- فإن من شأن ذلك أن يلقي بظلاله على السياسة الخارجية الأمريكية للعقود القادمة. وآنها، لن يكون لهذا الأمر أي بُعد أخلاقي بالخصوص.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/12/249

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك