مفهوم العمل الخيري ومقاصدُه

إبراهيم البيومي غانم

مفهوم "الخير" معروف في أغلب الحضارات الإنسانية، و"عمل الخير" مألوف في معظم تجارب الأمم؛ القديم منها والحديث، ويكاد الخير يكون قاسماً مشتركاً بين جميع بني آدم على مر العصور والأزمان، كما أن الشر قاسم آخر مشترك بينهم، والسعيد منهم من هداه الله لفعل الخيرات والتسابق فيها. وللخير وعملِه مقاصدُ تختلف في تفاصيلها بحسب كل حضارة؛ ولكنها تتفق في كلياتها بين جميع الحضارات؛ حيث "الإنسان" هو مَنْ تُنتظر منه المبادرة بعمل الخير، وهو أول مَنْ يستفيد من عمل الخير معنوياً، أو مادياً، أو معنوياً وماديا في آن واحد. 

أين يقع "الخير" و"العمل الخيري" من مقاصد الشريعة؟ علينا قبل الإجابة أن نعرف أن مفهوم "الخير" متجذر في اللغة العربية، ، وهو ذو مقاصد متنوعة بعضها يخدم مقاصد عامة وثابتة، وبعضها يسهم في تحقيق مقاصد فرعية ومتغيرة. 

1- الخير في اللغة:

تشير كلمة "الخير" في اللغة العربية إلى كل ما فيه نفع وصلاح، أو ما كان أداة لتحقيق منفعة أو جلب مصلحة(1)؛ كالمال، والمال الوفير يقال له خير. قال حكيمٌ يعظُ ابنه: "لا خير فيمن لا يجمع المال ليصون به عرضه، ويحمي به مروءته، ويصل به رحمه". وينظر الأصفهاني إلى الخير نظرة فلسفية ففي "المفردات في غريب القرآن" يقول: إن "الخير ما يرغب فيه كل البشر؛ كالعقل، والعدل، والنفع، والفضل. وضده الشر"(2)، وقال آخرون: إن الخير هو "العمل الذي يعم نفعه". وكثيرون من فلاسفة الإسلام وحكمائه أقاموا ضرباً من التوحيد بين "الخيرية" والإبداع؛ فكلما كان الإنسان خيراً ومحباً للخير؛ كان أقدر على الإبداع والابتكار والتجديد وإفادة البشرية وإعمار الأرض. يقول ابن سينا: إن الخير هو "ما يتشوقه كل شيء ويتم به وجوده"(3).

ويرتبط الخير في لغة العرب بحسن الاختيار، وتعدد البدائل التي يمكن الاختيار من بينها. ويشير أبو هلال العسكري إلى الفرق بين الخير والمنفعة فيقول: إن كل خير نافع، ولكن ليس كل نفع خيراً"، واستشهد بقوله تعالى عن الخمر والميسر: ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾ (البقرة:219)؛ فلا تكون المعصية خيراً وإن جلبت نفعاً، ويقول أبو هلال أيضاً: "إن الإنسان يجوز أن يفعل بنفسه الخير، كما يجوز أن ينفع نفسه بالخير، ولا يجوز أن ينعم عليها؛ فالخير والنفع من هذا الوجه متساويان، والنفع هو إيجاب اللذة بفعلها، أو السبب إليها، ونقيضه الضر، وهو إيجاب الألم بفعله أو التسبب فيه"(4). 

ويربط كتَّابُ الحكمةِ السياسية في التراث الإسلامي بين "الخير" ومكارم الأخلاق، والعدل، وعمارة البلدان؛ أي تنميتها وتطويرها. فابن هذيل مثلاً يقول: إن كل خصلة من خصال الخير، وخلة من خلال البر، وشيمة تعزى إلى مكارم الأخلاق، وسجية تضاف إلى محاسن الطبائع والأعراق؛ فهي واقعة على اسم الكرم"(5). أما سبط بن الجوزي فيربط الخير بعمارة البلدان، يقول: "إذا اتسع الرزق كثرت الخيرات، وإذا كثرت الخيرات عمرت البلدان"(6).

وفي إطار المقارنة، نجد أن كلمة "العمل الخيري" Philanthropia في اللغات الأوربية مشتقة من مصدرين في اللاتينية: الأول هو كلمة Philein وتعني "حب"، والثاني هو كلمة Anthropon وتعني الإنسان، ومعنى الكلمتين معاً هو "حب الإنسان". وتكون كلمة خير بمعنى "الطيبة" Kindness؛ أي أن الخيرية هي صفة لمن يشعر بآلام الآخرين، ويرغب في تحقيق سعادتهم، أو في دفع الأذي عنهم"(7). ويختلف فهم العمل الخيري في تجارب المجتمعات الغربية بتباين الخلفيات التاريخية والأعراف الخاصة بكل دولة، أو بكل مجموعة من الدول.

ففي إنجلترا مثلاً يستخدم مصطلح الإحسان "Charity" كمرادف لمصطلح العمل الخيري "Philanthropy". أما في الولايات المتحدة فهناك تمييز بين المفهومين؛ إذ يشير الإحسان إلى المنح والعطاء المتوجه لمعالجة نتائج مشكلة أو قضية ما، في حين أن العمل الخيري يوجه موارده لمعالجة أسباب المشكلة من جذورها والوقاية منها وتفادي وقوعها.

2- العمل الخيري مقصد عام للشريعة الإسلامية:

سلكنا مسالك استنباط المقاصد العامة للشريعة التي قررها المقاصديون بحثاً عن موقع العمل الخيري من هذه المقاصد، ووجدنا أن "العمل الخيري" مقصدٌ عام وثابت من مقاصدها، وأن له في ذاته مقاصد أخرى؛ بعضها يهدف إلى خدمة مقاصد عامة من مقاصد الشريعة -مثل مقصد الحرية كما سنرى- وبعضها يهدف إلى خدمة مقاصد فرعية ومتغيرة بتغير ظروف الزمان والمكان وأحوال المجتمعات.

فالعمل الخيري مقصد عام من مقاصد الشريعة(8)؛ وذلك بدلالة كثرة الأمر به والحض عليه ومدح فاعليه، والتحذير من مناوئيه في كثير من آيات الكتاب العزيز، وأحاديث النبي الكريم -صلَّى الله عليه وسلَّم-. وقد ورد لفظ الخير 180 مرة في القرآن الكريم. وورد لفظ "أخيار"، و"خيرات"، و"خيرة" 8 مرات في سياقات متنوعة تربط "الخير" بجوانب أساسية من الحياة المدنية التي يعيشها الناس، كما ورد في بعض الحالات ضمن سياقات (أقل عدداً) تربطه بالحياة الآخرة. 

أما عن السياقات التي ورد فيها ذكر الخير، فمنها ما ورد في القرآن عند الحديث عن العلم، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (الصف:11). ومنها ما ورد عند الحديث عن العمل، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ﴾ (الزلزلة:7). وورد في سياق الحديث عن الكفاءة والمقدرة، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ (القصص:26). وفي سياق الحديث عن العدالة جاء قوله تعالى: ﴿وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ (الإسراء:35). وللحض على المنافسة والسبق في الأعمال المفيدة قال تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ﴾ (البقرة:148)، وقال: ﴿وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ (فاطر:6). وفي سياق الحديث عن الإنفاق قال تعالى: ﴿قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ﴾ (البقرة:21). وثمة مواضع أخرى كثيرة، ويشير اطراد ورود الأمر بعمل الخير فيها، والحض عليه، والثناء على من يقومون به إلى أن "العمل الخيري" مقصد عام وثابت من مقاصد الشريعة الغراء.

وفي الفلسفة الإسلامية أيضًا نجد أن الفلاسفة والحكماء قد أدركوا هذا المعنى الواسع لمفهوم الخير. ومن ذلك قول ابن سينا الذي أوردناه، وفيه يؤكد على أن "الخير هو ما يتشوقه كل شيء ويتم به وجوده". 

تنظر الفلسفة الإسلامية إلى العمل الخيري نظرة عميقة؛ إذ تربطه بمفهوم الحرية؛ فالعمل الخيري عندما يكون عطاءً بلا مقابل مادي هو تحرير للنفس إما من قيد الأثرة وحب التملك، أو من قيود الآثام واجتراح الخطايا، أو من قيد الكبر واستعلاء النفس على الآخرين ممن يشاركونها الانتماء إلى أصل واحد"كلكم لآدم وآدم من تراب". 

في مقابل الفلسفة الإسلامية، نجد أن فلاسفة الأنوار في عصر النهضة من أمثال: توماس هوبز، وجون لوك، وبنثام، وغيرهم، لا يتحدثون عن مفهوم "الخير"، ولا عن مفهوم "الخير العام"؛ لأن جل اهتمامهم كان منصباً على "اللذة"، و"المنفعة" الفردية، وكل شيء يجب أن يقاس بحاجة الفرد أولاً وقبل كل شيء. يقول موريس كرانستون: "ليس لفكرة الخير العام أي مكان عند المفكرين السياسيين من أصحاب النزعة الفردية كهوبز ولوك وبنثام؛ لأن كل قضية يجب أن تقاس بحاجة الفرد"(9). ومرجعية قياس الخير والشر هو ذات الإنسان وتقديره للمنفعة التي تعود عليه في إطار عام من تبادل المنافع والمصالح الفردية(10). 

ويتعارض منطق العطاء بلا مقابل مع منطق السوق والكفاءة الاقتصادية في الرؤية الرأسمالية. ولكن التجربة الإسلامية تؤكد أن المنفعة ليست فقط حصيلة مبادلات مادية بين الأفراد والجماعات؛ وإنما يمكن أن تكون هذه المنفعة حصيلة فعل خيري من دون مقابل مادي. 

3- مقاصد العمل الخيري:

العمل الخيري -كما ذكرنا- مقصد عام وثابت من مقاصد الشريعة، وله في ذاته خمسة مقاصد هي: الحرية، والتمدين، والسلم الأهلي، ومحاربة الفقر، والإسهام في بناء المجال العام(11). إن "مقاصد العمل الخيري" التي نتحدث عنها هنا هي التي تنقل "العمل الخيري" من حيز التشريع ـ باعتباره مقصداً عاما وثابتاً من مقاصد الشريعة ـ إلي حيز المشروعات. أو هي التي تنقل مقصد العمل الخيري من حيز الأفكار إلى حيز المؤسسات والممارسات, أومن حيز النظرية إلي حيز الفعل والتطبيق. ويجب أن نكف عن تكرار المقاصد ومنها مقصد العمل الخيري فقط من منطلق الحيز الأول، ونغض الطرف عن الحيز الثاني؛ فمن دون الحيز الثاني ومتابعة انتقال المقصد إلى التطبيق يعدم قيمته, ويصبح قطعة محفوظات لا تغني ولا تسمن من جوع. 

وإليك فيما يلي بعض التفصيل:

أ- "مقصد الحرية": 

هو أول مقاصد العمل الخيري الإسلامي وأعلاها منزلة؛ ففي مقدمة الأهداف التي يتوجه إليها العمل الخيري أن يسهم في "تحرير" النفس الإنسانية من الأغلال التي قد تكبلها لسبب أو لآخر، وتعوق حركتها، وتهدر طاقاتها. بعض هذه القيود معنوي ينتج عن ارتكاب الذنوب والآثام، وبعضها مادي ينتج عن حب المال وتمكن شهوة التملك من الإنسان، وبعضها سياسي ينتج عن الحروب وصراعات القوة. ونتيجة لتلك الأسباب فإن بعض بني آدم تقضي عليهم الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يعيشونها أن تكون حريتهم مقيدة معنوياً ومنهم العصاة والمذنبون، أو مقيدة مادياً، ومن هؤلاء: الرقيق، والفقراء، واليتامى، والمساكين، والأسرى، والجهلة، والمرضى، والمدينون؛ وفي جميع هذه الحالات يجب شرعاً المساعدة في تحريرهم، ورفع الإصر عنهم، وتحطيم الأغلال التي وضعت عليهم؛ كي يكونوا محلاً صحيحاً للإيمان، وكي يكونوا قادرين على استقبال التكاليف الشرعية وأدائها كما يريد الله سبحانه وتعالي؛ لأن غير الحر يكون غير قادر قدرة الحر على إقامة التكاليف الشرعية ـ أو هو ليس مثله علي الأقل ـ ولهذا يريد الإسلام أن يكون الإنسان حراً أولاً، ثم يخاطبه بالأحكام الشرعية ويكلفه بها. 

ولسائل أن يسأل: كيف يكون مقصد الحرية من مقاصد العمل الخيري؟ وكيف يسهم العمل الخيري في تحقيق هذا المقصد؟ ونجيب فنقول: دلت آيات القرآن الكريم على أن من أعظم القربات تحرير الأرقاء، ومن ذلك ما جاء النص عليه في سورة البلد وعبرت عنه بـ "فك الرقبة". ولسنا مع قصر معنى فك الرقبة على " تحرير الرقيق" أو "عتق العبيد والإماء" كما ذهب أغلب المفسرين. فسورة البلد مكية، ومن الأهداف العامة للسور المكية أنها تمهد لاستقبال العقيدة الجديدة، وتهيئ النفوس كي تثبت فيها هذه العقيدة على صفحة نقية. وضمن هذه الغاية نعت آيات السورة على بعض كفار مكة الذين أنفقوا أموالهم الكثيرة للمباهاة والمفاخرة ((يقول أنفقت مالاً لبداً)) ظنا منهم أن مجرد إنفاق المال الوفير يضمن لهم الفوز والنجاة. ولكن لما لم يكن هذا الإنفاق متضمنا "فك الرقاب" خاب سعيهم. وعبر القرآن عن مثل هذا الإتفاق بـ "الإهلاك" إظهاراً لعدم الاكتراث. والنتيجة هي أن من أنفق ماله دون أن يخصص جزءاً منه للمشاركة في فك الرقاب؛ أي تحريرها، فلن يكون من الناجين. يقول الإمام محمد عبده في تفسيره: "ورد في فضل العتق ما بلغ معناه حد التواتر، فضلا عما ورد في الكتاب، وهو يرشد إلى ميل الإسلام إلى الحرية، وجفوته للأسر والعبودية"(12). وهذا ما أكدته آيات سورة البلد قال تعالى: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ 11 وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ 12 فَكُّ رَقَبَةٍ 13 أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ 14 يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ 15 أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ 16 ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ 17 أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ (البلد: 11-18). وقد ذهب أغلب المفسرين إلى أن المقصود بفك الرقبة هو "العتق"، وإطلاق مَنْ يقع في أسر الرق والعبودية. والعتق عمل من الأعمال العظيمة التي لها عند الله رفعة ومنزلة؛ فمن أعتق رقبة كانت له فداءً من النار، ومثله الذي يطعم الفقير في يوم عصيب ذي مجاعة، سواء أكان يتيماً ذا قرابة، أو مسكيناً ذا متربة؛ أي فقيراً بائساً قد لصق بالتراب من فقره وضره، وهو كناية عن شدة الفقر والبؤس؛ قال ابن عباس: هو المطروح على ظهر الطريق لا يقيه من التراب شيء. ومثل هذه الأعمال العظيمة مطلوبة على سبيل السرعة وبلا روية، وهذا هو ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ﴾؛ والاقتحام في الأصل: الدخول في الشيء بسرعة وشدة من غير روية(13). 

ونضيف إلى ما سبق أن عموم دلالة "فك الرقبة" لا يقتصر على تحريرها من أسر العبودية والرق بالمعنى الاصطلاحي الذي قصده أغلب المفسرين والفقهاء ـ وكان أكثر الرق قديماً بسبب الحروب- وإنما يشمل أيضاً فك الرقبة من كل ما يقيدها؛ فكها من قيد الجهل؛ فالجهل يقيد حرية الإنسان، كما يقيد الرق حريته. وفك الرقبة يكون أيضاً من قيد المرض؛ فالمرض قيد على حرية الإنسان وحركته، وقد يقعده، أو يمنعه من الاستمتاع بكثير من الحريات التي لا تكتمل إنسانية الإنسان إلا بها. ويكون فك الرقبة من قيد الديون؛ فالديون تقيد الحرية أيضاً وتستذل المدين. وأخيراً وليس آخراً: يكون فك الرقبة من قيود الاستبداد التي تمارسها السلطات الطاغية؛ سواء أكانت سلطة التقاليد والآباء الأولين، أم سلطة الحكام المتجبرين، أم سلطة الخرافات والأوهام والأساطير التي تستذل الكبير وتسترذل الصغير. وتلك هي أهم الحالات الاجتماعية التي يكون بعض بني الإنسان عرضة لها في كل زمان ومكان. وقد صنفت آيات سورة البلد الأعمال التي تستهدف فك الرقاب ضمن "أعمال الخير" الطوعية التي يقوم بها الإنسان باختياره وفطرته، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾؛ أي طريق الخير الذي يشمل مثل الأعمال المذكورة، وطريق الشر المقابل لذلك. ولما كان الإسلام متشوفاً إلى الحرية، فقد جعل المسارعة في "فك الرقبة" بالمعنى الواسع الذي ذكرناه من أفضل الأعمال الخيرية الطوعية؛ ولهذا أكثر المسلمون على مر التاريخ من بذل الصدقات، وتخصيص قسم معتبر من ريوع الأوقاف للإنفاق على التعليم، والعلاج، وعتق الرقيق، وافتداء الأسرى من يد الأعداء حتى لا يصيروا رقيقاً، ومساعدة أصحاب المغارم والديون(14). وتحولت هذه الأعمال الخيرية إلى مؤسسات ذات أنظمة ووظائف، ولها أهداف وغايات تصب كلها في اتجاه دعم أسباب الحرية، وبخاصة للفئات التي أشرنا إليها. 

لا يقبل الإسلام أي مساس بـ "الحرية"؛ لأن أي مساس بها يزلزل إنسانية الإنسان، والإسلام يريد للإنسان أن يكون حراً كامل الحرية. وتؤكد مبادئ الإسلام وتعاليمه على أن أي إضرار بالحرية يفسد تعبير الإنسان عن ذاته، وأن الإنسان لا يكتمل إلا بالتعبير عن فكره، والتطور الروحي غير ممكن دون اتصال حر بالآخرين، وتبادل الفكر، فلا يجوز تقييد الحرية، ناهيك عن إلغائها بحجة تصحيحها. وهذا هو الجوهر الأصيل الذي جاءت به رسالة الإسلام؛ إنه بكلمة واحدة: الحرية(15). 

ونجد في آراء واجتهادات علماء السلف الكبار من أمثال الإمام أبي حنيفة ما يدل على إدراكهم العميق للحرية باعتبارها جوهر الرسالة الإسلامية إلى الإنسانية كلها؛ فمن غير الجائز عند أبي حنيفة ـ مثلاً ـ الحجر على السفيه، والحجر نوع من أنواع تقييد حرية الإنسان في التصرف. ويعلل أبو حنيفة ذلك بأن الحجر إهدار لآدمية هذا السفيه! ويقول: إن الحجر عليه "إلحاق له بالبهائم"، والضرر الإنساني الذي يترتب نتيجة الحجر عليه أكبر بكثير من الضرر الذي يترتب على سوء تصرفه في أمواله، ولا يجوز دفع الضرر الأقل بضرر أكبر منه.

ومن المستغرب استمرار تغاضي الفقهاء ـ أو سكوتهم، أو غفلتهم ـ لأزمنة طويلة عن الحديث في مقصد "الحرية" كأحد المقاصد العامة للشريعة، إلى أن فطن إليه العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، وحاول تأصيل "الحرية" مقصداً عاماً من مقاصدها(16). وعلينا أن نتابع البحث والتأصيل في نظرية الحرية كمقصد عام وثابت من مقاصد الشريعة؛ لأن المسلمين تأخروا كثيراً في البحث في هذا الباب، وتأخروا أكثر بسبب غياب الحريات عن حياتهم في أغلب الأحيان. 

ب- مقصد التمدين وعمارة الأرض: 

يسهم العمل الخيري في تحقيق درجة أرقى من التمدن الإنساني ورفع كفاءة المجتمعات في إعمار الأرض. ويأخذ إسهام العمل الخيري في تمدين المجتمعات صوراً متعددة: منها ما هو مادي في شكل تبرعات ومساعدات تعين غير القادرين على تحسين مستوى معيشتهم، ولا تتركهم نهباً للمرض أو للجهل أو للفاقة والعجز، ومنها ما هو غير مادي في شكل إسهامات معرفية وعلمية تهدف إلى تنوير المجتمع ورفع قدرات أبنائه بصفة عامة، وغالباً ما كان تمويل إنتاج العلم والمعرفة على حساب العمل الخيري تحديداً في الاجتماع السياسي الإسلامي إلى ما قبل نشوء الدولة الوطنية الحديثة.

ويمكننا القول باطمئنان: إن أغلبية صور الأعمال الخيرية التي أسهمت في "تمدين" المجتمعات الإسلامية، وفي بناء حضارتها الشامخة، قد تجلت في "نظام الوقف" في معظم مراحل تاريخ هذه المجتمعات. فمن خلال الأوقاف وبتمويل منها نشأت أغلبية مؤسسات العلم والثقافة؛ داخل المساجد وخارجها في صورة مدارس ومعاهد، وكليات جامعية للمتخصصين، ودروس ومكتبات عامة. ومن بين أولئك الذين تلقوا تعليمهم في تلك المؤسسات الخيرية تخرج رواد كثيرون في مجالات علمية وتطبيقية متنوعة، شملت الطب، والهندسة، والكيمياء، والزراعة، والصناعة، والفلك، والصيدلة، إلى جانب مختلف الفنون والآداب والمعارف النظرية الأخرى(17). 

ويهمنا هنا أن نفند الرأي الذي يؤكد أنصاره على أن العمل الخيري الإسلامي هو عمل ديني بالمعنى الضيق الذي يقصره على مجموعة من الأنشطة الإغاثية، وتقديم مساعدات عينية لذوي الخصاصة وقت الحاجة(غذاء ـ كساء ـ مأوى...إلخ)، ويؤكدون أيضاً أن العمل الخيري هو مرحلة أولية تتسم بالبدائية على سلم مراحل العمل الاجتماعي التطوعي المعني بالشأن العام، ولهذا السلم درجات أكثر رقياً من مرحلة العمل الخيري تتمثل في: العمل من أجل التنمية، والعمل من أجل التمكين والتأهيل، والعمل من أجل الدفاع عن الحقوق والحريات العامة والمطالبة بها. 

ونحن نرى أن العمل الخيري الإسلامي ليس "مرحلة أولية"من مراحل تطور العمل الاجتماعي الطوعي المعني بالشأن العام؛ وإنما هو ركن أصيل في بناء المجتمع وفي تمدينه وبناء تقدمه العلمي والمعرفي، كما أنه يتسع معناه لمختلف المراحل التي يشيرون إليها. وقد أثبتت التجربة التاريخية أن تطبيقاته تشمل مختلف مجالات الحياة، بما في ذلك الأعمال الإغاثية ـ ولها أهميتها التي لا يجادل فيها أحد- والأعمال التنموية، وأنشطة التأهيل والتمكين، والدفاع عن الحقوق، وتحصيل الحقوق الأساسية، والدفاع عنها. وثمة العديد من الأدلة والبراهين التي تثبت صحة ما نذهب إليه. فالمدارس، والمستشفيات، والمشاغل، ومراكز التدريب المهني، ودور الإيواء، وكثير من الأشغال العامة(الطرق، والقناطر، وقنوات المياه، والإضاءة...إلخ) كل ذلك أسهمت الأعمال الخيرية الإسلامية في تشييده، وتحول العمل الخيري في هذه المجالات وفي غيرها إلى نظام مؤسسي متكامل الأركان إدارياً، واقتصادياً، وقانونياً، وتجسد في "نظام الوقف"(18). وقد انتشر هذا النظام ـ غير الحكومي ـ على امتداد العالم الإسلامي، وأسهمت مؤسساته المختلفة في بناء صرح الحضارة الإسلامية، وتمدين مجتمعاتها لقرون طويلة، ولم يتحول إلى "نظام حكومي" أو نظام تسيطر عليه الحكومات إلا في العصر الحديث مع ظهور "الدولة الوطنية" الحديثة في بلدان العالم الإسلامية(19). 

والحاصل أن الأوقاف وسائر عقود التبرعات الخيرية تندرج ضمن وسائل المصالح (المقاصد)، الضروري منه والحاجي والتحسيني، وهذا وجه آخر من وجوه تعلق العمل الخيري الإسلامي بنظرية المقاصد العامة للشريع. ومن هنا ـ في رأينا ـ تلقت الأمة نظام الوقف بالذات بالقبول، وانتشر العمل به في مختلف الأقطار والأمصار بالرغم من أن التوجيه الشرعي الخاص به قد جاء على سبيل الندب، وليس على سبيل الوجوب أو الفرض. 

ج- مقصد السلم الأهلي: 

يعزز العمل الخيري حالة السلم الأهلي بين الفئات الاجتماعية المختلفة بطرق متعددة، لعل من أهمها أن حصيلة المبادرات الخيرية تشكل شبكة من العلاقات التعاونية، وتدعم روح الأخوة والتراحم والتعاطف في الاجتماع السياسي الإسلامي بصفة عامة. وإلى ذلك أشار العلامة ابن عاشور؛ حيث يقول: "عقود التبرعات قائمة على أساس المواساة بين أفراد الأمة، الخادمة لمعنى الأخوة؛ فهي مصلحة حاجية وتحسينية جليلة، وأثر خلق إسلامي جميل؛ فبها حصلت مساعفة المعوزين، وإغناء المقترين، وإقامة الجم من مصالح المسلمين"(20). 

وإذا كان الإنسان "ذئباً" لأخيه كما يرى بعض فلاسفة النهضة الأوربية الحديثة مثل توماس هوبز مثلاً، فهو أخ للإنسان في الرؤية الإسلامية؛ يسعى لإسعاده ويتعاون معه على عمل الخير، ومحرم عليه أن يتعاون معه على الشر أو الإضرار بالغير. قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾. وفي سورة الزلزلة يقول تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ 7 وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾ (الزلزلة:7-8). 

وقد تكررت وصايا الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- التي تحض على فعل الخير لنفع الناس مطلق الناس، قال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «خير الناس أنفعهم للناس». وفي البخاري عنه -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنه قال: «كل معروف صدقة». كما حض النبي على المبادرة بفعل الخير ولو كان شيئاً بسيطاً جداً، ومن ذلك قوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طَلْق» (أو: بوجه طليق)، وقوله: «اتق النار ولو بشق تمرة»، وعدّ الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- التبسم في وجه الآخر من الصدقات، فقال: «تبسمك في وجه أخيك صدقة»، وغير ذلك كثير من الأحاديث الشريفة التي تركز على المبادرة بعمل الخير بكشل عام، وتنبه إلى ضرورة أن ينتشر على أوسع رقعة ممكنة من النسيج الاجتماعي عبر المبادرات التي يستطيع أن يقوم بها كل إنسان مهما بلغ ضيق ذات يده. 

ويسهم العمل الخيري في تحقيق مقصد "السلم الأهلي" بصور أخرى متعددة منها: المسارعة إلى إزالة نقاط التوتر من المجتمع، ودفع الحراك الاجتماعي.

بالنسبة للمسارعة إلى إزالة نقاط التوتر من المجتمع، نجد أن العمل الخيري يسهم فيها بشكل مباشر، وذلك في أوقات الأزمات التي قد يتعرض لها المجتمع، أو عند وقوع الكوارث والأوبئة التي قد تصيب فئة أو أكثر من فئات المجتمع. وهنا تظهر أهمية الأعمال الخيرية الإغاثية، التي تقدم المساعدات العاجلة من كساء وغذاء ومأوى وإسعافات أولية وما شابه ذلك.

ويحدث العمل الخيري أثره الإيجابي ليس فقط في الوسط الاجتماعي الذي يقدم له الفرد مبادرته الخيرية؛ وإنما على معنويات فاعل الخير نفسه؛ إذ يكون عمل الخير سبباً من أسباب سعادته في الحياة، وتزكية نفسه، وانشراح صدره، وتقوية حبه للآخرين، والسعي في جلب النفع لهم، ودفع الأذي عنهم، إلى جانب أن عمل الخير يشعر فاعله بمكانته ودوره في محيطه الذي يعيش فيه، ويدعم إحساسه بأن لديه مقدرة ـ حتى وإن كانت محدودة ـ على مواجهة مشكلات مجتمعه والإسهام في إصلاحه.

وأما عن أثر العمل الخيري في دفع الحراك الاجتماعي، فيتجلى بشكل واضح في نظام الوقف قبل أن تسيطر عليه الحكومات المعاصرة في العالم الإسلامي، وقبل أن تنقله من حيزه المجتمعي المدني إلى حيزها الحكومي البيروقراطي. وكثيراً ما نص مؤسسو الأوقاف في حجج وقفياتهم على وصف الفقر والمسكنة كشرط من شروط إدارة ما أوقفوه، وكشرط أيضاً من شروط الاستحقاق في ريع وقفياتهم(21). وبهذه الطريقة استطاع كثيرون من غير القادرين أن يحسنوا أوضاعهم الاجتماعية، وأن يرتقوا في سلم التعليم ويصلوا إلى أعلى درجاته، وكذلك في سلم الوظائف والأعمال التي تتطلب مؤهلات خاصة؛ كانت المؤسسات الوقفية توفرها مجاناً. 

وقد أسهم ذلك كله في ضح الحيوية في "الحراك الاجتماعي" إلى أعلى لأبناء الفئات الأفقر أو غير القادرين(22). وأثّر هذا الحراك بشكل إيجابي في المحافظة على السلم الأهلي؛ إذ كانت ثمرات العمل الخيري تفتح باب الأمل باستمرار في مستقبل أفضل لمن قعدت بهم إمكاناتهم المادية عن تحصيل العلم والمعرفة، وكانت تتيح الفرص لمن لديه المهارة والكفاءة ليصل إلى أقصى ما يمكن أن تتيحه له مهارته وكفاءته، ومن ثم تضاءلت فرص إقصاء الضعفاء والفقراء، بمن فيهم غير المسلمين من اليهود والنصارى؛ فقد ظل نظام الوقف ـ مثلاً ـ مفتوحاً أمام الجميع دون تمييز(23). 

وقد كشفت التجربة الحضارية الإسلامية عن أنه كلما زاد العمل الخيري وتشعبت موارده وتعددت مؤسساته والخدمات العامة التي تُوفرها، قل نطاق الاستبعاد الاجتماعي لبعض الفئات بسبب الفقر أو العجز، وتراجعت بالتالي فرص القلاقل والنزاعات الأهلية والانقسامات الأهلية، وتعزز الاستقرار، وتهيأت فرص الإبداع والابتكار.

د- مقصد محاربة الفقر:

العمل الخيري بمختلف صوره هو أحد السياسات الاجتماعية التي تستهدف القضاء على الفقر، وتسعى بشكل دائم ومستمر لتجفيف منابعه، وإخراج من يدخل في دائرته، وإعادة إدماجه في دورة العمل والإنتاج؛ كي يصبح معتمداً على ذاته، مسهماً في بناء مجتمعه وفي مساعدة غيره، خاصة أن علة الفقر تصحبها علل أخرى كثيرة مثل الجهل والمرض والبطالة والجريمة(24)، وهي علل ذات آثار سلبية، تدمر قدرات المجتمع، وتعوقه عن التطور والنمو. 

ويسعى النظام الإسلامي عامة إلى اجتثاث الفقر من المجتمع بوسائل متعددة، وكلما نبتت بوادر جديدة للفقر ـ وهذا أمر يتكرر ولا يمكن تحاشيه ـ أسرع إلى محاصرته وتجفيف منابعه. والمثل الأعلى للمجتمع الإسلامي من هذه الزاوية هو ألا يكون فيه فقراء(25).

إن أول مصْرِف للزكاة المفروضة هم "الفقراء والمساكين" بنص قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ﴾ (التوبة: 60). ووردت الزكاة في 32 موضعاً في القرآن الكريم، منها 27 موضعاً جاءت مقرونة بالصلاة، ووردت في أكثر من 80 موضعاً إذا أضفنا إلى ذلك المصطلحات الأخرى التي تشترك معها كلياً أو جزئياً في المعنى مثل النفقة والصدقة التي استعملت للحض على معالجة مشكلة الفقر على وجه التحديد. 

ولكن إلى جانب الزكاة المفروضة حثت شريعة الإسلام على المبادرة بالأعمال الخيرية الطوعية للإسهام في مواجهة مشكلة الفقر، ومن أهم صور هذه الأعمال الخيرية: الصدقة التطوعية، والوقف، والهبة، والانتفاع بفائض رؤوس الأموال والمنح التي تعطى لغير القادرين من دون تحصيل فوائد منهم(القرض الحسن). ومن ذلك كله عرفنا أن محاربة الفقر مقصد أساسي من مقاصد العمل الخيري. وتتجلى في ميدان مكافحة الفقر الجدوى الاجتماعية والاقتصادية للعمل الخيري الذي يثاب فاعله بالأجر الجزيل من رب العالمين. 

و يمتلئ تراثنا الفقهي بمطارحات عميقة حول مشكلة الفقر: المسائل والمشاكل التي ترتبط به؛ بدءاً بتعريف الفقر ما هو؟ مروراً بكيفية قياسه وما أهم مؤشراته، وكيفية مواجهته، وصولاً إلى مناقشات فلسفية عميقة حول المفاضلة بين الغنى والفقر، وأيهما بحاجة إلى الآخر: الغني إلى الفقير، أم الفقير إلى الغني؟ أم أن كلاً منهما بحاجة إلى الآخر؟(26). 

ومن اللافت للانتباه أن ما تتناوله البحوث والدراسات الاقتصادية الحديثة تحت عنوان معضلة قياس الفقر، وكيفية تحديد "خط الفقر"، قد تناولها فقهاء الإسلام منذ قرون طويلة خلت. فالحسن البصري وأبو عبيدة مثلاً كانا يحددان ما نسميه اليوم "خط الفقر" برصيد نقدي مقداره أربعون درهماً، واستدلا على ذلك بقوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «لا يسأل رجل أوقية، أو عدلها إلا سأل إلحافاً»(27). وذهب الحنفية إلى أن الفقير هو من يملك أقل من نصاب الزكاة؛ ربع أو خمس النصاب كما قال البصري وأبو عبيدة، والمسكين عندهم هو من لا يملك شيئاً. أما الطبري فيرى أن الفقير هو المحتاج المتعفف. وجمهور المالكية والشافعية والحنابلة يقولون: إن معنى الفقر مرتبط بمستوى الكفاية، ومدى تلبية احتياجات الإنسان الأساسية. 

ومِن قدماء العلماء مَن اهتم بتحليل ظاهرة الفقر تحليلاً اجتماعياً واقتصادياً؛ بل ونجد في كتب التراث بحوثاً شبه ميدانية تتضمن معلومات وآراء تساعد على فهم الأبعاد المختلفة التي تنطوي عليها مشكلة الفقر، وكيف تؤثر على بعض الفئات وخاصة العلماء والمثقفين، وكيف تؤثر أيضاً على مجمل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية(28). 

وللفقر صلة وثيقة بالقهر، وليس فقط بالجهل وبالمرض. وقد استغرق الكواكبي في تحليل مخاطر الفقر، وصلته الجدلية بالقهر وبالحرية والاستبداد، وأسهب في بيان سلبيات اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء. وكشف ببراعة دقة الخيوط التي توثق الفقر بالقهر، وتربط الفقراء بأوتاد الاستبداد، وقارن بين أحوال مجتمعات الشرق والغرب في الفقر والغنى، وتباين قدرة كل مجتمع على التخلص من شرور الفقر، ومن أوزار الاستبداد (29). 

وعلى أية حال، فقد توصلنا ـ في دراسات سابقة لنا ـ إلى أن "التصدي للفقر" كان في مقدمة أولويات العمل الخيري في الممارسة الاجتماعية في الاجتماع السياسي الإسلامي، وتجلى ذلك في نظام الوقف الإسلامي عبر أغلب مراحله التاريخية. وتبلورت أربع وسائل لتنظيم إسهام العمل الخيري في محاربة الفقر، واختصت كل وسيلة بشريحة أو أكثر من الفقراء(30).

الوسيلة الأولى هي "المساعدات النقدية" التي تقدم للفقراء موسمياً، وخاصة في الأعياد والمناسبات الدينية، أو تقدم لهم في أوقات حاجتهم إليها.

والوسيلة الثانية هي "المساعدات العينية" التي تشمل: الطعام، والماء، والكساء، بعض أدوات الإنتاج البسيطة، والدواء، والمأوى أحياناً، وهي تقدم للفقراء والمعوزين موسمياً أيضاً أو في أوقات حاجتهم إليها؛ شأن المساعدات النقدية. 

أما الوسيلة الثالثة فهي "المساعدات المؤسسية"؛ ونقصد بها تلك الإسهامات التي يقوم بها فاعلو الخير من أجل دعم أو تمويل أو إنشاء مؤسسات تقدم خدمات عامة مثل: المساجد، والمدارس، والمستشفيات ومستوصفات العلاج، ودور الرعاية الاجتماعية التي تقدم خدماتها للأيتام والعجزة والأرامل وذوي الاحتياجات الخاصة.

والوسيلة الرابعة هي "المساعدات الفنية"، وتشمل ما يتطوع به فاعلو الخير من خبرات واستشارات ومشاركات يقدمونها من دون أجر مادي، ويسهمون بها في تدريب وتأهيل الراغبين في العمل؛ ولكنهم غير قادرين على تحمل نفقات التأهيل المهني اللازم لدخولهم سوق العمل.

وجرى تمويل هذه المنظومة الخيرية عبر طرق متعددة منها: الزكاة، والوقف، والوصاياً، والهبات الخيرية، والنذور، والكفارات، والصدقات التطوعية الأخرى.

حبّ الحصيد

حب الحصيد الذي خرجنا به من تلك النظرات في مقاصد العمل الخيري هو أن هذا العمل يقع في صلب التكوين الاجتماعي والسياسي الإسلامي بحكم تعاليم ومبادئ المرجعية الإسلامية العليا(القرآن والسنة النبوية الشريفة)، وأن هذا "العمل الخيري" متحيز للإنسان أولاً وقبل أي شيء آخر بحكم مبادئ هذه المرجعية نفسها. فالخير مفهوم يلزم الذات لمصلحة الغير دون مقابل مادي للمتبرع لا عاجلاً ولا آجلاً؛ اللهم إلا ابتغاء الثواب عند الله، عبر الإسهام الفعال في مواجهة المشكلات والأزمات التي يعاني منها المجتمع. 

لا زلنا في حاجة إلى مواصلة البحث عن صلة "العمل الخيري" بنظرية المقاصد العامة للشريعة، وكيف تسهم هذه النظرية العملاقة في تطوير أنماط العمل الخيري، وفي تفعيل أداء مؤسساته؟ أقول ذلك في ضوء ما نعرفه جميعاً من أن مدار نظرية المقاصد هو تحقيق "المصلحة" الشرعية، وإذا كان الأمر كذلك فإن العمل الخيري يجب أن يحتل موقعه الصحيح ضمن منظومة المقاصد العامة؛ باعتباره مقصداً عاماً وثابتاً من جهة، وكأحد وسائل تحقيق المقاصد العامة الأخرى للشريعة من جهة أخرى. 

إن مبادرات العمل الخيري ـ بمختلف أنماطه ـ هي التدريب الأول على مشاركة الفرد في شئون مجتمعه، ومن ثم في خدمة الإنسانية كلها من حوله؛ ليعرف العالم أن الخير في أمة الإسلام إلى يوم القيامة كما قال الرسول الأمين محمد -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «الخير في وفي أمتي إلى يوم القيامة». 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1) انظر: محمد عمارة، قاموس المصطلحات الاقتصادية (القاهرة، دار الشروق)، ص205-206.

2) انظر: أبو القاسم الحسين بن محمد الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، تحقيق محمد سيد الكيلاني، مادة "خير".

3) انظر، أبو علي بن سينا، كتاب النجاة، ص229.

4) انظر: أبو هلال العسكري، الفروق اللغوية، ضبطه وحققه حسام الدين القدسي، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1981)، ص161-162.

5) انظر: أبو الحسن علي بن عبد الرحمن بن هذيل، عين الأدب والسياسة وزين الحسب والرياسة، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1981) ص105.

6) انظر: سبط بن الجوزي، الجليس الصالح، والأنيس الناصح (لندن: دار رياض الريس، 1989) ص67.

7) انظر: مراد وهبة، المعجم الفلسفي: معجم المصطلحات الفلسفية (القاهرة: دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع) ص320.

8) تحدث الشيخ محمد الطاهر بن عاشور عن مقاصد التبرعات، وهي تندرج في العمل الخيري بلا شك، ولمزيد من التفاصيل انظر كتابه: محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية(تونس: مكتبة الاستقامة بسوق العطارين، طبعة أولى، 1366هـ)، ص204-210. وتختلف رؤيتنا لمقاصد العمل الخيري بعض الاختلاف مع ما قدمه الشيخ رحمه الله، كما سيأتي.

9) انظر: موريس كرانستون (محرر)، المصطلحات السياسية (بيروت: دار النهار للنشر، 1969) ص90.

10) انظر: على فؤاد باشكيل، موقف الدين من العلم، ترجمة أورخان محمد علي(الكويت: دار الوثائق، ب.ت) ص88. حيث ينتقد النظرة النفعية في الفلسفة المادية الوضعية.

11) سنوالي بيان مقصودنا من هذه المقاصد، وقد اخترنا التعبير عن مقاصد العمل الخيري بمصطلحات مستحدثة للتعبير عن المراد بشكل مباشر وقريب من لغة الاجتماع السياسي المعاصر؛ لأننا نؤمن أن نظرية المقاصد ليست مقصودة لذاتها؛ وإنما لما تسهم به في توجيه الواقع والتأثير فيه، وبما تسهم به كذلك في جعلنا أكثر قدرة على فهم هذا الواقع والتعامل معه. 

12) الإمام محمد عبده، الأعمال الكاملة، تحقيق وتقديم محمد عمارة(القاهرة: دار الشروق، ط2، 2006)، ج5، ص428.

13) ما ذكرناه هو خلاصة مكثفة لأهم ما ورد في كتب التفسير المشتهرة، وقد لخصها الشيخ محمد على الصابوني، صفوة التفاسير (بيروت: دار القرآن الكريم، ط4، 1981)، ج3، ص562-563. وانظر أيضاً: الشيخ حسنين مخلوف، القرآن الكريم ومعه صفوة البيان لمعاني القرآن(القاهرة: دار الكتاب العربي بمصر، ط1، 1956، 2/542-543.

14) تناولنا إسهام نظام الوقف في مختلف المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في أكثر من عمل سابق لنا، وخصصنا دراسة مستقلة لبحث موقع فكرة الوقف -باعتبارها ركنا أساسياً من أركان نظرية العمل الخيري الإسلامي- من نظرية المقاصد العامة للشريعة، انظر: "مقاصد الشريعة في مجال الوقف" في: محمد سليم العوا(محرر)، مقاصد الشريعة الإسلامية: دراسات في قضايا المنهج ومجالات التطبيق، . مرجع سابق، 425-483.

15) لمزيد من التفاصيل حول مركزية "الحرية" في الرؤية الإسلامية، انظر: إبراهيم البيومي غانم، أصول المجال العام وتحولاته في الاجتماع السياسي الإسلامي، بحث قدم في: المؤتمر السنوي لمركز البحوث والدراسات السياسية، كلية الاقتصاد/جامعة القاهرة، 12-13/12/2007، تحولات المجال العام في مصر: سياسات الانتقال من مجتمع جماهيري إلى مجتمع استهلاكي".

16) انظر الرؤية المتعمقة التي قدمها الشيخ عن "مقصد الحرية" في كتابه: مقاصد الشريعة الإسلامي، مرجع سابق، ص139-146.

17) لمزيد من التفاصيل انظر: إبراهيم البيومي غانم، الأوقاف والسياسة في مصر(القاهرة: دار الشروق، 1998)، ص196-289. وانظر أيضاً أعمال ندوة" مؤسسة الأوقاف في العالم العربي والإسلامي (بغداد: معهد البحوث والدراسات العربية، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، 1403/1983.

18) لمزيد من التفاصيل حول دور الوقف –مثلاً- في تطوير مرفق المياه، وبلورة قواعد قانونية لإدارته انظر: إبراهيم البيومي غانم، إسهام الوقف الإسلامي في الإدارة المتكاملة لمصادر المياه، في: المجلة الاجتماعية القومية (المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، القاهرة)، العدد الثاني، المجلد الرابع والأربعون، مايو 2007، ص31 - 67.

19) لمزيد من التفاصيل حول وقائع الاستيلاء الحكومي على الأوقاف في العالم الإسلامي الحديث انظر: إبراهيم البيومي غانم، سياسات الدولة العربية الحديثة تجاه الأوقاف: نموذج للتحيز ضد الذات في العمل الخيري. بحث قدم في ندوة: حوار الحضارات والمسارات المتنوعة للمعرفة، برنامج الدراسات الحضارية وحوار الثقافات، كلية الاقتصاد جامعة القاهرة، 10-13/2/2007). ولمعرفة الاتجاهات الرئيسية للسياسات التي طبقتها الدول العربية تجاه الأوقاف خلال النصف الثاني من القرن العشرين انظر بصفة خاصة: إبراهيم البيومي غانم(محرر)، نظام الوقف والمجتمع المدني في الوطن العربي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، والأمانة العامة للأوقاف، الكويت، 2003).

20) انظر، ابن عاشور، مقاصد، مرجع سابق، ص204.

21) انظر: إبراهيم غانم، الأوقاف والسياسة، مرجع سابق، ص307-316.

22) انظر: عبد الحميد براهيمي، العدالة الاجتماعية والتنمية في الاقتصاد الإسلامي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1997) ص36.

23) انظر: إبراهيم البيومي غانم، التكوين التاريخي لوظيفة الوقف في المجتمع العربي، في: إبراهيم البيومي غانم (محرر) نظام الوقف والمجتمع المدني في الوطن العربي: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، والأمانة العامة للأوقاف بالكويت(بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2003) ص89. 

24) في تحليل علاقة الفقر بالمرض والأمية وضعف قدرات المجتمع انظر: نبيل صبحي الطويل، الحرمان والتخلف في ديار المسلمين(قطر: كتاب الأمة، سلسلة فصلية تصدر عن رئاسة المحاكم الشرعية، ط2، ب ت) ص32-75.

25) انظر: محمد قطب، شبهات حول الإسلام (القاهرة: دار الشروق، 1403/1983) ص101-105.

26) انظر في ذلك على سبيل المثال: محمد بن الحسن الشيباني، الاكتساب في الرزق المستطاب، تلخيص محمد بن سماعة، ترجمه وعلق عليه محمود عرنوس(هدية مجلة الأزهر، جمادى الأولى 1416/1995) ص44-52.

27) لا نعرف كم تساوي الأربعون درهما بعملات اليوم، ويمكن لأحد الاقتصاديين أن يقوم بتقديرها، وانظر على أية حال: أبو عبيد القاسم بن سلام، الأموال (بيروت، دار الفكر، 1988)، ص664، وانظر أيضاً المغني لابن قدامه، ج2، ص277.

28) من أهم كتب التراث في هذا المجال انظر: شهاب الملة والدين أحمد بن علي الدلجي، الفلاكة والمفلوكون، تقديم زينب محمود الخضيري (القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2003). 

29) انظر: عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، تقديم أسعد السحمراني (بيروت: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع، 1404 -1984) ص70-83.

30) لمزيد من التفاصيل والأمثلة التطبيقية على الوسائل الأربع انظر كتابنا، الأوقاف والسياسة، مرجع سابق، ص170 وما بعدها.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/12/248

الأكثر مشاركة في الفيس بوك