الحروب الدينية في أوروبا على مشارف العصر الحديث

محمد علي محمد عثمان

المدخل:

على مشارف العصر الحديث، اندلعت سلسلة من الحروب الدينية منذ القرن الخامس عشر، بلغت ذروتها في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلادي، تسربلت برداء الدين في معظم الأحيان من أجل تحقيق أهداف سياسية، ومصالح شخصية واقتصادية واجتماعية، لم تكن مفاجئة ولا وليدة العصر الحديث؛ ولكنها كانت حروب مستمرة امتدت بجذورها عبر الزمان منذ العصور الوسطى؛ بيد أنها كانت أكثر تدميراً في العصر الحديث، نظراً للابتكارات التي طرأت على الأسلحة والمعدات والذخائر كإفراز لعصر النهضة. 

هذه الحروب اتسمت بالتعصب الشديد بشتى أشكاله: الديني والقومي والعنصري، واختفت فيها روح التسامح الديني بكافة أشكاله، وتلاشى مصطلح التسامح من قاموس الغرب الأوربي؛ إلا في فترات قليلة، ولم يظهر مجدداً إلا بعد نهاية الحروب الدينية وبداية عصر التنوير. والواقع أن موضوع الحروب الدينية من الموضوعات الشائكة، التي تختلط فيها الأوراق وتعلو فيها أصوات التعصب، ويتلاشى الخيط الرقيق بين المستغلين للدين والمتشحين بردائه لتحقيق مصالح خاصة وهم كثر، ومن يدافع عن العقيدة بصدق وإخلاص وهم قلّة. 

فقد تلاشى في هذه الحروب مفهوم التسامح وروح التفاهم والوفاق، وسادت نزعات اللاتسامح، وتفشت موجة الأحقاد والإحن والضغائن والفهم الخاطئ، وتشتَّت الشعوب وتشرذمت وانقسمت وتمزقت كل ممزق، وأسكت صوت العقل والمنطق. 

كانت هذه الحروب صراعاً طاحناً، ومعارك دامية، وصراعات وانقسامات واتهامات بالكفر والزندقة والإلحاد، وأحكاماً بالقتل والتعذيب والحرمان، أدت إلى هدم جسور الثقة، وساد الشك والريبة في علاقات الدول، وبين الأفراد والجماعات، واختفى الحوار الهادف والاحترام المتبادل والسلام والتعاون، وعصفت بأمان الناس، وخلفت الكثير من الدمار والخراب، وساد الاضطراب والفوضى في شتى الأرجاء، وانتشرت الاضطهادات الدينية واضطرب المناخ الديني، وعجز الكثير عن تأدية شعائرهم وطقوسهم في أمان، وتم إجبار الناس على اعتناق مذاهب تخالف عقيدتهم الدينية، وراحت أفئدة الآلاف من المضطهدين والمعذبين في الأرض الأوربية من خيرة العقول، ومن العمال والحرفيين المهرة يبحثون عن ملاذ آمن، وراحوا يلتمسون أماكن يجدون في رحابها الأمن والأمان والملاذ والتسامح، وذلك مع انتشار ثقافة اضطهاد المخالفين للعقيدة كشكل قبيح من أشكال اللاتسامح. 

والواقع أن جميع البشر شعروا بلهيب نار الفتن الدينية، التي استمرت سنوات طوال واكتوى الكل بنارها، ولقي مئات الآلاف من الناس مصرعهم بسببها، وانتشر السلب والنهب، والسرقة والفساد، والتبرم بسبب الفوضى والاضطراب المستمر، وانتشرت المذابح، وسالت الدماء أنهاراً، وأهدرت ميزانيات الدول، وساد عدم الإخلاص والتفريط في مصالح الوطن، وانتشار الأزمات الداخلية، فارتفعت الأسعار، وتضور الناس جوعاً، وزادت الضرائب بشكل يفوق طاقة البشر، وانتشر القمع والترويع، والإرهاب والتخويف، وعمت الفوضى أرجاء البلدان في الغرب الأوربي، وزاد الاستياء بعد أن عاث الجنود المرتزقة في بلدان الحروب فساداً، فقطعوا الطرق، ودمروا، وسلبوا ونهبوا، ولحقت بالمجتمعات التي كانت ميدان المعارك -مثل ألمانيا- أضرار بالغة فقد تعطلت مصالح الناس وأرزاقهم، وخربت قراها قبل مدنها، وعمتها الفوضى، وتصاعدت موجات الحقد والحسد والعداء المستحكم بين شعوب الغرب الأوربي، وكانت تلك الحروب مصدراً للرعب والهلع، وكانت صراعاً دموياً بين الكاثوليك والبروتستانت، أريقت فيه دماء الآلاف من البشر. 

واختفى الهدوء والسلام من بقاع الغرب الأوروبي فترات طويلة من الزمان، إلا من بعض الهدوء والسلام المؤقت غير ثابت الأركان، وأصبح الغرب الأوربي عالم لا سلام فيه، مع انتشار المذابح والقتل والإعدام، وإبادة العديد من بني البشر، وانتشار السلب والنهب والتشريد، وموت وهلاك وإبادة الكثيرين، وإحراق الناس المخالفين للعقيدة أحياء وقطع الرؤوس، وانتشار المكائد والمؤامرات، والخيانة والخديعة، واختفاء الحريات وحرق الكتب والمكتبات، والكنوز الفنية والأدبية الثمينة أدت إلى محاكمة وإحراق علماء الدين، وأرباب الفكر والعلم، وتكميم الأفواه، والرقابة على الصحف والمطبوعات وانتشرت الممارسات الهمجية، والبربرية والوحشية، وصعد المتعصبون للحكم. 

بيد أن هذه الحروب لم تقتصر على بلدان الغرب الأوربي فقط، بل اكتوت القارات الأخرى بنار لهيبها، فمع الاتشاح برداء الدين خرج الأوربيون إلى ما وراء البحار، وأبادوا باسم الدين ملايين البشر في القارة الأمريكية والأفريقية والآسيوية، ومارسوا تجارة النخاسة بوحشية، ونهبوا ثروات تلك القارات. 

والواقع أنه مع ازدياد الدور الذي يلعبه الدين وعودته كلاعب أساسي في المجتمع الدولي وإدارة شؤون العالم في القرن الحادي والعشرين، وما يترتب عليه من حروب دينية، وانتشار ظواهر التعصب والعنف واللاتسامح والحروب الإقليمية؛ فإن دراسة الحروب الدينية تصبح ضرورة حتمية، حتى يمكن تجنب مثل هذه الحروب، ومع السعي والرغبة في عالم أفضل في عصرنا الذي نعيش فيه، تختفي فيه الحروب، وخاصة الحروب الدينية على وجه الخصوص؛ وذلك لأن الحروب الدينية تعد من أصعب أشكال العنف واللاتسامح؛ لأنه يصعب مواجهتها بالعقل والمنطق، ومع التطلع إلى عالم يسود فيه التسامح والوفاق، والمحبة والوئام، والمسرة والسلام، ويسود الأمن والأمان، والرغبة في ترسيخ ثقافة الحوار والتفاهم وتبادل الآراء والحوار وقبول الآخر والإقناع والرغبة في التعايش المشترك، فإن دراسة الحروب الدينية تكتسب أهمية خاصة في البحث التاريخي(1).

أوَّلاً: الحرب البابوية ـ البوهيمية 1415م:

بواعث الحرب: 

مع مطلع العصر الحديث، انشق عصر النهضة الأوربية ليشمل التغيير مجالات أوربية كثيرة، ومن بينها الكنيسة الكاثوليكية التي كانت أحد أهم أروقة الحياة الأوربية؛ والتي كانت تعاني انهياراً بسبب تراجع مكانة وهيبة رجال الدين بسبب أعمالهم التي غلب عليها الطابع العلماني الدنيوي، فقد راح رجال الكنيسة ينحون الدين جانباً، وينافسون الملوك والأمراء في الترف والإسراف والانحراف والفساد؛ وخاصة في القضاء الكنسي، والتي أصبحت العدالة فيه تشترى بالمال، وساد فيها تعيين الأقارب والمقربين في المناصب الدينية العليا، وانتشار ظاهرة السيمونية، أو بيع الوظائف الكنسية، وبيع صكوك الغفران وانتشار الجهل والانحطاط الخلقي والإهمال والتسيب، مما أشاع بين الناس الشعور بالسخط على الكنيسة. 

ومع تطور العقلية الأوربية وشيوع روح النقد وتحرر المفكرين من قيود الكنيسة على حرية الفكر والبحث العلمي، راح بعض المفكرين الدينيين يعكفون على الدراسة الدينية الجادة، ووقفوا على ما آلت إليه الكنيسة من فساد ظاهر، فنادوا بضرورة إصلاح الكنيسة من المفاسد التي علقت بها. كان من بين هؤلاء المفكرين المصلح الديني التشيكي جون هيس John Huss 1470-1415م، والذي سار على درب أستاذه المصلح الإنجليزي حنا ويكلف Wycliff. 

كان هيس يميل إلى حل المشكلات الدينية بالعقل والمنطق والحكمة، واتسمت آراؤه بالقوة والروعة والجرأة في الوقت ذاته، كانت حياته رمزاً للرزانة والتعقل والتمسك بأهداب الدين، راح يصب جام سخطه وغضبه على البابا وسلطانه، وتحكمه في كنيسة بلاده، وكان على قناعة راسخة في وجدانه أن أخطاء الكنيسة ومفاسدها تعود معظمها إلى محاولة الكنيسة الإثراء الفاحش السريع، والحصول على السلطة الزمنية، وبُعدها عن بساطة الحواريين الأُول وزهدهم، وكان رافضاً رفضاً مطلقاً لذهاب الضرائب من بوهيميا إلى البابا في روما؛ وذلك لأن الكتاب المقدس يخلو تماماً من الإشارة التي تتيح للبابا حق حصوله من المناطق التشيكية على تلك الضرائب السنوية.

راح يهاجم الكنيسة هجوماَ ضارياً، ويدعو إلى عدم طاعة بابا الفاتيكان، واستنكر بشدة ارتكاب رجال الدين للرذيلة والفواحش والموبيقات، وكان على قناعة أن أيدي رجال الدين ملوثة بالدماء، وضمائرهم ملوثة بالفساد، وألسنتهم لا تنطق إلا كذباً، وأعينهم تتسم بالخيانة؛ فهم يطاردون النساء، ويعيشون في ترف يصرفهم عن الرحمة، ويختصون أنفسهم بملذات الحياة ومباهجها؛ فهم يجمعون المال بشتى الطرق غير المشروعة، ومنها بيع الوظائف الكنسية وصكوك الغفران التي تبدو أمام ناظريه أبشع أنواع جرائم السرقة. 

وفي جرأة وشجاعة وإصرار، راح هيس يلقي بجامعة براغ مجموعة محاضرات حول فساد الكنيسة الرومانية ووسائل علاجها، وسرعان ما انتشرت هذه الآراء حتى تجاوزت الطبقة المتعلمة، وأثارت حماسة شعبية عظيمة، ولقيت آراء الرجل انتشاراً واسع النطاق ليس في براغ ومنطقة بوهيميا فحسب، وإنما في أصقاع القارة الأوربية وخاصة في المناطق الألمانية. 

ودُعي هيس للمثول أمام مجلس كنسي في كونستانس Constance 1414م، بعد أن تلقى وعداً من إمبراطور الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة التابع له المناطق التشيكية بالأمان ذهاباً وإياباً، إلا أنه يبدو أن الغدر والخيانة وعدم الوفاء بالعهد كان من سمات زمانه، فقد تم إلقاء القبض على هيس وحوكم بتهمة الإلحاد والهرطقة، وأصدر المجمع الكنسي قراراً بإحراق هيس حياً 1415م. 

اندلاع الحرب ونتائجها: 

والواقع أن هذه النهاية المروعة لهيس كان لها أبعد الأثر، فبدلاً من أن يؤدي ذلك التصرف الذي يثير الهلع في النفوس إلى إخافة وإسكات الشعب البوهيمي، ثارت ثائرة البوهيميين بشكل عارم، وأفضي ذلك إلى حالة ثورة لأتباع هيس بتلك البلاد. 

ونشأت في بوهيميا حركة دينية قومية؛ اتسمت بالعنف واستهدفت إقامة كنيسة بوهيمية على أسس قومية، والخروج السافر على طاعة روما، وتطلعت إلى استقلال بوهيميا سياسياً عن الدولة الرومانية الجرمانية المقدسة؛ وقاد هذا إلى نشوب واشتعال أول حرب في سلسلة متلاحقة من الحروب الدينية؛ تلتها تلك الحرب، التي كانت فاتحة تمزق عالم النصرانية اللاتينية. 

راح البابا مارتن الخامس يدعو إلى حرب صليبية لقمع ذلك العصيان (أو بمعنى أدق الثورة)، واشتعلت الحرب بين البوهيميين من جانب وقوات البابوية وقوات الدولة الرومانية المقدسة من جانب آخر، والتي راحت تسيّر ضد هذا الشعب الصغير الباسل حملات صليبية، باءت في نهاية المطاف بالفشل الذريع. 

فعلى الرغم من أن الكنيسة وجهت إلى بوهيميا كل متشردي أوروبا وزعانفها المتعطلين، إلا أن أهالي التشيك كانوا يؤمنون بالمقاومة المسلحة، ولم تكد آخر الحملات الصليبية المسيرة إلى بوهيميا تسمع قعقعة عجلات أتباع هيس وأناشيد جنودهم من بعيد حتى تبخرت وتسللت من ميادين القتال، وبلغ من أمرها أنها لم تنتظر قط حتى تقاتل في معركة (ومازليس 1431م)، وانتهت هذه الحرب بانتصار البوهيميين، واضطرت الكنيسة الكاثوليكية لأول مرة في تاريخها الطويل إلى عقد مجلس جديد للكنيسة عام 1436م لعقد صلح مع أتباع هيس وحوارييه، واضطرت الكنيسة إلى قبول بعض المطالب للبوهيميين، وأزيلت كثير من الاعتراضات الخاصة على تصرفات الكنيسة بمقتضى اتفاقية إجلاو Ighlau في 1436م(2)، ومنها إلغاء سلطة البابا في المسائل المدنية وإلزام القسيسين بالعودة إلى حياة التقشف والبساطة، وكان ذلك صدمة عنيفة أصابت الكنيسة الكاثوليكية(3). 

والواقع أن هذه الحرب كانت حرباً دينية تسربلت فيها الكنيسة برداء الدين للحفاظ على مكتسباتها الدنيوية في تلك المناطق، كما أنها كانت حرباً سياسية أخذت طابعاً قومياً من قبل التشيك، كما كان الصراع اقتصادياً في جوهره، وفشلت فيها الكنيسة في إسكات صوت المعارضة بالقوة، فاهتزت صورتها في عيون كثير من البشر في الغرب الأوربي. 

وربما كانت لتعاليم هيس ومن قبله أستاذه ويكلف أثرها العميق في توجيه الأذهان إلى إصلاح الكنيسة التي فاح فسادها وأصبح بادياً للعيان، وأسهم في خلق جو من المعارضة للكنيسة، على الرغم من أنه لم يكن يقصد الخروج والثورة والانفصال عنها (4). 

ثانياً: الصراع المسلح بين الكاثوليك والبروتستانت في ألمانيا 1547 ـ1555م: 

1- دوافع الصراع واندلاع الحرب: 

مع فشل إصلاح الكنيسة من الداخل من قبل المجامع الكنسية ومن قبل رجال الدين المصلحين من أمثال ويكلف وهيس ويوحنا روكلن وارازموس، انتقلت حركة الإصلاح إلى المرحلة الثانية، وهي مرحلة فرض الإصلاح من الخارج والانفصال عنها وتكوين مذاهب جديدة على يد لوثر وكلفن. 

تطورت الحركة اللوثرية في بضع سنين، وراح الأمراء الألمان البروتستانت يتولون مسألة الدفاع عن اللوثرية، وعقدوا العزم على الانفصال عن كنيسة روما، وكوّنوا حلف شمالكالد Schmalkald في 25 ديسمير 1530م، وكانت الولايات الظاهرة في هذا الحلف سكسونيا وهيس وبراندنبرج (بروسيا بعد ذلك)، وكاسل ومكلنبرج وانهالت وسيليزيا وهولشتين واجزبرج، بالإضافة إلى ولايات أخرى، ويبدو أن هذا الحلف البروتستانتي قد تكون رغم معارضة مارتن لوثر زعيم الثورة الدينية. 

أصبح هذا الحلف البروتستانتي في مواجهة الحلف الكاثوليكي الذي تكون 1534م بقيادة البابا شارل الخامس (شارلكان) إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة، والذي كان ملكاً على أسبانيا في الوقت نفسه، وهكذا انقسمت الولايات الألمانية ما بين كاثوليكية وبروتستانتية، وانقسم العالم المسيحي في دول الغرب الأوربي إلى معكسرين متصارعين، فتهيأت بذلك نار حروب دينية في ألمانيا وغيرها، لم يبق إلا شرارة لإشعالها(5).

والواقع أن دوافع الصراع بين الحلفين كانت متباينة، اختلطت فيها الأوراق الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والسيكولوجية بشكل يصعب فصله بحد السكين. 

فقد كانت الحروب الدينية صراعاً اقتصادياً سياسياً في المقام الأول، ظهرت فيها الأطماع الشخصية بشكل واضح، فالخلافات والاختلافات الدينية التي كانت تمزق أوربا إلى أشلاء متناحرة لم تكن -في الغالب الأعم- اختلافات دينية حقه، ولكنها كانت اختلافات ومصالح سياسية واقتصادية، ولم يكن يبدو على معظم الأمراء والحكام الأوربيين الذين انخرطوا في الصراع أنهم يعملون بإخلاص من أجل العقيدة، ولم يكن الاضطراب الديني الذي عم أرجاء العالم كافة إلا ذريعة للأمراء والحكام لتحقيق طموحاتهم(6). 

ويبدو أن التفسير الاقتصادي لسلوك الأمراء والملوك وشعوبهم الذين اشتركوا في الحروب الدينية في جانب البروتستانت هو الذي يشفي الغليل في هذا المضمار؛ وذلك لأن الكنيسة الكاثوليكية كانت قد تضخمت ثرواتها بصورة هائلة منذ العصور الوسطى؛ وذلك بفضل المنح والهبات ومواريث الأثرياء والأوقاف الكنسية، ولكن الملوك والأمراء وأتباعهم، أو الطبقة الحاكمة -والتي كانت بحاجة إلى المال- يبدو أنها قد اعتادت أن تنظر بعين الحقد والحسد إلى ثروة الكنيسة، وتلقف هؤلاء أفكار لوثر النظرية، واتخذوها وسيلة لكي يبدو نهب الكنيسة أمراً حلالاً في عيون العالم، وتطلعت هذه النخبة الحاكمة إلى الاستئثار بأموال الكنيسة وممتلكاتها الشاسعة. 

كان الحكام وأمراء المقاطعات الألمانية مدينين بأموال كثيرة لطبقة التجار والمصارف الألمانية، وكان بوسعهم أن يدفعوا ديونهم في صورة أراض وممتلكات ومال يأخذونه من الكنيسة، وهكذا نشأت طبقة حاكمة جديدة نهمة للمال، وهي التي أفرزت الرأسمالية في العصر الحديث. ومن ثم فقد كان أمراء المقاطعات الألمانية المستفيدين من نزع ممتلكات الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. 

كان ثراء رجال الدين الفاحش أحد أهم أسباب الصراع، فقد هيمن بعض الأساقفة والرهبان على الاقتصاد الألماني بامتلاكهم لمساحات كبيرة من الأراضي والإقطاعيات التي أصبحت في حوزة الكنيسة وإدارتها، وهو ما جعلهم سادة إقطاعيين متوجين أكثر منهم رجال دين. ومن ثم فإن هذا الثراء الفاحش بين كبار رجال الدين قد أثار نقمة الطبقة الحاكمة عليهم، كما أثار حقد وغضب الشعب الألماني. 

جأرت أصوات الشاكين في كل مكان في ألمانيا وغيرها من ارتزاق رجال الدين الكاثوليك المهين بالمقدسات، والمبالغ الضخمة التي ترسل على دفعات، ومن الضرائب التي تجبى للبابا، ومن مال الرشوة وبيع الوظائف الكنسية، حتى أن أحد رؤساء الأساقفة الألمان راح يسجل: "يجب ألا يستنزف الإيطاليون دماء الهيئة الكهنوتية بسلب الذهب على دفعات". 

كانت هناك ضرائب تجمع باسم البابا وترسل حصيلتها إلى روما، وكانت للكنيسة أراض واسعة تتمتع بالإعفاء الضريبي، وكانت كنيسة روما المستفيدة من هذا الإعفاء، وكانت تذهب أيضاً إلى خزانة الكنيسة أموال الأديرة وغيرها من المؤسسات الدينية، فضلاً عن الحصيلة الضخمة الناجمة عن بيع صكوك الغفران، التي نظر إليها الألمان على أنها نوع من الإتاوة، كما أنها صدرت دون موافقة ورغبة من قبل أساقفة ألمانيا، بالإضافة إلى ضرائب العشور. 

كان الرأي العام الألماني قد أجمع على أن المحكمة الرومانية التي كانت العدالة تباع وتشترى فيها بالمال قد ركزت الضغط في مسألة الضريبة إلى درجة لا تحتمل، وارتفعت الشكوى مرات عديدة من مستحقات المحكمة العليا في روما ـ التي كان يتم استئناف القضايا أمامها ـ والضرائب التي تدفع للبابا كل عام، ونفقات الكهان، كما أنه كان يتم زيادتها بلا مبرر مقنع، وتم التوسع فيها بطريقة غير قانونية، هذا الوضع دفع رجال الدين الألمان إلى الإعلان بأن شكاوى الألمان من روما كانت في معظمها قائمة على أساس سليم من وجهة النظر المالية، فقد عومل الألمان من قبل كنيسة روما كما لو كانوا برابرة أغبياء، واستنزفت منهم الأموال بألف حيلة ماكرة. 

كانت الموارد المالية من الغزارة والتعدد بحيث تطلبت إنشاء إدارة مالية قائمة بذاتها في البلاط البابوي في روما، تراقب الأجهزة المالية التي تقوم بجمعها وإرسالها البابا، ورأى حكام ألمانيا أن بابوات روما وكبار رجال الدين طبقة من المترفين، اتجه اهتمامهم الأول للحصول على مزيد من الأموال لتحقيق مصالحهم الخاصة، ومصالح أفراد عائلاتهم ومن ثم ازداد الشعور في ألمانيا بالمرارة من تسرب الأموال العامة الألمانية إلى دولة أجنبية(7) . كان الصراع الاقتصادي واضحاً بشكل أكثر مع الطبقة الوسطى (البورجوازية) فقد كانت الأقاليم الألمانية تمر بأزمة اقتصادية، فالطبقة الوسطى كانت تواجه أزمة خطيرة هي محاولة استعادة ما كان لها من ثروة ومركز اجتماعي محترم تمتعت به منذ العصور الوسطى. 

كانت نوعية التفكير لدى أبناء الطبقة الوسطى عاملاً هاماً في الصراع؛ فتلك الطبقة ترى أن هناك ترابطاً عضوياً بين أعدائهم من الإقطاعيين ورجال الدين؛ وذلك لأن المناصب العليا داخل الكنيسة الكاثوليكية كان يشغلها في العادة أبناء النبلاء الذين يتمتعون بالمزايا المادية والمعنوية من مناصبهم الكنسية، والتي حرم منها أبناء الطبقة الوسطى الجديدة، مما كان مثاراً للغيرة في نفوسهم، وأصبحوا على استعداد لتغيير هذا النظام الذي تستفيد منه طبقة الإقطاعيين. 

كان رؤساء الأديرة والأساقفة يقاومون النزعة الاستقلالية للطبقة البورجوازية، حتى لا تنقص مواردهم، وكان الأساقفة يصدرون أحكام الحرمان تارة، ويستخدمون العنف تارة أخرى من أجل القضاء على الحكومات المحلية التي أقامها البورجوازيون، كما حنق رجال الأعمال الألمان أيضاً؛ لأن الأديرة التي تطالب بالإعفاء الضريبي نافستهم في مجال الصناعة والتجارة. 

كانت الطبقة البورجوازية موتورة من الكنيسة والإقطاع في الوقت ذاته منذ العصور الوسطى، فقد كانت قيود المجتمع الإقطاعي تعرقل التجارة الداخلية بفرض الضرائب عليها، وكانت الطبقة الإقطاعية تزدري التاجر وتخدعه، وتعاون الكنيسة عليه بتحريم الفائدة على النقود وفرض أسعار ملائمة، والتي كانت تصب في مصلحة الرجل الإقطاعي. 

كانت مصالح الطبقة الوسطى واضحة جلية في تأييدها للبروتستانت وحروبهم ضد الكنيسة الرومانية التي تحاول فرض وسائل اقتصادية تناقض مصالحهم. 

والواقع أن الطامحين إلى جمع المال من أفراد الطبقة الوسطى قد اتخذوا الاتجاه البروتستانتي نحو الحياة -أي المثل العليا الأخلاقية البروتستانتية- ذريعة لنهب الكنيسة الكاثوليكية، كما أن الأفكار البروتستانتية صاغت أفكار الناس الذين اعتنقوها، وجعلتهم أكثر ملاءمة لجمع المال، وصنعت منهم طبقة وسطى، فالبروتستانتية -بشقيها اللوثري والكلفيني- أكدت على العمل ودوره، وألحت على ذلك؛ لأن الشيطان بالمرصاد للأيدي العاطلة، وأباحت الفائدة (الربا)، ونهت عن الإسراف والتبذير والبذخ والترف، على عكس ما كان حادثاً في الكنيسة الكاثوليكية، وشجعت على الادخار، ومن ثم فإن التحولات الاقتصادية العميقة، وتحول المجتمع من مجتمع زراعي إلى اقتصاد نقدي تجاري يعتمد على السوق الواسعة؛ كان مرتبطاً بحركة الإصلاح البروتستانتي وحروبه، وهكذا كان كفاح البورجوازيين ضد رجال الكنيسة ومؤيديها شاقاً ومريراً إلى أقصى حد، من أجل القضاء على الكنيسة، التي كانت تحتضن النظام الإقطاعي، وكان الصراع قائماً على أسس مادية أكثر مما هو قائم على اختلافات دينية(8). 

على أية حال، فقد كان الصراع الديني المسلح هو صراع على السلطة بشكل مستمر بين السلطتين الزمنية (السياسية)، والروحية (الدينية)، فقد كان حكام ألمانيا على قناعة بأن بابوات روما قد زجوا بأنفسهم في غمار السياسة الدولية، واحتضنوا مشروعات سياسية من أجل إخضاع السلطة الزمنية لهم، وعملوا على زيادة رقعة الولايات البابوية. 

كانت الكنيسة الكاثوليكية على قناعة بأن من حقوقها خلع الأباطرة والملوك خارج إيطاليا في أي وقت تشاء، وراحت تزعم بأن أي إمبراطور لا يعدّ حاكما شرعياً إلا في حالة تأييد البابا له. 

كان الصراع مستمرا بين السلطتين السياسية والدينية على التعيينات في المناصب، وعلى تداخل الاختصاصات بين القضاء المدني والمحاكم الأسقفية، ورأى الحكام أن استئناف بعض القضايا الدينية أمام المحاكم البابوية نوع من التدخل في شؤونهم، كما كانت النخبة الحاكمة ساخطة على حصانة رجال الدين من تطبيق جميع التشريعات المدنية عليهم، وهذا أدى بدوره إلى حقد وحسد طائفة الأشراف الألمان على ممتلكات وسلطات الكنيسة الغنية، وازدادت معارضة الحكومات والأمراء لممارسة البابا لأي نوع من السلطات في أوطانهم؛ وذلك لأن نمو الروح الوطنية دفع الكثير من حكام شعوب الدول المختلفة إلى رفض دفع الضرائب إلى البابا؛ لأسباب سياسية هي أنهم نظروا إليه من الجانب الدنيوي فاعتبروه أحد أمراء إيطاليا، كما أنهم كانوا يرون أن سلطات البابا السياسية والمالية في بلادهم تحد من حريتهم واستقلالهم، ونظروا إليه على أنه نوع من النفوذ والتغلغل الأجنبي غير المرغوب فيه، خاصة وقد أصبح الشغل الشاغل للبابا وكبار رجال الدين أن يبسطوا نفوذهم الدينوي الزمني على الولايات التابعة لهم، والتدخل في شؤون السياسية الدولية، والانشغال بجمع المال وانصرافهم عن تأدية واجباتهم الروحية(9).

وتتجلى الدوافع السياسية بشكل واضح في حلف شمالكالد البروتستانتي، الذي تأسس بغرض الدفاع عن أنفسهم ضد الخطر الكاثوليكي، وربما يعد هذا الحلف هو أخطر حلف ديني له أهمية خاصة في تاريخ القرن السادس عشر؛ وذلك لأن آثاره السياسية والحربية فرضت نفسها، ليس على ألمانيا فقط، بل على معظم الدول الأوربية. 

راح أعضاء الحلف اللوثري يعلنون رفضهم للرضوخ، وتمسكهم بالدفاع عن مبادئهم ومصالحهم وحقوقهم ضد البابا والإمبراطور مهما اقتضى الأمر، وكانت الدلالة الواضحة لتكوين هذا الحلف هو انتقال أمر الإصلاح الديني من أيدي رجال الدين إلى رجال السياسة والعسكرية، وتحول النضال القائم حول المبادئ الدينية إلى نضال حول المصالح السياسية والمادية(10). 

وهناك نموذجان على سبيل المثال للأمراء البروتستانت الذين انخرطوا في الأحلاف والحروب لمصالحهم الخاصة فقط، بعيداً تماماً عن الدين؛ فقد كان حاكم إقليم هيس -ويدعى فيليب- نصيراً مخلصاً للبروتستانتية، وأراد أن يطلق زوجته كريستين السافوية؛ لأنه سئم ومل الحياة معها؛ نظراً لطول فترة الزواج؛ ليتزوج من وصيفة أخته مارجريت دي لاسال، وراح يضغط على لوثر لأن يسمح له بطلاق زوجته، والزواج من معشوقته، وسمح له لوثر بذلك، وتسرب خبر الزواج، وأثار ذلك الأمر ضجة في الأوساط البروتستانتية والكاثوليكية مما دفع لوثر إلى إنكار موافقته على الزواج مما دفع فيليب للسخط على رجال الدين البروتستانت، والتقرب إلى الإمبراطور وابتعاده عن المعسكر البروتستانتي، وقد رحب الإمبراطور بهذا التقارب؛ لأنه يضعف من حلف شمالكالد. 

والمثال الثاني: هو موريس أحد أمراء سكسونيا اللوثرية، الذي راح ينشق عن صفوف الحلف اللوثري، وينضم إلى الإمبراطور شارل الخامس في معركة مهلبرج 1547م، في مقابل وعد صريح من الإمبراطور أن يحصل على دوقيه سكسونيا له، وهنا تتجلى الدوافع والمصالح الشخصية والسياسية لتتوارى خلفها الدوافع الدينية(11). 

بيد أنه لم تعدم الحروب الدينية من دوافع دينية حقيقية هدفها إصلاح ما شاب العقيدة من مفاسد وجرائم تتنافى تماماً مع المسيحية، فقد كان مارتن لوثر وحواريوه من بعده على قناعة أن بيع الوظائف الكنسية منافية تماماً للدين، وراح لوثر يصر على إباحة زواج القسس، نظراً للمخالفات والزيجات غير الشرعية التي كان يرتكبها رجال الدين الرهبان من الكاثوليك، ولذا فقد راح لوثر يتزوج من راهبة مثله، وهي كاترين بورا(12). 

وراح لوثر ورجال دينه من بعده يصرون على أن تحريم الطلاق على جموع المسيحيين في الكنيسة الكاثوليكية هو أمر بعيد تماماً عن الدين، وأكدوا على أن الطلاق أمر شرعي، وأنه ليس من حق البابا وحده أن يحتكر تفسير الكتاب المقدس، وأن العشاء الرباني لا علاقة له بالدين، وأن صكوك الغفران باطلة ولا تمت بصلة للدين، وأصر البروتستانت على عدم إنشاء أديرة جديدة، وإلغاء عدد من الأديرة القائمة وتحويل نزلائها إلى الحياة المدنية، وإلغاء الرهبنة، وكان زواج لوثر ورجال دينه تطبيقاً عملياً وتدعيماً لهذا الإلغاء(13). وعلى أية حال فإنه يبدو أن مارتن لوثر كان متأثرا في إباحة زواج رجال الدين وإباحة الطلاق بالتراث الإسلامي(14). 

2- معركة مهلبرج Muhlburg "صوت المدافع": 

كانت الولايات الألمانية بشقيها اللوثري والكاثوليكي تابعة للإمبراطور شارل الخامس إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وكان قابعاً في أسبانيا بحكم كونه ملكاً عليها، كان شارل على رأس الحلف الكاثوليكي المعادي للبروتستانت، وكان الرجل متعصباً، ولكن يبدو أن الاعتبارات السياسية كانت تكبح جماح هذا التعصب وتدفعه لعمل مساومات. 

ولقد أثار حنق شارل ظهور التعاليم البروتستانتية بالقرب منه، ويبدو أنه توهم أن الخلافات التي فرقت أوربا إلى أشلاء متصارعة هي خلافات دينية، فراح يكثر من عقد مجلس الأمراء وكبراء الدولة والمجامع الكنسية محاولاً بذلك التوفيق والصلح دون جدوى(15)، على الرغم من أنه كان يحدوه الأمل في إعادة الوحدة الدينية من خلال مجمع ترنت 1545م، ولكن المجمع فشل في حل الخلافات بين الطرفين، ورفض البروتستانت قرارات المجمع، ومن ثم فقد قرر الإمبراطور أنه لا مناص من الاشتباك المسلح للقضاء على الانقسام الديني الذي شطر البلاد الألمانية شطرين، قرر الإمبراطور استخدام القوة بالاتفاق مع البابا، ويبدو أن شارل كان مدفوعاً للدخول في صراع مسلح من أجل الحفاظ على وحدة ألمانيا ووحدة إمبراطوريته(16)، ويبدو أن مشاغل الإمبراطور شارل الخامس هي التي حالت دون وقوع الحرب بين البروتستانت والكاثوليك حتى عام 1547م؛ لأنه كان مشغولاً في حروبه مع فرنسا ومعاداة الأتراك(17)، وتلك قصة أخرى. 

على أية حال فقد راح مارتن لوثر يلفظ أنفاسه الأخيرة عام 1546م، قبل أن تبدأ الحرب، وراح شارل الخامس يجمع جيشاً كبيراً، وبدأت الحرب بأن قام موريس -الذي آثر مصالحه الشخصية، وعزم على خيانة حلفه- بغزو جميع أراضي قريبه منتخب سكسونيا، ولم تلبث الجيوش الإمبراطورية أن انتصرت في موقعة مهلبرج على نهر الألب في إبريل عام 1547م. 

والواقع أن القوات الإمبراطورية أوقعت بجيوش البروتستانت هزيمة ساحقة، ووقع معظم قوات الجيش في الأسر، وعلى رأسهم حنا فريدريك ناخب (حاكم) سكسونيا، حتى أضحت ألمانيا بأسرها في قبضة الإمبراطور، وبدلاً من سحق البقية الباقية من البروتستانت حاول الإمبراطور عبثاً الوفاق بين الطرفين مدفوعاً في ذلك بعلاقته السيئة مع البابا بول الثالث، الذي كان يبادله الكراهية وعدم الثقة، في ظل صراع محتدم بين السلطة الزمنية ممثلة في الإمبراطور، والسلطة الدينية ممثلة في البابا. 

كانت أساب هزيمة البروتستانت في مهلبرج متعددة، فبينما كانت حشودهم العسكرية تأخذ طريقها إلى ساحات القتال، كان مارتن لوثر يلفظ أنفاسه الأخيرة، وخسر البروتستانت زعميهم الروحي، وعلى الجانب الآخر فإن خيانة موريس وانضمامه إلى صفوف الإمبراطور كان عاملاً مهماً في تلك الهزيمة؛ وذلك لأن القوات البروتسانتية خسرت قائداً عظيماً مدرباً، ومن جهة ثالثة فإنه على الرغم من وفرة عدد القوات البروتستانتية فإنها كانت تعوذها القيادة القديرة والتنظيم الدقيق والنشاط الفاعل، وعلى الجانب الرابع فإن حلف شمالكالد البروتستانتي كان يتطلع إلى مساعدة فرنسا وإنجلترا في الحرب، ولكن لم تقدم أية دولة من هذه الدول أموالاً ولا رجالاً ولا عتاداً، وإنما قدمت كلاماً معسولاً ينم عن التمنيات الطيبة، وأخيراً فإن قوات الإمبراطورية كانت تضم جنوداً من أسبانيا وإيطاليا، وهي قوات منظمة ويقودها القائد الأسباني الكبير ألفا. 

راح الإمبراطور يفي بوعده، وحصل موريس أمير سكسونيا الخائن على المنصب الذي كان يطمح فيه، وهو منتخب (أو حاكم) سكسونيا مكافأة له، وحاول فيليب حاكم هيس أن يحصل لنفسه من الإمبراطور على أفضل الشروط رغم أنه لم يكن موجوداً في ميدان القتال، ولكن الإمبراطور عامله معاملة مهينة، وقام بأسره. 

حاول الإمبراطور أن يوفق بين الكاثوليك والبروتستانت رغم أنه كان منتصرا؛ وذلك لأنه كان يقدر مدى تمسك رعاياه البروتستانت بمذهبهم، وحرص الأمراء البروتستانت عليه، ونكاية في البابا. راح شارل يدعو المجلس الإمبراطوري في أوجزبرج 1548م لحل الخلاف بين الفريقين، وراح المجلس يضع نظاماً مؤقتاً، كان كاثوليكياً في روحه رغم انطوائه على شيء من التسامح مع البروتسانت، فقد أصر المجلس في نظامه المؤقت على ضرورة اتباع الطقوس الكاثوليكية القديمة، واستحسن عدم زواج رجال الدين من حيث المبدأ، وأجاز زواجهم، كما أجاز الاحتفاظ بالتماثيل بشرط ألا تكون موضع عبادة. 

رفض الكاثوليك والبروتستانت هذا النظام المؤقت على حد سواء، وفشلت المحاولة السلمية التي بذلها الإمبراطور بعد انتصاره في مهلبرج لإنهاء النزاع، وعاد الصراع يحتدم من جديد بين الولايات الكاثوليكية والولايات البروتستانتية، وسارت الأمور في غير مصلحة الإمبراطور هذه المرة ليحقق البروتستانت انتصاراً في الجولة الثانية. 

كانت أسباب انتصار البروتستانت وهزيمة الإمبراطور في هذه الجولة متعددة، فعلى الجانب الأول فإن أمير سكسونيا موريس ماكاد يحصل على مبتغاه ويتولى إمارة سكسونيا حتى انقلب ضد الإمبراطور وعاد إلى صفوف حلفه البروتستانتي قائداً قديراً مخلصاً، ليؤكد موريس على المبدأ الذي ساد العلاقات السياسية الدبلوماسية الأوربية منذ تلك الحروب وحتى الآن أنه "ليس هناك أعداء دائمون ولا أصدقاء دائمون، ولكن هناك مصالح دائمة". 

راح موريس يبرر خصومته العنيفة للإمبراطور بعد أن كان حليفاً مخلصاً له في مهلبرج على أساس استمرار الإمبراطور في اعتقال صهره فيليب حاكم هيس، وإسراف الإمبراطور في سوء معاملته، كما أنه تذرع بأن الإمبراطور قضى على الحريات التي كانت تتمتع بها بعض المدن البروتستانتية. 

على أية حال فقد اكتسب البروتستانت بعودة موريس قوة جديدة، واسترد المعسكر البروتسانتي عافيته بعودة قائد عسكري موهوب تشابكت نزعته البروتستانتية مع أطماعه السياسية في موقفه الجديد، كي يكيد للإمبراطور وشرع في تكوين حلف ضده، وراح يتصل بهنري الثاني ملك فرنسا ابتغاء الحصول على مساعدته العسكرية والمادية. 

كان السبب الثاني في هزيمة الإمبراطور هو أن الإمبراطور كان قاسياً بعض الشيء مع الثائرين عليه في مهلبرج، وكان هذا من الأمور التي ألبت الرأي العام عليه في جميع أنحاء ألمانيا، وانفض من حوله كل الأمراء الكاثوليك الذين ساعدوه في بداية الحرب الدينية، حينما شرع في وضع نظام استبدادي للحكومة سوف ينقص من سلطانهم، وأخذ يتدخل في أمر استقلالهم. 

كان السبب الثالث هو أنه على الرغم من أن انتصار الإمبراطور في مهلبرج على البروتستانت كان في مصلحة الكنيسة الكاثوليكية في روما؛ فإن البابا كان يخشى من أن نشوة الانتصار قد تدفع الإمبراطور إلى تدعيم نفوذه في شبه الجزيرة الإيطالية ومحاولة إخضاع الكنيسة لسيطرته، ولذا شرع البابا في الاتصال بملك فرنسا ليكون حليفاً ضد شارل الخامس، مما يقلل من أهمية الدافع الديني عند البابا، ويكشف بجلاء أن الحروب الدينية كانت صراعاً على السلطة. 

وأخيراً فإن نجاح البابا ونجاح موريس في الحصول على مساعدة فرنسا التي أرسلت بعض القوات الفرنسية واشتراك بقية الأمراء الألمان في الحرب أدى في النهاية إلى هزيمة الإمبراطور، الذي راح ينزوي في أحد الأديرة الأسبانية يجتر أحزانه، تاركاً لأخيه أمر تسوية المشكلات الدينية في ألمانيا، وراح فرديناند يواجه تلك المشكلات على أساس الأمر الواقع، وعلى أساس الشجاعة الأدبية، وسلم بالانقسام الديني كحقيقة لا سبيل إلى إنكارها أو تجاهلها، كما أنه كان في حاجة إلى معاونة الشعب كله من كاثوليك وبروتستانت للتغلب على هجمات العثمانيين، وارتقاء عرش الإمبراطور دون مقاومة، وعلى هذا الأساس وضع تسوية نهائية في أوجزبرج(18). 

3- تسوية أوجزبرج 1555م "صوت العقل": 

توصل مجلس أوجزبرج إلى صلح ديني أهم ما جاء فيه: 

أ- قرر صلح أوجزبرج الحرية الدينية للإمارات اللوثرية، وتعهد الإمبراطور والمنتخبون (الحكام) والأمراء بأن يتركوا الولايات البروتستانتية تؤدي شعائرها الدينية بكل حرية، وبألا يتعرضوا لهم بأي أذى. 

والواقع أن هذا المبدأ لم يكن جديداً؛ وذلك لأن مجلس سبير عام 1536م قد نص على إعطاء الحرية الدينية لكل أمير أن يختار المذهب الذي يروق له في إمارته، ويرى بعض المؤرخين أن هذا المبدأ كان من أخطر سلبيات صلح أوجزبرج؛ لأنه أعطى للأمراء حرية التصرف في أخطر المسائل شأناً وقتئذ، وهي المسألة الدينية، ونتج عن ذلك ازدياد نفوذ الأمراء على حساب الإمبراطور والكنيسـة الكاثوليكية، إذ أصـبح لهم حق تقرير المصير الديني في ولاياتهم، وحرم منها الأفراد وجمهور الناس(19). 

ب- على الرعايا الذين يريدون البقاء حيث هم أن يدينوا بالمذهب الذي اختاره الحاكم في ولايته، وإلا فلهم الحق في مغادرة الولاية التي يعيشون فيها، ولكل شخص منهم الحق في أن يأخذ معه أمواله وممتلكاته، دون التعرض له بأي أذى، ويرى بعض المؤرخين أن الصلح بهذا الشكل قد اعترف ببعض الحرية للفرد عندما نص على عملية تسهيل انتقال الفرد من ولاية إلى أخرى دونما قيود(20). 

ويرى البعض أن هذا الصلح كان إجحافا بحرية الفرد رغم إعطائه حرية الانتقال؛ وذلك لأن مبدأ الحرية الدينية كان مقتصراً على الحكام، ولم تمتد هذه الحرية لتشمل الأفراد، الذين كان عليهم الهجرة إذا اختلف مذهبهم مع مذهب الولاية، وكانت الهجرة أبعد ما تكون في هذه الحالة عن الحرية الدينية للفرد(21). 

ج- كما قرر الصلح أن يحترم الأمراء البروتستانت الحرية الدينية للأمراء والمقاطعات التي لازالت مخلصة للكاثوليكية، وأن تبقى أملاك الكنيسة الكاثوليكية التي أخذها البروتستانت قبل عام 1552م في أيدي من استولى عليها من رجال الدين أو العلمانيين أو غيرهم، وأما الأملاك التي فقدتها بعد عام 1552م فيجب ردها إلى الكنيسة، وكان الغرض من ذلك المحافظة على أملاك الكنيسة الكاثوليكية. 

والواقع أن الصلح أدى إلى تجزئة ألمانيا من الوجهة السياسية والدستورية، وبعثرتها إلى دويلات كثيرة منفصل بعضها عن بعض، وأدى إلى إضعاف الإمبراطورية؛ لأنه دعم استقلال حكام المقاطعات الألمانية على حساب الإمبراطور من الناحية العملية. 

وكان من سلبيات الصلح أيضاً أن هذا الصلح لم يمنح المذاهب البروتستانيته الأخرى -كمذهب كلفن وزونجلي- الحرية الدينية، مع أن مذهبيهما كان قد اعتنقه كثير من الألمان وسكان الإمبراطورية، وكان هذا باعثاً على استئناف الصراع الديني في القرن السابع عشر، خاصة وأن البروتستانت -أتباع زونجلي في سويسرا- قد خاضوا معارك مع الكاثوليك قبل ذلك في عام 1528م، استمرت إلى عام 1531م وعلى الرغم من قتل زونجلي؛ فإن الكاثوليك اضطروا لعقد صلح معهم عام 1532م، نص على حق كل مقاطعة في اتباع المذهب الديني الذي تختاره، وراح كالفن يتولى قيادة الحركة بعد زونجلي. 

وعلى الرغم من أن صلح أوجزبرج حفل بكثير من السلبيات فإنه كان محاولة ناجحة لتسوية أخطر مشكلة واجهتها ألمانيا في مطلع العصر الحديث، وهي المشكلة الدينية، فقد كان هذا الصلح من الناحية الدينية انتصاراً كبيراً للبروتستانتية؛ فقد دعم استقلال المقاطعات البروتستانتية من الناحية العملية، فارتضوا بهذا الصلح، واستراحت ألمانيا فترة من الزمن من الحروب الأهلية، ووضع الصلح حداً للنزاع المسلح ثلاثا وستين سنة، فأصبح الصلح أساساً صالحاً للحياة السياسية والدينية طيلة هذه المدة حتى قيام حرب الثلاثين عاماً 1618م، مما يعني أنه كان صلحاً وهدنة مؤقته لم تستمر طويلاً. 

كان الحساب الختامي هو تسرب حركة الإصلاح الديني من ألمانيا إلى البلاد الاسكندنافية، ومنها الدانمرك، حيث تأسست بها كنيسة قومية سنة 1560م، كما دخلت البروتستانتية إلى السويد، وتأسست بها كنيسة قومية بعيداً عن كنيسة روما، كما وصلت إلى المقاطعات السويسرية، وانتشرت في إنجلترا وفرنسا(23). 

ثالثاً: الحروب الدينية في فرنسا (1560 ـ 1598م):

على الرغم من أن هذه الحروب الأهلية أخذت طابعاً دينياً فإنها كانت حروباً سياسية للصراع على السلطة بين البروتستانت الهيجونوت الفرنسيين والكاثوليك الأغلبية، ظهرت فيها الدسائس والمؤامرات والمكائد والخداع بشكل يتنافى مع الدين تماماً؛ فعلى سبيل المثال راح البروتستانت الفرنسيون يستنجدون بإنجلترا ودعمها ضد الكاثوليك في مقابل تسهيل احتلال قوات انجلترا للهافر الفرنسية، وعلى هذا الأساس فقد أدى التفريط في بقعة من الوطن الفرنسي إلى نفور الكثيرين من حزب الهيجونوت، واعتبروهم خائنين للوطن. 

أصبحت فرنسا موطناً لحروب دينية أهلية ضارية تتابعت سبع مرات في خلال ما يزيد على الثلاثين عاماً، تدهورت أثناءها أحوال فرنسا واضطربت الأمور فيها، وكثرت حوادث الاغتيالات السياسية وإزهاق كثير من الأرواح من الجانبين، وظهر التبرم بسبب حالة الفوضى والاضطرابات المستمرة. 

والواقع أن فرنسا عانت من جراء هذه الحروب أزمات داخلية طاحنة؛ إذ زيد في مقدار الضرائب وخلفت هذه الحروب في فرنسا من الخراب والدمار ما لا يمكن حصره، وأصبحت فرنسا في حاجة إلى البناء والتعمير بعد الخراب الذي شهدته البلاد، ويبدو أن مهمة التعمير أشد من قهر الجيوش بتعبير الملك الفرنسي هنري الرابع. 

فبحرية فرنسا التجارية كادت تختفي من البحار بسبب هذه الحروب، وبلغ عدد البيوت التي دمرت ثلاثمائة ألف بيت، وأعلن الحقد تعطيله للفضيلة وسمم فرنسا بشهوة الانتقام، وأغار الجنود المسرحون على الطرق والقرى سرقة وتقتيلاً، وانبعثت رائحة الرشوة والفساد أكثر من المألوف في الأوقات العادية، وتهرب الناس من الضرائب وكثر الاختلاس من قبل الموظفين عديمي الكفاية والضمير، وانخفضت قيمة العملة وارتفعت الأسعار وكثر لصوص الموظفين، كما أن التفسخ الذي أصاب إنتاج فرنسا وتجارتها قد جلبت على البلاد من الدمار ما لم يبق لها معه إلا الحقد والكراهية القاتلة، واختفى التسامح بين أصحاب المذاهب المختلفة، وتناقصت الموارد المالي، وحدث عجز عن دفع الرواتب، وخاصة رواتب الجند المرتزقة التي استدعتهم الحكومة الكاثوليكية لمحاربة البروتستانت فتحرق هؤلاء الجنود شوقاً إلى السلب والنهب، وعاثوا في الأرض فساداً، وحذا الجنود الوطنيون حذوهم كما أشرنا، وحوصرت باريس أياماً طويلة، وراح الباريسيون يأكلون لحم القطط والكلاب ويقتاتون بالعشب، وفسدت الأخلاق العامة، وانتشر النهم الجنسي عند الرجال، وجهدت المومسات لإشباع الطلب الجنسي عليهن، ووجدت الفواحش والصور العارية سوقاً رائجة، وعانت الفضائل الاجتماعية والسياسية من الحروب، وتم التوسع في بيع الوظائف العامة، وانتشر الفساد في الإدارة المالية، وأصبحت الجريمة مألوفة، وأفرخت هذه الجريمة السرقة والقتل، وانتشرت الفوضى في الشوارع، وأصبح السفر في الريف خطراً يهدد الحياة، وانتشر الانتحار في تلك السنين، وعلى الأخص بين نساء ليون ومرسيليا(24) .

على أية حال فقد لجأت الحكومة إلى صوت العقل حينما منحت الهيجونوت في فرنسا 1598م مرسوم نانت؛ وذلك لأن تلك الحروب أكدت على قوة الهيجونوت وقدرتهم على تحدي التاج، وحشد الجيوش ضده، نص هذا المرسوم على:

1- منح الهيجونوت حرية العبادة في أماكن معينة ومنها قلاع النبلاء وغيرهم. 

2- كما أعطتهم الحقوق المدنية والاجتماعية الممنوحة لغيرهم. 

3- وأكدت لهم الحماية القانونية. 

4- وسمح لهم أن يقيموا حاميات في مائة وخمسين مدينة من البروتستانت، ويتقاضوا أجورهم من الدولة. 

ومن ثم فإنه بمقتضى هذا المرسوم أصبحت هناك دولة هيجونوت صغيرة في قلب فرنسا لها جيشها وقلاعها ونظمها الخاصة، كما يعد مرسوم نانت أول اعتراف عام من قبل الدولة بقيام أكثر من طائفة دينية داخل الدولة الواحدة، كما أن هذه التسوية الشهيرة جعلت التسامح الديني جزءاً من القانون الدستوري لفرنسا قبل الاعتراف به في انجلترا وألمانيا بوقت طويل. 

استمر العمل بهذا المرسوم ثلاثين عاماً رغم معارضة الكاثوليك، ثم استبدله رئيس الوزراء ريشيلو بصلح أليس 1629م، الذي قضى بحرمان الهيجونوت من الامتيازات السياسية مقابل الإبقاء على حريتهم الدينية كاملة غير منقوصة، وحماية قانونيته، حتى أصدر لويس الرابع عشر مرسوم فونتبنلو 1685م، وبصدوره أصبح مرسوم نانت لاغياً، وترتب على هذا الإلغاء حملة من الاضطهادات السافرة ضد الهيجونوت، فهاجر منهم عدد كبير يعدون بالآلاف؛ ليتمكنوا من ممارسة عقيدتهم في أمان، وحملوا معهم عقولهم وخبراتهم وأموالهم إلى البلدان الآمنة في أوربا، وخاصة إنجلترا، وأسهموا إسهاماً فعالاً في الثورة الصناعية في إنجلترا في منتصف القرن الثاني عشر، فقد كانوا من النابغين، ويبدو أن الشعب الفرنسي الذي أرهقته الحروب والفوضى سمح لملوك فرنسا بتأسيس ملكيات مطلقة مستبدة، وراح رجال المال والأعمال يتوسلون إلى الملوك؛ لكي يستبدوا من أجل وضع حد للحروب، ولذا فقد كانت الاستبدادية الملكية نتيجة للحروب الأهلية في فرنسا. 

رابعاً: حرب الثلاثين عاماً 1618 ـ 1648م:

أولاً: الأسباب والدوافع: 

أ- كان من اسباب تلك الحرب إخفاق صلح أوجزبرج الديني عام 1555م في التوفيق التام بين مطالب الكاثوليك والبروتستانت على السواء، وعدّ الطرفين إياه بمثابة هدنة مؤقتة لالتقاط الأنفاس تتيح لكل طرف أن يحسن مواقفه على حساب الآخر، وعدم استطاعتة الإمبراطور أن يفرض الكاثوليكية على الشعب الألماني كله، واضطراره إلى ترك الحرية لكل حاكم في اختيار المذهب الذي يروق له. 

وكان من بين أسباب فشل صلح أوزجبرج ما جاء في هذا الصلح بشأن المحافظة على أملاك الكنيسة الكاثوليكية في الولايات الألمانية البروتستانتية، ومنع السلطة الزمنية (السياسية) والعلمانية عموماً من الاستيلاء عليها. بالإضافة إلى ذلك فإن صلح أوجزبرج لم يكن يفسح مجالاً للبروتستانتية الكلفينية التي أخذت تنتشر في أوربا وألمانيا، فلم يعترف صلح أوجزبرج بهذه العقيدة الجديدة أو بمبدأ التسامح الديني عموماً، وبقيت الكلفينية في ألمانيا لا تجد أي أساس قانوني يمكنها الارتكاز عليه، رغم أن الكلفينية أصبحت المذهب الرسمي لبعض الولايات الألمانية مثل براندنبرج وبلاتين. 

ب- ومع تجاهل أتباع جون كالفن في صلح أوجزبرج فإنهم هبوا يعارضون الحكومات، ويقدمون أنفسهم للتضحية دون خوف؛ حيث إنهم كانوا في حاجة ماسة إلى سند قانوني يستندون إليه لاستمرار وجودهم، وعلى أية حالة فإن السلام الذي ساد بعد صلح أوجزبرج مدة طويلة من الزمن كان بسبب خوف الكاثوليك واللوثريين والكلفينيين من أن يؤدي الصطدام المسلح بينهم إلى أوخم العواقب، الأمر الذي منع هذه الجماعات من التطرف؛ لكن أتباع كالفن وصلوا للانفجار في نهاية المطاف بحثاً عن حقوقهم. 

ج- كانت شخصية إمبراطور الهابسيورج (في النمسا) فردينادند الثاني 1619 ـ 1637م عاملاً في اشتعال هذه الحروب، فقد كان الرجل كاثوليكياً يسوعياً متعصباً، وكان يمقت البروتستانت مقتاً شديداً، وقد أقسم أيماناً مغلظة على اقتلاعهم من أملاكه، فأنزل بهم سلسلة من الاضطهادات في استيريا، وواصل اضطهاده لهم في بوهيميا التابعة له، ثم استأنفها في سائر أنحاء أملاكه النمساوية، ونجح في تحقيق أهدافه ووضع الحياة الدينية والفكرية في بلاده تحت سيطرة اليسوعيين الكاثوليك المتشددين، ولكن كان الثمن باهظاً، وهو التحطيم العنيف الذي أصاب بناء المجتمع البوهيمي بأكمله، وما تلا ذلك من اندلاع حرب الثلاثين عاماً. 

د- كان السبب الرابع هو أنه عندما ازداد انتشار البروتستانتية في شمال ألمانيا وجنوبها اضطرت الكنيسة والأمراء الكاثوليك إلى العمل بجد ونشاط في حركة الإصلاح الكاثوليكية، وقدم فيليب الثاني ملك أسبانيا واليسوعيين خدمات كبيرة للكنيسة، وأخذت الحكومة الكاثوليكية في ألمانا تضطهد البروتستانت، وعاد عدد كبير من الأمراء إلى اعتناق المذهب الكاثوليكي، فخاف البروتستانت عاقبة ذلك الأمر، وكونوا اتحاداً في عام 1608م، وأسموه الاتحاد البروتستانتي للدفاع عن مصالحهم المشتركة ودفع الأخطار القادمة من جهة الكاثوليك، وراح الكاثوليك يؤسسون في عام 1609م عصبة كاثوليكية أو حلفاً مقدساً لمواجهة البروتستانت، وبذلك انقسمت ألمانيا إلى معسكرين كانا على استعداد للاشتباك في حرب عند أول ظروف تسنح بذلك، وكان الكاثوليك بزعامة مكسمليان دون بافاريا أكثر قوة وتنظيماً، في الوقت الذي كان فيه البروتستانت -بسبب انقسامهم- مترددين، ووصل الخلاف بينهم في كثير من الحالات إلى درجة العداء السافر، وكان هذا أحد أهم أسباب انتصار الكاثوليك في أغلب حروب الثلاثين عاماً، فالبروتستانت كانوا منقسمين على أنفسهم، وتباينت وجهات نظرهم حول تحديد مبادئ البروتستانت وشعائرها، وكان البروتستانت الكلفينين حاقدين على اللوثرين؛ لأن صلح أوجزبرج تجاهلهم، وكان السبب الثاني لانتصار الكاثوليك هو انتعاش المذهب الكاثوليكي عن طريق الثورة الإصلاحية المضادة داخل الكنيسة الكاثوليكية، وساعدت الجهود العملية التي بذلها اليسوعيون الجزويت على تثبيت دعائم الكاثوليكية في بولندا، والأراضي المنخفضة الأسبانية وفرنسا وأسبانيا وإيطاليا، وقد أدى هذا الانتعاش الكاثوليكي إلى بعث أمل ووهم كاذب في احتمال القضاء على البروتستانتية والعودة إلى كنيسة روما مجدداً. 

هـ- والواقع أن نشاط الكاثوليك الجزويت اليسوعيين في عهد الإمبراطور رودلف الثاني 1572- 1612م قد ازداد واستطاعوا أن ينفذوا إلى كل بيت من بيوت الأسر الكاثوليكية، وجعلوا مركز نشاطهم الرئيس في فينا وميونخ، وأخذوا يوسعون دائرة نشاطهم في جد ومثابرة ونشاط، وفي حذر ودون ضجة في الوقت نفسه. فخدموا في الإمارات المختلفة كآباء يقومون بسماع الاعتراف، أو كوزراء للأمراء، وفي هذه الحالة كانوا هم الذين يوجهون سياسة هؤلاء الحكام، وأسس الجزويت المدارس وبعثوا بمنصريهم إلى كل مكان، ونشطوا في تدعيم الكاثوليك، مما أثار أحقاد الطوائف البروتستانتية، وأدى إلى قيام حرب الثلاثين عام. 

و- كان السبب السادس هو أنه كانت هناك أطماع سياسية للدول التي اشتركت في حرب الثلاثين عاماً مثل السويد والدانمرك، وقد اتضحت أغراض فرنسا الحقيقية وسياستها العدائية إزاء أسرة الهابسيوج في النمسا وأسبانيا، وحارب السويديون في صفوف البروتستانت، وكان لتدخلهم النتائج الحاسمة في النصر النهائي، كما اهتموا بالحصول على السيطرة السياسية والتجارية على الساحل الجنوبي للبلطيق، وقد نجحت في تحقيق ذلك بالفعل، وأصبحت سيدة على البلطيق، وهذه الأطماع تدل دلالة كاملة على ضعف الدوافع الدينية في هذه الحروب. 

ثانياً: أدوار الحرب: 

على أية حال فقد مرت حرب الثلاثين عاماً بأربعة أدوار رئيسة هي: 

1- الدور البوهيمي البلاتيني 1618 ـ 1623م، حيث انطلقت من بوهيميا أحد معاقل البروتستانت بسبب قيام الملك النمساوي الكاثوليكي المتعصب -والتي كانت بوهيميا تابعة له- بهدم بعض الكنائس البروتستانتية فاندلعت الحرب؛ ولكنها انتهت بهزيمة البوهيميين واللاتينيين في موقعة التل الأبيض، وراح فرديناند يضرب بيد من حديد على أمراء البروتستانت، ونفى عدد كبير منهم، واستخدم البطش والتنكيل ليرغم المواطنين في بوهيميا على اعتناق الكاثوليكية، وترتب على ذلك هجرة آلاف الأسر البروتستانتية وتدفق اليسوعيون على البلاد، وبدأت كثلكة بوهيميا من جديد، وأخمدت أنفاس البروتستانت في النمسا عندما ثاروا انتصاراً لبوهيميا، وأدت النكسة إلى حل الاتحاد البروتستانتي 1621م، وانتقلت زعامة البروتستانت إلى ملك الدانمارك لينتهي الدور الأول. 

2- الدور الدانماركي 1625- 1629م: لم يكن انضمام كريستيان الرابع ملك الدانمارك إلى البروتستانت بسبب اهتمامه بالمسألة الدينية، ولكن السبب الحقيقي هو رغبته في الحصول على بعض المكاسب في شمال ألمانيا على حساب الجانب الكاثوليكي وتكوين مملكة باسم ولده، ومن ثم انتقل ميدان الحرب من جنوب ألمانيا إلى شمالها وانتصر الكاثوليك من جديد على البروتستانت بسبب تفوق جيوشهم وكفاءة قائدهم تلي ومساندة والنشتين أحد نبلاء بوهيميا الكاثوليكية، والذي كانت تحركه هو أيضاً أطماعه التوسعية ورغبته في القضاء على الإمارات الألمانية المبعثرة وتكوين ألمانيا تحت رئاسته مع تبعية اسمية للإمبراطور، مما يدل على ضعف الوازع الديني في هذه الحروب، كانت أهم ملامح هذه الحرب اعتماد الكاثوليك على الجند المرتزقة من مختلف الجنسيات ضد البروتستانت، والذين كانوا يتسمون بالسلب والنهب والتخريب، وأخيراً تم صلح لوبك 1629م، ونص على أن يتنازل كرستيان عن كل ما يدعيه في الأسقفيات الألمانية. 

3- الدور السويدي 1630-1635م: كان الملك السويدي جوستاف -وهو من أعظم القواد الأوربيين في القرن السابع عشر- يساند البروتستانت، كما أراد أن يكسب لبلاده مركزاً ممتازاً في بحر البلطيق، وقد دفعته حماسته الدينية وغيرته على طائفة البروتستانت -الذين كانوا يعيشون في مأساة كبيرة عقب هزيمتهم- إلى القيام بمغامرته الحربية ضد الإمبراطور، وراح يساعد بروتستانت ألمانيا، ويمدهم بالمال اللازم لمواجهة الكاثوليك، ونزل بقواته في ألمانيا سنة 1635م. 

كان جوستاف يملك جيشاً ممتازاً، ذا مهارة فائفة ومدرباً أحسن تدريب، كما كان الرجل قائداً مقداماً أحرز للبروتستانت انتصارات باهرة لمدة عامين، ولقي جوستاف مصرعه وانهزم البروتستانت عام 1634م، وتم عقد صلح منفرد بين السويد والإمبراطور سنة 1635م. 

4- الدور الفرنسي ـ السويدي عام 1635- 1648م: قررت فرنسا بعد الهزيمة السويدية أن تلبي طلب الوصي على عرش السويد بالتدخل، ولم يعد الخلاف الديني هو الدافع لهذه الحرب؛ وذلك لأن فرنسا دولة كاثوليكية، وكان رئيس وزرائها ريشيلو كاثوليكياً تابعاً للكنيسة الرومانية، إلا أنه بدوافع سياسية أظهر نواياه علانية في الحرب إلى جانب البروتستانت الألمان، وصارت الحرب في هذه المرحلة الرابعة دولية ذات أهداف ومرامٍ سياسية بعيدة، لقد كان هذا الطور الأخير من الحرب صراعاً على السيادة بين آل بوربون الكاثوليك في فرنسا وآل هابسبورج الكاثوليك بفرعيهم الألماني والأسباني. 

ثالثاً: صلح وستفاليا عام 1648م " نهاية الحروب الدينية والتسامح الديني": 

1- نص الصلح على أن يتمتع أتباع لوثر وكلفن على السواء بالحرية الدينية في جميع أنحاء الإمبراطورية، وأن يحتفظ الكاثوليك والبرتستانت بما كان في أيديهم من أملاك الكنيسة منذ عام 1624م، مع الاحترام الكامل لشروط صلح أوجزبرج 1555م، وأنه ليس لأمير الحق في إجبار رعاياه على اتباع المذهب الذي يروق له، وهذا يعد ترسيخاً لثقافة التسامح الديني. 

2- اعتمد هذا الصلح المبادئ التي قررها صلح أوجزبرج الديني السابق، والتي أكدت أن لكل أمير الحق في اختيار المذهب الذي يسري في إمارته، ولكن مع فارق هام، هو أن صلح وستفاليا اعترف رسميا بمذهب كلفن، فشمل التسامح الديني الكفلينيين، كما شمل اللوثريين من قبل. 

3- وقد نص الصلح على أن يسترد رجال الدين البروتستانت ما انتزع منهم من أملاك قبل 1624م، كذلك يحتفظ الكاثوليك بما تحت أيديهم منذ هذا العام، وتكمن أهمية هذا القرار أنه أبقى في أيدي الكاثوليك جميع الأسقفيات الكاثوليكية في الجنوب، بينما أبقى في أيدي البروتستانت جميع الأسقفيات والأراضي في الشمال البروتستانتي. 

على أية حال فقد خرجت ألمانيا من صلح وستفاليا مفككة الأوصال، لا يربط بين إماراتها المتعددة سوى مجلس الدايت أو المجلس الإمبراطوري، وفقدت ألمانيا من سكانها ما يقرب من الثلثين، وكان طبيعياً أن يتدهور المجتمع الألماني تدهوراً شديداً في اقتصاده وثقافته، وعطل ذلك استكمال وحدة ألمانيا ما يزيد عن قرنين من الزمان. 

فقد كان تأثير هذه الحروب سيئاً، حيث اندثرت فيها معالم الصناعة والتجارة والفنون، وتأثرت ألمانيا بهذه الحروب أكثر من الدول الأخرى؛ لأنها كانت ساحة للمعارك، فقد خضبت هذه الحرب أرض ألمانيا بالدماء، وبلغت القسوة فيها مداها في التعامل بين الطوائف المتصارعة، وحلت المصائب النكبات والمجاعات على الناس، واضطر الكثيرون إلى أكل أوراق الشجر ولحوم البشر. 

والواقع أن صلح وستفاليا يعد بداية طور جديد في تاريخ الحضارة الأوربية، فقد أقر بعد فترة الحروب الدينية الطويلة مبادئ من شأنها نجاة البروتستانية نهائياً من الأخطار التي تهددها، واختفى الاضطهاد الديني من هذا الحين أو كاد وصار الاضطهاد من الأمور الشاذة غير المألوفة، بعد أن كان الاضطهاد يشكل ثقافة المجتمعات الأوربية، وتحدد الانقسام الديني رسمياً، فقد كان صلح وستفاليا نهاية لعصر الإصلاح والحروب الدينية، فقد قضى هذا الصلح على أمل المصلحين في تحطيم الكنيسة الرومانية، التي تتبع روما، وكذلك فشلت حركة الثورة الإصلاحية المضادة في إعادة الولاء المطلق للبابا وكنيسة روما، ومن ثم كان لابد من بقاء المذهبين وتعايشهما جنباً إلى جنب في أوربا، فساد مبدأ التسامح الديني في أوربا(25). 

على أية حال، فقد كان هناك صدامٌ عسكري سياسي اقتصادي باسم الدين بين العثمانيين وأوربا، راح العثمانيون في هذا الصراع -مدفوعين برغتبهم في التوسع وتكوين إمبراطورية عثمانية- يرفعون راية الإسلام، وإعلاء شأنه كمبرر رسمي لوجود الإمبراطورية العثمانية في أوربا، وتم تتويج هذا الصراع بفتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح 1453م، ووصلوا إلى أسوار فينا 1529م، وقاموا بتطبيق مبدأ التسامح الديني الكامل، ولم يحاولوا فرض الإسلام بالقوة، فضلاً عن عدم التمييز بين المسلم والمسيحي، فقد كانوا على إيمان تام بمبدأ الحرية الدينية باعتباره الدعامة الأساسية لقيام الدولة. 

ويبدو أن العداء التقليدي وتنافر المصالح بين قوى الغرب الكاثوليكي والبروتستانتي أيضاً قد حال دون اتحاد أوربا في وجه الفاتح العثماني، كما أن العثمانيين لم يزجوا بأنفسهم في الصراع الدموي بين الكاثوليك والبروتستانت، ولذا كانت الدولة العثمانية ملاذا تهوي إليه أفئدة المضطهدين والمعذبين في الأرض الأوربي، يلتمسون في رحابه الأمن والتسامح، ورغم التعصب الشديد ضد العثمانيين الفاتحين، وكراهية الإسلام، فإن المصالح السياسية كانت تطغى على سلوك القوى الغربية، فلقد تحالف ملك فرنسا الكاثوليكي فرانسوا الأول مع العثمانيين ضد الغرب الأوربي المسيحي (26). 

ولقد راحت قوى الغرب الأوربي على الجانب الآخر تتسربل برداء الدين من أجل تحقيق مصالح اقتصادية وسياسية واستعمارية فيما وراء البحار في القارات الأخرى، فلقد تم القضاء على ملايين البشر من الهنود الحمر في القارة الأمريكية، وتم القضاء على الملايين من البشر في أفريقيا وآسيا، وكان تعذيب الأحياء في أمريكا الهندية أكثر همجية من أكل لحوم الموتى، وراح الأوربيون ينهبون المدن العامرة، وتم تسويتها بالتراب في بعض الأحيان وكم من ملايين لا تحصى من الناس الأبرياء من الجنسين ومن جميع المراكز والأعمار قد قتلوا ونهبوا، وأعمل فيهم السيف، وقلبت أغنى بقاع الأرض وأجملها ظهراً على عقب، وخربت وشوهت من أجل تجارة اللؤلؤ والبهارات بشتى أنواعه، والبخور، والعطور، والعاج، والنخاسة، والذهب والفضة بعيداً تماماً عن الدين لكن باسمه (27)، مما يدعو للتشكك في هذه الحضارة الأوربية. 

الخاتمة والنتائج:

الحروب الدينية على مشارف العصر الحديث هي الحروب التي لا ضرورة لها فلم تكن حتمية، وكان بوسع الغرب الأوربي تجنبها، لو استجابت الكنيسة الكاثوليكية للإصلاح من الداخل، أو استجابت لمبادئ مارتن لوثر وجون كالفن الإصلاحية؛ فقد كانت استجابة الكنيسة للإصلاح بإزالة مفاسدها وعيوبها كفيلاً بأن تنجو أوربا من هذه الحروب الدينية الطاحنة المدمرة، ولكن يبدو أن البابوية وكبار رجال الدين اعتقدوا أن نجاح المصلحين في الداخل والخارج سوف يؤدي إلى زعزعة نفوذهم، والقضاء على هيبتهم ومصالحهم، ومكتسباتهم السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، فراحوا يجيشون الجيوش للحفاظ على هذه المكتسبات متسترين برداء الدين في غالب الأحيان. 

كانت الحروب الدينية صراعاً على السلطة بين رجال الدين، والحكام، والأمراء المدنيين؛ فقد كان كثير من الحكام الذين عاصروا الحروب الدينية يرون مصلحتهم الشخصية والسياسية والاقتصادية في فصم عرى الروابط الدينية التي تربط شعوبهم بروما، فجعلوا من أنفسهم رؤساء لعقيدة ذات طابع قومي أقوى في عصر ضعفت فيه العقائد، وراحت دول كثيرة -تحقيقاً لرغبات النخبة الحاكمة فيها- تنفصل الواحدة بعد الأخرى، ومنذ ذلك الحين لم تعد واحدة منها إلى حظيرة روما، ومن البدهي أن أحداً من هؤلاء الأمراء على اختلاف أجناسهم لم يعتمد أدنى عناية بحرية رعاياه من الناحية الخلقية، أو الذهنية، وكل ما في الأمر أنهم استخدموا الشكوك والريب الدينية وثورات شعوبهم ذريعة لتقوية أنفسهم ضد روما، وحاولوا أن يحافظوا على إحكام قبضتهم على الحركة الشعبية التماساً لكبحها بمجرد أن تم لهم ذلك الانفصال عن روما، وبمجرد أن أنشئت كنيسة قومية تحت هيمنة التاج، ولو تنازل هؤلاء الحكام المستبدون بعض الشيء وراعوا لشعوبهم عهداً وذمة وحرمة؛ ما ساقوا شعوبهم كالأغنام إلى حتفهم ومصيرهم، ومعاناة الجوع والحرمان، وارتفاع الأسعار والأزمات وتكميم الأفواه، أقول: لو أنهم كانوا يضعون في حسبانهم حريات شعوبهم والحفاظ عليهم لنجت شعوبهم من الإبادة والمجازر والمعاناة. 

ولقد أطاحت هذه الحروب الدينية بالوحدة المسيحية في غرب أوربا، وحطمت سلطان الكنيسة الرومانية المستبد، وحررت الفكر من عقاله، فلم يعد العلم خادماً مطيعاً للكنيسة، وتقدمت العلوم العلمانية دون رقابة من الكنيسة، التي كانت تفرض وصايتها الفكرية بالإرهاب والقمع السلطوي، وانطلق مارد الفكر من أسره، وانطلقت العلوم، وتم إفساح الطريق أمام المد العلماني والليبرالي، وانبعاث الحركة القومية. 

أفرزت الحروب الدينية فكرة التحالفات التي أصبحت ثقافة سياسية راسخة في الدبلوماسية الأوربية، وظهور مبدأ توازن القوى، والتوازن الدولي، وترسيخ مبدأ المصالح التي تتحكم في سياسات الدول تحت شعار " ليس هنا عداوات دائمة، ولا صداقات دائمة؛ ولكن هناك مصالح دائمة ". 

ولقد أدت الحروب الدينية إلى زعزعة كيان النظام الإقطاعي وظهور الطبقة البورجوازية الرأسمالية التجارية، وبذور النظام الرأسمالي في الغرب الأوربي، كما لعبت الطبقة البورجوازية الدور الرئيس في تحكيم سلطان الكنيسة، بالإضافة إلى سلطان الإقطاع، فقد كانت الطبقة البورجوازية هي الطبقة الثورية في ذلك الزمان، وقد صاحب نمو هذه الطبقة المعارضة للكنيسة عملية إحياء العلوم الطبيعية. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1) انظر: زينب عصمت راشد: المختصر في تاريخ أوربا الحديث، ص144-155 عبد العزيز نوار، وعبد الحميد البطريق: تاريخ أوربا الحديث، ص160، 181، السعيد رزق حجاج: التاريخ الأوربي الحديث، ص31-180، مايكل أنجلو ياكوبتشي: أعداء الحوار، ص13، 162، هـ.ج. ويلز: موجز تاريخ العالم، ص258-261، زينب عصمت راشد: تاريخ أوربا الحديث، ج1، ص119. 

2) محمد صابر عرب، عبد الواحد النبوي: مدخل إلى تاريخ أوربا الحديث، ص216، 217، زينب عصمت راشد: المختصر، ص118-120، هـ.ج. ولز: المرجع السابق، ص250، رمسيس عوض: محاكم التفتيش في إيطاليا، السعيد رزق حجاج: المرجع السابق، ص34. 

3) محمد صابر عرب: المرجع السابق، ص217، ويلز: المرجع السابق، ص251 .

4) زينب راشد: المختصر، ص190. 

5) زينب راشد: تاريخ أوربا الحديث، ج 1، ص118، صابر عرب: المرجع السابق، ص227، ويلز: ص257، عبد العظيم رمضان: تاريخ أوربا والعالم في العصر الحديث ج1، ص114، 115. 

6) ويلز: المرجع السابق، ص258. 

7) عبد المعطي البيومي: التاريخ الأوربي الحديث، ج2، ص37-39. 

8) كرين بريتون: تشكيل العقل الحديث، ص83-84. عبد العظيم رمضان: المرجع السابق، ص15، 19، 20، 28، عبد العزيز نوار، عبد الحميد البطريق: المرجع السابق، ص92 .

9) عبد المعطي البيومي: المرجع السابق، ص37-39. 

10) عبد العزيز نوار: المرجع السابق ص107، والسعيد رزق حجاج: التاريخ الأوربي في العصر الحديث، ص61، 62، عبد المعطي البيومي: المرجع السابق، ص38-329. 

11) زينب راشد: تاريخ أوربا، ج1، ص119، السعيد رزق حجاج: مرجع سابق ص67.

12) محمد صابر عرب: المرجع السابق، ص229. 

13) عبد العظيم رمضان: المرجع السابق، ص120، 121، صابر عرب: ص229، 230. 

14) محمد أبو حطب: مارتن لوثر والإسلام، ص303-311. 

15) هـ.ج. ويلز: المرجع السابق، ص257. 

16) السعيد رزق حجاج: المرجع السابق، ص67. 

17) زينب عصمت راشد: تاريخ أوربا، ج1، ص119. 

18) زينب راشد: المرجع السابق، ص119، السعيد رزق حجاج: المرجع السابق، ص75-76. عبد العظيم رمضان: المرجع السابق، ص131، 132. 

19) زينب راشد: المرجع السابق، ص120، عبد العظيم رمضان: المرجع السابق ص133 .

20) زينب راشد: المرجع السابق، ص120، وعبد المعطي البيومي: المرجع السابق، ص78، السعيد رزق حجاج: المرجع السابق، ص70، عبد العزيز نوار: مرجع سابق، ص111. عبد العظيم رمضان: مرجع سابق، ص133. 

21) السعيد رزق حجاج: مرجع سابق، ص71. 

22) صابر عرب: مرجع سابق، ص234، 235، زينب راشد: مرجع سابق، ص120. 

23) زينب راشد: مرجع سابق، ص120، عبد العزيز نوار: مرجع سابق، ص112، عبد العظيم رمضان: مرجع سابق، ص133، عبد المعطي البيومي: مرجع سابق ص78.

24) ول ديورانت: قصة الحضارة، بداية العقل، ج2، مج 7، ص209-222، 261، 285، زينب راشد: المختصر، ص144-155. 

25) عبد العزيز نوار: مرجع سابق، ص155-158، السعيد رزق حجاج: مرجع سابق ص172، 176، عبد المعطي البيومي: مرجع سابق، ص168-169. 

26) هـ.ج. ويلز: مرج سابق، ص256، محمد أبو حطب: مارتن لوثر والإسلام، ص303-313، أميرة نافع: العثمانيون وأوربا، ص1-6. 

27) ول ديورانت: المرجع السابق، ص284-285.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/12/242

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك