التغيير والمصالحة والتضامُن

عبد الرحمن السالمي

يقرن القرآن الكريم المصالحة والتضامُن والتوحُّد بالتغيير، بمعنى أنّ التطور السليم والبنّاء ينبغي أن يكون سبباً للوحدة والتضامن. يقول تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (آل عمران: 103). فقد كان المكيون واليثربيون قبائل وبطوناً متنازعةً ومتنافسةً ومتصارعة، ثم اعتنقوا دعوة النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- وهي تغييرٌ كبيرٌ، فصاروا بنعمة الله إخواناً متحابين ومتضامنين. وهكذا فإنّ التضامُن جاء ثمرةً للتغيير الذي هو الإيمان، والاقتناع بقيم الإسلام والدخول في أمته، وقد كان التنازع السابق ليس سببه الهوى الدنيوي وحسْب؛ بل وعدم وجود الجذر الأيديولوجي إذا صحَّ التعبير. ولذلك انقسمت آية النعمة إلى قسمين: قضية الوحدة (ولا تفرَّقوا) ونعمة الأُخوة، وقضية الاعتصام وسبيله المجازي: حبل الله. وقد اختلف المفسِّرون في معنى: حبل الله، بين القرآن والجماعة والسلطان. وهذا الاختلاف لا يعود إلى الأصل اللغوي لمفرد (حبل)، بل إلى ما ورد في الآية من فوائد دنيوية وأُخروية، ففي الفوائد الأُخروية لا شكَّ أن القرآن هو الذي تتأسسُ عليه النجاة، وأما الفوائد الدنيوية فإنها ترتبط ولا شكَّ مباشرةً بالجماعة والسلطة السياسية. ومن معاني الجماعة: الإجماع، والسواد الأعظم أو الرأي العام. فإذا اجتمع الأمران: السلطة الواحدة القوية والجماعة المؤتلفة والوادعة في ظلّ سلطة العدل والرحمة؛ فإنّ التغيير الذي ذكره الله سبحانه في قوله: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ يكون قد تحقّق على خير وجه.



تفسد إذن أحوال الجماعات، وتتشرذم صفوفها، وتشيع بينها العداوات، والتظالُم مع السلطات، وبذلك يصبح الطريق للإصلاح من خلال التغيير ضرورياً. بيد أنّ التغيير الذي يُصلح الأمور أو يعيدها إلى نصابها ينبغي بحسب القرآن ومفسِّريه، أن تتوافر له ثلاثة شروط: أن تكون إرادة التغيير صادرةً عن الداخل، داخل الأفراد والجماعات- وأن يكون من أهدافه التصالُح بين الناس، وأن يعودوا جماعةً واحدة- وأن يُنشئ هؤلاء المتصالحون أو يدعموا حكماً صالحاً. والتغير النفسي الداخلي معروف المعنى، وقد تحدث عنه الكتاب الكريم في معارض وسياقاتٍ أُخرى. فقد قال في معرضٍ آخر: ﴿وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً﴾. ومعنى هذا أنّه ينذُرُ أن يشارك المجتمع كلُّه في الفساد والإفساد. إنما الذي يحصل أن تُفسد الأُمورَ قِلّةٌ لا تلبثُ أن تطغى إذا صبر عليها الآخرون أو خضعوا لغَلَبتها. والله سبحانه وتعالى يُنذر الجميع بأنّ هذه الغَلَبة إنْ كانت من جانب القِلّة، فهم غير معذورين، لأنّ الضرر من الفساد نازلٌ بالجميع. وهكذا يكون الجميع مسؤولين عن المبادرة للتغيير في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وبالأساليب والطرائق السلمية ما أمكن، وتعقُبُ ذلك مباشرةً إجراءات وترتيباتُ التصالُح والتوادّ وإعادة اللُّحمة، بحيث يمكن اعتبارُها جزءًا من التغيير بالفعل، لأنّ التغيير المذكور في القرآن الكريم هو تغيير العقليات والذهنيات والرؤى والإقبال على الرحمة والتعارُف والمسالمة: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾. المفكرون يتحدثون بعد الثورات عن "العدالة الانتقالية"، والقرآن يتحدث عن" الصُلْح" في الآية العجيبة مرَّتين. والصلح يتطلب عدالة، لأنّ القرآن يذكر القِسْط أي الإنصاف مرَّتين أيضاً. لكنّ الصلح في رؤية القرآن أعلى من العدل في القيمة، لأنه تجاوُزٌ إنسانيٌّ وأخلاقيٌّ كبير، وقد جرّبه النبي صلواتُ الله وسلامُهُ عليه مرَّتين، ولم يتحقّق ما أراده في المرة الأولى، ليس بسبب إصرار القرشيين المكّيين، بل بسبب إعراض أصحابه. فقد أنجز مع القرشيين صُلْح الحديبية، وكان هذا هو تفضيلُهُ، كما هو تفضيل القرآن الكريم في الجزء الأول من الآية، أي أنه صُلْحٌ بدون قتال. وقد غضب أصحابه صلواتُ الله وسلامُهُ عليه كما هو معروف، لأنهم لم يكونوا يتصورون أن تذهب جرائم قُريش بدون عقوبة، لكنه أنجزه بعد فتح مكة مباشرةً وبموافقة الطرفين: خصومه من قُريش، وأصحابه من المهاجرين القرشيين. وقد أعرض الأنصار بعض الشيء خشيةً منهم أن يبقى النبيُّ في مكة ما دام قد تصالح مع بني قومه. لكنه -عليه الصلاة والسلام- قال لهم: "بل الدمَ الدمَ والهدْمَ الهدمَ، أنا منكم وأنتم مني. لو سلك الناسُ جميعاً شِعباً وسلك الأنصار شعباً آخر لسلكْتُ شِعب الأنصار". يؤدي التغيير أحياناً إلى دمٍ وخراب. لكنه لو اقتصر على ذلك لما كان تغييراً، بل هو استمرارٌ لحالة التشرذُم والانقسام والاقتتال. فالصلح في نظر القرآن أو عودة الأخوة والتراحُم والتضامُن هو دليلٌ على حدوث التغيير وسواده، وليس انتصاره باللغة القتالية. ولو اقتصر الأمر على الانتصار العسكري لصار غَلَبةً لا تستقيم على طول المدى بين أمتين أو دولتين، فكيف تستقيم بداخل الأمة الواحة، والمجتمع الواحد، وهذا هو سرُّ أو معنى الرُعْب الذي عرفه تُراثُنا من "الحرب الأهلية"(=الفتنة).



يقتضي "الصُلُح" إذن أو المُصالحة بالتعبير الحديث قسطاً وإنصافاً لمن نزل به ظُلْمٌ قبل التغيير وأثناءه. وهذا الإنصاف هو تمهيدٌ لاستتباب "حبل الله" من جديد، وحبلُ الله هو "الجماعةُ" أو الوحدة الاجتماعية والسياسيةُ العائدة، في ظلّ سلطةٍ قويةٍ وواحدةٍ وتصالحية تأسو الجراح، وتأخذ للضعيف من القوي وتأمنُ بها السُبُل، ويُجاهَدُ بها العدوّ، بحسب تعبير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. فالناسُ لا يهربون من "المُلْك العَضوض" ليقعوا في الحرب الأهلية أو الشرذمة والفوضى. وإنما يعملون جيمعاً من أجل سلطةٍ تحوطُهُم وتدفعُ عنهم بالعدل والرحمة(وهما القيمتان اللتان يجمعُهما مفردُ الصُلْح القرآني). وكما أنّ التراحُمَ يسودُ بالداخل بين الناس بعد الخروج من الظلم والنزاعات؛ فإنّ التعارُف يشملُ الداخل والخارج المُجاور والعالمي. فالتعارُفُ هو القيمةُ التي تتأسَّس عليها جماعةُ المؤمنين ومجتمعاتهم. لأنها تعني اعترافاً بالاختلاف في المشارب والمصالح والتصالُح والتلاقي على أساسٍ من ذلك الاعتراف، وعندما ينتظم هذا الصُلْح التعارُفي بالداخل، يصبحُ مألوفاً أو ممكناً مع الآخر الديني أو السياسي بالجوار والعالم. وبالتعارُف الذي يُحدثُ تفاهُماً بالداخل، وآخَرَ مع الخارج، يكونُ التغيير قد اكتمل. وهذا الاعتبار يجعلُ من التغيير "عمليةً" وليس انقلاباً كما يفعلُ كثيرون عندما يتمدحون بالثورات. ودائماً يكونُ علينا إذا أردْنا فهم منطق القرآن أن نرجع إلى تقريره عزّ وجلّ أنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفُسِهِمْ. فالعملية الدؤوبة والصعبة هي عمليةٌ تربويةٌ وترويضيةٌ عميقة وطويلة الأمد. فنفسيةُ الإنسان أو عقليتُهُ لا تتغير بين عشيةٍ وضُحاها. وإذا كان هذا الأمر صعباً ومُضنياً إذا تعلّق بالأفراد، فكيف إذا تعلّق الأمر بالجماعات الكبيرة. وهكذا فإنّ التغيير يبدأُ ذاتياً وداخلياً ثم يتجاوز الفرد إلى المجتمع كما يقول توماس كون عن الثورات العلمية. فعندما يحدث تقدم أساسي في الفيزياء مَثَلاً يبدو كأنه مُفاجئ أو بالمصادفة، بينما الواقع أنّ تغيير "البراديغمات" يتمُّ عبر سنواتٍ وأحياناً عبر أجيال من التجربة والخطأ. ولا يخلو الأمر من أحداثٍ زلزالية، إنما حتى في حالة الزلازل صار من الممكن التنبؤ بها بمعرفة شروطها وأماراتها الطبيعية، فهي استثناءٌ من ناحية، و"عملية" تطورية أو تدرجية من ناحيةٍ ثانية.



وهذا كُلُّهُ يعني أنّ التغيير هو ظاهرةٌ طبيعيةٌ إذا صحَّ التعبير. وإذا كانت مساربُها مفتوحةً فإنّ الأمر لا يحتاج إلى ثورانٍ وزلازل. وهذا الاعتبار كما يصدُقُ في الطبيعة، قد يصدقُ في المجتمعات والأنظمة السياسية. فعندما تستجيب الأعراف الاجتماعية والتقاليد السياسية للتحديات بسلاسةٍ، يمكن أن تتمَّ عمليةُ التغيير نحو الأفضل دون أن يلاحظَها الناسُ إلاّ بعد مدة. لكنْ عندما تكونُ مساربُ التغيير مقفلةً؛ فقد يحدث انفجارٌ أو انفجاراتٌ في الطبيعة كما في المجتمعات والأنظمة. وهذا دون أن نتجاهل الفروقَ الأساسية بين عالم الطبيعة وعالم الإنسان. وهذه الانسدادات المتطاولةُ المدة هي التي تجعلُ من التغيير عمليةً صعبةً، وعندما تحدثُ في ظل ظروف الانسداد تجلبُ معها مشكلاتٍ وعُنفاً هائلاً، كما حدث ويحدث في بعض البلدان العربية. وهناك مَنْ يقول اليوم إنّ مصاعب التغيير التي ظهرت تعود لتلك الانسدادات أو لعدم التهيُّؤ (= التغيير النفسي والذاتي والاستعداد) أو أخيراً بسبب التدخلات الخارجية. وهذه التعليلاتُ كلُّها واردة وإن أمكن أن يتقدم في الاعتبار سببٌ على سبب للتمايز بين البلد والآخر.



يتمُّ التغيير بحسب النصّ القرآني للانتقال إلى حالةٍ أفضل. ويهيئ له أو يسبقُهُ التغيير النفسي على مستوى الأفراد والجماعات. وتتوقفُ سرعةُ النجاح أو تأخُّرُ ذلك تبعاً لشروطٍ داخليةٍ وخارجية تتباينُ أو تتقاربُ في التصعيب أو التسهيل. إنما في كلّ الأوقات ومختلف الظروف، ينبغي أن يكونَ الهدف الوصول إلى انتظامٍ اجتماعيٍّ وأخلاقيٍّ وسياسي، تتمُّ في ظلّ سواده عمليات التصالُح والتآخي والمودّة والتضامن، والتعارُف المتجدد بداخل المجتمعات ومع العالَم.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/12/236

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك