الحركة الإحيائيّة الإسلاميّة بالمغرب: مراجعة مقاصديّة

بقلم محمد شهيد

اختارت الصحوة الإسلاميّة لنفسها في المغرب عند بداية ثمانينات القرن الماضي اختيارات متعددة ومتنوعة شملت جوانب الثقافة والفكر والاجتماع، فرسمت لنفسها اختيارات، وحددت لها مسيراً جعلها ذات تميز وتفرد مثيرين.

وغني عن التذكير أنّ من أهم أسباب نجاح أي دعوة أو فكرة يعود في الأساس إلى الدقة في اختياراتها الأساسية وفي أسلوب دعوتها ووسائلها، أي دقة تحديد الاستراتيجيا والتكتيك، إذ على ضوء ذلك ترتبط بها الجماهير وتحقق التغيير الذي تطلبه، وتصل إلى المدى الذي تسعى إلى الوصول إليه.

تحاول هذه الورقة تتبع بعض الاختيارات التي نهجتها الدعوة الإسلامية - في القطر المغربي- في الفترة المحددة سلفاً مستندة إلى رؤية "مقاصديّة"، أي معتمدة وجهة نظر تستند إلى مقاصد الشريعة الإسلامية وتستحضر هديها؛ وذلك لغياب هذا النوع من القراءات عند أبناء الدعوة الإسلامية على غرار باقي المجتمع. وللخروج من التعميم تحدد هذه الورقة لنفسها مساحة جغرافية محددة هي المغرب، وإن كانت ترى أنّ ما يصح على المغرب يمكن أن ينطبق على رقعة أوسع، بسبب التشابه في كثير من المشاكل والهموم التي تشغل العالم الإسلامي، مع تسجيل بعض الاختلاف في بعض ما يمكن اعتباره "الجزئيات" التي تخصّ المتغيرات الإقليمية، أو المتعلقة بالقبيلة أو بعض العادات والتقاليد.

من المقطوع به عند المسلمين، أومن له اطلاع بسيط على دينهم، أنّ الإسلام والجهل ضدان لا يلتقيان. خصوصاً أنّ دعوة الإسلام الأولى قد تأسست في عهد الرسول الأكرم ـ صلى الله عليه وسلم ـ على العلم والتعلم وحث الناس عليه وجعله ركناً أساساً للوصول بدين الإسلام وهديه إلى قلوب الناس كافة. وهذا ليس غريباً على دين كان أول ما ابتُدئ به وأول ما نزل من كتابه السماوي: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾.[1] فتطورت العلوم في حضن الإسلام وعرفت امتداداً أفقياً وعمودياً، حتى صارت سمة الإسلام دعوة ودولة هي العلم.

إنّ البدايات الأولى للصحوة الإسلامية والحركة الإسلامية في المغرب يمكن تحديد "بقعتها" البشرية في شريحة "المثقفين" أو على الأقل "المتعلمين". وبالضبط قطاع التعليم وقطاع الجامعات، ذلك أنّ القاطرة الأولى لهذه الدعوة كانت من فئة رجال التعليم ـ معلمين وأساتذة ـ ومن يدور في فلكها من تلاميذ وطلبة، وإن امتدت إلى شرائح اجتماعية أخرى من حرفيين وغيرها، إلا أنّ هذه هي السمة التي غلبت عليها. وكان يزيد من لمعان هذه الدعوة في تلك الأوقات أنّ جل المنتسبين إليها والمدافعين عنها من ذوي التخصصات العلمية البحتة، أي من أهل العلوم "الحقة" كالطب والصيدلة وعلوم الحياة والأرض والرياضيات... حتى كانت كليّات العلوم وكليّات الطب والصيدلة تعرف انتشاراً وامتداداً كبيراً للتدين والالتزام بالدين، خصوصاً وأنّ المرحلة المتحدث عنها عُرفت بتراجع التدين وخفوت الحضور الديني في شتى مناحي الحياة. ممّا شكل أمراً لافتاً ومثيراً للدهشة والإعجاب في آن واحد[2]، فكان المرجو والمأمول أن تزدهر الحركة العلمية والاهتمام بالبحث العلمي والاحتفاء بالعلماء وتقديرهم والانكباب على المعارف دراسة وبحثاً وتأليفاً.

ولعل المرحلة موضع الدراسة بالنسبة للمغرب كانت مرحلة دقيقة وحساسة، حيث تميزت باندفاع اليسار المعارض الذي كان في أوجه، وكانت حركته الاحتجاجية قوية جداً، خصوصاً أنه كان يملك رموزاً وقيادات كان لها ثقل كبير في الواقع، وفي مواجهة النظام القائم، ومن ثم كان الاعتقاد السائد أنّ أي تغيير لا بدّ أن يختار له موقف المعارضة ومواجهة النظام السائد آنذاك، حيث إنّ تهمة موالاة النظام والسير في خطه العام كانت كافية للقضاء على أية فكرة سياسية أو حزبية تحاول الظهور أو استقطاب فئة عريضة من داخل النسيج الشعبي والاجتماعي، أو أي جمعية تريد أن تسهم في الفعل الجمعوي في البلاد.

الحركة الإسلامية آنذاك اعتقدت أنها أمام اختيارين لا ثالث لهما: إما أن تكون في جانب النظام فتحكم على نفسها بالموت، وقد غلب على ظنها أنّ هذه التهمة وهذا الاختيار لا بدّ لها أن تتفاداه، أو أن تصطف إلى جانب المعارضة المشكلة من اليسار، وإن لم توافقها في اختياراتها وفي توجهاتها، وما بعد ذلك من التهم يسهل مواجهتها وكل العقبات يمكن أن تهون وتزول.

كما لا ينبغي تجاهل أمر في غاية الأهمية، وهو أنّ المعارضة المتمثلة خصوصاً في اليسار الذي كان يشكل رأس الحربة فيه التيار المعارض -الاشتراكي والماركسي- بتلاوينه كان يتميز بجرأة وتطرف كبيرين تجاه الإسلام تجاوزت الاختلافات البسيطة التي تدخل في إطار التنوع والتعدد، إلى جرأة وتطرف وصل حد العنف ومواجهة الدين والمتدينين. وذلك لعدة اعتبارات يمكن إجمالها فيما يلي:

ـ أنّ الإسلام كان يمثل عدواً لدوداً لهذا التيار، وذلك باعتقاد المعارضة اليسارية أنّ الإسلام يشكل أداة إيديولوجية في يد النظام يوظفها ـ دائما حسب زعم التيار ـ كيف يشاء لمواجهة ومحاربة المعارضة القوية آنذاك.

ـ أنّ الإسلام لم يكن صاحب توهج "إيديولوجي" للجماهير، حسب عدد كبير من مثقفي هذا التيار، ومن ثم لا بدّ من استبعاده من ساحة المعركة، ولو بالتجرؤ عليه وعلى بعض رموزه، قبل أن يصنع لنفسه تياراً يحسب له ألف حساب مستقبلاً.

ـ أنّ الثورة الإسلامية في إيران بدأت تشكل نوعاً من القلق لدى هذه النخبة اليسارية، فلا بدّ من وأد كل حركة إحيائية فكرية ذات توجه إسلامي خصوصاً، ولو تطلب ذلك اللجوء إلى ما يمكن تسميته عنفاً فكرياً أو بدنياً في بعض الأحيان، وإذا تطلب الأمر ذلك حسب زعمهم.

من الخطأ أن يتصور أنه في هذا الجو المشحون لم تكن هناك رموز إسلامية ولا دعوية، وأنّ الساحة كلها كانت يساراً أو"انحرافاً" عن خط الإسلام. ذلك أنّ الحركة الوطنية في المغرب كان يقودها ويؤطرها العلماء والمساجد؛ ومن ثم لا يمكن أن يخفت صوتها وبريقها بهذه السهولة. على العكس فقد كان في الميدان الدعاة والعلماء الكبار من طينة علال الفاسي ومحمد المكي الناصري وعبد الله كنون -رحمهم الله-.. إلا أنّ المواقع الحركية الإصلاحية التي اتخذها هؤلاء العلماء يمكن وضعها في خانة موالاة النظام، وذلك مراعاة للاختيار الإيديولوجي للتيار المعارض المندفع نحو الثورة والتغيير. وفي بعض الأحيان كان "الخصام" من قبل المعارضة للدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية - إن لم يكن للإسلام ككل- وفي أحيان أخرى كان يصل إلى حد العنف الدموي.

أمام هذا المفترق تخندقت الحركة الإسلامية في خندق مواجه للدعاة وللعلماء وللحركة العلمية، فكانت محاربة الشيخ المكي الناصري ـ رحمه الله ـ بدعوى أنه من علماء البلاط، وبالتهمة نفسها حورب علال الفاسي ـ رحمه الله ـ وقد تنضاف إليها تهم أخرى كتهمة "الرجعية" والتخلف من طرف شباب الدعوة "الإسلامية"، فكم من تجمع علمي أو نشاط علمي ينظمه المجلس العلمي التابع للمؤسسة الرسمية أو بعض المؤسسات الأخرى حورب وقوطع من طرف أتباع الصحوة الإسلامية، ولو كان يؤطره علماء بارزون وشخصيات إسلامية علمية بارزة.

إنّ ظهور المدّ الإحيائي الإسلامي، والحركة الإسلامية في الجامعة المغربية، كان في أواسط الثمانينات من القرن الماضي، وتكاد تتشابه ظروف الساحة الجامعية الطلابية مع الساحة السياسية والاجتماعية الوطنية، وإن لم تكن جرعة الاندفاع والتطرف أقوى، ذلك أنّ الماركسية اللينينية كانت ملهم رواد الحركة الطلابية آنذاك. وفي الحين نفسه اختار الإسلاميون في الجامعة تقريباً الخندق نفسه، وهو التملص من كل ما له علاقة بالنظام، وإن كان فيه مصلحة الأمّة والطلاب.

ثم كان مما أجج الصراع ظهور شعبة الدراسات الإسلامية في الجامعة المغربية. حيث لم يكن معروفاً آنذاك سوى شعبة أو كليّة الشريعة الإسلامية، التي كانت تنعت حينئذ بكل نعوت التخلف والتقوقع والرجعية. وهذه الرؤية كان يراها الإحيائيون الإسلاميون إذ لم يكونوا يرون فيها ما يمثل تطلعاتهم أو بالخصوص الرؤية أو التصور الإسلامي الذي يبشرون به ويدعون إليه. ومما زاد الطين بلة هو شيوع القول إنّ شعبة الدراسات الإسلامية أنشأها النظام في مواجهة شعبة الدراسات الإسلامية، مما يعني أنّ التيارات الإحيائية لم تظهر إلا لمواجهة اليسار.

من جانب آخر، فإنّ المتابع للساحة الطلابية آنذاك وحتى الآن يلحظ كيف أنّ أبناء "التيار الإسلامي" ظلوا يتزعمون حركة مقاطعة المحاضرات والدروس العلمية لبعض الأسباب الواهية، وقيادة الاحتجاج ضد متابعة الدروس بدعوى طول مقررات الدراسة، وأنّ هذه المقررات ولو في الدروس الشرعية وشعبة الدراسات الإسلامية أو الشريعة الإسلامية تدخل ضمن مشروع النظام لتدجين الحركات الاحتجاجية.

وبغض النظر عن النقاش الحركي حول ضرورة قيادة الحركة الطلابية في هذه المرحلة وعدم الدخول في مواجهة مع النظام من جهة أو التيار العلماني من جهة أخرى، إلا أنّ لائحة مطالب هذه الحركة لم تكن تتضمن ما يمكن إدراجه ضمن مطالب مهمة في كثير من الأحيان، وهكذا فقد غاب الدفاع عن تحسين ظروف التحصيل العلمي، وعن صنع نخبة من الطلبة المتفوقين والدفع بهم إلى الأمام في التحصيل، وكذلك محاولة التجمع والتكتل في مؤسسات ونوادي بحث علمي في التخصصات المتنوعة، ومحاولة متابعة التطورات العلمية الهائلة في العالم.

ولعل السبب الكبير والدافع الأساس لما حصل هو أنّ قيادة هذا التيار كانت من فئة الشباب التي كان يهمها التنظيم والجماعة وتأسيسها قبل كل شيء، لتشكيل تيار في الساحة يخفف الضغط على الصحوة المفروض من قبل تيار المعارضة آنذاك الذي كان يسيطر على المنابر العلمية والسياسية والجمعيات والأندية الثقافية والفكرية. ثم إنّ الضغط السياسي كان بارزاً وضاغطاً في تفكير شباب الدعوة وقادتها، مما كان يولد إما انصهاراً كليّاً في مواقف اليسار (مقاطعة العلماء، والمحاضرات، والدروس،...) أو مواجهة صريحة لليسار في بعض المناسبات الدينية كرمضان مثلاً.[3]

إنّ رواد المقاصد الشرعية وشيوخها كثر ومتعددون، ولكن الذين أسسوا للمقاصد وقعدوا لها، وهم المنظرون الرئيسيون، يمكن أن نعدهم في الإمام الجويني والإمام الشاطبي، باعتبار القفزة الهائلة التي أحدثاها في علم المقاصد؛ الأول في بداية الكتابة والتأسيس له، والثاني في نضجه و"اكتمال" تأسيسه.

إنّ الإمام الجويني (478هـ) والإمام الشاطبي (790هـ) عاشا في فترتين مختلفتين زماناً ومكاناً، الأول عاش في المشرق في القرن الخامس، وهو قرن شهد تراجعاً سياسياً كبيراً للمسلمين ولدولتهم ولسلطتهم السياسية بالخصوص. أمّا الثاني فقد عاش في المغرب في القرن الثامن، وهو زمن الاندحار والسقوط الذي أرّخ لخروج المسلمين من الأندلس. واللافت في حياة هذين الإمامين، وهو في الوقت نفسه القاسم المشترك بينهما، أنهما لجآ إلى مقاصد الشريعة الإسلامية لمعالجة قضايا المسلمين وتراجعهم وتخلفهم السياسي. وللتأكد من هذا يمكن الاطلاع بالخصوص على "الغياثي"[4] بالنسبة لإمام الحرمين، حيث عمد إلى ربط واقع المسلمين المتخلف آنذاك بالمقاصد الشرعية، إذ عمد إلى افتراض خلو الزمان من حكم الشريعة وغياب السلطان السياسي للمسلمين. كما يمكن ملاحظة الشيء نفسه بالنسبة للشاطبي في "الموافقات"، وبالخصوص في "الاعتصام"، حين يعالج واقع المسلمين على ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية.

إنّ هذين العلمين، وغيرهما من علماء المسلمين، لم يكونا يجهلان الفكر السياسي، ولم يكونا يجهلان الضعف السياسي الذي تعيشه الأمّة آنذاك، ولكنهما عمدا إلى مقاصد الشريعة الإسلامية باعتبارها الفضاء الأرحب لجميع المتناقضات الاجتماعية والسياسية وكذلك باعتبارها الإطار الأنسب لتحليل قضايا الأمّة ومعالجة مشاكلها.

حقاً إنّ التصنيف في الفكر السياسي لم يكن معروفاً، ولم يكن التأليف فيه قد قطع أشواطاً ليكتمل بناؤه عند المسلمين بالخصوص، ولكن الرؤية الإسلامية الأصيلة عند العلماء المتشبعين خاصة بروح الشريعة وبمقاصدها كان لهم توجههم الخاص في تصحيح الوضع ومعالجة المشاكل التي يعرفها المسلمون.

إنّ الاهتمام بمقاصد الشريعة الإسلامية يكاد يكون هو نفسه الاهتمام بالعلم بكل جوانبه ومجالاته، وإن بشكل أوسع وأرحب، ومن هنا يتبين سبب قصور التيار الإسلامي وخطؤه في اختيار الأرضية التي يعالج من خلالها قضايا الأمّة. لقد اختار الزاوية الضيقة، وهي الزاوية السياسية، عكس علماء المقاصد الذين اختاروا الزاوية الأرحب والأوسع وهي زاوية مقاصد الشريعة الإسلامية.

هذا الإصرار على "تسييس" المشاكل والقضايا التي تعيشها الأمّة الإسلامية، يبدو أنّ من أهم دوافعه بالأساس هو التأثر الشديد بالمحيط الذي كان ساخناً حول الحركة الإحيائية الإسلامية. ذلك أنّ اليسار كان يسيّس كل القضايا، ويرى أنّ الحل في المنطلق سياسي من حيث الوسيلة والأدوات التي ينبغي سلوكها للوصول إلى أهدافه، طبعاً دون إغفال وسائله الانقلابية الدموية. وبذلك تأثر الإحيائيون القادة وأتباعهم بهذه الرؤية، فأغفلوا ونسوا باقي الجوانب المهمة في تشكيل الرؤية الإسلامية المتأسسة على الرؤية الشاملة التي لا تغفل كثيراً من الجزئيات.

وارتباطاً بهذه الزاوية العلمية، فقد استوردت الحركة الإحيائية الإسلامية المغربية أدبياتها و"مرجعياتها" الفكرية وثقافتها الشرعية من المشرق، فدخلت في معارك أخرى جانبية وهامشية مع الواقع، كانت في غنى عنها خصوصاً في فترة بنائها وتكوينها. فأصبح أعلامها وروادها غرباء عن الوطن، وظهرت أفكار وفتاوى بعيدة عن الثقافة المحلية والإقليمية.

إنّ الادعاء بأنّ الصحوة الإسلامية أخطأت حين استوردت ثقافة المشرق الإسلامي لا يعني مطلقاً أنّ ما جاء من المشرق الإسلامي كله خطأ يجب التخلص منه، كما لا يعني ضرورة الانغلاق على الثقافة الخاصة والقطرية الضيقة، بل الذي يدفع إلى هذا القول وسببه هو مراعاة خصوصية الظرف والواقع المغربي، وتفادي معارك وصدامات مجانية كان يمكن تفاديها بل ربح مساحات زمانية ومكانية تفيد المجتمع والدعوة الإسلامية إفادة بالغة.

وكما أنّ للمغاربة خصوصيات لا بدّ من مراعاتها عند مخاطبة الناس ومراعاتها حين التحدث إلى الجماهير والشعوب، فإنّه لا يمنع من الاعتراف للشعوب الأخرى بخصوصياتها الثقافية والاجتماعية التي تراعى فيها كلّ مكونات الواقع، وإن كانت جزئيات طفيفة وصغيرة. كما لا يمنع من القول إنّ الانتماء إلى الدائرة الواحدة المتمثلة في الإسلام لا يتعارض مع التنوع الفكري والتعدد الثقافي من الدائرة الإسلامية نفسها، لأنّ الثقافة الإسلامية بإمكانها احتواء ثقافات عدة، كما يمكنها إنتاج منتوج ثقافي متنوع ومتعدد لا يتعارض مع الإسلام.

لقد اختار المغرب منذ قرون اختيارات "ثقافية" ذات أسس فقهية وعقدية وسلوك إسلامي يرى المغاربة فيها مكسباً مهماً نحو توحيد الفكر والمذهب لا يمكن التراجع عنها، وهي المالكية فقهاً، والأشعرية عقيدة، ومذهب الجنيد في التصوف والأخلاق. والغريب والعجيب أنّ هذا الثلاثي عليه إجماع حتى من طرف العلمانيين الذين يحاربون الدين أو لا يحبذون التدخل في شؤونه في أغلب الحالات كما يزعمون.

وهنا تطرح بعض الأسئلة: في أي شيء يفيد المغاربة والدعوة الإسلامية إخراج الناس من مذهب مالك واختيار مذهب آخر؟ وماذا تستفيد الدعوة الإسلامية في تغيير قناعات المغاربة من العقيدة الأشعرية إلى عقيدة أخرى؟ أو اختيار مذهب تربوي آخر غير مذهب الجنيد؟ ما دامت كل هذه الاختيارات لا تخرج عن دائرة الإسلام وعن روح الشريعة وأهدافها؟

وبعيداً عن كل تعصب وانغلاق مذهبي أو عقيدي، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ كل اختيار في الفقه والعقيدة والسلوك يتأسس على الإسلام، ينطلق منه ويلتزم أصوله، يبقى اختياراً محترماً ومقبولاً، وكلّ محاولة لتغييره وتبديله باختيار من الدائرة الإسلامية نفسها تبقى عبثاً ومضيعة للوقت والجهد، تُدخل الأمّة الإسلامية في صراعات هامشية لا فائدة منها.

إنّ إغفال الفكر المقاصدي، وإهمال فقهه الذي يركز على ترتيب الأولويات لتحديد الضروريات في الدعوة لتكون على قائمة اهتمام الدعاة والمصلحين، هو الذي يؤدي إلى هذه الاختلالات ذات النتائج الكارثية على الأمّة الإسلامية. فكلما حضرت المقاصد حضرت الكليّات والاهتمامات الكبرى للأمّة، من قبيل إرجاع الناس إلى الإسلام عقيدة ومذهباً وفكراً وشريعة، ولو كان على أساس هذا الاختيار الثلاثي القائم في بلاد المغرب ما دام لا يخرج من ملة الإسلام إلى ملة الكفر. فالمقاصد وروح فكرها المبني على تحديد الضروريات ثم الحاجيات ثم بعد ذلك التحسينات، وتقرير درء المفاسد أولى من جلب المصالح والاهتمام بـ"العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني"، هي عبارة عن بوصلة هامة كانت تفيد كثيراً الدعوة الإسلامية في تلك المرحلة خصوصاً، وما تبعها ولحقها من أحداث خطيرة في الآونة الأخيرة.

وغير بعيد عن هذا الاختيار المذهبي والعقدي، هناك توجه واختيار يتمسك به المغاربة كغيره من الاختيارات، إنه رواية ورش في قراءة القرآن الكريم، ولاستيعاب أهمية هذه الاختيارات وخطورة الخروج عنها في المغرب لا بدّ من الإشارة إلى أنّ طلبة القرآن الكريم وحفظته وأئمة المساجد والأغلبية الساحقة من العلماء والوعاظ ـ سواء كانوا رسميين أوغير رسميين ـ متمسكون بهذه الثوابت إلى حد بعيد، إلى درجة قد تصل أحياناً إلى حد "التعصب". وإذا أضيف إلى هذا التمسك الشديد في بعض الحالات ضيق الأفق وغياب سعة الصدر لاستيعاب الاختلافات في هذا المجال، تحول الأمر إلى خروج عن الدين وعن الملة ككل عند بعضهم، كقولهم في من يفتي على غير مذهب مالك عندهم بأنه جاهل بالدين، أو في من يقرأ بغير قراءة ورش بأنه محرّف للقرآن.

إنّ أبناء الصحوة في المغرب انبهروا بكل ما هو آتٍ من المشرق، خصوصاً مع بروز أعلام في الدعوة والفكر والحركة، كانوا أعلاماً لامعين وقدموا تضحيات جساماً، وأعطوا زخماً كبيراً للدعوة الإسلامية بالتجديد في الأسلوب ومنهج الدعوة، حتى ارتبط في ذهن الكثير من شباب المغرب آنذاك أنّ الإسلام "الصحيح" هو بالفعل القادم من عند إخوانهم في المشرق. فصار نسخ هذا المستورد جزءاً لا يتجزأ من الدعوة الإسلامية، لذلك حتى في قراءة القرآن ظهر جيل مؤمن من أبناء الدعوة مخلص لدينه، يحبذ القراءة على غير ورش ويدعو لها. وحتى المصاحف المنتشرة كانت على غير الرواية المذكورة، وانتشرت كبديل لقراءة ورش قراءة حفص، فحدث نوع من الشرخ وتصدّع الصف الشعبي في المساجد، فأبناء الدعوة والحركة الإسلامية شكلوا صفاً متميزاً يتهمون الآخرين بالتعصب والجمود، وفي الحين نفسه اتهمهم عامة الناس بالدعوة إلى دين جديد، وفي أحسن الأحوال كانوا يرمونهم بالابتداع في الدين.

والقول نفسه يمكن أن يكون صحيحاً في المشرق، لمن يسعى إلى تبديل مذهب أمّة الإسلام في الحجاز مثلا مدعياً وزاعماً أفضلية مذهب مالك على مذهب الإمام أحمد ـ رضي الله عنهما ـ، أو اختيار عقيدة الأشاعرة بديلاً لاختياراتهم العقدية السائدة في بلادهم، أو إلزامهم بقراءة ورش عوضاً عن قراءة حفص.

إنّ للعلم والفكر تأثيراً على المظهر وعلى الشكل، ذلك أنّ الأشكال والصور لها مضامين وحمولات فكرية تتأسس عليها، فإذا كانت المظاهر والصور غريبة عن واقعها، فذلك راجع بالأساس إلى التصور الذي تنطلق منه، وإلى المضمون الفكري الثقافي الذي تنبني عليه.

وارتباطاً بما سبق فإنّ الدعوة الإسلامية لم تكتفِ باستيراد المذهب والعقيدة والسلوك والقراءة، بل أضافت إليها مكوناً آخر من مكونات المجتمع، يعبّر عن خصوصياته وعن مظهره الحضاري الخارجي، إنّه اللباس. فمرّة أخرى وجدت المرأة نفسها غريبة في المجتمع ووسط عامة الجماهير حين أسرت نفسها في لباس غريب أدركت ذلك أم لم تدركه. وعليه فالمرأة المتدينة "حق التدين"، المتحضرة والمحسوبة على الصف غير الرسمي، هي تلك التي ترتدي زياً مشرقياً متمثلاً في سترة من نوع خاص توضع على الرأس، بالإضافة إلى زي من نوع خاص كذلك يتكون من جلباب قصير وسروال من اللون نفسه في غالب الأحيان. إنه لباس "غريب" عن المجتمع، وإن كانت تنطبق عليه مقاييس الشرع وأحكامه.

والغريب في الأمر أنّ اللباس الشعبي النسوي في المغرب هو الجلباب الذي يستر الرأس وباقي الجسد. وكانت النساء أيضاً تضع معه اللثام على الوجه، أو ما يسمى النقاب. وهو لباس جميل تنطبق عليه أحكام الشرع وهديه. ومع ذلك اختارت الفتاة المتحجّبة هذا اللباس المستورد لأنه في الغالب أصبح يمثل بالنسبة إليها القدوة والنموذج، وفي حالة عدم الالتزام به ربما تصورت أنه خروج عن خط الدعوة والتدين.

إنّ من الأخطاء الكبرى التي وقع فيها الفكر الإحيائي الإسلامي المغربي في هذه المرحلة، هو الاعتقاد أنّ كلّ ما هو شعبي هو بالضرورة رسمي. فالمذهب والعقيدة والسلوك وكلّ مكونات خصوصيات الثقافة المغربية الإسلامية، هو من صنع النظام الرسمي السائد آنذاك. ومن ثم من اللازم محاربته والبحث عن بديل آخر للوقوف على مسافة بعيدة من هذا النظام. وتناسى الفكر الدعوي والحركة الإسلامية أنّ هذا الأمر ليس من خصوصيات النظام ومن اختياراته، بل هو اختيار المغاربة منذ قرون، حين توافقوا على اختيار مذهب الإمام مالك في الفقه منذ عهد المرابطين. وكذلك الأمر بالنسبة للقواسم المشتركة الثقافية الأخرى عند المغاربة.

وعلى افتراض صحة اعتقاد الصحوة الإسلامية المغربية في هذه النقطة، فإنه كان من الأليق والأنسب الانحياز إلى صفوف الجماهير واختياراتها، دون اللجوء إلى ما هو غريب عنها، وفرضه عليها، مما يضيع عليها كثيراً من الوقت والجهد، وأصلاً قبل هذا مما يخالف بعض قواعد التغيير السليم والسهل الذي يرى ضرورة الالتصاق بالجماهير وعامة الناس ما دامت هذه الاختيارات لا تخرج عن إطار الإسلام وروحه السمحة.

وحتى داخل البيت فإنّ اللباس الشعبي المتمثل في القفطان الطويل، صاحب الشهرة عالمياً، والذي يمكن اعتباره لباساً شرعيّاً مستوحى من الثقافة والشرع الإسلامي من التصميم والستر، قد أصبح مهجوراً عند نساء الدعوة الإسلامية وأنصارها، مما بدأ يشكل نوعاً من القطيعة مع تيار عريض من فئات المجتمع ونسائه.

ولم يقتصر الأمر على النساء بل حتى الرجال، ذلك أنّ زيّاً بدأ ينتشر في هذه المرحلة وهو لبس العباءة وفوقها تلبس الجاكيت العصرية، ووضع قلنسوة فوق الرأس وانتعال الحذاء الرياضي. وهو لباس غريب أيضاً عن خصوصيات الواقع المغربي. وممّا يزيد في غرابة هذا السلوك أنّ اللباس الشعبي المغربي هو الجلباب، المعروف بجماليته سواء في التصميم أو في الألوان أو العباءة على مختلف تصاميمها، الذي تتمثل فيه ضوابط الشرع وهديه.

إنّ أبناء الفكر الإحيائي الإسلامي المغربي ـ ذكوراً وإناثاً - أصبحوا يشكلون شاءوا أم أبوا ظاهرة جديدة غريبة في المجتمع، بل ظاهرة غريبة بلباس غريب عن المجتمع ذوقاً وتصميماً ممّا دفع البعض إلى التوجس من هذه الدعوة وتصنيفها في دائرة المُستفهم عنه وطرح كثير من الاستفهام حولها، بل أعطوا فرصة لمن يتربص بهذه الحركة بالتحريض ضدها وتأليب الرأي العام حولها مستغلين جهل الناس وقلة منابر هذه الدعوة آنذاك. فقطعت الدعوة الإسلامية في هذه المرحلة خصوصاً خيوطاً وروابط كثيرة كانت في أمس الحاجة إلى مدها مع الجماهير.

هذه الملاحظات المسجلة على الفكر الإحيائي الإسلامي في المغرب، تنطبق في كثير من مضامينها مع باقي الأقطار أو الأقاليم في الوضع التجزيئي المعاصر، ممّا يستلزم مراعاتها كذلك في هذه البلدان مع مراعاة خصوصيات كل بلد وملاحظة مكوناته الخاصة. وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال تكريس واقع التجزئة والتمزيق المرير الذي تعرفه الأمّة الإسلامية، أو الدعوة إلى الانغلاق والتعصب داخل الخصوصيات المرتبطة بكل واقع، بقدر ما يعني مراعاة هذه الأمور وتوظيفها توظيفاً مناسباً في خط الدعوة، تفادياً لكثير من السلبيات التي يمكن أن تلحق هذا الفكر أو هذه الحركة، وهي تخطو من أجل تحقيق أهدافها ومراميها المشروعة والمعقولة.

من جانب آخر، تميزت هذه المرحلة في المشرق الإسلامي وما قبلها أيضاً بالمواجهة بين الدعوة والتيار الإسلامي عموماً والنظام القائم والدولة السائدة آنذاك، ولئن اتسمت هذه المواجهة أحياناً بالتدافع السلمي، فإنها في كثير من الحالات تجاوزته لتصطبغ بالعنف والاعتقال والتعذيب والقبضة الحديدية من قبل الدولة، وأحياناً تجاوزته إلى المواجهة المسلحة بين الطرفين. فشكلت حدة المواجهة والعداء بين الطرفين السمة العامة للمرحلة عناوين بارزة تؤرخ لهذه الفترة ولهذه الرقعة الجغرافية، مثل: السجن، والتعذيب، والاعتقال، والمحن، والفتن، والشدائد، ثم القتال أو الجهاد، والمواجهة المسلحة، والخلايا المسلحة، وترجمت هذه العناوين في مختلف مناحي الفكر والأدب والثقافة عموماً، وبالخصوص القصة، والرواية، والشعر والأدب، والمسرح والنشيد.

والغريب أنّ الحركة الإحيائية الإسلامية في المغرب في هذه المرحلة كانت بعيدة كل البعد عن هذه العناوين والمعاني وهذا الواقع بكل سلبياته، بعدها الجغرافي عن المشرق. لكن مع ذلك فقد انتشرت هذه الأدبيات المرتبطة بهذه المعاني والمحملة بهذه المفاهيم وشاعت شيوعاً منقطع النظير. وربما يكون ذلك بسبب قلة هذه المنتوجات الأدبية والفكرية والفنية، وأيضاً بسبب الارتباط والإصرار غير المفهوم على استنساخ هذه التجارب رغم مرارتها وبعدها عن هذا الواقع. وليت الأمر اقتصر على ذلك، بل أصبح أبناء الدعوة في المغرب يعيشون هذه المرحلة من خلال القصة والرواية وأدب السجون والقتال الذي انتشر وذاع بشكل لافت، فتأثروا بذلك بشكل كبير، مما كان له الأثر البالغ على شباب الصحوة وأبنائها.

وحتى النشيد الإسلامي المنتشر كان يختلف كليّاً عن واقع البلاد شكلاً ومضموناً، ذلك أنّ أبناء الصحوة يرددون ويحفظون أناشيد ذات إيقاع شعبي مشرقي، بعيدة كلّ البعد عن الإيقاع الشعبي المغربي. فكان من اللازم على الجيل الجديد من أبناء الدعوة أن يتربوا على هذه المعاني: معاني السجن والاعتقال، والتعذيب والمحن، والقتال والجهاد، ممّا ولّد لدى أبناء الدعوة والحركة الإسلامية شعوراً بالتميز والانفصال، رأت فيه باقي الجماهير أنه غربة وانعزال عنها غير مطمئن، فتوجست منه وبقيت على مسافة من هذا الفكر.

إنّ هذه الجزئيات المنفصلة تشكل أمراً ثانوياً يمكن تجاوزه، بل يمكن السخرية ممن يهتم به، في اعتقاد كثيرين. لكن هذه الجزئيات سرعان ما تصبح كليّات إذا كانت متداخلة ومتجمعة، حيث تصبح أولويات تشكل نسيجاً في الثقافة والفكر والتصور داخل المجتمع.

فإهمال العلم ليس جزئية، ومع ذلك لم يلتفت إليه التيار الإسلامي ويستدرك ما فاته منه، ورموز العمل الإسلامي ودعاته ليسوا شيئاً ثانوياً في مسار الدعوة ومستقبلها، ومع ذلك أصرّ هذا التيار على مقاطعة العلماء وفي بعض الأحيان مواجهتهم والتنكر لهم.. مما أدى إلى إهمال المرجعية في الفقه والعقيدة والسلوك، ولم يلتفت إليه قادة الدعوة الإسلامية إلا مؤخراً، بعد أن اعترضت سبيلهم عراقيل سواء من قبل الدعاة التقليديين أو من قبل المؤسسة الرسمية الدينية، في حين لم يستوعب التيار عدم ملاءمة هذه الأدبيات المشرقية لواقعه إلا بعد فوات الأوان.

إنّ فقه مقاصد الشريعة الإسلامية والانضباط لروح الشريعة ومراميها ظلّ مغيّباً عند أنصار الفكر الإحيائي الإسلامي، ولم يتم الالتفات إليه، وإدراك قيمته إلا في الفترات المتأخرة، ومن ثم فإنّ تصويب وتقويم هذا الاعوجاج ظلّ يراوح مكانه. ولهذا أسباب أخرى ليس مجال بحثها الآن، هذا إذا تصورنا بالفعل أنّ التيار الإحيائي الإسلامي الآن بصدد مراجعة مقولاته واختياراته في مسيرته.

وفي تاريخ الأمّة الإسلامية لم تكن مقاصد الشريعة الإسلامية مادة نظرية مجردة فقط، تُستدعى أساساً لتحقيق ترف فكري أو فقهي أو حتى فلسفي، بل كانت مادة حيوية تؤدي دوراً كبيراً في ترجيح الخلاف بين الآراء الفقهية، فيكون لها ميزان الحسم في هذا التنازع والخلاف، كما ساهمت مقاصد الشريعة وعلماؤها في توجيه الأمّة الإسلامية إلى التركيز على مقومات النهوض مع ترك الخلافات الثانوية والهامشية جانباً، حتى تكون الأمّة أكثر قوة وصلابة، ومن ثمّ تحدد الأولويات (الضروريات) بدقة وبميزان المقاصد أيضاً، وذلك لأنّ الفشل في تحديد الأولويات يأتي على باقي البنيات بالهدم والتلف، ومع تحديد هذه الأولويات ثم الحاجيات ثم التحسينات يكون الحرص شديداً على درء المفسدة قبل جلب المصلحة، حتى لا يكون الاصطدام مع الجماهير، هذا كله مع مراعاة واقع الأمّة وخصائصها ـ دون إغفال الشرع- ومخاطبة الناس على حدّ عقولهم وعلى قدر تحملهم وطاقتهم.

وهكذا فالاهتمام بالعلم تحصيلاً وتمثلاً بمعانيه وأهدافه، دعوة وتنظيماً ومؤسسات يُعدّ من أهمّ ما يقصد الشرع تحقيقه وتثبيته في الواقع. خصوصاً أنّ مقصد الحفاظ على العقل يشكل كليّة كاملة من الكليّات الخمس المرتبطة بالضروريات في الفكر المقاصدي. بل إنّ العلم يخدم باقي الكليّات ويحفظها وجوداً وعدماً، فتبرز الدعوة الإسلامية متوهجة متلألئة بنور العلم والإيمان فتحبها الجماهير وترتبط بها، ليس الإسلامية فقط بل الإنسانية جمعاء، ومن ثم تخدم الأمّة والناس جميعاً.

إنّ التصالح مع المذهب المالكي وعقيدة الأشاعرة ومذهب الجنيد في السلوك والأخلاق كان سيوفر للحركة الإحيائية الإسلامية منذ البداية انسجاماً مذهبياً وفقهياً قلّ نظيره، ومن ثمّ درء مفسدة الخلاف والشقاق والاصطدام مع المحيط وجلب مصلحة الالتحام بالجماهير والانسجام مع اختياراتها، ما دامت كلها من داخل دائرة الشريعة الإسلامية.

أمّا الحفاظ على المظهر العام لجيل الدعوة الإسلامية وهندامه، فقد ظلّ بعيداً عن ذهن الدعاة وأتباعهم، فأغفلوا هذا الجانب مع ما له من أهمية قصوى في هذا المجال، فتشكلت عقلية العزلة والتميز عند أبناء الدعوة الإسلامية، وقوبلت بذهنية متوجّسة ومترّقبة من طرف باقي مشارب المجتمع، وهو الذي أدّى إلى هذا النوع من التنافر بين الطرفين.

إنّ الأصوليين والفقهاء وعلماء المقاصد الشرعية يقسمون مقاصد الشريعة الإسلامية، من حيث أهميتها والحاجة إليها وما تشتمل عليه من مصالح وبحسب قوة هذه المصالح، إلى مقاصد ضرورية، وهي التي لا بدّ منها لقيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا غابت لن تستقيم الحياة ولن تسير أمور الناس ومصالحهم على استقامة، ثم مقاصد حاجية وهي التي يفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع المشقة، وهي التي تصعب الحياة بدونها أو تتعرض لصعوبات ومشاق في غيابها، ثم مقاصد تحسينية وهي التي يتحقق بالأخذ بها ما يليق بمحاسن العادات وتجنب المدنسات التي تأنفها العقول الحكيمة وما يعبّر عنه تحت عنوان مكارم الأخلاق.

إذا غاب العلم انهدم بناء الدعوة الإسلامية وصعبت الحياة في غيابه. وإذا وضع في الحسبان أهمية العلم في الحفاظ على العقل الذي يشكل إحدى الكليّات الخمس فهو إذن بمثابة الضروري. أمّا غياب الانسجام المذهبي والفقهي فيجعل الدعوة تمشي، لكن بحرج وصعوبة ومشقة تؤثر على مسيرها. في حين يمثل الحفاظ على الهندام الشعبي واللباس الشعبي كذلك بالنسبة للرجال أو النساء وما يسير في فلكه من مكملات وتحسينات المظهر العام للإنسان، تحسينات هذه الحركة الإحيائية المغربية.   


[1]- سورة العلق، الآية: 1

[2]ـ حيث كان السائد شعبياً أنّ الفقه والدين لا يمكن أن يتجاوز دائرة تخصص الشرعيات أو على نطاق أضيق، ما يعبر عنه حالياً بالتخصص الأدبي، حيث إنّ تخصص الدراسات الإسلامية أو الإسلاميات، وحتى تخصص الشريعة الإسلامية غالباً ما يلحق بكليات الآداب أو بكليات القانون، ويوجه إليها الطلاب على الأخص من التخصص الأدبي.

[3]ـ من خلال إقامة حفلات دينية وصلاة التراويح، أو من خلال جهر بعض متطرفي اليسار الطلابي بالإفطار علناً في الأحياء الجامعية.

[4]ـ الغياثي هو الاختصار لـ"غياث الأمم في التياث الظلم"، وهو كتاب مطبوع للإمام الجويني رحمه الله.

المصدر: http://mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%83%D8%A9-%D8%A7...

 
الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك