الحق الديني والحق الطبيعي لدى الكاثوليك في العصور الوسطى

إميل أمين

ضمن بعض أهم القضايا الفكرية المطروحة الآن على صعيد الحياة الأوروبية والدعوات المنطلقة لجهة عودتها إلى جذورها وفي مقدمتها المسيحية -كما يؤكد البعض- يجيء الحديث عن إشكالية القانون الطبيعي الذي يوجه حياة الإنسان وهو طرح لاهوتي واجتماعي في آن واحد يعود للعلامة الكاثوليكي توما الأكويني �1225ـ 1274�.

ولعل أحدث الأصوات التي طالبت بحتمية العودة إلى قراءة أبجديات فكرة وجوهر �القانون الطبيعي� كان صوت البابا بندكتوس السادس عشر، ففي يوليو تموز المنصرم أكد بابا الفاتيكان أن على �جميع الناس من المؤمنين وغيرهم الاعتراف باحتياجات الطبيعة البشرية التي تتجسد في القانون الطبيعي، والاسترشاد بها في صياغة قوانين إيجابية؛ أي تلك التي تصدرها السلطات المدنية والسياسية لتنظيم المجتمع وفق تعبيره�.

وعند بابا روما -الرئيس الديني والروحي للكاثوليك حول العالم وصاحب الدعوة الأشهر لعودة أوروبا إلى جذورها المسيحية- �أنه عندما يُنكَر القانون الطبيعي والمسؤوليات التي تترتب عليه يفتح بشكل مأساوي الطريق نحو النسبية الأخلاقية على الصعيد الفردي بشكل خاص، ومن ناحية سياسة الدولة بشكل عام�. وشدد على أن �الدفاع عن حقوق الإنسان والتأكيد على كرامته أمر مسلم به أساساً� وتساءل: �ألا يشير القانون الطبيعي إلى أن هذا الأساس يعد من القيم غير القابلة للتداول؟�.

هذه المداخلة من قبل الحبر الأعظم تطرح في واقع الأمر عدة تساؤلات جوهرية حول حتمية فكرة القانون الطبيعي في الكون، وعن روية الأكويني لهذا القانون، والتأثير الذي خلفه على أوروبا في القرون الوسطى، وكذلك النقد الذي وجه لها من أنصار الاتجاه المثالي المعاصرين، والكثير من علامات الاستفهام التي نستهلها برؤية مختصرة من دون خلل عن حاجة الإنسان بادئ ذي بدء إلى وجود قانون ينظم حضوره في الكون.

في حاجة الإنسان إلى القانون الطبيعي:

يبقى أفضل وأقرب بل وأبسط تعريف للقانون هو أنه ظاهرة اجتماعية ورباط وعقد يستهدف تنظيم سلوك الأفراد في المجتمع، وما ينشا بينهم من علاقات متعددة، ولذلك فالقانون يتأثر بكافة العوامل المؤثرة في مجتمعنا الإنساني، فهو يتأثر بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والجغرافية، فيجب أن يتجاوب القانون مع مقتضيات هذه العوامل حتى يكون متفقا مع واقعنا ومستجيبا لأي تطور يحدث فيه.

وقد سعى الإنسان منذ أقدم العصور إلى تحقيق العدل في صورة مثالية تسمو على قواعد القانون الموضوع بإرادة البشر.

وقد ظهرت أولى المدونات القانونية المعروفة في بلاد بابل بأرض العراق، وقد جمع أحد ملوك بابل ويدعى �أورنا موفي� حوالي سنة 2100 ق.م أقدم مجموعات القوانين المعروفة.

وأنشأ حكام بابليون آخرون مجموعات خلال القرون التالية، وصاغ الملك حمورابي خلال القرن الثامن عشر قبل الميلاد أكثر هذه المدونات أو المجموعات القانونية شهرة واكتمالا، ثم بعد ذلك تمكنت حضارة الإغريق القديمة من صياغة القانون كنظام ذي ملامح إنسانية.

ومما لاشك فيه أن هناك من سبق الأكويني في الحديث عن فكرة القانون الطبيعي -وإنْ بمسحة غير لاهوتية- فقد عرفة الفقيه شيشرون بأنه قانون مطابق للعقل السليم، متفق مع الطبيعة، معلوم للجميع، ثابت على وجه الدوام، ويُعَدّ القانون الحقيقي الذي لا يتغير من روما إلى أثينا، ولا من اليوم إلى الغد، حيث تعبر قواعده عن الطبيعة ذاتها، سواء تمثلت في دوافع الحيوان أم دوافع الإنسان، ولكنها بالطبع عند الإنسان أكثر تطورا.

ويترتب على ما سبق القول: إن القانون الطبيعي هو المعيار الأكثر شمولا الذي يتعين أن تسير عليه الجماعة؛ حيث تنبثق منه المبادئ الأساسية العامة؛ مثل مبدأ حرية الإنسان، ومبدأ المساواة بين البشر، ومبدأ تحريم الرق.

فيما يرى الأكويني أن القانون الطبيعي هو انعكاس لحكمة الله، مثلما هو القاعدة التي تعلم الصواب؛ لأنه يفيض بالضرورة من ذات الله المقدسة ويحدد طبيعة الأشياء كما هي قائمة في ذات الله... من هو الأكويني أول الأمر؟

في مولد الأكويني ونشأته الأولى:

ولد توما الأكويني بين عامي 1224 و 1225م في قصر عائلته النبيلة الغنية، وكان لها أملاك في �روكاسيكا� في ناحية أكوينو �جنوب ايطاليا� بالقرب من دير مونتي كاسينو الشهير، حيث أرسله والداه لتحصيل المواد الأولى من التعليم.

انتقل الشاب الصغير توما بعد سنوات قليلة إلى نابولي عاصمة مملكة صقلية، حيث كان فريدريك الثاني قد أسس جامعة عريقة، كان يعلم فيها فكر الفيلسوف اليوناني أرسطو من دون القيود المطبقة في أماكن أخرى، وبدأ في دراسته، وأدرك على الفور قيمته الكبيرة، لكن وقبل كل شيء نشأت دعوته الدومينيكانية في تلك السنوات التي قضاها في نابولي، وقد اجتذب توما مثال الرهبنة التي أسسها القديس دومينيك قبل بضعة سنوات، ومع ذلك وعندما ارتدى الثوب الدومينيكاني عارضت عائلته هذا الخيار، فاضطر إلى ترك الدير وقضاء بعض الوقت مع أسرته.

في عام 1245م كان توما قد أصبح بالغا، وتمكن من استئناف رحلته الدراسية في باريس لدراسة اللاهوت تحت إرشاد المعلم الكبير �البرتوس الكبير�، وقد قامت بينهما صداقة عميقة وحقيقية، وتعلما أن يقدر ويحب بعضهما بعضا، حتى أن البرتوس أراد أن يتبعه تلميذه إلى كولونيا حيث أرسله رؤساء الرهبنة من أجل وضع مركز الدراسة اللاهوتية، فتواصل توما مع جميع أعمال أرسطو ومع المعلقين العرب عليه، والذين كان البرتوس يفسر أقوالهم ويشرحها، وقد قام توما الأكويني في مدرسة البرتوس الكبير بعملية بالغة الأهمية بالنسبة لتاريخ الفلسفة واللاهوت وربما في تاريخ الثقافة الأوروبية المسيحية فقد درس أرسطو ومفسريه دراسة وافية، وحصل على ترجمات لاتينية جديدة للنصوص الأصلية اليونانية، وهكذا لم يعتمد فقط على المعلقين العرب؛ بل كان يمكنه أيضا قراءة النصوص الأصلية شخصيا... ماذا عن أهم مؤلفات الأكويني، والتي من خلالها نتلمس الطريق في الحديث عن فكرته للقانون الطبيعي؟

الأكويني ومؤلفات واسعة الثراء:

تنقسم كتب توما الأكويني -التي كانت كثيرة وثرية للغاية مقارنة بعمره القصير (49 عاما فقط)- إلى خمسة أقسام �حسب رولان جوسلان� هي:

- المجموعات اللاهوتية.

- شروحات على الكتابات الفلسفية.

- الكتب اللاهوتية.

- المسائل المتنازعة.

- السؤال والجواب.

كانت كتبه متنوعة بين الفلسفة واللاهوت، فقد كتب �الوجود والماهية� سنة 1253م ضد ابن جبرول، وفي سنة 1256م شرح تقريبا جميع كتب أرسطو المعروفة، كذلك شرح الأسماء الإلهية، وله شروحات في الكتاب المقدس سمّيت بشروحات السلسلة الذهبية، غير أن أهم كتابين له، الأول:

Summa-contra Gentiles �الخلاصة ضد الأمم� وهو أهم كتاب له وضعه ما بين 1254ـ 1265، وفيه حاول بناء هيكل لمعرفة الحقيقة حسب الإيمان المسيحي، وذلك عن طريق إقامة جدال خيالي مع شخص غير مؤمن بالمسيحية.

في هذا الكتاب يحاول شرح مفهوم الحكمة، فالحكيم هو الشخص الذي يعرف نهاية الأشياء؛ أي محصلة العمليات أو الحوادث، وشبهها بالبَنَّاء الذي يملك تصورا عن شكل البناية في النهاية.

و كان يرى أن �لنهاية كل عملية خاصة علاقة جزئية مع النهاية الخاصة بالكون�، وعليه فإن الرجل الحكيم هو الشخص الذي يهمه المعرفة النهائية بالكون التي هي أسمى خير يمكن أن يمتلكه العقل.

والثاني: Summa-Theologiae �الخلاصة اللاهوتية� ومكتوب على شكل جدال فلسفي أيضا، وهو آخر كتبه، وقد بدأه ولم يكمله بسبب مرضه ويحتوي على 48 بحثا.

�يبحث القسم الأول عن الله كمبدأ للكائنات، وفي التثليث، وصدور الخليقة عن الله.

وفي الجزء الثاني يتكلم عن الله غاية الكائنات.

وفي الجزء الثالث يتطرق إلى المسيح الوسيط بين الله والكائنات والأسرار وعواقب الإنسان.

في بحث الأكويني عن القانون الطبيعي

ومؤكد أنه من الخطأ حصر فكر الأكويني -لجهة تعاطيه مع مسألة القانون- في فكرة القانون الطبيعي فحسب؛ ذلك لأنه أولى جل اهتمامه للبحث عن أصل القانون، ونشأته وأركانه، وأفاض فيه، وللقانون عند توما الأكويني أربعة أنواع:

1- القانون الأزلي (Eternal law): يطابق التدبير الإلهي للعالم، أو هو القانون الذي يحكم به الله العالم وهو الحكمة الإلهية المنظمة للخليقة، ومن ثم فهذا القانون يسمو على الطبيعة البشرية، ويعلو فوق فهم الإنسان، ومع ذلك فهو ليس غريبا عن الإدراك الإنساني وليس مضادًا لقواه العقلية.

2- القانون الطبيعي (natural law): وهو بمثابة انعكاس للكلمة الإلهية على المخلوقات، وهي تتجلى في رغبات الإنسان الطبيعية التلقائية في فعل الخير، ومعنى هذا أن القانون الطبيعي هو القانون الذي يحكم به العقل أو النفس الفاضلة التي تتأثر بالقانون الأزلي.

3- القانون الإلهي أو المقدس (Devine law): ويتمثل في الشرائع والأحكام التي أتت عن طريق الوحي أو التبليغ؛ كالشريعة الخاصة التي انزلها الله على اليهود في اللوحين المحفوظين، وكالتشريعات المسيحية التي جاءت عن طريق الكتب المقدسة أو الكنيسة، وهذا القانون الإلهي يكون بمثابة التبدي الواضح كالقوانين الثلاثة؛ إذ هو أساسها ومبدؤها.

4- القانون الإنساني (Human law): ولما كان من المتعذر تطبيق الأنواع الثلاثة السابقة للقانون على بني البشر تطبيقا كليا وعاما؛ فلقد قام القانون الإنساني الذي وضع خصيصا ليلائم الجنس البشري، وهو قانون إنساني خالص، وإن كان لم يأت بمبادئ جديدة؛ إذ هو مجرد تطبيق للمبادئ العظمى التي سادت من قبل.

ويرى توما الأكويني أن طاعة القانون واجبة طالما كان عادلاً، أما القانون الظالم فإذا كان معارضا للقانون الطبيعي وللقانون الإلهي وللقانون الأزلي فلا تجوز له الطاعة بأي حال من الأحوال، أما إذا كان معارضا لحق ثانوي فرعي فيطاع متى كانت مخالفته أشد خطرا على المجتمع.

في نشأة القانون الطبيعي عند الأكويني:

يؤكد الأكويني في خلاصته اللاهوتية على أن الإدراك الطبيعي هو شيء مشترك بين البشر أجمعين؛ لذلك يتفقون في قواعد الخير الأساسية كالامتناع عن الكذب والسرقة والتعدي، وإن كانوا يختلفون في تفاصيل أخرى عائدة إلى ظروف الحياة وأطوارها وللعزة الإلهية، كما يرى الأكويني للقانون الطبيعي دوراً محورياً في هذه الأمور، فالعقل الإنساني الطبيعي ليس إلا الصورة التي شاءها الله، وجعلها تطلب الخير بسجية طبيعية كيانية.

والثابت حكما أنه لكل نوع من أنواع الكائنات الحية نظام يرتب حياته، ويبرز هذا النظام بشكل جلي لدى بعض منها كالنمل والنحل؛ لكن خضوع هذه الكائنات للنظام يصدر عن الغريزة، فلا معرفة واعية لديها أو إرادة حرة في التقيد بها، أما في المجتمعات الإنسانية فالأنظمة مرتبطة بالعقل والإرادة، أي أنها نوع من التعاقد بين الناس.

هنا يرى توما الأكويني أن نشوء الاجتماع الإنساني تم وفق قانون طبيعي يجسد �القانون الأزلي� للحياة؛ لأن الله خلق الإنسان مدنيا بطبعه، ومالكا بالفطرة لمبادئ الحق والخير الأساسية، ولا يقر مع القديس أغسطينوس بأن غاية الاجتماع هي استمتاع الناس بما يحبون؛ بل إنها سعي الإنسان إلى تحقيق طبيعته الإنسانية؛ أي تحقيق غايته كإنسان.

ومن هنا فإنه على الدولة أن توفر له العون الذي يُمكِّنه من ذلك، وبالرغم من أن التشريع وممارسة الحكم يعودان إلى الدولة فإن الكنيسة تكون مسؤولة عن المبادئ الأخلاقية والدينية، فتاتي تشريعات الدولة متناغمة مع هذه المبادئ؛ لأن الغاية الزمنية التي تنشدها القوانين يجب أن تكون موجهة نحو غاية أبدية لا زمنية عائدة للإرادة الإلهية.

ويذهب الأكويني إلى أنه كما أن النفس تدبر الجسد، والأب يدبر الأسرة، والله يدبر العالم، كذلك على الحاكم أن يتولى تدبير الحياة المدنية.

ويشدد على أن حكم الفرد الفاضل خير من الحكم الأرستقراطي، والحكم الأرستقراطي خير من الديمقراطية، فكلما حصر الحكم في يدي قوة واحدة كان أفضل للناس، شرط أن تكون هذه القوة فاضلة تسعى إلى الخير؛ لذلك من الأفضل أن يتم تعيين هذا الحاكم الفرد استنادا إلى الانتخاب الذي يطلب الفضيلة لدى الحاكم، لا استنادا إلى النسب العائلي.

وتمتد نظرة القانون الطبيعي إلى نظام الحكم، فيرى الأكويني أن الأنظمة قابلة للتغيير، وقابلة للفساد وفق طبيعة الحياة التي تخترقها طبيعيا جرثومة الشر، وعليه يذهب إلى القول: إن خير الأنظمة التي تكفل التوازن والخلاص من الطغيان هو المَلَكية المعدلة بشيء من الأرستقراطية والديمقراطية معا؛ أي مجلس أرستقراطي ينتخبه الشعب شبيه بذلك النظام الذي وضعه الله لموسى النبي، ذاك الذي كان يحكم بني إسرائيل بمعونة مجلس مؤلف من 72 رجلا من الحكماء؛ ليحكموا الشعب، ويكون الشعب قد اختارهم.

ومهمات الدولة -كما يقررها الأكويني- تقتضي حماية الناس من الأخطار الداخلية والخارجية، الخطر الداخلي تتم الحماية منه استنادا إلى القانون الطبيعي للحياة الذي يقضي بضمان حق الإنسان في العيش استنادا إلى مبدأ العدالة، وبضمان حقه في إنشاء علاقته بالآخرين استنادا إلى مبدأ المساواة.

�هذا الخير في العدل والمساواة يقره العقل الطبيعي والقانون السرمدي الإلهي معا؛ لذلك يجب أن يكون هذا القانون السرمدي الذي ينص على كل المبادئ الخيرة مصدرا للتشريع؛ إذ لا يحق للحاكم وضع القوانين التي تتعارض وإرادة العزة الإلهية.

الحق الطبيعي والجذور الأبعد:

في موسوعته الرائدة �الخلاصة اللاهوتية� يذهب الأكويني إلى أن الطبيعة أكثر أهمية للإنسان حتى وإن كانت النعمة أكثر فعالية من الطبيعة، ولهذا هناك في المنظور الأخلاقي المسيحي مكان للعقل الذي يستطيع أن يميز القانون الأخلاقي الطبيعي، ويمكن للعقل أن يعرفه من خلال انتباهه إلى ما هو جيد عمله وما هو من الأفضل تجنبه لتحقيق السعادة العزيزة على قلب الجميع، والتي تفرض أيضا مسؤولية تجاه الآخرين، وبالتالي البحث عن الخير العام.

 

وبعبارات أخرى إن فضائل الإنسان اللاهوتية منها والأخلاقية متجذرة في الطبيعة البشرية، وترافق النعمة الإلهية الالتزام الأخلاقي، وتدعمه، وتدفع إليه. وكل البشر-مؤمنين كانوا أو غير مؤمنين- مدعوون بحد ذاتهم وفقا للقديس توما للاعتراف باحتياجات الطبيعة البشرية المعبر عنها في القانون الطبيعي، والاسترشاد بها في صياغة القوانين الوضعية أي تلك التي تصدرها السلطات المدنية والسياسية لتنظيم التعايش بين البشر.

وَمِمَّا لاشك فيه هو أن الجذور الأبعد لفكر الأكويني تعود إلى رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية �2-15� حين يتكلم عن الشريعة المكتوبة في القلوب. وعندما عالج الأكويني موضوع الحق الطبيعي في الجزء الثاني من الخلاصة اللاهوتية، فإنه اتخذ من الشريعة الأبدية -كما تظهر في قصد الخلق الإلهي- مبدأ أوليا ومتساميا على كل نظام، ومن الشريعة الأبدية ينبع الحق الطبيعي ويستمد منها معناه.

والمحقَّق أيضا أن الفكر المسيحي لاحقا أدخل اختلافا آخر عن الفكر الرواقي، فكما أن الحق الطبيعي يتميز عن الشريعة الأبدية، فكذلك يتميز علم الإنسانanthropology عن علم الكونcosmology، ويصبح الحق الطبيعي سمة من سمات الكائن العاقل فقط، ولا يعني الكائنات الحية والبيئة الطبيعية المحيطة بالإنسان؛ لأن الحق الطبيعي هو بمثابة قاعدة ونظام لجماعة إنسانية، وهو يعتمد على العقل والحرية وفي الإنسان المخلوق العاقل فإن الخضوع للناموس الأبدي هو اشتراك إيجابي في العناية الإلهية، وبالتالي كما يقول توما الأكويني في معرض حديثه عن الحق الطبيعي فالإنسان المخلوق على صورة الله، والمسلط على العالم هو عناية لنفسه وللآخرين على صورة العناية الإلهية.

تطور القانون الطبيعي في أوروبا الوسطى

لم تتوقف فكرة القانون الطبيعي عند حدود ما قال به توما الأكويني فقط؛ ذلك أنه مع سيطرة الكنيسة الكاثوليكية على مقدرات العصور الوسطى اصطبغت فكْرتا الدولة والقانون بالطابع الديني، فالدولة والقانون ليس سوى تعبير مباشر عن إرادة الخالق.

وقد ظهر أثناء الانتقال من العصر الإقطاعي إلى عصر الرأسمالية الناشئة، وفي خضم هذا الصراع بين أنصار الكنيسة وأنصار استقلال الدولة اتجاه جديد يمكن اعتباره اتجاها ثوريا بالنسبة لأفكار ذلك العصر؛ حيث يدعو إلى تطوير نظرية القانون الطبيعي من ناحية إخفاء الطابع العلماني للدولة، ويؤكد من ناحية أخرى حقوق الفرد في مواجهة الدولة ذاتها، وقد تبنت هذه الأفكار الجديدة الطبقة البرجوازية التي أمسكت بزمام النظام الرأسمالي الوليد في مطلع القرن السابع عشر، ونزولا على هذا المعنى الجديد تطورت فكرة القانون الطبيعي في اتجاهين رئيسين:

 

- الاتجاه الأول: يبرز الطابع العقلي لفكرة القانون الطبيعي مع التركيز على تجريد الفكرة من صيغتها الدينية السابقة، فالعقل هو مصدر ذلك القانون، وأي إنسان -أيا كانت ديانته- يستطيع بحكم خصوبة عقله أن يهتدي إلى قواعده التي تختلف من زمان إلى زمان ومن مكان إلى آخر.

- الاتجاه الثاني: يمثل تطويرا لفكرة العقد الاجتماعي كمحدد لسلطة الدولة في مواجهة مواطنيها؛ حيث يولد الأفراد متمتعين بحقوق طبيعية، والدولة هي مؤسسة تستهدف بصفة أساسية حماية تلك الحقوق.

ويفترض فقهاء هذا العقد أن انتقال الأفراد من حالة الطبيعية البدائية غير المنظمة إلى حالة الدولة قد تم بمقتضى اتفاق تنازل الأفراد عن جزء من حقوقهم في مقابل أن تضمن لهم الدولة التمتع الحر والكامل بحقوقهم الأخرى، ويترتب على ذلك أن تصبح الدولة من خلق إرادة الأفراد، ويصبح لهم الحق في تعديل نظامها بما يتفق مع مصالحهم.

وكان من أبرز الفلاسفة الذين طوروا فكرة القانون الطبيعي في العصر الحديث جورجيوس وتوماس هوبز وجون لوك وجان جاك روسو.

ولاحقا تطورت الاتجاهات الديمقراطية في مدرسة القانون الطبيعي تطورا مهما بقيام الثورة الفرنسية، فقد قامت هذه الثورة تحت شعار الدفاع عن الحريات والحقوق، وقد صيغ هذا الشعار بطريقة واضحة في شكل إعلان لحقوق الإنسان سنة 1789م والصادر عن الجمعية التأسيسية الفرنسية: �إن غاية كل مجتمع سياسي هي المحافظة على حقوق الإنسان الطبيعية التي لا تزول، وهذه الحقوق هي الحرية، والملكية، والأمن، ومقاومة الظلم�.

كما أن الحرية -بناء على مفهوم الثورة الفرنسية- تتضمن القدرة على إتيان كل ما لا يضر بالغير، ولذلك فإن ممارسة الحقوق الطبيعية لكل إنسان ليس لها من حدود سوى تلك التي تؤمِّن لأفراد المجتمع الآخرين التمتع بالحقوق ذاتها، وبذلك تكون الثورة الفرنسية قد دعمت نظرية الحقوق الطبيعية، ودفعت بها إلى جهة بناء المذهب الفردي الذي ازدهر في القرن التاسع عشر.

عودة فكرة القانون الطبيعي من جديد:

بعد أن انقضت العصور الوسطى وزال عهد الإقطاع، وبدأت تتكون الدول الحديثة ظهر مبدأ سيادة الدولة الذي أطاح بالسطوة الفكرية والذهنية للكنيسة، وقد قام فريق من الكتّاب والفلاسفة في القرن السادس عشر بالدعوة لهذا المبدأ ومناصرته، ومن أشهرهم �ميكيافيلي في إيطاليا وبودان في فرنسا، فميكيافلي من خلال كتابه �الأمير� أعطى للحاكم كل الوسائل لدعم سلطته �الغاية تبرر الوسيلة�، أما بودان فكان يدعو إلى سيادة مطلقة، وفي سبيل ذلك أحلّ لصاحب السلطان أن يتحلل من القوانين التي يفرضها على رعاياه، فالحاكم فوق القانون، وقد نتج عن المغالاة في تصوير فكرة سيادة الدولة اختفاء فكرة القانون الطبيعي خلال القرن السادس عشر، وطغت سلطة الدولة على حقوق الأفراد وحرياتهم في الداخل، وسادت القوة في تنظيم علاقاتها مع الدول الأخرى في الخارج.

وقد أدى هذا إلى الحاجة مرة أخرى إلى فكرة القانون الطبيعي، وقد ازدهر هذا الأخير في القرنين السابع والثامن عشر بسبب تحرر الدول الأوروبية من هيمنة الكنيسة، ودعا الفقهاء آنذاك إلى وضع قوانين تصون حقوق الأفراد وحرياتهم بعيدا عن استبداد الحكام، وكذا إخضاع المجتمع الدولي لقواعد أساسها العدل والمساواة.

وكان الرائد آنذاك الفقيه الهولندي �جروسيوس� الذي أصدر كتابا عن الحرب والسلم بعنوان �قانون الحرب� سنة 1625م، حيث عرّف فيه القانون الطبيعي بأنه �القواعد التي يوحى بها العقل القويم، والتي بمقتضاها يمكن الحكم بأن عملا ما يعتدُّ ظُلْمْاً أو عدلا تبعا لكونه مخالفا أو موافقا لمنطق العقل، وهو وليد العقل ووليد الطبيعة، يكسب منها صفة الوحدة والثبات والخلود، فلا يتغير بتغير الزمان أو المكان؛ لأن القانون الطبيعي قانون مستخلص من الطبيعة؛ ومن العقل ليسبق القوانين الوضعية ويعلو عليها، ومن ثمة فالعقل يفرض وجود حقوق لصيقة بالإنسان تولد معه، فهذه الحقوق هي مبدأ أساسي من مبادئ القانون الطبيعي، لا تستطيع القوانين الوضعية أن تتجاهله، ومع ذلك لم يتحرر هذا الفقيه -حينما أقر الفتح والغزو ونظام الرق- من تأثير عصره والحرية في رأيه -وإن كانت من أهم الحقوق- يمكن النزول عنها بموجب معاهدة أو عقد كما يمكن فقدانها نتيجة الهزيمة في الحرب أو الوقوع في الأسر.

انتقادات موجهة لمبادئ القانون الطبيعي:

وكشأن كافة القضايا التي تتقاطع فيها النسبيات بالمطلقات كان ولابد أن يخضع طرح القانون الطبيعي للنقد، فطوال القرن التاسع عشر تعرض لهجوم عنيف شكك في صحة فحواه، وكان في مقدمة مهاجمي مذهب القانون الطبيعي أصحاب المذهب التاريخي الذين استندوا في حججهم على الواقعية، ومن هذه الانتقادات ما يلي:

- أن القول بفكرة الخلود والثبات -التي يتميز بها القانون الطبيعي في منطق أنصاره- هو قول غير صحيح يكذبه الواقع، وينفيه التاريخ، فالقانون وليد البيئة الاجتماعية وحدها، وهي متغيره في الزمان والمكان، فمن غير المعقول أن يثبت القانون على حال واحدة.

- أما القول بأن العقل البشري هو الذي يكشف عن قواعد القانون الطبيعي فإن ما يترتب عليه هو اختلاف هذه القواعد باختلاف الأشخاص الذين يستخلصونها بعقولهم، ومن ثمة تختلف قاعدة القانون الطبيعي من شخص إلى آخر في مسألة واحدة.

- فيما يخص النزعة الفردية التي ألزمت مذهب القانون الطبيعي طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر، والتي تأكدت في عهد الثورة الفرنسية، ووجدت طريقها إلى معظم نصوص �تقنين نابليون�، وكذا إعلان حقوق الإنسان الذي أبرز ودعم هذه النزعة التي ترى بأن المجتمع يعمل على كفالة يتمتع بها دون أن ينقص منها أو يقيدها.

هذا الاتجاه النقدي يذهب إلى أن القول بوجود قواعد ثابتة خالدة لا تتغير بتغير الزمان أو المكان لم يثبت من الناحية التاريخية، ورواد المدرسة التاريخية القانونية -مثل �سافني�- يرون أن القانون هو تعبير عن روح كل شعب وانعكاس لعبقريته الخاصة، ولا يجوز بالتالي أن نقيد قواعد القانون الوضعي في دولة معينة بمبادئ ثابتة خالدة بحجة أن تلك المبادئ تنتمي إلى القانون الطبيعي.

ويرى فريق ثالث أن مبادئ القانون الوضعي لا جدوى منها من الناحية العملية، فالتسليم بجدواها يقتضي ترتيب بعض النتائج التي تكفل لتلك المبادئ قدرا من الفعالية، فقد كان يتعين من ناحية أن نفرض على الدولة واجب احترام القانون الطبيعي، كما يجب من -ناحية أخرى- أن نعترف للأفراد بقدرة مخالفة القاعدة القانونية الوضعية إن خالفت قواعد القانون الطبيعي، وهنا نسجل أن التاريخ يثبت لنا أن أي مجتمع سواء أكان عربيا أم غربيا لم يتوصل إلى إقرار هاتين النتيجتين بطريقة محددة.

ويبقى الإشارة إلى أنه من بين المآخذ على نظرية القانون الطبيعي أن مبادئها اتخذت منطلقا للنزعة الفردية، وقد أدى ميلاد الفكر الاشتراكي الحديث إلى مهاجمة الفلسفة الفردية وبالتالي إلى مهاجمة نظرية القانون الطبيعي، فقد اتجه الفكر الاشتراكي إلى تغليب مصلحة الجماعة على المصلحة الخاصة لكل فرد من أفراد الجماعة.

في القانون الطبيعي ذي المضمون المتغير:

أدت الانتقادات الموجهة إلى مذهب القانون الطبيعي إلى إضعافه وكادت هذه الفكرة طوال تهجر القرن التاسع عشر، ولم تبعث من جديد إلا بعد بداية القرن العشرين ونهاية القرن التاسع، وفي سبيل إحياء القانون الطبيعي ظهر اتجاه القانون الطبيعي ذي المضمون المتغير بزعامة الفقيه الألماني �ستاملر�، وقوام هذه النظرية أن هناك إطارا ثابتا للقانون الطبيعي يتمثل في فكرة العدل الاجتماعي، وهذا إطار ثابت وخالد في الزمان والمكان؛ لأنه قائم في ضمير الإنسان منذ الأزل، أما مضمون هذا الإطار فهو الذي يختلف من مكان إلى مكان ومن زمان إلى آخر.

كان لابد إذن من تخلص القانون الطبيعي من الانتقادات والتناقض الموجه إلى قواعده، فكان من الفقيه �ستاملر� أن قام بالجمع بين الخلود والتطور في فكرة القانون الطبيعي فيما اسماه �القانون الطبيعي بالمضمون المتغير�، ومضمون هذه الفكرة أن جوهر القانون هو مثل أعلى للعدل خالد ومتغير في الوقت نفسه، فهو خالد في فكرته متغير في مضمونه.

وينبني على ما سبق أن نظرية القانون الطبيعي ذات المضمون المتغير قد حاولت التوفيق بين الخلود والعموم من ناحية وحقيقة التطور التاريخي من ناحية أخرى، يضاف إلى ذلك أن الإطار الثابت للعدل يتحدد وفقا لهذه النظرية الجديدة بمجموعة من المبادئ القليلة التي لا تصلح في حد ذاتها للتطبيق العملي، وإنما تقف فقط في دور الموجه العام التي يلتزم بها واضع القانون عند إعداد قواعده، ومن قبيل ذلك وجوب احترام حقوق الإنسان والمحافظة على أمنه، وتحقيق المساواة بين الأفراد.

وقد اعتنق هذه الفكرة الفقيه الفرنسي سالي، ويتمثل جوهر هذه النظرة الجديدة في أن فكرة العدل في ذاتها خالدة أبديه، وجدت في ضمير الإنسان على مر العصور، وستظل إلى الأبد، وهو أمر لا يتغير، وبهذا تعتبر فكرة العدل الإطار الثابت والدائم للقانون الطبيعي، أما الذي يتغير فهو مضمون هذا العدل وطريقه تحقيقه، فهو مرهون بظروف الحياة الاجتماعية التي تختلف من مكان إلى مكان ومن زمان إلى آخر.

القانون الطبيعي والتفاهم الإسلامي المسيحي:

ولعل أهم النقاط التي يمكن أن نختم بها هذه الرؤية التاريخية ما جاء به البروفيسور الأمريكي �رالف بريبانتي� -أستاذ كرسي ديوك الفخري في العلوم السياسية جامعة ديوك بولاية نورث كارولينا الأمريكية- عبر كتابه الشهير �الإسلام والغرب... تعاون أم صدام�؛ إذ يرى أن القانون الطبيعي هو -دون شك- مجال مشترك بين الإسلام والمسيحية رغم أن أصوله وتعريف ما تزال قضية جدلية في الغرب.

ويرى بريبانتي أنه لا يمكن توافر الحرية الإنسانية في نظام سياسي إذا كان معيار السلوك الأساسي لا يقوم على قوانين وضعها الإنسان دون التنكر لمبادئ نواميس الفطرة، وتزيد أهمية القوانين التي يبتدعها الإنسان ونواميس الفطرة إذا ما نظر إليها على أنها من أصل غيبي فإنها تلتقي عندئذ بالإسلام، فالقرآن الكريم هو الجامع لتلك النواميس، يليه المصدر الثاني �السنة الشاملة� وهو الحديث الشريف، ثم القياس والإجماع، والقرآن الكريم تليه هذه المصادر أساس التشريع الإسلامي.

والثابت انه يختلف المنظور الإسلامي عن الكاثوليكي من جهة الوحي كأصل لنواميس الفطرة، فالوصايا العشر والعهد القديم والعهد الجديد هي -في يقين المسيحيين- إلهام من الله للأنبياء والرسل والحواريين، أما المسلمون فيؤمنون بأن القران الكريم وحي من الله عن طريق الملَك جبريل، وهذا يعني مساواة العصمة في الوحي والتوازي في المصدر الإلهي، وهذا التوازي في الرأي بين المسلمين والكاثوليك على نحو خاص حري أن يثمر درجة من التعاون بين الإسلام والمسيحية في كل زمان ومكان.

وسوف تنعكس آثار هذا التعاون بدورها على الساحة السياسية، وسيكون من آثار ذلك أيضا تقدير أعمق لنواميس الفطرة من حيث قيمتها وحرمتها، وإذاً كما توفر المنطق السليم في النظر إلى الزمان والمكان فإن الناتج السياسي لذلك هو إضفاء قيم احترام أكبر للآخرين فضلا عن الأثر السياسي الأثقل وزنا... هل من عبارة نهائية؟

يناجي توما الأكويني ربه بالقول: �ربي امنحني -أرجوك-، إرادة تبحث عنك، وحكمة تجدك، وحياة ترضيك، ومثابرة تنتظرك بثقة، وثقة تصل في نهاية المطاف إلى امتلاكك�.

مراجع هذا البحث:

- الخلاصة اللاهوتية، توما الأكويني.

- الخلاصة ضد الأمم، توما الأكويني.

- محاضرات في الفلسفة، إبراهيم أبو النجا.

- الوجيز في فلسفة القانون، فاضلي إدريس.

- الإسلام والغرب تعاون أم صدام، رالف بريبانتي.

- حياة ولاهوت القديس توما الأكويني، يوحنا بيداويد.

- وكالة آكي الكاثوليكية للأنباء.

- إذاعة الفاتيكان، القسم العربي.

المصدر: http://tasamoh.om/index.php/nums/view/34/758

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك