مراعاة المصالح في المذاهب الفقهية الإسلامية

نور الدين الخادمي

مفردات هذا البحث هي:

1�� 1)�مقولة المصالح ومدلولها في نصوص الشرع وكلام العلماء.

2�� 2) المذاهب الفقهية الإسلامية.

ويتفرع عن هذا أو يتشابك معه قضايا أُخر، تعنى أساساً بتحقيق القول في هذه المصالح وتلبسها بالمذاهب في العصر الحالي وفي اللحظة الراهنة؛ وهو الأمر الذي يحيلنا إلى التعليق على مقولة المصالح المعاصرة، ومقولة المذاهب الفقهية المعاصرة، والجدلية القائمة بينهما، تنظيراً وتنزيلاً. ونهدف من ذلك كله إلى التوعية بأهمية الأداء المذهبي المعاصر, وأثره في الفعل الشرعي الإيجابي وفي الإسهام الوطني والعالمي، على صعيد التعبد والإنتاج والتحضر، وعلى مستوى مختلف الفروض والتكاليف العينية والكفائية, ونؤكد في الوقت ذاته عظمة مراعاة المصالح لهذا الأداء الفقهي، باعتبار كون تلك المصالح حقيقة راسخة في نصوص الشرع، وسنة من سنن الله تعالى، وقاعدة من قواعد الدين وشرطا من شروط الاجتهاد، ومعنى مستخلصا ومنضبطا ومطردا ومتوازنا بطريق الاستقراء والاستخلاص، وبسائر طرق الاعتبار الشرعي والتأصيل الديني والعقلي والإنساني.

والأمل في الله ـ عزَّ وجلَّ ـ أن يقيض لأمتنا وعالمنا من يقوم بفقهنا المذهبي الإسلامي أحسن قيام، تكليفا وتشريفا، وأن يجعل على رأس زماننا من يجدد ويحقق ويدفع وينفع, إنه سميع مجيب, والحمد لله رب العالمين.

المبحث الأول:

 

مقولة المصالح ومدلولها

 

تُعد المصالح إحدى المقولات الإسلامية التي احتفت بها نصوص الشرع الحنيف وكلام أهل العلم من الدارسين والمحققين.

 

مقولة المصالح في نصوص الشرع:

 

احتفت نصوص الشرع بصيغ مختلفة من حيث التصريح والإشارة والتضمين بمقولة المصالح وحقيقتها ومدلولها وغير ذلك, ومن ذلك، قوله تعالى: ﴿والله يعلم المفسد من المصلح﴾(البقرة:220)، وقوله تعالى: ﴿والله لا يحب الفساد﴾(البقرة:205) (1). والاحتفاء البالغ بالمصالح تعددت مستوياته في الخطاب الشرعي والأداء الإسلامي عبر عصوره وصوره, وهو المعبر عنه بأدوات وصيغ وكيفيات تقرير المصالح في الأنظار والأذهان، وفي الحوادث والأعيان, وهذا الذي درج العلماء على اعتباره طريقا لبيان المصالح وبيان مراتبها وحجيتها وأثرها في فهم الأحكام واستنباطها وتنزيلها.

 

ومن هذا القبيل: النصوص الصريحة في دلالتها على مراعاة المصالح، كما جاء في النصين القرآنيين السابقين، فقد كان الأول صريحا في التفريق بين المفسد والمصلح في الحقيقة والحكم والأثر، وكان الثاني صريحا في كراهية الفساد، وكان صريحا خفيا في محبة الصلاح بطريق التقابل والمواجهة.

 

ودون ذلك صراحة: ما نجده مبثوثا في نصوص شرعية قد أشارت ونبهت على المصالح والمنافع، أو تضمنت أحكاما نيطت بمصالحها ونفعها، أو قررت بمجموعها وبطريق استقرائها أجناسا من المصالح أو أعيانا منها(2)؛ بحسب مستويات ذلك الاستقراء وجزئياته المستقراة، وصلاتها بغيره من الأدلة والقرائن والملابسات.

 

ومما يزيد تأكيد هذا الاحتفاء الكبير بالمصالح في نصوص الشرع ما أقرته السُّنة الشريفة من تعضيد وإسناد وتفصيل وتفسير لنصوص القرآن المتناولة للمصالح(3)، فتكوّن من مجموع النصوص القرآنية والنبوية قيام مقولة المصالح ورسوخها ودوام استصحابها وتقرر انضباطها واطرادها؛ بموجب التأسيس والتعميد من قبل هذه النصوص المباركة المجيدة.

 

مقولة المصالح في كلام العلماء

 

كان احتفاء كلام العلماء بمقولة المصالح قد تفاوتت أقداره واعتباراته، واختلفت عباراته وسياقاته، وتنوعت مجالاته وجواباته, وهو في كل أحواله دالّ على التفات غير يسير لهذه المقولة، نظرا وفكرا، أداء وعملا، تأصيلا وتفريعا، تصنيفا وتأليفا، توجيها وتنويها.

 

وشواهد هذا الاحتفاء كثيرة ومتداخلة ومتوافقة ومتقاربة. ويمكن ردها إلى خمسة:

 

الشاهد الأول: نصوص أهل العلم الصريحة في مراعاة المصالحوالالتفات إليها والتعويل عليها, والأقوال والمرويات في ذلك كثيرة جدا، منها: ما روي عن الإمام مالك من أنه لم يلتزم الالتفات إلى المعاني في قسم العبادات �بخلاف قسم العادات الذي هو جارٍ على المعنى المناسب الظاهر للعقول, فإنه استرسل فيه استرسال المدلّ العريف في فهم المعاني المصلحية، نعم مع مراعاة مقصود الشارع ألاّ يخرج عنه، ولا يناقض أصلا من أصوله�(4). وما روي عن الإمام إبراهيم النخعي من أنه يرى أن أحكام الشرع معقولة المعنى مشتملة على مصالح راجعة إلى الأمة، وأنها بنيت على أصول محكمة وعلل ضابطة لتلك الحِكم, فهمت من الكتاب والسنة, وشرعت لأجلها؛ لينتظم بها أمر الحياة، فكان يجتهد في معرفتها ويدير الحكم لأجلها حيثما دارت، وأن العقل يمكن أن يدركها ويدرك حسنها وقبح ضدها؛ لأن الشرع أرشد إليها لا أن العقل له استقلال في ذلك... فأحكام الله لها غايات أي حِكم ومصالح راجعة إلينا(5). وما قالهالبيضاوي: �المقصد من الشرائع رعاية المصالح�(6)، وما قالهالسرخسي: �إن الشرع جوز لنا الإقدام على المباحات لقصد تحصيل المنفعة�(7).

 

الشاهد الثاني: أصول المذاهب الفقهية واتجاهاتها في فهم الأحكام وتفسير النصوص وفي الاجتهاد والإفتاء والقضاء، فمن هذه الأصول: أصل المصلحة الشرعية بكل متعلقاتها الأصولية والمنهجية الاستحسانية والقياسية والعرفية والذرائعية, وقد ذهب الشافعي ـ رضي الله عنه ـ إلى أن التمسك بالمصالح المستندة إلى كلي الشرع -وإن لم تكن مستندة إلى الجزئيات الخاصة المعينة- جائز(8).

 

وقد ذكر الغزالي أن الواقع في المناسبات في رتبة الضروريات أو الحاجيات... فالذي نراه فيها: أنه يجوز الاستمساك بها إن كان ملائما لتصرفات الشرع, ولا يجوز الاستمساك بها إن كان غريبا لا يلائم القواعد(9), كما ذكر بأن كل معنى مناسب للحكم، مطرد في أحكام الشرع، لا يرده أصل مقطوع به مقدم عليه، من كتاب أو سنة أو إجماع، فهو مقبول به وإن لم يشهد له أصل معيّن(10).

 

�وما ذُكر من أن الوقائع الجزئية غير متناهية والأصول الجزئية متناهية، والمتناهي لا يفي بغير المتناهي، �فلا بد إذن من طريق آخر، يتوصل بها إلى إثبات الأحكام الجزئية، وهي التمسك بالمصالح المستندة إلى أوضاع الشرع، ومقاصده على نحو كلي، وإن لم يستند إلى أصل جزئي�(11). ونقل عن ابن برهان قوله: �إن كانت المصلحة ملائمة لأصل كلي من أصول الشرع، أو لأصل جزئي جاز بناء الأحكام، وإلا فلا, نسبه ابن برهان في الوجيز إلى الشافعي، وقال: إنه الحق المختار، ومثّل له بقوله في المطلقة الرجعية: إنه لا يحل وطؤها؛ لأن العدة شرعت لبراءة الرحم، والوطء سبب الشغل، فلو جوزناه في العدة لاجتمع الضدان, فليس لهذا الأصل جزئي، وإنما أصلي كلي مهدر، وهو أن �الضدين لا يجتمعان�(12).

 

الشاهد الثالث: فروع المذاهب الفقهية والتي أقيمت طوائف عظمى منها على مراعاة المصلحة المباشرة, مع التفاوت الملحوظ في الأوجه المصلحية والنواحي المنفعية التي استند إليها في تقرير تلك الفروع, ومن ذلك: مثال العدة الذي مر ذكره, وقد ذكر الغزالي أن الشافعي يقول بأن العِدّة لبراءة الرحم، والوطء للشغل، فهو مناقض المقصود من العدة, فهذا المعنى مرسل، لا حاجة فيه إلى الاستشهاد بأصل معين؛ لأن أصول الشرع على إجمالها تشهد له(13).

 

الشاهد الرابع: قيام المذاهب الفقهية ذاتها، واستمرارها في العالم الإسلامي وفي الواقع القضائي والإفتائي والحياتي بوجه عام, فقيام هذه المذاهب دليل جلي على مقوماتها التشريعية والمنهجية التي تمثل المصلحة الشرعية المقبولة أحد أبرز قواعدها ومستنداتها، فلو كانت هذه المذاهب تجافي مصالح الناس وتعارض ضرورياتهم وحاجياتهم وتحسينياتهم لما كتب لها البقاء والاستمرار, ولذلك نعتت هذه المذاهب باعتدادها بالمصالح رغم تفاوتها في ذلك، فقد ذُكر أن مذهب الحنفية أوسع المذاهب وأكثرها تسامحا على وجه الإجمال, وأيسرها للمجتهد الماهر استنباطا؛ لانبنائه على الفلسفة والنظر لحِكم الأحكام والعلل؛ لاسيما في المعاملات التي القصد منها مصالح الخلق، وعمارة الكون. فالحنفي أحوج إلى النقل والأثر؛ إذ من قواعد مذهبه الأخذ بالقياس والتوسع فيه في غير الحدود والكفارات والتقديرات الشرعية(14), كما نعتت سائر المذاهب المعروفة بالاعتماد على المصالح والمنافع، بما في ذلك مذهب الظاهرية الذي عول على المصالح المنصوص أو المجمع عليها، وأعمل الأصول التي لها اتصالها بالمصالح، كأصل الإجماع والاستصحاب(15).

 

الشاهد الخامس: تأثير مذاهبهم الفقهية في الواقع الاجتماعي والمحيط الإنساني والإداري والدولي، من خلال أدوار هذه المذاهب في التقنين والسياسة والتثقيف والتوعية والإسهام الحضاري بمختلف جوانبه وصوره, ونحن هنا نسجل مركزية المذاهب في إحداث كثير من النهوض والتنمية والازدهار بموجب مراتب الوعي الدقيق والأداء الجيد لمدلولات المذهب الفقهي ورسالته وآثاره.

 

الشاهد السادس: مسايرة المذاهب الفقهية لمتطلبات الواقع المعاصر، دون انفلات أو انبتات؛ سواء على صعيد قيام المؤسسات والهياكل المذهبية المعاصرة، أو على صعيد تقديم المقاربات الاجتهادية والإفتائية والشرعية في مختلف البلدان الغربية والشرقية ولمختلف قضايا المعاصرة والعولمة والمواطنة والمعايشة والمحاورة, ويُعد هذا الأداء المذهبي الفقهي المعاصر إحدى الأمارات الدالة على مراعاة المصالح واستصحابها في هذا الأداء.

 

والخلاصة أن مقولة المصالح قد لازمت أهل العلم، أو أن أهل العلم قد لازموا مقولة المصالح في مختلف أعمالهم العلمية وأدائهم الوظيفي، في الإفتاء والاجتهاد والقضاء، وفي الخطابة والمداخلة والمجالسة، وفي العلاقة بالسلطة السياسية والمجتمع المدني والعالم الخارجي، فضلا عن واجب التعبد الخاص وإقامة فروض العين.

 

المبحث الثاني:

 

مقولة المذاهب الفقهية الإسلامية

 

المذاهب الفقهية الإسلامية كلمة اصطلاحية يُراد بها مجموع فروع وأصول وقواعد واصطلاحات فقهية لطائفة من طبقات العلماء مؤسسين وأصحابا وأنصارا وأتباعا، كما يُراد بها مجموع اتجاهات في الفهم والتفسير والاجتهاد والتنزيل، تمثل ما يمكن أن نصطلح عليه بالمدارس الفقهية، مع التفاوت الملحوظ في أحجام هذه المدارس ومعالمها وسيرورتها التاريخية ومنجزاتها الحضارية ومختلف مآلاتها ومصائرها.

 

وقد عرف تاريخنا الفقهي الإسلامي عددا من المذاهب الفقهية التي تفاوتت فيما يتصل بتدوين معارفها ومضامينها، واستمرار وجودها ونشاطها، واتساع دوائر نفوذها وتأثيرها. وكان من هذه المذاهب المذاهب الفقهية الأربعة، وكذلك مذاهب الظاهرية والإباضية والزيدية والجعفرية، ودون أن ننسى مذاهب بعض الأئمة الأعلام الذين لم يُكتب لفقههم الطابع المذهبي الذي يقوم به التلاميذ والأنصار تدوينا وتحقيقا، تعليما ونشرا، دفاعا وانتصارا ومن ذلك: فقه الإمام الأوزاعي, والليث بن سعد, وسفيان بن عيينة.

 

وتتأسس هذه المذاهب الفقهية على المرجعية الإسلامية النصية والإجماعية والاجتهادية، مع ملاحظة التفاوت الحاصل في اصطلاحات هذه المرجعية, وتنوع أصولها, وثراء قواعدها, ومجموع مداركها المتعددة والمتداخلة، وهو الأمر الذي حمل أهل العلم على تفصيل هذه المرجعية وتفكيكها إلى عناصر يُفهم منها طبيعة المذهب, ومعلمه العام, وتوجهه الأكبر في الاستنباط من الأصول والأدلة والاجتهاد في الوقائع والنوازل. ولذلك يُقال بأن هذه المذاهب تعود إلى الكتاب والسنة والإجماع، وأنها تستند إلى القياس والاستحسان والاستصحاب، وأنها تلتفت إلى العرف والواقع والحال، وأنها تجمع بين الجزئيات لتقرير الكليات بطريق الاستقراء، وأنها تراعي الأوليات والمناسبات، وتقيم المقاربات والمقارنات، وأنها تراعي مقاصد الشرع, ومصالح الخلق, ومراد الآمر الناهي سبحانه.

 

والتفاوت الحاصل في الاستناد إلى المرجعية يتحدد في ضوء تفاوت هذه المذاهب في مقادير واصطلاحات وتداخلات هذه المرجعية وتفاصيلها، فأحيانا يتسم مذهب ما بكثرة الرجوع إلى النصوص والآثار والأقوال والاستصحاب؛ ولذلك يتسم بكونه مذهبا نصيا أو سلفيا أو نقليا، وأحيانا أخرى يتسم مذهب آخر بكثرة إجراء النظر والفكر والتعليل والقياس والاستصلاح؛ فيُقال بأنه مذهب الرأي والنظر والاجتهاد المصلحي والمقاصدي.

 

والحق أن هذه التسميات إنما ترد على سبيل التغليب والتوصيف الذي لا ينبغي أن يُفهم منه الإفراط والمبالغة فيما نُعت به المذهب ونسب إليه، والتفريط فيما لم يُنسب إليه ولم يُنعت به، فأهل النقل -وإن كان حظهم الغالب مراجعة النصوص والنقول وتحكيمها- غير غافلين عن التعليل والاستصلاح والتقصيد، وكذلك أهل النظر والرأي؛ فإنهم مستندون إلى النصوص والإجماعات والمرويات، وإن كان مجمل مذهبهم وظاهره التعويل على الأقيسة والمصالح والمقاصد.

 

وهذا ينطبق على المدارس الفقهية التاريخية، كمدرسة المدينة المنورة (مدرسة الحديث، أو مدرسة النقل...)، وكمدرسة العراق (مدرسة الرأي والنظر...)، وكغيرها من المدارس الأخرى القديمة(16) والحديثة(17)، والتي تفاوتت سماتها الاجتهادية ومعالمها الاستدلالية لتفاوت أنظار علمائها وظروفها التاريخية وبيئاتها الاجتماعية والإنسانية والحضارية.

 

وتُعد المصالح الشرعية إحدى الأسس والقواعد التي تستند إليها المذاهب الفقهية الإسلامية قديما وحديثا، ولذلك ظلت هذه المصالح إحدى الأصول المرجعية التي تقيم عليها هذه المذاهب منهج فهمها وتفسيرها للنصوص، وطريق اجتهادها في الحوادث والنوازل، وسبيل تفاعلها مع الواقع, ورسم مقارباتها, وحلولها لمستجداته وتطوراته.

 

ولكن هذا الاستناد إلى المصالح من قبل المذاهب الفقهية قد تفاوتت شواهده ومؤيداته، واختلفت عباراته وسياقاته، وتداخلت عناصره ومحتوياته, وهو الأمر الذي يتوقف القول فيه على الاستقراء اللازم والاستفراغ غير اليسير؛ ولكن يكفي أن نشير في هذا المقام إلى حضور المصالح في هذه المذاهب واستحضار الأعلام والفقهاء لها، في مواضع عدة ومظان شتى, وهو الذي يمكن أن نطلق عليه �جدلية المصالح والمذاهب الفقهية�.

 

المبحث3: جدلية المصالح والمذاهب الفقهية الإسلامية

 

بين المصالح والمذاهب الفقهية تلازم مطرد، مع ما ذكرناه من وجود التفاوت في مقادير ذلك ومستوياته, وهذا التلازم تحتمه طبيعة هذه المذاهب وأعمالها ومظاهر ذلك وشواهده, وفي مشهد المذاهب الفقهية نلاحظ حضور المصالح والبناء عليها والاجتهاد على وفقها، بشروط ذلك وكيفيته المنضبطة السوية, ويكفيني في هذا المقام الإشارة إلى بعض الشواهد الدالة على ذلك باختصار شديد:

 

- تصريحات أصحاب المذاهب باعتماد المصالح، سواء باعتبارها كلمة تجري على ألسنتهم، أو باعتبارها أصلا من أصول الاستنباطتنوعت عباراته (المصلحة المرسلة، الاستصلاح، الإجماع المبني على المصلحة، الاستحسان المبني على المصلحة، قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد، وقاعدة تصرف الراعي على الرعية منوط بالمصلحة)،أو باعتبارها تفاصيل حِكم وأسرار وتعليلات مصلحية نيطت بفتاواها وأحكامها المتعلقة بمسائلها وحوادثها، أو باعتبارها حقيقة شرعية كلية وقطعية تسري في نظام الشرع وقانون الخلق.

 

- مشروعية هذه المذاهب وطبيعة محتوياتها الشرعية؛ فهي تعتمد على النصوص والأحكام الشرعية ومجمل قرائن ذلك ودلالاته؛ مما يقرر أصالة المصالح فيها، بناء على أصالة هذه النصوص والأحكام فيها؛ إذ اعتماد هذه المذاهب على هذه النصوص والأحكام إنما هو اعتماد على ما تضمنته من مصالح ومنافع، وما دلت عليه من فوائد وآثار سيتقرر خيرها بالنسبة إلى الناس.

 

- مشروعية هذه المذاهب وطبيعة اتصالها بالواقع والحياة؛ الأمر الذي يدل على التفاتها إلى مصالح الناس ومراعاة واقعهم وسد حاجياتهم، فلو كانت تجافي ذلك لآلت إلى الانكماش, وربما إلى الاندثار بسبب ذلك كله, وهو ما يبرز طابعها التجديدي والإحيائي المبني على مراعاة المصالح الإنسانية والمذهبية باعتبارها أحد ركائز النظر والتفسير والاجتهاد والتنزيل.

 

وبناء عليه، يمكن تقرير كون المصالح الشرعية أمرا مركوزا في هذه المذاهب الفقهية، وجزءا أساسا في الزاد المعرفي لأعلام المذاهب وأصحابها، وسمة من سمات ملكاتهم الاجتهادية النظرية والعملية على السواء. وخلاف ذلك محمول على ضرورة تحقيقه وتحريره؛ بغية رفع اللبس أو دفع الإشكال أو إزالة التعارض ودرء الخلاف اللفظي أو النزاع العارض؛ إذ مراعاة المصالح معدودة من المسائل المتفق عليها –من حيث الجملة- لدى مذاهب الفقه ومدارسه، ومعدودة -كذلك- من المسائل التي يُلاحظ في تفاصيلها الوفاق العام وكثير من الوفاق الخاص، مع تسجيل التفاوت في المقادير والأمثلة وجلاء التعبير والأداء الاصطلاحي والاستعمالي, ومجموع ما يؤول إليه ذلك من آثار وثمار.

 

مراعاة المصالح في المذاهب الفقهية المعاصرة

 

إن المذاهب الفقهية المعاصرة هي امتداد للمذاهب الفقهية القديمة, وتواصل لوجودها ومهامها وأدوارها على صعيد التفقيه والإفتاء والاجتهاد، وتقرير التدين والالتزام الشرعي في نفوس الناس، وترسيخ قيم الدين ومعالمه ومظاهره في الواقع والحياة.

 

ومن هنا، تتقرر رعاية المصالح عند هذه المذاهب المعاصرة؛ بل ربما تزداد الصيغ التعبيرية والعملية الدالة على تلك الرعاية، كازدياد الأقوال المفصلة والبيانات المسهبة والتطبيقات الكثيرة المستندة إلى إعمال المصالح ومراعاتها في كل ذلك.

 

ويمكنني في هذا المقام إيراد مستويين اثنين بارزين لرعاية المصالح الشرعية من قِبل المذاهب الفقهية المعاصرة، وهما:

 

المستوى الأول: الأداء الوظيفي الفقهي: وهو المعروف بوظيفة المذاهب الفقهية على صعيد التفقيه وبيان الأحكام الفقهية والاجتهاد في النوازل وتقديم الفتاوى والقرارات والحلول الفقهية. ومن ذلك: بيان أحكام عبادات المسلم المعاصر ومعاملاته وأحواله الأسرية والاجتماعية، كأحكام صلاته في الطائرة, وطوافه بالمطاف العلوي, وطعامه في الغرب, وتناوله لما ذبح بالسكين الآلي والتدويخ الكهربائي، وكأحكام بيعه وشرائه وزواجه عن طريق وسائل الاتصال الحديثة (الفاكس، الإنترنت، التلفون...)، وكأحكام توثيق عقد زواجه وتسجيله بالدوائر الرسمية وآثار ذلك، وأحكام نشاطه السياسي والمدني في بلاد غير المسلمين، وإسهامه في حضارة هؤلاء وتقوية اقتصادياتهم ومالياتهم وبنيتهم المادية والتقنية والعسكرية...

 

ولا شك أن هذا الأداء الوظيفي لدى المذاهب الفقهية المعاصرة بالخصوص معلوم مداه الاستصلاحي وحجمه الكبير في مراعاة المصالح والمقاصد؛ إذ شكلت هذه المصالح أحد أبرز الأسس والقواعد والأطر الشرعية المرجعية الأساسية في التصدي لكل المستجدات والنوازل تصورا وتكييفا وحكما وتوجيها. ويكفي كمثال على ذلك: توثيق عقد الزواج وتسجيله لدى الدوائر الحكومية الرسمية؛ إذ تقرر لزوم هذا التوثيق والتسجيل بناء على مصالح ذلك، كمصلحة حفظ النسب والعرض، ومصلحة الاستقرار الأسري والاجتماعي والحضاري، ومصلحة سد ذرائع الحيل والشبهات والمفاسد، وضمان الحقوق العامة والخاصة. وقد كان في القديم البعيد يُبرم العقد مشافهة وعلانية، ودون أن يُكتب في وثيقة العقد, أو يُسجل في دائرة المحكمة أو البلدية أو الوزارة؛ وذلك لعدم الحاجة إلى كل ذلك، فالنفوس في الأغلب الأعم لا تتجرأ على إنكار الحقيقة, ولا تتسارع إلى التبرم من الالتزام والانتظام، هذا فضلا عن جريان أعرافهم الخاصة والعامة على ذلك. أما حاضرنا القريب فذو تهارج شديد، والمسارعة فيه إلى الإنكار والتملص معلومة ومشؤومة، ولذلك لزم التوثيق باعتباره إجراء تدوينيا رسميا يحفظ الحقوق, ويدرأ المفاسد والأباطيل، ولزم التسجيل باعتباره إجراء تدوينيا رسميا إضافيا يدعم الإجراء الأول ويسنده، ويقوي جناب الحق, ويواجه فساد الزمان وفساد كثير من أهله.

 

المستوى الثاني: الأداء الوظيفي الإسلامي والإنساني بوجه عام:وهو المعروف بالوظيفة التي يمكن للمذاهب الفقهية القيام بها في الحياة الإسلامية والإنسانية بوجه عام، ودون أن تقتصر على الأداء الوظيفي الأول المنحصر في الداخل الإسلامي أولا، ودون أن يلامس الواقع الإنساني، أو المنحصر في دائرة أحكام العبادات والمعاملات والأسرة ثانيا, وهو ما يُلاحظ بشدة في الدور الوظيفي لهذه المذاهب على صعيد التقريب بين أهل المذاهب وتحقيق أقدار من الوحدة الإسلامية، وعلى صعيد المواطنة والتعايش الإسلامي وغير الإسلامي، وعلى صعيد إحداث التنمية الشاملة والمستدامة، وتحقيق الإسهام الحضاري والإعمار الأرضي والتحسين البيئي والأمن الغذائي والاقتصادي والمائي، وأمن المعلومات والسلع، فضلا عن أمن الأشخاص والمجتمعات، وتقرير الحرمات والحقوق الإنسانية، وترسيخ القيم الأخلاقية والفضائل النبيلة الأصيلة.

 

ومعلوم أن هذا الأداء شديد الصلة بقاعدة المصالح بمختلف تعبيراتها وفروعها ومفرداتها؛ إذ تشكل هذه المصالح أحد الأطر الشرعية المصدرية التي يُرجع إليها لتحقيق الدور المذهبي المعاصر في تحقيق ما ذكر قبل قليل، من التقريب بين أهل المذاهب، والمواطنة، والإسهام الحضاري...

 

ولذلك تتأكد الدعوة إلى قيام المذاهب الفقهية المعاصرة التي ستنهض بدورها الوظيفي الإسلامي والإنساني والحضاري، والتي سوف تنشر الرسالة الفقهية الإسلامية بِبُعدها الإنساني والحضاري، فضلا عن بُعدها الإفتائي والاجتهادي والتعليمي التفقهي.

 

ونحن نأمل من مذاهبنا الفقهية المعاصرة أن تعايش واقعها, وتشارك غيرها في صناعة القرار وإحداث الإعمار، وأن تقدم المقاربات الفقهية الواسعة والماتعة والشاسعة، وأن تحدث النقلة الحضارية والجودة التنموية والإضافة النوعية بكل مكوناتها وصورها وأبعادها.

 

تحقيق الحق من مقولة مراعاة المصالح في المذاهب الفقهية المعاصرة

 

إن جدلية المصالح والمذاهب الفقهية المعاصرة قائمة ولازمة؛ لقيام هذه المذاهب على مراعاة المصالح، وللزوم ارتباط هذه المصالح بهذه المذاهب, وربما يتقرر القول بأن لزوم ارتباط المصالح بالمذاهب أمر تتزايد دعواته, وتتعاظم مبرراته, وتتداخل معطياته؛ بالنظر إلى تزايد الحوادث وتسارعها وتشابكها، وإلى شدة الاتصال بالآخر الديني والحضاري والجغرافي، وإلى آثار ذلك وعواقبه المادية والمعنوية، النظرية والعملية، العاجلة والآجلة.

 

وأنا في هذا السياق حقيق علي أن أحرر كلا من عبارة المصلحة وعبارة المذاهب الفقهية المعاصرة، ولزوم ارتباط أحدهما بالآخر.

 

تحقيق الحق من مقولة المصالح

 

مقولة المصالح الشرعية حقيقة ثابتة في دين الله تعالى بطريق النص والإجماع والاستقراء, وهي مراد الله تعالى في الخلق والأمر, ومراده أن يعبدوه ويمتثلوا لأمره ونهيه، وأن تُجلب منافعهم في الدنيا والآخرة, وقد جاءت كلمات العلماء متقاربة في الدلالة على حقيقة المصالح ومضمونها؛ فقد ذكروا أن هذه المصالح هي مصالح الدارين، أو مصالح العاجل والآجل، أو أن هذه المصالح هي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. ثم إن هذه المصالح تتفاوت في مراتبها، فهناك المصالح الجزئية الفرعية، والمصالح الكلية والإجمالية.

 

كما أن هذه المصالح تتعارض أحيانا وتزاحم على الفعل الواحد والمحل، وهو ما يقرر لزوم إزالة هذا التعارض بالترجيح والاختيار وفق قواعد ذلك وأدواته ومسالكه.

 

وهذه المصالح –أيضا- تتسم بالثبات والظهور والانضباط والاطراد(18)، ولها حقيقة ذاتية لا يختلف فيها العقلاء والفقهاء، وإن كانوا يتفاوتون في مسالك تحصيلها وتنزيلها، تخريجا وتنقيحا وتحقيقا.

 

والخلاصة أن هذه المصالح تهدف إلى:

 

-����������� تقرير معنى العبودية في النفوس والواقع والحياة(19).

 

-����������� جلب منافع الناس ودرء الضرر عنهم في الدنيا والآخرة.

 

وكل هذا يحصل بمنهج الجمع والترجيح والتقريب والمقاربة وفعل الممكن وتقديم الأولى ومراعاة الحال وتقديم المناسب.

 

ومثال ذلك: مصلحة المواطنة حيث يقيم المسلم في غير مجتمعه العربي المسلم، فمن تفاصيل هذه المصلحة: حفظ دينه بموجب حقه في التدين والتعبير، وحفظ أسرته بمقتضى قوانين المواطنة والمعاقدة، وحفظ عقله بسبب تعلمه وتخصصه وخبرته المعرفية، والتي تكفلها قوانين البلد الذي يقيم فيه. وقد تكون هذه المنافع المتأتية بموجب رابطة المواطنة مشوبة ببعض الشبهات أو المحظورات، كشدة الابتلاء بالمخالطة والمجاورة، وعظم شيوع مظاهر المخالفة والمواجهة، وتزايد أحوال الاستفزاز والسخرية والتهوين أو التحريش، غير أن هذا كله موزون بميزان المقاربة الشرعية الإسلامية التي يُفعل فيها المستطاع الممكن، ويُجلب فيها الأولى والأهم، ويدرأ فيها الأخطر والأضر, وبهذه المقاربة يكون المسلم المواطن المقيم في تلك الربوع واقعا في دائرة التكليف المشروع الذي تُعمل فيه قواعده ونصوصه المعتبرة، كقواعد التكليف بما يُطاق، وسقوط الواجب عند العجز، وانتفاء الإثم عند الضرورة, هذا فضلا عن كون هذا المسلم واقعا في دائرة العبودية التي ينكسر فيها إلى ربه بالطاعة والتضرع والخوف والرجاء، تثبيتا على الإيمان والإسلام، وتحصيلا للسلامة في الدارين.

 

تحقيق الحق من مقولة المذاهب الفقهية المعاصرة

 

المذاهب الفقهية المعاصرة امتداد للمذاهب الفقهية المستقرة عبر تاريخ الإسلام وحضارته, ومن الناحية المعرفية هي تعبير عن مضمون الإسلام وأحكامه وتعاليمه وقواعده في الاجتهاد والتنزيل والتفعيل, ومن الناحية المنهجية هي صيغ عملية وأدوات في النظر والعمل وكيفيات لمعالجة الواقع ومشكلاته وتقديم الحلول الشرعية المناسبة له, ومن الناحية الحضارية والإنسانية هي سمة التطور وعلامة الإسهام البناء على صعيد التنمية البشرية المادية والروحية، وعلى مستوى التنمية الحياتية والعالمية بوجه عام. والخلاصة الجامعة أن هذه المذاهب المعاصرة هي إحدى حلقات المذهبية الإسلامية عبر أطوار تاريخها ومجالات عملها ومبررات وجودها وأغراض نشاطها, ومعنى هذا التقرير أن المذهبية المعاصرة تستلزم سنة المسايرة لعصرها ومواكبة متطلبات ذلك، دون أن تزيغ عن مضمونها الشرعي وثوابتها النصية والاجتهادية, وهذا التقرير هو المعنى الذي يمدها بالامتداد بالحلقات السابقة والتواصل والترابط مع سائر الحلقات اللاحقة؛ لتشكل السيرورة المذهبية الفقهية في أتم رسوخها وأصالتها وأحسن أدائها وأزهى نتاجها العقدي والتشريعي والأدبي.

 

وأبرز أسس هذا السيرورة الاعتبار بالمصالح الشرعية الموضوعة على وفق فطرة الناس وضرورياتهم وحاجياتهم وتحسينياتهم، وفي ضوء استواء أمرهم المعاشي وسلامة خلقهم الجسماني والروحي والعقلي، وقوام وضعهم الفردي والأسري والاجتماعي والإنساني عامة, ومما يقوي هذا الاعتبار بالمصالح كونه أداء نظريا وعمليا منضبطا ومطردا وموزونا بميزان الوسط والعدل والإحسان، وبمعيار الانتظام في صراط الله المستقيم وهديه القويم, وبرابط الحق والثبات عليه، وطرد الهوى والتشهي والتلاعب والتحايل.

 

الثابت في المذاهب الفقهية المعاصرة

 

هذا الثابت هو حقيقة الدين وأدلته وأحكامه وهديه ومقاصده, وما كان منها ثابتا لا يتغير بتغير الزمان والمكان والحال, ومعلوم أن المذاهب الفقهية المعتبرة هي أوعية معرفية ومنهجية وواقعية لتحقيق الدين في الواقع، وإدخال المكلفين في دائرته، وفقا لكيفية النظر والتنزيل المتعلقة بذلك، وبحسب وضع مقاربات ممكنة ومناسبة يتفاوت أهل التحقيق في تقريرها بحسب تفاوت ملكاتهم وبيئاتهم وأوضاع حياتهم.

 

ومن هذه الثوابت:

 

-����������� ما كان عائدا إلى الحقيقة المعرفية الدينية والمضمون الإسلامي العقدي والتشريعي والأخلاقي والحضاري, وهو ما يُعرف بالثوابت والقواطع في محل القطع، وبالظنيات في محل الظن، والمعلوم من الدين بالضرورة، وما يجوز إنكاره وإبطاله...

 

-����������� ما كان عائدا إلى الحقيقة المنهجية والعقلية، كضرورة النظر والاجتهاد، ولزوم تنزيل الأحكام وإقامة الوظائف الشرعية الكفائية، كإقامة المؤسسات التعليمية والإعلامية والقضائية والإفتائية, ومن ذلك: إقامة المذاهب الفقهية المعتبرة وسياسة المسلمين بها وتوجيه المكلفين بمقتضاها، وفقا لمتطلبات ذلك على مستوى العلم النافع والاجتهاد الصحيح والأدب الرفيع والاعتصام والتآلف والوحدة والتآخي.

 

-����������� ما كان عائدا إلى قواعد الاجتهاد وضوابطه وأدواته ومستلزماته، ومن ذلك: اعتماد قاعدة الاستصلاح، أو طلب المصلحة والاجتهاد في ضوئها بانضباط واتزان, وهذا معدود من ثوابت الدين وثوابت الاجتهاد وثوابت المذاهب الفقهية التي أقامت اتجاهاتها الفقهية على الدين والاجتهاد والاستصلاح باعتباره أحد محتويات هذا الدين وذاك الاجتهاد.

 

�ومذاهبنا الفقهية المعاصرة يلزمها الثبات على هذه الثوابت, والاستقرار عليها, واستصحابها في كافة مسيرتها وسرها؛ حتى لا تزيغ عن حقيقتها ومشروعيتها، وحتى لا تتحول إلى مذاهب الأهواء والمغالبة والجفاء والتنكر, ومن هنا يتعين ثباتها على حقيقة الدين ومبدأ الاجتهاد وقاعدة الاستصلاح المنضبط والمطرد, ومنهج المسايرة والمواكبة والمعالجة والمقاربة.

 

ومهما تتباعد هذه المذاهب, وتتوزع على أقطار الأرض, وتتشابك مع الآخر الديني والحضاري والثقافي؛ فإنها ملزمة باستصحاب ثوابتها التي تؤهلها للاستقرار وتمدها بالحيوية والتجدد، والتي منها إعمال النظر وإدامته، وتفعيل الاستصلاح وتحيينه؛ من أجل تحقيق أقدار عالية من المواكبة والمشاركة، وأحجام كبيرة من المصالحة والمسالمة والمسامحة والموافقة. وذلك بموجب رحابة الاجتهاد المنضبط وسعته ورحمته وإسهامه البناء.

 

المتغير في المذاهب الفقهية المعاصرة

 

من هذا المتغير: ما يتعلق بالاصطلاحات والتسميات، والجوانب المؤسسية والتنظيمية وآليات العمل وتفاصيله التي تُراعى فيها الظروف والوقائع والأنسب والأصلح، والإفادة من المنتجات التقنية والمنهجية والاتصالية والمعلوماتية، والاستئناس بالعلوم الوسائل ومعارف الواقع الإنساني والاجتماعي والنفسي على صعيد الإحصاء والاستبيان والاستنتاج، وتصوير الأوضاع وتحليلها ومقارناتها ومقارباته، وتقدير المشترك الإنساني وتشخيصه وتحيينه وإجراء عمليات الاجتهاد فيه وتحقيق مناطه العام والخاص. والخلاصة أن هذا المتغير إنما يشمل كل ما كان له تأثر بمعطيات الزمان والمكان والحال، وما يلزم رده إلى الثابت والمحكم؛ من أجل أن يكون حاكما عليه وموجها له، دون انبتات أو انفلات، ومن غير إفراط وإسراف.

 

والحق أن مذاهبنا الفقهية المعاصرة -ولاسيما التي تقوم في غير ديار الإسلام، كبلاد الغرب الأوروبي والعالم الأمريكي والصيني والأسترالي والياباني- يلزمها إقامة العمل المذهبي الفقهي وفق مشروعية المذهبية الفقهية ذاتها، والتي أقيمت في أطوارها التاريخية السابقة وفي بيئاتها المكانية المعلومة؛ لتكون خير إطار فقهي إسلامي يعالج مشكلات تلك البيئات، ويؤسس لفعل التدين والتفقه والتحضر وفق توجيه الإسلام ونصوصه وقواعده ومقاصده، وبحسب مقارباته واختياراته الممكنة والمناسبة، والتي تراعي الواقع والممكن والعرف، وتسعى قدر الإمكان إلى جلب ما يصلح لسكان تلك البيئات, وما يفيد حياتهم وتنميتهم وازدهارهم. ولذلك أطلق على فقه هذه المذاهب فقه البلدان أو فقه الأمصار، وأطلق على فقهاء هذه المذاهب فقهاء البلدان وفقهاء الأمصار، كفقهاء المصر العراقي, أو المصر الحجازي, أو الشامي أو اليمني... وكل هذا دليل على تلبس الفقه بالمصر الذي نزل به، وتعلقه بمكانه وزمانه وظروفه وهمومه، وسعيه لمواجهة مشكلاته ونوازله، وتقديم ما أمكن من الحلول والبدائل الإسلامية المبنية على هدي الدين ومجموع النصوص وعموم الأدلة الجزئية والكلية.

 

الثابت والمتغير في المصالح الشرعية

 

الثابت في المصالح الشرعية حقيقتها الثابتة بنصوصها وإجماعاتها الشرعية عن طريق الاستخلاص المباشر من هذه النصوص والإجماعات، وعن طريق الاستقراء الذي يفيد اليقين أو الظن الغالب حسب الجزئيات المستقراة وسائر المعلومات المستحضرة والمرعية. والثابت فيها –كذلك- انضباطها واطرادها وجريانها على ميزان الوسط والعدل والحق، ومجافاة الأهواء والأمزجة والحيل والذرائع، ومسايرتها للفطر السليمة والعقول السوية والمنافع الاضطرارية والحاجية والتحسينية الحقيقية، وقيام مناسباتها لأحكامها وفتاواها واختياراتها الاجتهادية الفقهية، وتوازنها عند تزاحمها وتعارضها.

 

�ومن الثابت في المصالح كذلك: بعض وسائلها الثابتة الموضوعة لتحقيقها، والتي ألزم الشرع بنوطها بها، كوسائل العبادات الثابتة التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان والحال، وكوسائل كثير من التفاصيل الأسرية والاجتماعية والإنسانية التي هي بمثابة المقدمات لنتائجها، ومن ذلك: التعبير عن الإرادة في عقد الزواج والبيع، فمبدأ التعبير ثابت كوسيلة لحلية المعقود عليه، أما أنواعه وصيغه فمتغير ومتنوع بحسب التطور والتبدل، ولذلك تراوحت صيغ التعاقد بين القول والفعل، والعبارة والإشارة، وتفاوتت دلالاتها وتداخلت تطبيقاتها، وكل ذلك مأذون فيه بضوابطه وتوجيهاته.

 

أما المتغير في المصالح الشرعية فوسائلها المتغيرة التي يُختار فيها الأفضل والأنسب؛ لتحقيق الأصلح والأنفع، كاختيار أفضل وسائل التنظيمات المدنية والاجتماعية والإدارية لتحقيق أقدار أعلى من الوفاق بين أفراد المجتمع, ومن التقدم الاقتصادي, والرفاه المادي, والنمو الروحي, والإضافة الإدارية والمؤسسية.

 

ومن المتغير –كذلك- تحقيق المناط في الواقع المعاصر، وتنزيل مدركات الشرع وقواعد المصالح على مشكلات هذا الواقع ونوازله، وهو الأمر الذي يستند فيه إلى الإلمام بتفاصيل هذا الواقع وكلياته وحيثياته وملابساته، وإلى استقراء ذلك وتقرير نتائجه والحكم عليه في ضوء ذلك كله, وإلى الاستعانة بعلوم العصر ومنتجاته المختلفة, وكل هذا محل تجديد وتفعيل وتطوير, وأقدار تغيراته كثيرة وعظيمة.

 

تحقيق الحق من جدلية المصالح والمذاهب الفقهية المعاصرة

 

هذه الجدلية هي ملازمة المصالح للمذاهب الفقهية المعاصرة، والعكس. ومفاد ذلك أن المصالح قاعدة هذه المذاهب ومناطها ومدارها، بمضمونها وضوابطها ووسائلها الشرعية، وأن المذاهب وعاء تقرير هذه المصالح وتفعيلها، سواء باعتبار المضمون الإسلامي لهذه المذاهب (الأحكام والفروع والمسائل والفتاوى والقرارات...)، أو باعتبار الجوانب المنهجية والمؤسسية والعملية التي تتسم بها المذاهب وتقوم عليها وفقا لتقدير مصالح ذلك وفوائده في تحقيق غايات هذه المذاهب دينيا وإنسانيا وتربويا وحضاريا وغير ذلك.

 

والمذاهب الفقهية المعاصرة مدعوة في لحظتها الراهنة إلى إعمال دقيق وأصيل لمقاصد الشرع ومصالح الخلق؛ لتحقيق المراد والمقصود من وضعها كإطار للأداء الفقهي تعبدا وتكليفا وإنتاجا وتحضرا، ولتحقيق التوازن في ذلك، ودرء سائر الأعمال المنحرفة والأفهام المجتزأة التي تتأتى بموجب ترك المصالح والتقليل منها، أو التعويل المفرط فيها والمبالغة في الاعتداد بها.

 

مستويات مختلفة لمراعاة المصالح في المذاهب الفقهية المعاصرة

 

تتحدد هذه المستويات بحسب اعتباراتها ومقاماتها وسياقاتها. وللعاملين في اتجاهات الفقه المعاصر أن يضعوا ما يرون من المستويات خدمة للفقه ومؤسساته وأفعاله، واستجابة لبعض المقتضيات العلمية والأكاديمية والإجرائية والواقعية. ويمكن طرح بعض هذه المستويات التي يتجلى من خلالها الاعتبار بالمصالح الشرعية أثناء الأداء الفقهي الإسلامي، ولاسيما في الداخل المذهبي وفي الإطار المؤسسي. ومن هذه المستويات:

 

مستوى التعبد والإعمار والتحضر: وهو المستوى الذي يتجلى فيه استحضار البعد المصلحي في تحديد مجالات الأداء المذهبي الفقهي؛ وذلك باعتبار هذا الأداء متوجها إلى مجال الفعل الإنساني التعبدي الذي يصح به تعبده وتقربه وتنسكه، وإلى الفعل الإنساني الإنتاجي الذي يقوم به إعمار الأرض, وتنمية الموارد البشرية, وتكثير المنتوج المادي والروحي وتجويده وتحسينه، وإلى الفعل الإنساني التحضري الذي يبرز فيه بُعْد التواصل الإنساني والتعايش مع الآخر والتبادل والتثاقف والتوافق على المشترك.

 

وشمول هذا المستوى لصور الفعل الإنساني التعبدي والإنتاجي والتحضري -مع ما في ذلك من التداخل والتكامل- إنما يعطي للمذاهب الفقهية المعاصرة أبعادا راقية ومساحات شاسعة من التحرك والبناء والعطاء، ويضفي عليها معالم الحيوية والثراء والخصوبة والتجدد والفاعلية, وهذا هو صميم العمل الفقهي والأداء الإسلامي المنوط بعموم المكلفين وخصوص المجتهدين.

 

مستوى فروض العين وفروض الكفاية: وهو المستوى الذي يتجلى فيه استحضار البُعْد المصلحي في تناول نوعَيْ الفروض والالتزامات الشرعية المنوطة بعامة المسلمين وخاصتهم. ومعلوم أن الفقه الإسلامي يتناول ما يُصطلح عليه بفروض العين التي تشمل التكاليف الموجهة إلى كل فرد من أفراد المسلمين، كالصلاة وصوم رمضان وأداء الزكاة والعمرة...، وما يُصطلح عليه بفروض الكفاية التي تشمل التكاليف الموجهة إلى الأمة والدولة وإلى بعض الفئات والهيئات على سبيل اللزوم والتعيين، وهي التكاليف التي إذا قامت بها تلك الفئات والهيئات سقطت عن المجموع العام للمسلمين، وإذ لم يقم بها هؤلاء تعلق الوجوب بالجميع، وذلك على صعيد أن الأمة كلها تأثم إذا تعطلت تلك الفروض، وأنها لا تأثم إذا دعت إلى ذلك ورغبت فيه وأعدت له عدته اللازمة الكافية. ومن أمثلة تلك الفروض الكفائية: الجنائز, والإغاثة, والإمامة, والقضاء, والإفتاء, والتدريس, والدراسات التكنولوجية والعسكرية والاقتصادية والصناعية, ومجموع الأعمال المدنية والبيئية والسياسية والحقوقية وغيرها.

 

ومذاهبنا الفقهية المعاصرة يلزمها تدبير شأن الفروض بنوعيها، ودون الاقتصار على بعض السائد, المعني في بعض أطواره بتغليب أحد النوعين على الآخر؛ وبموجب بعض الإخلال في الفهم والأداء؛ بل عليها أن تقيم نظرها ونشاطها على استحضار البُعْدين في قيام نظرية التكليف الشرعي الكامل واللازم، وفي تفعيل ذلك في ضوء المصالح المعتبرة والمقاصد المرعية التي تُناط بها أحكام وفتاوى وحلول متطلبات الفرضين ومستلزمات التكليفين. ومن هنا كان لزوما على هذه المذاهب في واقعنا المعاصر أن تحقق النظر وتدقق التنزيل في مجالات الوظائف العامة والأنشطة الجماهيرية والحضارية والعالمية، وذلك على نحو وظائف الإفتاء والتدريس والتدريب والتأهيل والدعاية والإعلام والإدارة والرقابة... وأنشطة الفكر والسياسة والمواطنة والتعايش والتحاور والتواصل بين أهل الأديان والمذاهب... ومستلزم هذا ومقتضاه اعتبار المصالح الواضحة والثابتة والمنضبطة والمطردة إطارا شرعيا إسلاميا مرجعيا لمجموع القضايا والنوازل الفكرية والسلوكية، الداخلية والخارجية، واعتبار المذاهب الفقهية العصرية المعتبرة الأصيلة وعاء مؤسسيا يحتضن الأداء الفقهي والنظر المصلحي والتقدير الواقعي، برؤية شاملة وأصالة راسخة وإحاطة جامعة ومعاصرة ومفاعلة، وبتحقيق وتدقيق، وبصدق وإخلاص وعزيمة وثبات. والله ولي التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

 

الحواشي:

 

1) ومن ذلك كذلك قوله تعالى: ﴿إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت﴾(هود:88)، والإصلاح نقيض الإفساد, ومراده نقل الناس إلى حال الصلاح الذي فيه مصلحتهم، سواء بنقلهم من حال المفسدة إلى حال المصلحة، أم من حال مصلحة أقل إلى حال مصلحة أعظم وأكبر, وكذلك قوله تعالى: ﴿إن الله لا يحب المفسدين﴾(القصص:77).

 

2) كمصلحة حفظ الدين والنفس والعقل.

 

3) كنصوص السنة المتعقلة باليسر والرفق والتخفيف، والتي أكدت نصوص القرآن المتضمنة لكل ذلك.

 

4) الاعتصام للشاطبي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1408هـ/1988م، 2/366.

 

5) الفكر السامي، الحجوي، 1/318.

 

6) شرح المنهاج للبيضاوي في علم الأصول للأصفهاني، 2/795.

 

7) أصول السرخسي، 2/140.

 

8) تخريج الفروع على الأصول، الزنجاني، ص278.

 

9) شفاء الغليل، الغزالي، مكتبة الإرشاد، بغداد، 1390، 1971، ص209.

 

10) المنخول، الغزالي، ص364.

 

11) تخريج الفروع على الأصول، الزنجاني، ص279.

 

12) البحر المحيط، الزركشي، وزارة الأوقاف الكويتية، ط2، 1413هـ/1992م، 2/77.

 

13) المنخول، الغزالي، ص361.

 

14) الفكر السامي، الحجوي، 1/356.

 

15) يُراجع في هذا رسالتي لدكتوراه الحلقة الثالثة الموسومة بـ: الدليل عند الظاهرية.

 

16) كالمدرسة المصرية والمدرسة القيروانية والمدرسة الفاسية...

 

17) كالمدرسة الفقهية الهندية المعاصرة، والمدرسة الفقهية الأوروبية، والتي تمثل اتجاهات في الفقه والاجتهاد متنوع السمات ومتفاوت الكيفيات والأقدار والآثار، ومتعدد الأعلام والأصحاب والأتباع.

 

18) محمد الطاهر بن عاشور وكتابه مقاصد الشريعة الإسلامية، ابن الخوجة، 2/136.

 

119) ينظر كتابي: الاجتهاد المقاصدي، ص43.

 

المصدر: http://tasamoh.om/index.php/nums/view/34/757

الأكثر مشاركة في الفيس بوك