فروض العين وفروض الكفاية: رؤية جديدة حول الفرائض في الإسلام وعلاقتها بالمصالح والحضارة

وهبة الزحيلي

فرض العين وفرض الكفاية وأسباب وجودهما:

هذه الدراسة تلقي الضوء على الغايات الأساسية الكبرى من مشروعية الفروض, وجعلها إما فرض عين وإما فرض كفاية في الشريعة الإسلامية؛ حيث يتبين من خلالهما الاقتران بين المنهجية والأهداف بطريقة لا نظير لها في مختلف الشرائع السماوية والوضعية؛ لأن الإسلام يرتبط ربطا وثيقاً وعضوياً وبارزاً بين بناء الفرد وتكوين المجتمع، من أجل تحقيق التواصل والتلازم بينهما من غير فتور ولا انقطاع، وليكتمل البناء التشريعي في إيجاد أمة حضارية متميزة لها خصائصها وصلتها بالحياة، على المستوى الخاص والعام.

قال الإمام الشاطبي: الحقوق الواجبة على المكلف على ضربين (نوعين) سواء أكانت من حقوق الله (أي الحقوق العامة) كالصلاة، والصيام، والحج، أو من حقوق الآدميين (أي الحقوق الخاصة) كالديون، والنفقات، والنصيحة، وإصلاح ذات البين، وما أشبه ذلك, هذه الحقوق ضربان:

أحدهما: حقوق محدودة شرعاً، والآخر حقوق غير محدودة (أي الواجب المحدد وغير المحدد): فأما الحقوق المحدودة المقدَّرة فلازمة لذمة المكلف، مترتبة عليه ديناً، حتى يخرج عنها، كأثمان المشتريان، وقيم المتلفات، ومقادير الزكوات، وفرائض الصلوات، وما أشبه ذلك، فلا إشكال في أن مثل هذا مترتب في ذمته ديناً عليه (أي أنه واجب دائم مستقر في ذمته، لا يسقط إلا بالأداء لصاحبه, أو بالإبراء من صاحبه للملتَزم له كإبراء الدائن للمدين).

وَأَمَّا غير المحدودة: فلازمة له، وهو مطلوب بها، غير أنها لا تترتب في ذمته كالصدقات المطلقة، وسدّ الخلاّت (الحاجات) ودفع حاجات المحتاجين، وإغاثة الملهوفين، وإنقاذ الغرقى، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ويدخل تحته سائر فروض الكفاية(1) (أي أنها مرتبطة بالمقدرة وبتحقيق أو إطفاء الحاجة).

هذا التقسيم للواجب المحدود وغير المحدود يدل دلالة واضحة على أن الواجب المحدد لا مفر منه بمقداره المطلوب شرعاً، دون أي تسامح أو نقصان، وأن الواجب غير المحدد منوط بالإرادة والاختيار أو الحرية المسؤولة المتأثرة بالدوافع أو البواعث الذاتية وبالأهداف؛ ليتميز الناس في مقادير العمل وللتنافس في الخيرات، وتغطية الحوائج، وتحقيق الغاية ولو من عدد قليل، فيظهر المحسن، وينـزوي المقصر، ويبرز عنصر الجمال والتكامل في التفاوت، ويبهت في النظر التساوي في العطاء.

وكذلك الشأن في وجود فروض العين وفروض الكفاية باعتبار المطالب بأدائه لغاية هي تحقيق التنوع وتبيان مدى فعالية الإنسان، وتقدير ظروفه وأحواله، بشرط تحقيق الهدف العام, ألا وهو أداء المطلوب حيث يمكن، من غير استنفار كافة الطاقات والعطاءات، وادخارها لوقت الحاجة.

أَمَّا فرض العين أو الواجب العيني: فهو ما طلب الشرع فعله من كل فرد من الأفراد المكلفين به، ولا يجزئ قيام مكلَّف به عن آخر، كالصلاة والزكاة والحج وصوم رمضان، واجتناب أنواع الحرام كالخمر والغصب والظلم والفاحشة أو الزنا, وحكمه: أنه يلزم الإتيان به من كل مكلف، ولا يسقط طلبه بفعل بعض المكلفين دون بعض, ويلاحظ أن هذا النوع يشمل أصول الإسلام أو أركانه، ومباني الحرام أو المحظور، من أجل بناء الفرد والأمة بناء فولاذياً قوياً، وراسخاً ومستقراً، فلا يتعرض للنقض أو الهدم أو الذوبان، وليظهر نقاء المجتمع، وتكوين المجتمع الفاضل.

وَأَمَّا الواجب الكفائي أو فرض الكفاية: فهو ما طلب الشرع حصوله من غير نظر إلى من يفعله، وإنما يطلب من مجموع المكلفين؛ أي تحقيق المصلحة العامة فقط، مثل تعلم مختلف الحرف والصنائع، والتجارة والزراعة، وبناء المشافي، وتعلم الطب والهندسة والفلك والتاريخ والجغرافية ومختلف علوم الآلة والنهضة، والقضاء والإفتاء، والصلاة على الجنائز، ورد السلام، والجهاد: جهاد البناء والتعمير والدفاع، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونحو ذلك مِمَّا طلب الشارع الحكيم وجوده بقصد تحقيق المصلحة، دون أن يتوقف على قيام كل مكلف به، وإنما يحصل الفرض من بعض المكلفين.وحكمه: أنه يجب على الكل وجوباً عاماً غير فردي، وأنه إذا فعله أحد المكلفين سقط الطلب عن الباقين، وارتفع الإثم عنهم جميعاً، وإذا أهمله الجميع أثموا جميعاً(2).

وتأكيداً على الوفاء بالواجب الكفائي قد ينقلب التكليف الكفائي إلى تكليف عيني إذا تعين فرد لأدائه، كإنقاذ غريق، وعلاج مريض، ودفع خطر حريق، إذا لم يوجد إلا سبّاح واحد، أو طبيب واحد، أو إطفائي واحد أو كل قادر على الإطفاء(3).

والسنة أيضاً قد تكون كفاية، كتشميت العاطس ورد السلام وذبح الأضحية في حق أهل البيت الواحد، كما في منهاج الطالبين للنووي.

قال الشاطبي: إن حاصل طلب العين أنه طلب مقدَّر على كل عين من أعيان المكلّفين، وحاصل طلب الكفاية: إقامة الأوَد العارض في الدِّين وأهله، إلا أنه قد يصير الكفائي طلباً متحتماً على من يلزمه كالعدل بالنسبة للأمير نفسه، وإيتاء ذي القربى على الأقرب فالأقرب. وقد يكون فرض الكفاية مخيراً فيه بالجزء، وقد يكون مندوباً بالجزء، ولا يتحتم إلا بالكل، وقد يتحتم على البعض أيضاً نادراً كما تقدم(4).

وسبب وجود ظاهر فرض العين وفرض الكفاية تحديد الغاية من كل منهما، ففرض العين لكل الأمة بصفته قاعدة عامة، وفرض الكفاية لأن المهم فيه تحقيق المطلوب من أي واحد، فذلك يدل على أن فرض العين من أجل بناء كل فرد، وفرض الكفاية من أجل تحقيق المصلحة المنشودة على يد أي إنسان مسلم، وهذا يدل على رعاية حكمة التشريع البعيدة المدى، من غير إرهاق أو تكليف زائد عن الحاجة.

 

النزعة الجماعية في الشريعة:

يخطئ بعض الناس حين يظنون أن الإسلام اكتفى ببناء الفرد وأهمل بناء الجماعة، وإنما العكس هو الصحيح, فإن شريعة الله تعالى إنما عنيت بالاعتبارات الجماعية، وجعلت إعداد الفرد إنما في الحقيقة والواقع والغاية هو وسيلة لإعداد الأمة والمجتمع والدولة، سواء في حقل السياسة أو القضاء والحكم، أو العبادة, أو المعاملة والاقتصاد، أو المجتمع والأخلاق، أو العلاقات الإنسانية الداخلية والخارجية, أو الأسرة، والمدرسة، والجامعة، والمزرع، والمصنع، والمتجر؛ لما يظهر من التحليل الآتي في كل نمط من أنماط الحياة.

ففي زمرة العبادات: نجد الصلاة -لاسيما صلاة الجماعة- يراد بها تهذيب النفس الإنسانية ورقي السلوك، لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾(العنكبوت: 29/45)، وفي أداء الصلاة جماعة في المساجد غرس قوة الرابطة الأخوية، وتفقد الأخ أخاه، فإن حضر اطمأن عليه، وإن غاب افتقده ووصله, أو زاره إن كان مريضاً، وإن كان مسافراً دعا له، وإن تعرض البلد لعدوان عدو هبّ لنصرة إخوته بالنفس والمال، وذاد عن عزته وكرامته ووطنه، وقاوم العدو بمختلف الوسائل تعبيراً عن وحدة الأمة. وهذا هدف اجتماعي سامٍ.

والصيام: ينمي أيضاً المشاعر الأخوية الوحدوية في المشارق والمغارب، ويذكّر الناس بآلام المحتاجين، ويعوِّد المرء على التقشف ويربي فيه فضيلة الصبر، وقوة الإرادة، والترفع عن أوضار المادة والشهوات والأهواء، ويزكي النفس, ويغرس فيها فضيلة التقوى ورقابة الله U في السر كما في العلن، كما قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(البقرة: 2/183).

والزكاة: تفرض وجود مبدأ التعاون بين الغني والفقير والضعيف والعاجز، وتحقيق أصول التكافل الاجتماعي، وتنمي الشعور الأخوي الاجتماعي الكريم، وتحصِّن المال وتنميه، لقوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها﴾(التوبة: 9/103).

والحجّ: مؤتَمر سنوي عام للتعارف والتعاون والتآلف، وتعلُّم الأخلاق الاجتماعية، والمذاكرة في شؤون المسلمين العامة، وجمع الكلمة ووحدة الصف، وتقوية الارتباط الأخوي، وتبادل المحبة، وتحقيق مبدأ المساواة عملياً، وتعلُّم الإيثار والتضحية، والصدق، والطهر والصفاء، قال الله تعالى: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ﴾(الحج: 22/28), والمنافع عامة للدنيا والآخرة.

والحاصل أن العبادات ذات مغزى اجتماعي حيوي وفعال؛ للتخلص من أمراض الجهل والفقر والمرض والإلحاد.

والمعاملات والعقود المدنية مشروعة لتحقيق الحاجات، وتبادل المصالح، وتنمية الاقتصاد العام، وتحريك الأموال وبذل الطاقات، والاعتماد على النفس وعلى منتجات الأمة؛ كي تكون معتمدة في استهلاكها على ذاتها، وعلى أساس من العدل والمساواة في المعاوضة، وتوافر الثقة والأمانة والصدق، والترفع عن الأطماع وكل ألوان الجشع والظلم، قال الشاطبي: إن الشارع وضع الشريعة على اعتبار المصالح باتفاق، وتقرّر في هذه المسائل أن المصالح المعتبرة هي الكليات دون الجزئيات؛ إذ مجاري العادات كذلك جرت الأحكام فيها، ولولا أن الجزئيات أضعف شأناً في الاعتبار لما صح ذلك...إلخ(5).

وفيما يتعلَّق بنظام الملكية نلمس في فقهنا التوجه نحو النزعة الجماعية(6) كتقرير القيود الواردة على التصرفات، سواء القيود الواردة على الملكية الخاصة مراعاة للمصلحة الخاصة، والمانعة من التصرف بالمال على أموال ناقصي الأهلية، والحجر على السفهاء (المبذرين) حفاظاً على أموالهم من الضياع، في آيتي: ﴿وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً وَابْتَلُوا الْيَتامَى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ﴾(النساء: 4/5-6)، ويلاحظ التعبير بـ�أموالكم� الدال على أن حرمة مال الجماعة والأمة وكل فرد من التبديد واجب شرعاً. وكذلك تقرير القيود الواردة على المصلحة العامة كالاستملاك للمنفعة العامة، ومنع الاحتكار، ومشروعية التسعير الجبري، وعدم قسمة أموال الأراضي العقارية المفتوحة عنوة بين المحاربين في عهد عمر t، والقيود التي يفرضها التكافل الاجتماعي للقضاء على الفقر والمرض، وتحقيق حد الكفاية لجميع الأفراد، والالتزامات المفروضة على الأفراد في حال الأزمات، كفرض الخراج على الأغنياء لسد عجز بيت المال في حال الجهاد، ودفع دية القتيل الذي لا يعرف قاتله في حال القسامة وغيرها؛ كيلا يهدر دم في الإسلام، وتجهيز الميت المعسر ودفنه من رصيد بيت المال.

وتشريع القيود الواردة على استعمال الأشياء والحد من سلطة المالك، منعاً للإضرار بالغير كمنع التعسف في استعمال الحق، ومنح حق الإرث في حالة طلاق الفرار, وهو الطلاق الذي يصدر في مرض الموت بقصد حرمان المرأة من الإرث (توريث المبتوتة), ومنع التعسف في استعمال حق الرجعة، لقوله تعالى: ﴿وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا﴾(البقرة: 2/231) ومنع تعسف الأم في الرضاع بطلب أجر زائد على أجر المثل(7).

والقيود الواردة على حرية التملك كالتأميم (نزع الملكية) للصالح العام بشرط تعويض المالك، كما حدث في عهد عثمان بن عفان tبتوسيع الحرمين، وعملاً بأصل المصلحة المرسلة، وإباحة تحديد حد أقصى للملكية الزراعية في رأي بعض المعاصرين كالشيخ علي الخفيف رحمه الله.

وإيجاد القيود الواردة على سلطة المالك في استغلال ملكه لمنعه من إساءة الاستثمار، كمنعه من تعطيل الإنتاج، أو زراعة الأشياء الممنوعة كالمخدرات والتبغ، فهما من الخبائث في فقه الإباضية وكذا غيرهم.

وكل هذا يدل على ضرورة حماية المصلحة العامة وترك إلحاق الضرر بالمرافق العامة، عملاً بحديث �المسلمون شركاء في ثلاثة: الماء والكلأ والنار�(8). وفي رواية �والملح�.

وإيجاب العلم من أجل القضاء على الجهل والأمية: هو إما فرض عين وإما فرض كفاية، وذلك مصلحة عظيمة وحساسة وضرورية في كل زمان، فإن العلوم التي ليست بشرعية تنقسم –كما ذكر الغزالي(9)- إلى ما هو محمود وإلى ما هو مذموم، وإلى ما هو مباح،فالمحمود: ما يرتبط به توافر مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب، وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية، وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة.

أما فرض الكفاية: فهو كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا كالطب؛ إذ هو ضروري في حاجة الأبدان، وكالحساب(10) فإنه ضروري في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرها.

وكذلك أصول الصناعات أيضاً هي من فروض الكفايات كالفلاحة والحياكة والسياسة، بل الحجامة والخياطة، فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء. والخياطة للستر والزينة، لقوله تعالى: ﴿يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾(الأعراف: 7/31)؛ أي عند كل صلاة، ومثلها غيرها للضرورة أو الحاجة أو التجمل.

وأما ما يعد من العلوم الدنيوية فضيلةً لا فريضة: فالتعمق في دقائق الحساب وحقائق الطب وغير ذلك مما يستغنى عنه، ولكنه يفيد زيادة قوة في القدر المحتاج إليه.

وَأَمَّا المذموم من علوم الدنيا: فعلم السحر والطلسمات وعلم الشعبذة والتلبيسات. وَأَمَّا المباح منها فالعلم بالأشعار التي لا سخف فيها وتواريخ الأخبار وما يجري مجراه.

والعلوم الشرعية المحمودة أربعة أنواع وهي العلم بالأصول؛ كمصادر التشريع من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وآثار الصحابة، والعلم بالفروع وهو ما فهم من الأصول لا بموجب ألفاظها بل بمعان تنبه لها العقول.

والعلم بالمقدِّمات: وهي التي تسمى علوم الآلة كعلم اللغة والنحو فإنهما آلة لعلم كتاب الله تعالى وسنة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ.

والعلم بالمتممات: وهي ما يتعلق بعلوم القرآن وعلوم السنة، والآثار والأخبار كعلم رجال الحديث وأحوال الرواة.

ومن مفاخر الإسلام التي انفرد بها في العلوم أنه جعل التقصير في تعلم القدر الواجب شرعاً من العلم مستحقاً لعقوبة التعزير فهو جريمة اجتماعية، لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: �طلب العلم فريضة على كل مسلم�(11), وقوله أيضاً: �ما بال أقوام لا يفقّهون جيرانهم، ولا يعلِّمونهم، ولا يعظونهم، ولا يتّعظون؟! والله ليعلّمن قوم جيرانهم، ويفقهونهم، ويعظونهم، ويأمرونهم، وينهوهم، وليتعلّمن قوم من جيرانهم، ويتفقهون ويتعظون، أو لأعاجلنهم العقوبة في الدنيا�(12).

ومراعاة المصلحة العامة واجبة في دائرة الفقه العام, وهو فقه القضاء ووسائل الإثبات (كالشهادة، الإقرار، اليمين، القرينة) وفقه السلم والحرب، ففي القضاء: يجب التزام العدل والمساواة بين الخصوم، حتى مع الأعداء، وسماع الأدلة، والامتناع عن كل ألوان الظلم أو الحيف، والرشاوى، والفساد لقوله تعالى: ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاّ تَعْدِلُوا﴾(المائدة: 5/8)، وقوله سبحانه: ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾(الطلاق: 65/1)، وقوله U: ﴿وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ﴾(البقرة: 2/205).

وفي مَجال الحفاظ على السلم، وكون الحرب المشروعة لدفع الشر والعدوان والتسلّط، وإقرار مقتضيات السلام والأمن والاستقرار: لابد من التزام قواعد الفضيلة والتقوى والرحمة, والتحلي بالسماحة والعفو، والأخذ بمبدأ المعاملة المثل حيث لا يهبط المسلمون إلى الإخلال بالمروءات والدناءات كالتمثيل بالقتلى، ويعامل الأسرى معاملة كريمة، ويحرص المسلمون على اعتبار الحرب ضرورة علاجية للدفع أو الدفاع عن المقدسات والحرمات والأوطان، ولا بد من مراعاة قواعد الحضارة والأخلاق الإنسانية للوصايا العشر المعروفة من أبي أبكر لقادة جيوشه إلى الشام: �وإني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة، ولا صبياً، ولا كبيراً هرماً، ولا تقطعن شجراً مثمراً، ولا تخرِّبن عامراً، ولا تعقرن شاة، ولا بعيراً إلا لمأكلة، ولا تحرقن نخلاً، ولا تفرّقنه (أو تغرقنه)، ولا تغلل، ولا تجبُن�(13).

وتلاحظ دوافع مشروعية القتال للضرورة والحفاظ على معطيات الحضارة والعمران والمقدسات في أول آية نزلت وهي: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيها اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾(الحج: 22/39-40).

 

إيضاح الرؤية الجديدة حول دوافع العمل للمصالح العامة وبناء الحضارة:

المصالح متجددة بحسب كل زمان ومكان، وكذا متطلبات الحضارة، وعلى المسلم أن يتفاعل مع الجديد؛ لأن فيه الرغبة دائماً، ولأنه يحقق الأمر بنهضة الأمة والبلاد، كما في قوله تعالى: ﴿يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾(الأنفال: 8/24)، والإحياء يعني النهضة بأشمل وأدق معانيها؛ لأنه إحياء الفرد وإحياء الجماعة المؤمنة، بإحياء الأنفس، وإحياء الأرض، وإحياء المجتمع، وإحياء الزمان والمكان. والدين صانع الحضارات؛ لأن الدين يمنح الأفراد والأمم قوة لا غنى عنها هي �القوة العقدية والأخلاقية�, ولأن الأمة التي تنبع أخلاقها من إيمانها يتحقق لها الثبات والشخصية القوية، والمجد والبقاء. وبما أنه لا يمكن الإحاطة أو التكهن بالمستجدات فإن المبادئ والدوافع المتمكنة في عقلية الأمة والجماعة والأفراد هي الخالدة، وهي النابض المحرك لكل عمل أو مخطط أو مشروع.

والدوافع أو البواعث في هذا الاتجاه كثيرة لا تتغير في تعاليم الإسلام وهديه، وحرصه على بناء الأمة بناء متكاملاً من تقرير ثوابت الإيمان والقيم الأساسية، والتشريعات المنظمة للحياة، والأصول السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهذه هي أهم الدوافع:

الأوّل: تنمية الإحساس والشعور بالمسؤولية العامة والخاصة عن العمل, وذلك نابع من قول الله تعالى: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ﴾(الصافات: 37/24)، وقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـفيما رواه أبو بزرة الأسلمي t: �لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه؟ وعن علمه ما فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه؟ وعن جسمه فيما أبلاه�(14), وما رواه عبد الله بن مسعود t بلفظ آخر: �لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه، حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه؟ وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وماذا عمل فيما علم�(15).

وهذا يغرس في النفس ضرورة الاستعداد للمساءلة وخطورتها، والشعور بأهميتها ودقّتها، ويستتبع ذلك إجراء المحاسبة الشخصية من كل نفس على عملها سلفاً قبل التعرض للمسؤولية، وبعد العمل، ومعاقبة الإنسان نفسه على تقصيرها، انطلاقاً من الآية الكريمة: ﴿يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾(الحشر: 59/18)، وهذه إشارة إلى المحاسبة على ما مضى من الأعمال، ولذلك قال عمر t: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا", وقال أيضاً: "لئن ضلَّت شاة على شاطئ الفرات لخشيت أن يسألني الله عنها يوم القيامة". هذا مع العلم بأن الملكَين عن اليمين وعن الشمال الملازمين لكل إنسان يحفظان عليه كل ما يعمله من خير أو شر، وينبغي أن يكون له في آخر النهار ساعة يطالب فيها النفس، ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها، كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كل سنة أو شهر أو أسبوع أو يوم حرصاً منهم على الدنيا، وخوفاً من أن يفوتهم منها شيء، فكيف لا يحاسب العاقل نفسه فيما يتعلق بخطر الشقاوة والسعادة أبد الآباد(16).

ويفصِّل حديث آخر مبدأ المسؤولية العامة لكل إنسان وهو: �كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده، وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في مال أبيه وهو مسؤول عن رعيته، فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته�(17).

 

الثاني: تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة, وضرورة الحرص على العامة منها؛ وذلك لأن المصلحة العامة تمس الجميع، ومن القواعد الفقهية في هذا:

- �يتحمل الضرر الخاص لدفع ضرر عام� (م/ 26 من مجلة الأحكام العدلية).

- �التصرف على الرعية منوط بالمصلحة� (م/ 58)؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: �ما من أمير يلي أمور المسلمين، ثم لم يجهد لهم وينصح لهم كنصحه وجهده لنفسه إلا لم يدخل معهم الجنة�(18)، وقوله أيضاً: �من استعمل رجلاً من عصابة (جماعة) وفيهم من هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين�(19).

الثالث: الترغيب الدائم في فعل الخير؛ المنهج الإسلامي في الواجبات العامة أنه لم يلزم الناس بأفعال البر والمعروف بأمر صارم، وإنما رغّبهم في الخير وحضهم عليه في مناسبات كثيرة وألوان مختلفة، فقال الله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتامَى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾(البقرة: 2/177)؛ أي ليس تمام الخير، أو ليس الخير الكثير في مجرد التوجه جهة المشرق والمغرب...إلخ، ولكن البر هو الإيمان والسخاء بالمال وإنفاقه للمحتاجين والقرابة ونحوهم, وهو طريق الجنة، وذلك كي يكون الإقدام على الخير نابعاً من قناعة الإنسان واختياره، لا أن يفرض عليه ما يؤهله للدرجات العالية في جنان الخلد، فذلك شأن تقدير العقلاء.

الرابع: الإحسان إلى الآخرين, الإحسان مرتبة زائدة على الحق والعدل، وهو المرتبة السامية الدالة على الإخلاص والصدق والوفاء والعفو والصفح والسماحة، قال ابن القيم: منزلة الإحسان هي لبّ الإيمان، وروحه وكماله، وهذه المنزلة تجمع جميع المنازل، فجميعها منطوية فيها، وقد استُشهد على هذه المنزلة بقوله تعالى: ﴿هَلْ جَزاءُ الإِحْسانِ إِلاّ الإِحْسانُ﴾(الرحمن: 55/60)، وبحديث الشيخين عن أمير المؤمنين عمر: �أن تعبد الله كأنك تراه�(20).

وقال شيخ الإسلام الهَرَوي: �وأول درجاته (أي الإحسان) الإحسان في القصد بتهذيبه عِلماً، وإبرامه عزماً�. وتهذيبه علماً بأن يجعله تابعاً للعلم على مقتضاه مهذّباً به, وإبرامه عزماً: الإبرام: الإحكام والقوة؛ أي يقارنه عزم يُمضيه، ولا يصحبه فتور وتوانٍ يضعفه ويوهنه(21), وهذا يدل على أن الإحسان الإخلاص المطلق، مع العزيمة القوية التي لا تعرف التردد.

الخامس: الاستقامة, وهي الاستمرار على الطريق القويم دون أدنى انحراف؛ مما أدى إلى أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شَابَ من الإحساس بمسؤولية الاستقامة وخطورتها، فقال -حينما سئل عما شيّبه من سورة هود-: قوله تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ﴾(هود: 11/112)(22).

وقد وردت آيات كثيرة في القرآن آمرة بالاستقامة ومبشرة المستقيم بالسعادة والجنة, منها قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾(فصلت: 41/30).

ومنها: ﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً﴾(الجن: 72/16).

قال ابن القيم: بيَّن الله تعالى أن الاستقامة (في الآية الأولى) ضد الطغيان وهو مجاوزة الحدود في كل شيء, وقال عمر بن الخطاب t: الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تَروُغَ روغان الثعلب, وقال ابن تيمية: استقاموا على محبته وعبوديته، فلم يلتفتوا عنه يمنة ويسرة. وقال أيضاً: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة(23).

هذه الضوابط الخمسة هي أساس العمل للصالح العام، وبناء الأمة، وتقرير العمل على رقيها، ورفع درجتها، وإشادة حضارتها، وتتويجها بتاج العزة والكرامة.

وما أحوجنا اليوم للاحتفاء بهذه الضوابط؛ لتكون أمتنا أمة بناء ونهضة وتحضر، لا أمة كلام وضعف أو استضعاف، حتى وإن كلفنا ذلك التغاضي عن محاولات الغرب في منعنا من النهضة, ولم نأبه بمخططاتهم الحاقدة.

 

والخلاصة:

إنّ فرائض الإسلام العينية والكفائية وقيم الإسلام ومبادئ الإسلام وأحكام الإسلام كلها -من عبادات ومعاملات وأخلاق وأقضية وعلاقة بغير المسلمين وغير ذلك- هي في قمة النظم الداعية إلى رعاية المصالح العامة، ونهضة الأمة، وصون العزة والكرامة، والاعتماد على الذات أولاً وقبل كل شيء.

ولكن المسلمين غرقوا في آفات الجهل والتخلف، فعكفوا على العناية بمصالحهم الذاتية، وأهملوا لحد كبير رعاية مقتضيات المصلحة العامة، إلا في حال دعوتهم إلى البذل والعطاء في أحوال الكوارث والمصائب والأزمات، فتراهم أسخياء يضحون بأعز ما يملكون في سبيل الله والأمة والعمل الجماعي، فيقتربون حينئذ من المبدأ القرآني: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ﴾(الحشر: 59/9).

وعليه، تكون النزعة الجماعية في تشريعات الإسلام هي الغالبة وهي الهدف الأسمى، وهي المقدَّمة على النزعة الخاصة التي هي بمرتبة الإعداد وبناء الفرد الصالح والمجتمع القوي الفاضل، لتحقيق الغايات الكبرى في كل حال.

ويكون فرض العين هو الأساس في بناء الفرد، وفرض الكفاية منوط بتحقيق الغاية من أي واحد أو فئة أو جماعة.

 

الحواشي:

 

1) الموافقات، للشاطبي 1/156 – 157.

2) المعتمد لأبي الحسين البصري 1/149، 369، فواتح الرحموت شرح مسلّم الثبوت، اللكنوي الأنصاري 1/63، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب 1/234، شرح المحلى على جمع الجوامع لابن السبكي 1/130، روضة الناظر وجُنَّة المناظر لابن بدران الدمشقي 1/93.

3) شرح المحلي على جمع الجوامع 1/133.

4) الموافقات، 1/160 بتصرف.

5) الموافقات، 1/139.

6) انظر: النزعة الجماعية في الفقه الإسلامي وأثرها في حق الملكية، محمد وحيد الدين سوار, ص 45 وما بعدها.

7) نظرية الضرورة الشرعية للباحث, ص 231.

8) أخرجه الإمام أحمد وأبو داود.

9) إحياء علوم الدين 1/13، 15 وما بعدها.

10) وكذلك علم الهندسة فهو ضروري في فقه العمران.

11) أخرجه ابن عبد البر في العلم عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-.

12) رواه الحافظ المنذري في كتاب �الترغيب والترهيب�.

13) تنوير الحوالك شرح على موطأ مالك 4/6 ط البابي الحلبي بمصر.

14) أخرجه الترمذي (جامع الأصول، 11/102 رقم 7944).

15) أخرجه أيضاً الترمذي ورقمه في جامع الأصول (7945).

16) إحياء علوم الدين للغزالي, 4/345 - 346.

17) أخرجه أحمد، والشيخان (البخاري ومسلم) وأبو داود، والترمذي عن ابن عمر -رضي الله عنهما-.

18) أخرجه مسلم والطبراني، وجملة �كنصحه وجهده لنفسه� من رواية الطبراني.

19) أخرجه الحاكم في الأحكام عن ابن عباس -رضي الله عنهما-.

20) تهذيب مدارج السالكين لابن قيم, 2/763.

21) المرجع السابق, ص 764.

22) أخرجه الترمذي والحاكم عن ابن عباس -رضي الله عنهما-.

23) تهذيب مدارج السالكين, 2/527 - 529.

المصدر: http://tasamoh.om/index.php/nums/view/34/754

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك