زوال الفساد وعاقبة المفسدين.. حتميات تاريخية أصَّلها القرآن

أحمد التلاوي

يُعتبر القصص القرآني من بين أهم مصادر المعرفة التاريخية، التي يمكن من خلالها استقاء معالم تاريخ القرون الأولى، والأقوام والحضارات التي ظهرت قبل معرفة الإنسان للتاريخ المُدوَّن.

وعند العمرانيين وعلماء الاجتماع والتاريخ؛ فإن علم التاريخ معنيٌّ فقط بصيرورات الحضارات الإنسانية والعمران البشري، العام والخاص، من النقطة التي بدأ عندها الإنسان في تدوين التاريخ، بعد اختراع الكتابة، ومن ثَمَّ؛ فإن معرفة تاريخ القرون الأولى، قبل تدوين التاريخ الإنساني؛ لن تكون إلا من خلال الوحي الإلهي الذي تضمنته الكتب السماوية، وعلى رأسها الكتاب الأكمل والأشمل، وهو القرآن الكريم.

والقصص القرآني من بين أكثر الظواهر القرآنية -لو صحَّ التعبير- تنوُّعًا في طبيعتها، وفي الأهداف التي شاءت إرادة الله عز وجل أن تتنزل في آيات القرآن الكريم.

فهي كانت أولاً للتسلية والتسرية عن الرسول الكريم “صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”، وكذلك توضيح كيف لاقى الأنبياء والمرسلون من قبله، من عَنَتٍ من أقوامهم، من أجل تثبيته.

أيضًا من بين البواعث المهمة للقصص القرآني لأحوال الأولين، وخصوصًا الأمم البالية الزائلة، ممن كانوا قد وصلوا إلى درجة من القوة والعمران البشري، الكثير مما لم يُخلق مثله في البلاد؛ فهو أخذ العبرة منها، وتركها نبراسًا نصب عينَيْ القرون القادمة، وحتى يوم البعث، من خلال قصص قرآني خالدٍ إلى يوم القيامة.

ومن بين أهم القضايا التي شُغل بها النص القرآني، عند سرد قَصَص الأولين، هي قصص الطغاة المستبدين والظالمين المفسدين، وكيف كانت ممارساتهم، وكيف استحقوا عنها غضبًا من الله تعالى، أزال ملكهم -مهما كان تعالَوا في العمران والبنيان- في لحظات قليلة.

ولقد وردت في القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تشير بشكل لا لبس فيه إلى أن المقصود بسرد قصص أهل الاستكبار والظلم والفساد، من أصحاب عمران القرون الأولى، هو النظر والتدبُّر فيها، لأخذ العبرة والعظة، والتواضًع أمام عظمة الله سبحانه وتعالى، وبالتالي الانصياع إلى أوامره ونواميسه من خلق الإنسان والحياة الدنيا، والتي شرعها الله تعالى لعباده لكي تستقيم بها الحياة، وأن الخروج عنها؛ يعني الإخلال بموازين الدنيا التي وضعها الله تبارك وتعالى، ومن ثَمَّ الهلاك والفناء.

ففي قصة نبي الله لوط “عليه السَّلامُ”، في سُورة “الأعراف”، بعد أن عالجت الآيات القصة، وذكرت مصارع القوم الظالمين، ومهلكهم؛ يقول عز وجل “فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)”، وفي نفس السُّورة، يقول رب العزة سبحانه؛ عند تناول قصة موسى “عليه السَّلامُ”: “ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ” (103).

وهناك لفتة بلاغية رائعة في الآية الأخيرة؛ فالدعوة للنظر والتدبُّر جاءت قبل رواية القصة، وذكر مواقف موسى “عليه السَّلام”، وقومه، وهي دعوة تنبيه والتفات، بحيث يصغي السامع إلى القصة؛ لكي يعرف كيف جاءت عاقبة المفسدين، من فرعون وملأه.

وفي سُورة “يُونُس”، يقول رب العزة سبحانه: “بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)”، وهنا، وفي هذه الآية، الكثير من الدلالات الجامعة لما شاءته إرادة الله عز وجل من وراء ذكر قصص الأولين ونهاية المستبدين والظالمين.

“سرد قصص أهل الاستكبار والظلم، من أصحاب عمران القرون الأولى، هو النظر والتدبُّر فيها، لأخذ العبرة والعظة، والتواضًع أمام عظمة الله، وبالتالي الانصياع إلى نواميسه في الحياة، والتي شرعها الله لعباده لكي تستقيم بها الحياة، وأن الخروج عنها؛ يعني الهلاك والفناء”

فهي تقارن -أولاً- بين حال من كفروا وطغوا من السابقين، وحال طغاة مكة وشبه جزيرة العرب، وأكابر مجرميها، كما أنها تطمئن النبي الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم”، بذكر مصير هؤلاء، وأن قومك -يا محمد- لن يكونوا مثل هؤلاء السابقين في القوة والمَنْعة، من أجل طمأنة نفس الرسول الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم”.

والعبرة هنا متعددة الاتجاهات والأبعاد، فهي تحذر أصحاب السلطان من سلطانهم، وأصحاب الفساد من فسادهم، وأصحاب الطغيان من طغيانهم؛ من أن قوانين رب العباد التي وضعها في عمرانه البشري، وفرضها على ولدِ آدم “عليه السَّلامُ”، حتى يوم يبعثون؛ أن هذه القوانين سارية عليهم؛ بالهلاك والزوال والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، ما داموا -وهو البشر الضعفاء- قد تحدوا إرادة الله، ووقفوا لهم -وهم لا شيء أمام قدرته وهو خالق وخالق كل شيء- موقف الخصيم المبين!

وبالتالي، فهي تظهر قدرة الله عز وجل فوق عبادة، وكيف أن هؤلاء الظالمين والفاسدين؛ لا يمكنهم تحدي إرادة الله عز وجل ومشيئته، وأن المآل الحتمي لمثل هؤلاء هو الاندثار، وألا يبقى منهم -برغم جبروتهم وتجبرهم- إلا ذكرى الخزي، وأن يكونوا مجرد رمز لضآلة الإنسان -مهما بلغ- أمام رب العزة سبحانه وتعالى، وأن هؤلاء الجبابرة المستبدين، لم يكن الله تعالى ليبالي بهم مع كون مجرد هباء منثور؛ حيث إن وجودهم في حد ذاته، لم يكن سوى بمشيئة الله تعالى، من أجل تحقيق سُننه وضرب المثل والعبرة بهم للأقوام الآخرين.

ومن بين الآيات الجامعة في هذا السياق أيضًا، آيات من سُورة “آل عمران”.. يقول رب العزة سبحانه: “قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ” (141).

فهذه الآيات تلخص جميع ما سبق بين يدَيْ كلماتها، فهي بمثابة قانون مكتوب لصيرورات الأمم والحضارات الإنسانية، وتشير إلى بعض من جوانب الإرادة الإلهية من خلال هذه السرديات.

فسُنن مَن قبلنا هي “بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ”، وهي من أجل أن “لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا”، وهي كذلك -كما تشير الآيات لطمأنة النفوس المؤمنة، بألا تهن ولا تحزن، وتبشيرها أيضًا بالنصر الإلهي الأكيد “وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ”، أي أنه إذا كنتم الآن مستضعفين؛ فإنكم بعد ذلك ستغلبون، فقط مع التزامها شرط الإيمان.

ولقد مضت هذه السُّنَن الحتمية، لأنها قوانين ربانية، على كل الأمم السابقة على أمة محمد “صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”، منذ قوم عادٍ وثمود، وحتى قوم لوط، وفرعون وملأه.

وفي هذه القَصص، وغيرها نلاحظ التشابه الكبير بين المقدمات والنتائج، وكذلك في صيرورات الأمور ما بين البداية والنهاية، وهي القوانين التي صاغها بعد ذلك علماء الاجتماع والعمران البشري، بدءًا من ابن أبي الربيع، وابن خلدون، وحتى يومنا هذا، وأطلقوا عليها مسميات عدة، مثل “علم الاجتماع” و”الاجتماع السياسي”، وغير ذلك مما يُدرَّس في الجامعات اليوم، بينما هو في كتاب الله تعالى منذ قرون طويلة.

وفي هذه السياقات، يشير هذا القصص القرآني إلى عدد من المراحل التي يمر بها المفسدون والمستبدون والطغاة، عبر التاريخ، قديمًا وحديثًا، وتبدأ بالعلو.. “إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ” [سُورة القَصَص- من الآية 4].. “إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)” [سُورة الفَجْر]، وهكذا.

ثم نجد سُنن الله تعالى في التعامل معهم، بالتزيين لهم، والإمهال.. “وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)” [سُورة الأعراف].. “زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ” [سُورة التَّوْبة- من الآية 37].

وذلك لحكمة من الله عز وجل، وهي أن تعمى القلوب التي في الصدور عن أن ترى العاقبة؛ حتى تستحق العقاب الإلهي.. “إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)” [سُورة النمل]، وهو استصغارًا من الله تعالى بهم، وتحقيرًا لشأنهم.. “اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)” [سُورة البقرة].

ثم يأتي العقاب الإلهي بزوال المُلك، وزوال الدولة، والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة.

وفي سُورة “الأنعام”، آيات توضح هذا المعنى، وبها من قوة التعبير ما يشير إلى قوة أخذ الله عز وجل للقوم الظالمين؛ حيث يأخذهم بغتةً، بكل ما في الكلمة من معانٍ، ولنتخيل حال الإنسان في أوج خيلائه وتكبره وتجبُّره؛ ثم يأتيه أمر الله تعالى فجأة، فيسقط من أعلى علِّيين الدنيا إلى أسفل سافلين الدنيا والآخرة.

ويقطع دابرهم؛ فلا يبقى منهم سوى العظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.. يقول رب العزة: “فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)” [سُورة الأنعام].

وهو ما تلخصه آيات من سورة “هود”؛ تلخص هذا الحال، ويقول فيها الله تبارك وتعالى: “ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آَلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ” (103).

وفي الأخير؛ فإن المتأمِّلَ منَّا لأحوال السياسة العربية في العقود الأخيرة، ما قبل وما بعد ثورات الربيع العربي؛ سوف يجد أن هذه السُّنن تُطبَّق أمام أعيننا، فكم من طاغية أخذته سُنن الله تعالى بغتةً في أوج قوته؛ فانتهى مهزومًا مدحورًا ذليلاً.. مقتولاً في الصحراء، مجرورًا على الأرض، على يد بعض من ظلمهم.. أو ذليلاً ينتظر نهايته في بناية مجهولة الرقم خائفًا يترقب..!

هذا كله “بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ” [سُورة القَصَص- مِن الآية 43].. ولا نقول إلا كما قال الله تبارك وتعالى: “قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) [سُورة الأنعام].

المصدر: http://www.basaer-online.com/%D8%B2%D9%88%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%81...

الأكثر مشاركة في الفيس بوك