الحرب على الإسلاميين وتراجع التدين في المجتمعات العربية
أحمد التلاوي
انشغل الكثيرون في الفترة الأخيرة بتقدير الأثر السياسي للارتكاسات الحاصلة على ربيع الثورات الشعبية العربية، التي خرجت ضد الظلم والفساد والاستبداد، وضد القوى التي تمثل الاستعمار الخارجي بين ظهرانيها، إلا أن هناك جوانب أخرى يرى الكثيرون أنها أهم وأخطر بكثير من الأثر السياسي للحرب الراهنة على التيارات الإسلامية، وخصوصًا التيارات الصحوية التي تتبنى خطاب الإصلاح وفعل التغيير، وفي القلب منها الإخوان المسلمون.
تتعلق هذه الآثار بالجوانب المجتمعية التي كانت تعمل في إطارها هذه التيارات، وما يتعلق بالجوانب القيمية والأخلاقية لتأثير عمل تيارات الصحوة الإسلامية في هذه المجتمعات التي شهدت نشاطًا متناميًا للصحوة في العقود الأخيرة.
فلقد اندلعت هذه الثورات بعد عقود طويلة من العمل المجتمعي والسياسي، والذي انصبَّ- خلافًا لما يظنه البعض- على الجوانب المتعلقة بالتغيير الفكري والأخلاقي والقيمي، والذي كان في مختلف المجالات، السياسية والاجتماعية، من أجل تعريف الناس أولاً بحقائق دينهم الذي حاولت قوى الاستعمار العالمي، والأنظمة الاستبدادية القومية والعلمانية، حجبها عنهم، ثم بعد ذلك تهيئة المجتمعات فكريًّا، من أجل قبول البديل الإسلامي الذي فيه سعادة البشرية كلها، والأفضل باعتباره الأنسب لهوية المجتمعات العربية والإسلامية.
ومن ثَمَّ؛ فإن التغيير القيمي، الفكري والأخلاقي، هو أساس أي تغيير آخر يحدث، بما في ذلك المستوى الخاص بأهم الأمور في حياة المسلمين، وهي أمور السياسة والحكم، والتي تعني إدارة الشؤون العامة والخاصة للرعية.
“كان الجهد الرئيس للصحوة الإسلامية في البدايات، يتمثل بتحقيق مفاهيم التدين في حياة الفرد، ثم الأسرة والمجتمع، باعتبار أنه المفتاح الرئيس لأي تغيير في المفاهيم والأخلاق، وبالتالي فهو مفتاح أي تغيير صحيح وشامل لكل أمور المجتمع “
وذلك كان الجهد الرئيس للصحوة الإسلامية في البدايات الأولى، هو تحقيق مفاهيم التديُّن في حياة الفرد، ثم الأسرة والمجتمع، باعتبار أنه المفتاح الرئيس لأي تغيير في المفاهيم والأخلاق، وبالتالي فهو مفتاح أي تغيير صحيح وشامل لكل أمور المجتمع، في إطار عملي إصلاح شؤون الراعي والرعية.
وفي هذا الإطار، نجد تفكير الجيل المؤسس للمشروع، كان يركز على جانبَيْن في ذلك، الأول هو أهمية رد المسلمين لدينهم، والثاني هو أن العالم هو الخاسر بتراجع الإسلام ومشروعه الحضاري الإنساني الشامل، سواء على المستوى المادي، أو المستوى القيمي، الذي ينظم هذا الجانب المادي، ولا يجعله يتحول إلى مادية متوحشة منفلتة كما فعلت الحضارة الغربية، ذات الطابع المادي الصرف.
ولقد كان ذلك الأمر واضحًا في الكثير من الأدبيات التأسيسية التي كانت ولا تزال هي القاعدة الفكرية التي يتحرك من خلالها المشروع الإسلامي الحركي منذ التأسيس له قبل تسعة عقود، استجابة لواقعة انهيار دولة الخلافة الإسلامية الجامعة في منتصف العشرينيات من القرن العشرين، بمؤامرة استعمارية كبرى.
ومن بين أهم الأدبيات التي توضح ذلك، ما جاء كتاب “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟”، للعلامة أبو الحسن الندوي؛ والذي يقول الإمام الشهيد سيد قطب في مقدمة إحدى طبعاته: “ما أحوج المسلمين اليوم إلى من يرد عليهم إيمانهم بأنفسهم وثقتهم بماضيهم ورجائهم في مستقبلهم .. وما أحوجهم لمن يرد عليهم إيمانهم بهذا الدين الذي يحملون اسمه ويجهلون كنهه، ويأخذونه بالوراثة أكثر مما يتخذونه بالمعرفة”.
فهذه العبارات تشير إلى أن نشر فكرة التديُّن، بمعناها الصحيح والشامل، كانت نقطة ارتكاز أساسية للمشروع الصحوي، والذي في القلب والقيادة منه الإخوان المسلمون.
وعندما نقول التدين بمعناه الصحيح والشامل؛ فإن هذه نقطة مهمة يجب التوقف عندها؛ حيث لم يقف المشروع عند جزئيات بعينها من التديُّن كالشكل والمظهر، أو ما شابه؛ وإنما امتد ليشمل تهيئة الجيل الجديد الناشئ بحقيقة الدين، وخصوصًا فيما يتعلق بالجوانب الأخلاقية، وحقيقة رسالة الإنسان على الأرض، وكذلك الدور المطلوب منه ومن الأمة بأسرها في هذه المرحلة.
صفوة القول؛ إنها معركة قيمية، وبالتالي، فلقد ركزت الدولة العميقة والأنظمة الاستبدادية الحاكمة في البلدان العربية التي تشهد في الوقت الراهن، حربًا ضروسًا على الإسلاميين، على تشويه الجوانب القيمية والأخلاقية للإسلام السياسي، سواء فيما يخص الفكرة، أو الأفراد والجماعات التي تندرج تحت هذا المسمى، مهما كانت ألوان طيفها الفكري والسياسي.
هذا جانب، أما الجانب الآخر، وهو الأخطر والأهم؛ فهو التركيز على الجوهر والمحتوى القيمي للمشروع؛ فكان التديُّن ومظاهره من بين أبرز مستهدفات حملة التشويه والتشويش هذه.
تم ربط التديُّن بمشروع الإسلام السياسي، بالرغم من أن المشروع، بمختلف جماعاته وحركاته، إنما في الأساس أداة لخدمة الدين، ونشر دعوة الإسلام، ولكن الهجمة الإعلامية والمعنوية، ضمت الدين والتديُّن إلى نطاق الحرب التي توسَّعت، باعتبار طبيعة الأطراف المتورطة فيها.
فمخطئ من يظن أن الأمر يقف عند حدود أنظمة مستبدة حاكمة؛ وإنما الحرب تأتي من الخارج، وما هذه الأنظمة والحكومات الفاسدة سوى مخلب قط ورأس حربة للقوى الأساسية الساعية لإفساد الانتصارات التي حققها المشروع الإسلامي بالثورات الشعبية التي اندلعت في العالم العربي، وكان لها صدىً عالمي كبير.
فالصحوة الإسلامية تهدد الحضارة الغربية في مقتل، وتهدد مصالح القوى الكبرى فيها، مع سعي الإسلاميين إلى إقامة حضارة العدل والسلام، وهو ما يعني سقوط قيم الرأسمالية المتعفنة -كما وصفها قطب والندوي وغيرهما من مفكري الصحوة الإسلامية- وبالتالي تهديد المصالح السياسية والاقتصادية للغرب، ومنه الكيان الصهيوني.
والمطلع في الوقت الراهن على حال المجتمعات العربية والمسلمة؛ يجد أنه للأسف الشديد، قد أتت هذه الحرب الأخلاقية أو اللاأخلاقية بمعنى أدق، ببعض الأُكُل والثمار الفاسدة؛ فحتى على مستوى الهدي الظاهر، والتديُّن الشكلي، صار الحجاب الشرعي مظهرًا للتطرف، وباتت اللحية مصدر توجُّس لدى الكثيرين، وبات الجهر بالإفطار في شوارعنا عادة، ولم يعد صاحب الرذيلة يتخفَّى!
وعلى المستويات الأخرى، فُرِضت عزلة إجبارية على الإسلاميين، على مختلف المستويات، السياسية والاجتماعية والإعلامية، وصار الارتباط، مجرد الارتباط بهم؛ يحمل الكثير من المخاطر!
“مجتمعاتنا الإسلامية تواجه الآن أكبر خطر واجهها عبر التاريخ، وهو خطر حرب تستهدف قيمها وهويتها، بعد أن استهدف إطارها السياسي، كما بات التديُّن “خطرًا” على صاحبه، وخصوصًا لو كان تديُّنًا بالمعنى الشامل”
إن مجتمعاتنا العربية والإسلامية تواجه الآن أكبر خطر واجهها عبر التاريخ، وهو خطر حرب تستهدف قيمها وهويتها، بعد أن استهدف إطارها السياسي الشامل، وهو دولة الخلافة، وعادت الرذائل إلى العلن، وبات التديُّن “خطرًا” على صاحبه، وخصوصًا لو كان تديُّنًا بالمعنى الشامل الحقيقي.
ومن ثَمَّ؛ فإن واجب الساعة على دعاتنا ومفكرينا في هذه المرحلة، السعي بكل قوة إلى مجابهة هذه الموجة الارتدادية، والعمل على تثبيت أركان الفكرة والمشروع من جديد.
صحيح أن العقبات عديدة وخطيرة، ولا يتوقف الأمر على غلق المنابر أو حتى الاعتقال؛ وإنما قد يمتد إلى فقدان الحياة ذاتها، ولكننا في آخر الزمان؛ حيث القابض على دينه كالقابض على الجمر، كما قال الرسول الكريم “صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”؛ إلا أن الأمر جدُّ خطير؛ يستوجب الكثير من العناء؛ لأننا نتكلم عن صُلب ومحتوى المشروع الحضاري الإسلامي برمَّته، ومستقبله بين ظهرانيي مجتمعاتنا؛ فلا نقول سوى ما قاله النبي “صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”: “فسددوا وقاربوا” [أخرجه مُسلم].
المصدر: http://www.basaer-online.com/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D8%B9%D9%84...