مـداخل للإصـــلاح الديني في الدفاع عن حرية العقيدة

بقلم كمال عبد اللطيف

نعترض على أشكال التوظيف التي تمارس اليوم على الإسلام في مجتمعاتنا، ونُواجه صُورَ البلبلة والخلط التي تزداد اتساعا في أزمنة المحافظين الجدد، وتابعيهم من الجهاديين والسلفيين، ومقابل ذلك، لا نستبعد مكاسب الروحانيات الحداثية الصانعة اليوم لكثير من مزايا عصرنا في التقنية والمعرفة، والفن والجمال. نحن نشير هنا إلى الآفاق الرحبة التي دشنتها الرؤية الحداثية للعالم، في مجال الفنون ومبتكرات التقنية، البَانِيةِ لمآثر ومكاسب الأزمنة الحديثة في عالمنا.

نتجه ضمن السياق المسطر أعلاه، إلى التفكير في المساهمة الفكرية التي بلورتها بعض أعمال عبد الله العروي في مجال تجديد أسس الإيمان الديني في مجتمعنا، بهدف تحرير الدين من سطوة الجهل. فقد لمسنا في أعماله الأخيرة توجهاجديدا في الكتابة، يروم الاقتراب النقدي من هيمنة صور التوظيف الجديدة للمقدس، حيث يعمل على وصل معركة تحرير الدين بمشروعه الفكري التاريخاني.

فوجئ المهتمون بالمنجزات الفكرية لعبد الله العروي، بنوعية المؤلفات التي أصدر في نهاية العقد الأول ومطلع الثاني من الألفية الثالثة، وهي مؤلفات يواصل فيها جهوده في التنوير، بطرق أخرى في الكتابة والبحث والنقد والمراجعة.الأمر الذي يجعلنا نعاين شكلا من أشكال مواجهة بعض المفكرين العرب لأسئلة الواقع العربي، في ضوء المتغيرات والمستجدات التي تصنع تحديات جديدة، من أجل إيجاد مخارج وحلول لها.

إن ما هو ملفت للنظر في آثار العروي الأخيرة، يتمثل في إدراكه المتواصل للمسؤوليات الكبرى الملقاة على كاهلالنخب المسلحة بمقدمات الفكر الحداثي، وذلك من أجل مزيد من البحث الرامي إلى تجاوز الصور القديمة والأشكال المستجدة لبنيات التقليد السميكة والصلبة، السائدة في ثقافتنا ومجتمعنا وأنظمتنا السياسية.

وإذا كان مفهوم التأخر التاريخي، قد شكل منطلق رؤيته في البحث في كيفيات الإصلاح والتجاوز، في نصه أزمة المثقفين العرب (1974)، حيث عمل في تشخيصه لأزمة الثقافة العربية، على توضيح كيفيات تأرجحها بين المنطق السلفي والمنزع الانتقائي، فإن مفهوم السنة ومرادفه التقليد، قد شكل في نص السنة والإصلاح (2008)، العنوان البارز في المنازلة المتواصلة في المجتمع العربي منذ أربعة عقود، بين الحداثة والتقليد، حيث تتنوع الوقائع ويتواصل الصراع، تتجدد النخب، وتتطور المناهج والأدوات، ويظل المثقف التاريخاني عنوانا ليقظة عقلية نقدية مستميتة ومتواصلة، مُوجِّها بصره في اتجاه هدفٍ واضح ومُحدد، مهما تنوعت العلل واستشرت، ذلك أن حاجتنا في المجتمع العربي إلى الحداثة والفكر التاريخي تظل أولوية مؤكدة.

ونحن نرى أن اليقظة المطلوبة معنية أيضا بضرورة تنويع أدواتها، تطوير أساليبها، وتوظيف الوسائط الجديدة في التواصل بهدف توسيع المشاركة، ودون إغفال مراجعة المقدمات وتحيين جوانب من مضامينها، في ضوء المكاسب المعرفية والمنهجية الجديدة، بهدف توطين مبادئ الحداثة والفكر التاريخي في مجتمعنا.

يمسك الباحث في كتاب السنة والإصلاح بجوانب من العقيدة، وقد استوت في صورة تقاليد وذهنيات وبنيات ثقافية داخل المجتمع، ليفكر في علاقتها باستمرار التأخر التاريخي. والهدف كما أشرنا واحد، يتمثل في البحث في سبل تفكيك وزحزحة التقليد، ثم توطين مقدمات المجتمع العصري، مجتمع الحداثة والتاريخ.

يعرف قراء العروي علاقة مشروعه في الفكر العربي بمشاريع التنوير، التي تبلورت في الفكر الفرنسي والأوروبي في القرن الثامن عشر. كما يعرفون أن إيحاءات عناوينِ مصنفاتٍ تُقارب موضوع صعود الأمم وانحطاطها، أو تقارب إشكالات الدين والتربية في مجتمعنا (نحن نشير هنا إلى الترجمات التي أَنْجز العروي مؤخرا، حيث ترجم كتاب لمونتسكيو(1689-1755)، تأملات في تاريخ الرومان، أسباب النهوض والانحطاط (2011)، ثم كتاب روسو(1712-1778) دين الفطرة، أو عقيدة قس من جبل سافوا (2012).تُعدُّ من صميم الخيارات الفكرية المعلنة في مواقفه وخلاصات أعماله.

لكن لماذا يعود عبد الله العروي خلال السنوات الأخيرة، إلى إنجاز ترجمات ومقدمات لقراءتها، بعد أن واجه خلال العقود الأربعة الماضية، مجموعة منالوقائع التاريخية والهزائم والانكسارات العربية، وحاول التفكير فيها، مستعينا برصيده في التاريخ وفي الفكر والفلسفة السياسية؟.

قد لا يستغرب الباحث القريب من روح الخيارات المبنية في أعماله من تمارينه في الترجمة، ومكاسبها البيداغوجية في تقريب بعض أطروحات فكر الأنوار للقارئ العربي. كما أن العناية بالمقدمات التي كتب العرويلهذه الأعمال، تكشف أن لجوءه إلى مثل هذه التمارين، والعناية بنصوصها ومفرداتها، يندرج ضمن خطته في مزيد من تقريب آرائه ومواقفه التحديثية، من القراء وأجيالهم الجديدة. وقد سبق له أن وضح في إحدى يومياته في الجزء الثالث منخواطر الصباح (1982-1999) الصادر 2005، حاجة الفكر العربي إلى أمهات الكتب فيالفكر الحديث والمعاصر، بحكم أنها تضيء الطريق أمام مساعي التحديث المتواصلة في فكرنا ومجتمعنا.

يكتب العروي مقدمة مكثفة لتصورات روسو للدين والإيمان الديني، وتحمل نبرات المقدمة كيرا من الإيحاءات الموصولة بجوانب من تجليات المقدس في مجتمعنا. فقد استوعب مقدمته ثلاثة محاور، ربط في الأول منها بين محتوى النص وبين العلاقة التي يفكر انطلاقا منها فيه، محاولاً تذكير قرائه بأهمية المقارنة في المنزع التاريخاني، ومؤكداً على جملة من المعطيات التي سبق له أن أبرزها وألح عليها في مختلف أعماله، يتعلق الأمر بضرورة الاستفادة من مكاسب التاريخ والعصر، لمواجهة العلل المتشابهة فيه، حيث يؤكد بوضوح قاطع، عدم إمكانية مماثلة نتائج ومعطيات خطاب روسو مع الكتابات المشابهة له في التراث الإسلامي، سواء في طريقة بسطها لعظته في فكرنا وتراثنا، وذلك بحكم أن منطلقات التفكير في النظر الروسوي، يُحددِّها وجدان الفرد الحر المستقل، وهذا الأخير، يعد الغائب الأكبر في تصورات أصحاب النصوص المماثلة له في فكرنا، من أمثال ابن رشد والغزالي وابن طفيل ومحمد عبده ومحمد إقبال.

أما في المحور الثاني،فقد قام بإحصاء وترتيب موضوعات الكتاب. وقد جاء المحور الثالث، موصولا بالثاني، حيث قام العروي بقراءة محتوى النص المترجم في علاقته بفلسفة روسو الحداثية. وسنفصل القول في المحاور المذكورة، كما سنعمل على إبراز أهميتها في الحلقة القادمة.

المصدر: http://mominoun.com/articles/%D9%85%D8%AF%D8%A7%D8%AE%D9%84-%D9%84%D9%84...

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك