القصص في القرآن الكريم

إسلام محمود دربالة

 

تمهيد

الحادثة المرتبطة بالأسباب والنتائج يهفو إليها السامع . فإذا تخللتها مواطن العبرة في أخبار الماضين كان حب الاستطلاع لمعرفتها من أقوى العوامل على رسوخ عبرتها في النفس ، والموعظة الخطابية تسرد سردًا لا يجمع العقل أطرافها ولا يعي جميع ما يلقي فيها ، ولكنها حين تأخذ صورة من واقع الحياة في أحداثها تتضح أهدافها ، ويرتاح المرء لسماعها ، ويصغي إليها بشوق ولهفة ، ويتأثر بما فيها من عبر وعظات ، والقصص الصادق يمثل هذا الدور في الأسلوب العربي أقوى تمثيل ، ويصوره في أبلغ صوره : قصص القرآن الكريم .

معنى القصص:

القص : تتبع الأثر . يقال : قصصتُ أثره : أي تتبعته ، والقصص مصدر ، قال تعالى : ) فارتدا على أثارهما قصصا ([الكهف: 64] أي رجعا يقصان الأثر الذي جاءا به . وقال على لسان أم موسى ) وقالت لأخته قصيه ( [القصص: 11] أي تتبعي أثره حتى تنظري من يأخذه . والقصص كذلك : الأخبار المتتبعة قال تعالى ) إن هذا لهو القصص الحق ( [آل عمران: 62]، وقال : ) لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب ( [يوسف: 111] والقصة : الأمر ، والخبر ، والشأن ، والحال وقصص القرآن: أخباره عن أحوال الأمم الماضية ، والنبوات السابقة ، والحوادث الواقعة _ وقد اشتمل القرآن على كثير من وقائع الماضي ، وتاريخ الأمم ، وذكر البلاد والديار . وتتبع آثار كل قوم ، وحكى عنهم صورة ناطقة لما كانوا عليه .

قال الشيخ محمد بن عثيمين: القصص والقص لغة : تتبع الأثر

وفي الاصطلاح : الإخبار عن قضية ذات مراحل يتبع بعضها بعضًا .

وقصص القرآن أصدق القصص لقوله تعالى : ) ومن أصدق من الله حديثًا ( وذلك لتمام مطابقتها للواقع .

وأحسن القصص لقوله تعالى : ) نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن ( وذلك لاشتمالها على أعلى درجات الكمال في البلاغة وجلال المعنى .

وأنفع القصص لقوله تعالى : ) لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ( وذلك لقوة تأثيرها في إصلاح القلوب والأعمال والأخلاق([1])

*      *            *

أنواع القصص في القرآن:

والقصص في القرآن ثلاثة أنواع :

النوع الأول : قصص الأنبياء ، وقد تضمن دعوتهم إلى قومهم ، والمعجزات التي أيدهم الله بها ، وموقف المعاندين منهم ، ومراحل الدعوة وتطورها وعاقبة المؤمنين والمكذبين . كقصة نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وهارون ، وعيسى ، ومحمد ، وغيرهم من الأنبياء والمرسلين ، عليهم جميعًا أفضل الصلاة والسلام .

النوع الثاني : قصص قرآني يتعلق بحوادث غابرة ، وأشخاص لم تثبت ثبوتهم ، كقصة الذين أخرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت . وطالوت وجالوت ، وابني آدم ، وأهل الكهف ، وذي القرنين ، وقارون ، وأصحاب السبت ، ومريم ، وأصحاب الأخدود ، وأصحاب الفيل ونحوهم.

النوع الثالث : قصص يتعلق بالحوادث التي وقعت في زمن رسول الله r كغزوة بدر واُحد في سورة آل عمران ، وغزوة حنين وتبوك في التوبة ، وغزوة الأحزاب في سورة الأحزاب ، والهجرة ، والإسراء ، ونحو ذلك .

*       *        *

فوائد قصص القرآن:

وللقصص القرآني فوائد نجمل أهمها فيما يأتي :

1-    إيضاح أسس الدعوة إلى الله ، وبيان أصول الشرائع التي يبعث بها كل نبي : ) وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ( [الأنبياء : 25].

2- تثبيت قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلوب الأمة المحمدية على دين الله وتقوية ثقة المؤمنين بنصرة الحق وجندة ، وخذلان البطل وأهله: ) وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ، وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين ( [هود: 12] .

3- تصديق الأنبياء السابقين وإحياء ذكراهم وتخليد آثارهم .

4- إظهار صدق محمد صلى الله عليه وسلم في دعوته بما أخبر به عن أحوال الماضين عبر القرون والأجيال .

5- مقارعته أهل الكتاب بالحجة فيما كتموه من البينات والهدى ، وتحديه لهم بما كان في كتبهم قبل التحريف والتبديل ، كقوله تعالى : ) كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسة من قبل أن تنزل التوراة ، قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ( [آل عمران: 93].

6- والقصص ضرب من ضروب الأدب ، يصغى إليها السامع ، وترسخ عبره في النفس : ) لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب ( [يوسف: 111] ([2]).

7-بيان حكم الله تعالى فيما تضمنته هذه القصص لقوله تعالى : ) ولقد جاءهم من الأنبياء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغني النذر (

8- بيان عدله تعالى بعقوبة المكذبين لقوله تعالى عن المكذبين : ) وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك ( .

9- بيان فضله تعالى بمثوبة المؤمنين لقوله تعالى : ) إلا آل لوط نجيناهم بسحر نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر ( .

10- تسلية النبي r عما أصابه من المكذبين له لقوله تعالى : )  وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير ( .

11-        ترغيب المؤمنين في الإيمان بالثبات عليه والازدياد منه إذ علموا نجاة المؤمنين السابقين وانتصار من أمروا بالجهاد لقوله تعالى : ) فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين ( .

12-        تحذير الكافرين من الاستمرار في كفرهم لقوله تعالى : ) أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها (.

13-         إثبات رسالة النبي r فإن أخبار الأمم السابقة لا يعلمها إلا الله عز وجل لقوله تعالى :  )  تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ( وقوله ) ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله ( ([3]).

تكرار القصص وحكمته :

يشتمل القرآن الكريم على كثير من القصص الذي تكرر في غير موضع ، فالقصة الواحدة قد يتعدد ذكرها في القرآن.

ومن القصص القرآنية مالا يأتي إلا مرة واحدة مثل قصة لقمان وأصحاب الكهف ومنها ما يأتي متكررًا حسب ما تدعو إليه الحاجة وتقتضيه المصلحة ولا يكون هذا المتكرر على وجه واحد بل يختلف في الطول والقصر واللين والشدة وذكر بعض جوانب القصة في موضع دون آخر([4]) .

ومن حكمة هذا:

1-    بيان بلاغة القرآن في أعلى مراتبها . فمن خصائص البلاغة إبراز المعنى الواحد في صور مختلفة ، والقصة المتكررة ترد في كل موضع بأسلوب يتمايز عن الآخر ، وتصاغ في قالب غير القالب ، ولا يمل الإنسان من تكرارها ، بل تتجدد في نفسه معان لا تحصل له بقراءتها في المواضع الأخرى.

2-    قوة الإعجاز _ فإيراد المعنى الواحد في صور متعددة مع عجز العرب عن الإتيان بصورة منها أبلغ في التحدي .

3-    الاهتمام بشأن القصة لتمكين عبرها في النفس ، فإن التكرار من طرق التأكيد وأمارات الاهتمام . كما هو الحال في قصة موسى مع فرعون ، لأنها تمثل الصراع بين الحق والباطل أتم تمثيل _ مع أن القصة لا تكرر في السورة الواحدة مهما كثر تكرارها .

4-     اختلاف الغاية التي تساق من أجلها القصة _ فتذكر بعض معانيها الوافية بالغرض في مقام ، وتبرز معان أخرى في سائر المقامات حسب اختلاف مقتضيات الأحوال ([5])

5-    بيان أهمية تلك القصة لأن تكرارها يدل على العناية بها .

6-     مراعاة الزمن وحال المخاطبين بها ولهذا تجد الإيجاز والشدة غالبًا فيما أتى من القصص في السور المكية والعكس فيما أتى في السور المدنية .

7-     ظهور صدق القرآن وأنه من عند الله حيث تأتي هذه القصص متنوعة بدون تناقض ([6]).

*     *      *

قصص القرآن بين الإيمان والإلحاد:

وقد تعرض كتاب الله عز وجل لعدد من الشبهات التي يذيعها الملاحدة  والمستشرقين والمغرضين، وأذيالهم ممن ينتسبون إلى المسلمين ويتسمون بأسمائهم، ومن ذلك ما هذى به طه حسين حول قصة إبراهيم عليه السلام وبنائه الكعبة([7]إلا أن علماءالإسلام تصدوا له وردوا عليه وبينوا المحجة بأوضح حجة.

ومن ذلك أن أحد الطلاب الجامعيين في مصر قدم رسالة لنيل درجة ( الدكتوراه) كان موضوعها : ( الفن القصصي في القرآن ) ([8])أثارت جدلاً طويلاً سنة 1367 هجرية ، وكتب عنها أحد أعضاء اللجنة الذين اشتركوا في مناقشة الرسالة _ وهو الأستاذ أحمد أمين _ تقريرًا بعث به إلى عميد كلية الآداب ، ونشر في مجة ( الرسالة ) وقد تضمن التقرير نقدًا لاذعًا لما كتبه الطالب الجامعي ، وإن كان أستاذه المشرف قد دافع عنه . وصدر الأستاذ ( أحمد أمين ) بالعبارة الاتية :

( وقد وجدتها رسالة ليست عادية ، بل هي رسالة خطيرة ، أساسها أن القصص في القرآن عمل فني خاضع لما يخضع له الفن من خلق وابتكار من غير التزام لصدق التاريخ . (والواقع أن محمدًا فنان بهذا المعنى ) ، ثم قال : ( وعلى هذا الأساس كتب كل الرسالة من أولها إلى آخرها ، وإني أرى من الواجب أن .

اسوق بعض أمثلة ،توضح مرامي كاتب هذه الرسالة وكيفة بنائها ) ، ثم أورد الاستاذ (أحمد أمين) أمثلة منتزعة من الرسالة تشهد بما وصفها به من هذه العبارة المجملة([9]).

كإدعاء صاحب الرسالة أن القصة في القرآن لا تلتزم الصدق التاريخي . وإنما تتجه كما يتجه الأديب في تصوير الحادث تصويرًا فنيًا ، وزعمه أن الفرآن يختلق بعض القصص وأن الأقدمين أخطأوا في عد القصص القرآني تاريخًا يعتمد عليه ..

والمسلم الحق هو الذي يؤمن بأن القرآن كلام الله ، وأنه منزه عن ذلك التصوير الفني الذي لا يعنى فيه بالواقع التاريخي، وليس قصص القرآن إلا الحقائق التاريخية تصاغ في صور بديعة من الألفاظ المنتقاه ، والأساليب الرائعة .

ولعل صاحب الرسالة درس فن القصة في الأدب ، وأدرك من عناصرها الأساسية الخيال الذي يعتمد على التصوير، وأنه كلما ارتقى خيالها ونأى عن الواقع كثر الشوق إليها ، ورغبت النفس فيها ،واستمتعت بقرائتها . ثم قاس القصص القرآني على القصة الأدبية .

وليس القرآن كذلك فإنه تنزيل من عليم حكيم ، ولا يرد في أخباره إلا مايكون موافقًا للواقع  ، وإذا كان الفضلاء من الناس يتورعون من أن يقولوا زورًا ويعدونه من أقبل الرذائل المزرية بالإنسانية ، فكيف يسوغ العاقل أن يلصق الزور بكلام ذي العزة والجلال ؟ والله تعالى هو الحق : )ذلك بأن الله هو الحق وأنما بدعون من دونه هو الباطل ( [الحج: 62].

وأرسل رسوله بالحق : ) إنا أرسلناك بالحق بشيرًا ونذيرًا( [فاطر: 24].

 ) والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق ( [فاطر: 31].

) يا أيها الناس قد جائكم الرسول بالحق من ربكم ( [النساء: 17].

) وأنزلنا إليك الكتاب بالحق ( [المائدة: 48].

)والذي أنزل إليك من ربك الحق ( [الرعد: 1].

وما قصه الله تعالى في القرآن هو الحق  : ) نحن  نقص عليك نبأهم بالحق ( [الكهف: 13].

)نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق ( [القصص: 3] ([10]).

*     *      *

التربية بالقصص القرآني:

للقصة في التربية الإسلامية وظيفة تربوية لا يحققها لون آخر من ألوان الأداء اللغوي.

ذلك أن القصة القرآنية تمتاز بميزات جعلت لها آثارًا نفسية وتربوية بليغة، محكمة، بعيدة المدى على مر الزمن، مع ما تثيره من حرارة العاطفة ومن حيوية وحركية في النفس، تدفع الإنسان إلى تغيير سلوكه وتجديد عزيمته بحسب مقتضى القصة وتوجييها وخاتمتها، والعِبرَةِ منها. وتتجلى أهم هذه الميزات فيما يلي([11]):

الميزات التربوية للقصص القرآني:

1) تشد القصة القارئ، وتوقظ انتباهه، دون توان أو تراخٍ، فتجعله دائم التأمل في معانيها والتتبع لمواقفها، والتأثر بشخصياتها وموضوعها حتى آخر كلمة فيها.

ذلك أن القصة تبدأ غالبًا، وفي شكلها الأكمل، بالتنويه بمطلب أو وعد أو الإنذار بخطر، أو نحو ذلك مما يسمى عقدة القصة، وقد تتراكم، قبل الوصول إلى حل هذه العقدة، مطالب أو مصاعب أخرى، تزيد القصة حبكًا، كما تزيد القارئ أو السامع شوقًا وانتباهًا، وتلهفًا على الحل أو النتيجة.

ففي مطلع قصة يوسف مثلاً، تعرض على القارئ ( رؤيا يوسف عليه السلام ) يصحبها وعد الله ، على لسان أبيه ، بمستقبل زاهر ، ونِعَم من الله يسبغها على الأسرة الفقيرة المتعثرة ، الداعية إلى الله .

وتتتابع المصائب والمشكلات على بطل القصة ( يوسف عليه السلام ) ويتابع القارئ اهتمامه ينتظر تحقيق وعد الله ، ويترقب انتهاء هذه المصائب والمشكلات بتلهف .

2) تتعامل القصة القرآنية والنبوية مع النفس البشرية في واقعيتها الكاملة ، متمثلة في أهم النماذج التي يريد القرآن إبرازها للكائن البشري ، ويوجه الاهتمام إلى كل نموذج بحسب أهميته ، فيُعرض عرضًا صادقًا يليق بالمقام ويحقق الهدف التربوي من عرضه ، ففي قصة يوسف يعرض نموذج الإنسان الصابر على المصائب في سبيل الدعوة إلى الله ( في شخص يوسف ) ، ونموذج المرأة المترفة تعرض لها حبائل الهوى فملأ قلبها الحب والشهوة ، ويدفعها إلى محاولة ارتكاب الجريمة ، ثم إلى سَجن إنسان بريء مخلص ، لا ذنب له إلا الترفع عن الدنايا والإخلاص لسيده ، ومراعاة أوامر ربه .

ونموذج إخوة يوسف : تدفعهم هواتف الغيرة والحسد والحقد والمؤامرة والمناورة ومواجهة آثار الجريمة والضعف والحيرة أمام هذه المواجهة .

ونموذج يعقوب : الوالد المحب الملهوف والنبي المطمئن الموصول . يعرض القرآن كل هذه النماذج البشرية عرضًا واقعيًا نظيفًا من غير إفحاش ولا إغراء بفاحشة أو جريمة ، كما يفعل مؤلفو القصص التي يسمونها واقعية أو طبيعية ، من روادِ جاهلية القرن العشرين ، ذلك أن من أهم غايات القصة القرآنية : التربية الخلقية عن طريق علاج النفس البشرية علاجًا واقعيًا .

فالقصة القرآنية ليست غريبة عن الطبيعة البشرية ، ولا محلقة في جو ملائكي محض ، لأنها إنما جاءت علاجًا لواقع البشر ، وعلاج الواقع البشري لا يتم إلا بذكر جانب الضعف والخطأ على طبيعته ، ثم بوصف الجانب الآخر الواقعي المتسامي الذي يمثل الرسل المؤمنون ، والذي تؤول إليه القصة بعد الصبر والمكابدة والجهاد والمرابطة ، أو الذي ينتهي عنده المطاف لعلاج ذلك الضعف والنقص ، والتردي البشري في مهاوي الشرك أو حمأة الرذيلة ، علاجًا ينهض بالهمم ، ويدفع بالنفس للسمو ، ما استطاعت ، إلى أعلى القمم ، حيث تنتهي القصة بانتصار الدعوة الإلهية ، ووصف النهاية الخاسرة للمشركين الذي استسلموا إلى الضعف والنقص ، ولم يستجيبوا لنداء ربهم فيزكوا أنفسهم .

3) تربي القصة القرآنية العواطف الربانية وذلك :

أ‌)  عن طريق إثارة الانفعالات كالخوف والترقب ، وكالرضا والارتياح والحب ، وكالتقزز والكره ، كل ذلك يثار في طيات القصة بما فيه من وصف رائع ووقائع مصطفاة ، فقصة يوسف مثلاً تربي الصبر والثقة بالله ، والأمل في نصره ، بعد إثارة انفعال الخوف على يوسف ، ثم الارتياح إلى استلامه منصب الوزارة .

ب‌)   وعن طريق توجيه جميع هذه الانفعالات حتى تلتقي عند نتيجة واحدة هي النتيجة التي تنتهي إليها القصة ، فتواجه مثلاً حماسة قارئ القصة نحو يوسف وأبيه ، حتى يلتقيا في شكر الله في آخر القصة ، ويوجه بُغْض الشر الذي صدر عن إخوة يوسف حتى يعترفوا بخطئهم ويستغفر لهم أبوهم في آخر القصة ، وهكذا …

ج) وعن طريق المشاركة الوجدانية حيث يندمج القارئ مع جو القصة العاطفي حتى يعيش بانفعالاته مع شخصياتها ، ففي قصة يوسف يعتري القارئ خوف أو قلق عندما يراد قتل يوسف ، وإلقاؤه في الجب ، ثم تنسرح العواطف قليلاً مع انفراج الكربة عنه ، ثم يعود القارئ إلى الترقب عندما يدخل يوسف دار ( العزيز ) وهكذا يعيش القارئ مع يوسف في سجنه وهو يدعوا إلى الله ، حتى يفرح بإنقاذه ، ثم بتوليه وزارة مصر ، وبنجاة أبيه من الحزن ، وهو في كل ذلك رسول الله والداعية إلى دينه .

4) تمتاز القصة القرآنية بالإقناع الفكري بموضوع القصة .

أ‌)  عن طريق الإيحاء ، والاستهواء والتقمص ، فلولا صدق إيمان يوسف لما صبر في الجب على الوحشة ، ولما ثبت في دار امرأة العزيز على محاربة الفاحشة والبعد عن الزلل ، هذه المواقف الرائعة توحي للإنسان بأهمية مبادئ بطل القصة وصحتها ، وتستهويه صفات هذا البطل وانتصاره بعد صبر ومصابره طويلة ، فيتقمص هذه الصفات حتى إنه لقلدها ولو لم يقصد إلى ذلك ، وحتى إنه لَيردّدُ بعض هذه المواقف ويتصورها ويسترجعها من شدة تأثره بها .

ب‌)    عن طريق التفكير والتأمل : فالقصص القرآني لا يخلو من محاورات فكرية ينتصر فيه الحق ، ويصبح مرموقًا محفوفًا بالحوادث والنتائج التي تثبت صحته ، وعظمته في النفس وأثره في المجتمع ، وتأييد الله له . ففي قصة يوسف نجد حوارًا يدور بينه وبين فتيين عاشا معه في السجن فدعاهما إلى توحيد الله . وقصة نوح كلها حوار بين الحق والباطل ، وكذلك قصة شعيب ، وصالح وسائر الرسل : حوار منطقي مدعوم بالحجة والبرهان يتخلل القصة ، ثم تدور الدوائر على أهل الباطل ويظهر الله الحق منتصرًا في نتيجة القصة ، أو يهلك الباطل وأهله ، فيتظاهر الإقناع العقلي المنطقي والإثارة الوجدانية ، والإيحاء وحب البطولة ( الاستهواء ) والدافع الفطري إلى حب القوة وتقليد الأقوياء ، تتظاهر كل هذه العوامل وتتضافر ، يؤيدها التكرار مرة بعد مرة ، فما أكثر تكرار بعض قصص القرآن حتى تؤدي بمجموعها إلى تربية التصور الرباني للحياة وللعقيدة واليوم الآخر وإلى معرفة كل جوانب الشريعة الإلهية معرفة إجمالية وإلى تربية العواطف الربانية من حب في الله ، وكراهية للكفر وحماسة لدين الله ولحماته ، ولرسل الله ، وولاء الله وانضواء تحت لوائه ، وإلى السلوك المستقيم وفق شريعة الله ، والتعامل حسب أوامره ، وبهذا تحيط القصة القرآنية نفس الناشئ بالتربية الربانية من جميع جوانبها العقلية والوجدانية والسلوكية .

أغراض القصة القرآنية([12]):

ليست القصة القرآنية عملاً فنيًا مطلقًا مجردًا عن الأغراض التوجيهية ، إنما هي وسيلة من وسائل القرآن الكثيرة إلى تحقيق أغراضه الدينية الربانية ، فهي إحدى الوسائل لإبلاغ الدعوة الإسلامية وتثبيتها .

والتعبير القرآني مع ذلك يؤلف بين الغرض الديني والغرض الفني ، وبهذا امتازت القصة القرآنية بميزات تربوية وفنية ، ذكرنا بعضها في الصفحات الماضية حيث لاحظنا أن القصص القرآني يَجعَل الجمال الفني أداة مقصودة للتأثير الوجداني ، وإثارة الانفعالات وتربية العواطف الربانية .

وسنعرض للقارئ بعض أغراض القصة القرآنية(2) لكي يكون المربي على بينة :

(1)  من أهم أغراض القصة عمومًا الاعتبار وقد أجلت ذلك إلى بحث ( التربية بالعبرة والموعظة ) وذكرت هناك بعض خطوات تدريس القصة للوصول إلى العبرة منها بالاستجواب .

من هذه الأغراض فيوجه الطلاب بالاستجواب عن كل غرض إلى معرفة هذا الغرض ، وتحقيقه في نفوسهم أو في سلوكهم أو تربية عقولهم ووجدانهم وعواطفهم . وهاك أهم الأغراض :

1)      كان من أغراض القصة القرآنية إثبات الوحي والرسالة ، وتحقيق القناعة بأن محمد r وهو الأمي الذي لا يقرأ ولا يعرف عنه أنه يجلس إلى أحبار اليهود والنصارى ، يتلو على قومه هذه القصص من كلام ربه ، وقد جاء بعضها في دقة وإسهاب ، فلا يشك عاقل في أنها وحي من الله ، وأن محمد رسول الله يبلغ رسالة ربه ، والقرآن ينص على هذا الغرض نصًا في مقدمات بعض القصص أو في أواخرها فقد جاء في أول سورة يوسف :   )  إنّا أَنْزَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلونَ ، نَحْنُ نَقُصٌّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هذا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لِمِنَ الْغافِلينَ ( [ يوسف : 2و3 ] وجاء في سورة هود بعد قصة نوح : ) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نوحيها إِلَيْكْ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا ( [ هود : 49 ]

2)       ومن أغراض القصة القرآنية : بيان أن الدين كله من عند الله .

3)       وأن الله ينصر رسله والذين آمنوا ويرحمهم وينجيهم من المآزق والكروب ، من عهد آدم ونوح إلى عهد محمد r ، وأن المؤمنين كلهم أمه واحدة والله الواحد رب الجميع .

وكثيرًا ما وردت قصص عدد من الأنبياء مجتمعة في سورة واحدة ، معروضة عرضًا سريعًا بطريقة خاصة لتؤيد هذه الحقيقة ، كما في سورة الأنبياء ، حيث ورد ذكر : موسى وهارون ، ثم لمحة موجزة عن قصة إبراهيم ولوط ، وكيف نجاهم الله وأهلك قومهما ، وقصة نوح ، وجانب من أخبار داود وسليمان ، وما أنعم الله عليهما ،

وأيوب حين نجاه الله من الضر ، وورد ذكر إسماعيل وإدريس وذي الكفل وكلهم من الصابرين الصالحين . وذكر الله لنا : ) وَذا النّونِ إذْ ذَهَبَ مُغاضِبًا ( [ الأنبياء : 87 ] قال تعالى ) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمَّ وَكَذَلِكَ نُنْجي الْمُؤْمِنينَ ( [ الأنبياء : 88 ] ثم قال تعالى : ) وَزَكَرِيّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبَّ لا تَذَرْني فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثينَ ( [ الأنبياء : 89 ] ) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهْ إِنَّهُمْ كَانوا يُسارِعونَ في الْخَيْراتِ وَيَدْعونَنا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكانوا لنا خاشِعينَ ( [ الأنبياء : 90 ] ويختم الله هذه السلسلة من الأنبياء بخبر مريم وابنها عيسى عليهما السلام ) وَالَّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فيها مِنْ روحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيهْ لِلْعالَمينَ ( [ الأنبياء :91 ] ثم يخاطب الله مباشرة جميع أنبيائه ورسله وأتباعهم بقوله ) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمًَّة واحِدًَة وَأَنا رَبُّكُمْ فَاعْبُدونِ ( [ الأنبياء : 92 ] .

فتبين بهذه الآية الكريمة تقرير الغرض الأصيل من هذا الاستعراض الطويل وهو أن جميع الأنبياء يدينون دينًا واحدًا ويخضعون لرب واحد يعبدونه وحده لا يشركون به شيئًا ، وعندما نستعرض خبر كل نبي نجد أن الله قد شد أزره ونصره ونجاه من الكرب الذي نزل به ، أو المأزق الذي أوشك أن يقع فيه ، كما نجى ذا النون ( يونس ) واستجاب لزكريا ، وكما نجى إبراهيم وقد أوشك أن يحترق بالنار ؛ وأنه سبحانه دائمًا ينعم على رسله والذين آمنوا إذا صبروا وصدقوا ، كما أنعم على داود بالنصر ، وسليمان بالملك ، فشكروا نعمة ربهم .

4)      وفي هذا شد لأزر المؤمنين ، وتسلية لهم عما يلاقون من الهموم والمصائب ، وتثبيت لرسول الله ومن تبعه من أمته ، وتأثير في نفوس من يدعوهم القرآن إلى الإيمان وأنهم إن لم يؤمنوا لا محالة هالكون ، وموعظة وذكرى للمؤمنين ، وقد صرح القرآن بهذا المعنى في قوله تعالى ) وَكُلاَّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبَّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجاءَكَ هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةُ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنينَ ( [ هود : 120 ] .

وجاء في سورة العنكبوت لمحة خاطفة عن قصة كل نبي ، مختومة بالعذاب الذي عذب به المذنبون من قومه حتى ختمت جميع القصص المجملة بقوله تعالى : ) فَكُلاً أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَهُ وَمِنْهُمْ مِنْ خَسَفْنا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا ، وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمونَ ( [ العنكبوت : 40 ] فعلى المربي أن يستحضر مكان الموعظة والذكرى من كل قصة ، ليحاور الطلاب حوارًا يوجههم إلى معرفتها والتأثر بها والعمل بمقتضاها .

5)      ومن أغراض القصة في التربية الإسلامية : تنبيه أبناء آدم إلى خطر غواية الشيطان([13]) وإبراز العداوة الخالدة بينه وبينهم منذ أبيهم إلى أن تقوم الساعة ، وإبراز هذه العداوة عن طريق القصة أروع وأقوى ، وأدعى إلى الحذر الشديد من كل هاجسه في النفس تدعو إلى الشّر ، ولما كان هذا موضوعًا خالدًا فقد تكررت قصة آدم في مواضع شتى ، مما يدعو المربي إلى الإلحاح على هذا الموضوع وتوجيه الطلاب إلى الحذر من غواية الشيطان في كل مناسبة ملائمة .

6)       ومن أغراض القصص التربوية : بيان قدرة الله تعالى : بيانًا يثير انفعال الدهشة والخوف من الله لتربية عاطفة الخشوع والخضوع والانقياد ونحوها من العواطف الربانية .

كقصة الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه([14]) وقصة خلق آدم([15]) ، وقصة إبراهيم والطير الذي آب إليه بعد أن جعل على كل جبل جزءًا منه قال تعالى: ) وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم ( [ البقرة: 260 ] .

 

المراجع

1-   القرآن الكريم.

2-   الإتقان في علوم القرآن للسيوطي.

3-   أصول التربية الإسلامية للدكتور عبد الرحمن النحلاوي.

4-   أصول في التفسير للشيخ محمد بن صالح بن عثيمين.

5-   التصوير الفني في القرآن للشيخ سيد قطب.

6-   تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير.

7-   علوم القرآن للدكتور محمد بكر إسماعيل.

8-   مباحث في علوم القرآن للدكتور مناع القطان.

9-   محاضرات في علوم القرآن للدكتور محمد سالم – الدكتور صلاح الصاوي.

10- المدخل في علوم القرآن للشيخ محمد أبو شهبة.

11- مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني.

 

الحواشي:

([1]) انظر أصول في التفسير للشيخ محمد بن صالح العثيمين (52-53).

([2]) انظر مباحث في علوم القرآن للشيخ مناع القطان (317-318)

([3])انظر أصول في التفسير للشيخ محمد بن صالح العثيمين (53-54).

([4])انظر أصول في التفسير للشيخ محمد بن صالح العثيمين (54-55).

([5])مباحث في علوم القرآن للقطان (318-319).

([6])أصول في التفسير للعثيمين (54-55).

([7])كما في كتابه على هامش السيرة.

([8]) هو الدكتور محمد أحمد خلف الله .

([9]) انظر نقد كتاب ( الفن القصصي في القرآن) –للأستاذ محمد الخضر حسين – بلاغة القرآن صـ 94.

([10]) انظر مباحث في علوم القرآن للقطان (319-321).

(1)     اعتمدت في بعض هذه الميزات على قصة يوسف من خلال تفسير ((سيد قطب)) (في ظلال القرآن ) ص 1949 إلى 1951 وغيره ..

(1) التصوير الفني في القرآن: سيد قطب ص 117-ص 128 الطبعة الثالثة دار المعارف بمصر وقد اقتبست أهم هذه الأغراض باختصار .

([13] )  [ الأعراف : 25 ، 26 ، 30 ] .

([14] )  [ البقرة : 259 ] .

([15] )  [ البقرة من 33 إلى 37 ] ،[ وآل عمران : 59 ]

المصدر: https://uqu.edu.sa/page/ar/73058

الأكثر مشاركة في الفيس بوك