في ضرورة تحويل العقيدة إلى مجرد رأي
بقلم: عبد الإله إصباح
تطرح العملية الإرهابية التي استهدفت الجريدة الساخرة “شارلي إبدو” تحديات جديدة لمواجهة هذا النوع من التفكير المحرض على القتل وسفك الدماء من منطلقات دينية، تتسم بالانغلاق والتحجر. فعندما تتواتر عمليات القتل وتصفية كل من يحمل فكرا مغايرا بدعوى الدفاع عن الإسلام، نصبح إزاء معضلة عويصة تتعلق بكيفية وقف توالد هذا النمط من التفكير الذي يهدد السلم الأهلي والوحدة الوطنية ويزرع الفتن والحروب الطائفية في العديد من البلدان، التي ابتليت بغزو ممنهج لمؤسساتها وفضاءاتها الفكرية والثقافية من طرف حاملي هذا النوع من الفكر ومحتضنيه والمنظرين له، حتى كاد أن يحقق هيمنة إديولوجية تسمح له بمزيد من الانتشار والتوسع. وفي هذه الحالة سيكون من العبث الاقتصار في مواجهته على المقاربة الأمنية وحدها، ولذلك لا بد من اجتثاث التربة الحاضنة له في أبعادها السياسية والاقتصادية والفكرية من خلال إنهاء الاستبداد وإرساء دعائم الديمقراطية الحقيقية وتكريس العدالة الاجتماعية عبر التوزيع العادل للثروة الوطنية وتحقيق نهضة ثقافية وفكرية تكون صنوا لعصر أنوار يمتد إشعاعه إلى مختلف الأقطار العربية والإسلامية. إن النهضة الثقافية المأمولة هي بالضرورة نهضة تنطلق من السعي إلى إرساء منظور جديد للعقيدة وللإسلام على الخصوص باعتباره الدين السائد في غالبية البلدان العربية.. صحيح أن النهضة ينبغي أن تكون شاملة لما هو سياسي واقتصادي وثقافي، غير أن البعد الثقافي فيها يتحتم أن يحظى بالعناية الفائقة لما له من أدوار استراتيجية في ترسيخ أسس النهضة المأمولة وتثبيت ركائزها. والنقطة المحورية في البعد الفكري والثقافي للنهضة المنشودة هي بناء معلم منظور جديد للإسلام في أذهان الأجيال الناشئة والمقبلة للساكنة العربية والإسلامية، تتشربه وتتربى عليه في البيت والمدرسة وفي مختلف فضاءات التنشئة الاجتماعية والفكرية وعبر وسائل الإعلام والتواصل بمختلف أصنافها وأشكالها. فما هي إذن معالم هذا المنظور الجديد للإسلام وما هي المداخل الضرورية لتكريسه وترسيخه في الذهنية العربية؟
لا شك أن حضور العقيدة أصبح طاغيا على حياة الفرد سواء كسلوك فردي أو كتجل جماعي في المناسبات الدينية العديدة التي أصبح الانخراط في طقوسها يتسم بنوع من الإفراط والمبالغة كما هو حاصل في أيام الجمعة وخلال شهر رمضان، حيث أصبح الحرص على أداء الطقس التعبدي في أبعاده الشكلية والمظهرية أهم من استحضار المعاني القيمية والخلقية المفترضة لطقسي الصلاة والصوم والمتمثلة في التآزر والإحساس بمعاناة الآخرين. فالفرد المتعبد من خلال الصلاة والصوم لا يهمه إلا أن يؤدي ما بذمته هو كواجب تعبدي يحتسب له في سجله الأخروي، محكوما في ذلك بتصور للحياة كمطب وتبعا لذلك ينبغي الانفلات من أسرها وغوايتها وأن دور الفرد هو السعي إلى الانفلات من حقل الألغام الذي تمثله من خلال متعها وملذاتها والنجاة بنفسه عبر مزيد من الاستغراق في العبادة ومقاومة الرغبات والشهوات.
ومثل هذا التصور للحياة ينم في الواقع عن أنانية مفرطة لا تأبه إلا بالمصير الفردي، ولا غرابة من ازدهاره وانتعاشه بعد انتكاسة المنظومات الفكرية التي كانت تبشر بالخلاص الجماعي فوق هذه الأرض، إنه في الحقيقة أحد تجليات انتصار الرأسمالية المتوحشة الذي حققته من خلال مجموعة من التحالفات من بينها ولا شك تحالفها مع إمارات البترودولار التي ساهمت في هذا الانتصار من خلال الدعم السياسي والمالي السخي للحركات الوهابية والأصولية في مختلف البلدان العربية والإسلامية. إن التصور الوهابي والأصولي للإسلام يبخس كثيرا من قيمة الحياة، ويجعل الأفراد المعتنقين له يتميزون بسهولة استقطابهم إلى التنظيمات التكفيرية التي تجندهم في عملياتها الإرهابية ضد الأبرياء من المدنيين العزل. فحياتهم وحياة الآخرين لا تساوي شيئا، حياتهم فرصة لنيل الشهادة والفوز بالآخرة وحياة الآخرين لا يستحقونها لأنهم لا يعيشونها وفق التعاليم الدينية الصحيحة، إنهم إذن مذنبون ويستحقون عقاب الموت. إن اجتثاث هذا التصور المتعصب والمتحجر للإسلام يقتضي العمل على إرساء تصور مناقض له قائم على استحضار التاريخ كبعد محايث في تفسير الظاهرة الإسلامية والأحداث والوقائع السياسية والاقتصادية والثقافية المؤطرة لظهورها وصيرورتها. وبدون هذا البعد التاريخي في الفهم والتصور سيتكرس التصور المفارق للتاريخ الذي يجعل الإسلام متعاليا عن مؤثرات الواقع ومؤثرات الحيز الزمني الذي تبلور في إطاره، وهو ما يجعله يعانق المطلق ويصبح كل من يعتنقه يتصور أنه يملك الحقيقة المطلقة السرمدية وأن غيره تائه عنها ينبغي إرشاده إليها، أو متجاهل لها ينكرها ينبغي صده وإسكاته بشتى الطرق حتى وإن كان ضمنها القتل والإرهاب والتصفية الجسدية. والحقيقة أن التصور الوهابي للإسلام ما فتئ يتقوى ويستفحل انتشاره بموازاة تراجع حركة التنوير في البلدان العربية وتهميش رموزها وإقصائهم عن دوائر ومؤسسات التأطير الفكري والإيديولوجي للمجتمع وهو ما نتج عنه تجريف التربة المحتضنة للفكر التاريخي القائم على نسبية الحقيقة وتفسير الظواهر من منطلق مفهوم السببية. يصبح الفرد المعتنق للإسلام الوهابي مملوكا بإحساس من وصل إلى الحقيقة وأصبح مستغنيا عن بذل أي مجهود معرفي لاكتشاف حقائق أخرى. إن حقيقته تغنيه عن هذه الحقائق الممكنة، لأنها في نظره زوائد لا جدوى منها ومضيعة للوقت والجهد فيما لا طائل من ورائه.. إن مثل هذا الفرد يتكون لديه استعداد للانضمام إلى الجماعات التكفيرية التي تغذي لديه هذا الإحساس بالاكتفاء والاكتمال الذي يجب أن يتوج بنيل الشهادة عبر تنفيذ عمليات انتحارية لنصرة حقيقته ونفي حقائق الآخرين ...
المطلوب إذن هو العمل على أن يسود إسلام يحتضن الحياة ويحفل بمباهحها، يقبل على مسراتها ويشجع على الاستغراق في ملذاتها ومتعها. إسلام متصالح مع قيم العصر، و يعتد بالمنجز الفكري والثقافي لرواد الحضارة الإسلامية ورموزها من أمثال المعتزلة والكندي والفارابي والجاحظ وأبي حيان التوحيدي وابي نواس والمتنبي وابن رشد وغيرهم، لأن منجزهم الفكري يصالح الفرد مع الحياة ويولد لديه الاعتزاز بقيمة مساهمة المجموعة البشرية التي ينتمي إليها في التطور الحضاري الذي بلغته البشرية في الزمن المعاصر. وهذا معناه أنه لا يشعر بأدنى غربة أو اغتراب إزاء الحضارة الغربية السائدة، بل بالعكس يعتبرها مطمحا وأفقا ينبغي السعي إلى إدراكه والوصول إليه قصد الاندراج ضمن إطاره العام. ومن الطبيعي أن يكون الإسلام المتوافق مع هذه الركائز والمنطلقات منفتحا على التعددية ونافرا من الأحادية والانغلاق. إسلام تتحقق بموجبه النقلة النوعية التي دعا إليها الراحل محمد عابد الجابري في كتابه الفذ “العقل السياسي العربي” تلك النقلة المتمثلة في تحويل العقيدة إلى مجرد رأي. وهو التحويل الذي اعتبره الجابري أحد المداخل الأساسية والضرورية التي تمكن العرب من ولوج واقتحام عتبة الحداثة السياسية