قـد يكـون تـرْك الصـفّ.. خـيـراً

أيمن المصري

قرأنا في أدبيات الحركة الإسلامية الكثير عن أهمية العمل الجماعي في الإسلام وتأصيله الشرعي في الكتاب والسنّة والقياس، حيث “لا يستطيع الفرد بطاقاته المحدودة أن يحقق الأهداف الكبرى إذا لم يضمّ جهده إلى غيره، لاسيما في ظل التكتلات السياسية والأمنيّة التي تحوط بالمسلمين”. واعتبر الشهيد سيّد قطب أن “هذا المنهج الإلهي إنما يتحقق بأن تحمله جماعة من البشر تؤمن به وتجتهد لتحقيقه في قلوب الآخرين”. وقد نظّر مفكّرو الحركة الإسلامية في متطلبات العمل الجماعي، فكان في مقدمتها: التنظيم.

ومن المفيد – ابتداءً – أن نعود إلى تعريف التنظيم لنجد أنه: “أداة لتحقيق الأهداف المرجوّة من خلال تعاون البشر”. فيكون العمل المنظم هو أحد الأدوات لتحقيق هدف ما – وهو الأهم – لكنه ليس الوحيد.

وكلنا يدرك أهمية مؤسسة العمل الإسلامي تخطيطاً وتنظيماً وإدارة وتوجيهاً للطاقات وتوظيفاً لها، وبطبيعة الحال لا أريد التقليل من أهمية العمل الجماعي. لكن، هل يمكن حصر العمل الإسلامي بالالتزام في إطار ما، وهل تنحصر الدعوة إلى الله من خلال إطار دون سواه.

إن الانتماء إلى “تنظيم” – أو إطار – إسلامي يفرض التزامات فكرية وسياسية وشخصية واجتماعية ومالية، فمن “السمع والطاعة في المنشط والمكره” لقيادة “التنظيم”، إلى الالتزام بالموقف السياسي الذي اعتمده “التنظيم” عبر مؤسساته، إلى احتمال التعرض لأخطار معيّنة، فضلاً عن تقديم الوقت والجهد.

“ليس الكل يقدر على الالتزامات التنظيمية، من البذل والتضحية وتحمّل الضغط النفسي أو الأمنيّ، أو حتى السمع والطاعة إذا لم يكن مقتنعاً بقرار ما”

وليس كلنا يطيق هذه الالتزامات، وليس كلنا مستعدّاً لتطبيق مفاهيم الانضباط والتجرد، وليس الكل تربى على البذل والتضحية وتحمّل الضغط النفسي أو الأمنيّ، أو حتى السمع والطاعة إذا لم يكن مقتنعاً بقرار ما. فلقد خلقنا الله عزّ وجل طبائع وأنماطاً مختلفة، في التفكير والانتماء والالتزام والقدرة على التحمّل.

ولقد وجدنا هذا التنوّع في عصر الصحابة رضي الله عنهم، حيث لم يكونوا كلهم قالباً واحداً. فبين شخصية عبد الله بن عمر صاحب مدرسة العزيمة وعبد الله بن عباس صاحب مدرسة التيسير، وبين عمر بن الخطاب الشديد المتحدّي وعثمان بن عفان الحييّ الرقيق. وشخصية الصحابي أبي ذر الغفاري الذي فضّل النفي الذاتي هاجراً ما اعتبره مخالفاً لقناعاته. ومن الصحابة من اشتهر بشجاعته وآخر من عرف عنه عدم جرأته. وأخيراً الصحابي أبي سفيان الذي كان يحب الشهرة والوجاهة حتى بعد إسلامه.

لقد اعترف رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا التنوّع ولم ينكره على أصحابه، ولم يفرض عليهم تطويع النفس والانغلاق في قالب واحد.

وفي العمل الإسلامي نقول إنه من الخطأ الكبير الذي قد يرتكبه “تنظيم” أن يقبل العنصر الحزبيّ المطيع والمنفّذ حصراً. فهذا الشخص سيتحول مع الوقت إلى “حالة من الانتظار الدائم للتعليمات ويفقد روح المبادرة، فيتحول التنظيم حينها إلى آلة كبيرة صمّاء”، كما وصفها الدكتور عبد الله النفيسي.

إن التنوّع مطلوب في كل عمل، ومن باب أولى في هذه المساحة المشتعلة حراكاً وتحديات وظروفاً طارئة، والتي طال بها العمر فباتت تشهد تفاوتاً في الأجيال المنتمية، أعني بها ساحة العمل الإسلامي. والأصل في قيادة “التنظيم” أنها تجتهد في فتح المجال للنقاش الداخلي والحراك الفكري، فهذا يضفي حيوية في الأداء ويفتح الباب واسعاً أمام التجديد والتطوير والخروج عن أنماط ثابتة في العمل ينبغي تحديثها مواكبةً لتطور وسائل التواصل في المجتمع، واختلاف الثقافات من جيل إلى جيل.

“لن يفلح أي تنظيم في تحقيق أهدافه إلا إذا توفرت في صفوف أبنائه الثقة والانتماء، وإلا قضى وقته وجهده في المناكفات الداخلية، وانشغل عن العمل لتحقيق أهدافه التي من أجلها تأسس”

لكن علينا أن نعترف في الوقت نفسه أن أيّ مؤسسة عاملة تحتاج حالة من الاستقرار الداخلي حتى تتمكن من مواجهة التحديات والطعنات من الخارج، ولن يفلح “تنظيم” في تحقيق أهدافه إلا إذا توفرت في صفوف أبنائه الثقة وروح الانتماء، وإلا قضى وقته وجهده في المناكفات الداخلية، وانشغل عن العمل لتحقيق أهدافه التي من أجلها تأسس وعمل.

إن الحراك الفكري والتنظيمي في صفوف الحركة الإسلامية مطلوب، بل هو ضروري، لاسيما في هذه الظروف الاستثنائية، شرط أن لا تطغى حالة الحراك على الاستقرار، وشرط أن يكون هذا النقاش إيجابياً لا هدّاماً سلبياً، والأهم أن يلتزم الضوابط الشرعية. فأبناء هذه الجماعة أولاً وأخيراً قد انتسبوا لها من أجل العمل للإسلام وكسب رضا الخالق جلّ وعلا، ولا يعقل أن يتحولوا ضمن هذه المساحة الربانيّة إلى مجموعة من الشتامين والمغتابين المنغمسين في تشويه من لم يتوافق مع هواهم، وهدم الثقة في نفوس المنتمين لهذه الحركة تجاه قيادتهم. وإلا انقلب “الإصلاح” إلى مفسدة كبيرة، سيحاسبهم الله تعالى على نتائجها.

وهنا قد يقول قائل: التنظيم ليس ملكاً للقيادة أو لفئة منه، ومن حق الأفراد النقاش والمطاحنة من أجل الإصلاح وتغيير الواقع. أقول: هذا صحيح، لكن التدافع الداخلي لا يمكن أن يطال أساسيات المنهج الذي انتسب على أساسه هذا الشخص بعد أن أعلن قناعته بهذا الفكر وثقته بقيادته. فإذا انتفت هذه الثقة، أو لم يعد الشخص مقتنعاً بأفكار التنظيم، أو اختلف معه في خياراته الفكرية أو السياسية ولم يجد أفقاً للتلاقي، أو لربما طرأت على أخينا ظروف وجد نفسه معها غير قادر على الالتزام بمتطلبات الانتماء. فالأصل أن يطلب الاستعفاء من التزامه، فينتسب إلى جمعية أخرى، أو يكون حراً من أيّ التزام حزبيّ أو مؤسسيّ. ولربما يكون الخير للطرفين في الانفصال مع حفظ الودّ والفضل بينهما، فذلك خير من أن يصلا إلى حدّ التجريح الشخصي والاغتيال المعنوي. وهذه ليست أخلاق العاملين للإسلام.

“يخطئ أبناء التنظيم إذا اعتبروا أن من ترك صفوفهم متخاذل، بل الأصل أن تبقى علاقة المودة قائمة. وأيضاً يخطئ ذاك الذي استعفى من التزامه حين يعتبر الخطأ من القيادة”

ويخطئ أبناء التنظيم إذا اعتبروا أن من ترك صفوفهم متخاذل، بل الأصل أن تبقى علاقة المودة قائمة. وأيضاً يخطئ ذاك الذي استعفى من التزامه حين يعتبر الخطأ من القيادة، فلربما يكون الطرفان صالحين يحملان همّ الدعوة بصدق، لكن لا يمكن لهما التلاقي، لأسباب تتعلق بكليهما.

وإذا كان رب العالمين قد شرع للزوجين “التسريح بإحسان” في حال عدم تحقق التناغم والتفاهم، دون أن يذمّ طرفاً منهما، فهذا الإحسان أدعى أن يكون بين المؤسسة الإسلامية وأبنائها.

وأذكر أنني حضرت جلسة مع بعض الإخوة تم التطرق فيها إلى صديق قرّر الاستعفاء من التزامه في صفوف الحركة الإسلامية لأسباب معيّنة، فكان أن نال بعض الحاضرين من الرجل فلجؤوا إلى أسلوب التجريح والطعن باعتباره من “المتساقطين على طريق الدعوة”، وتحدثوا عنه من باب من أجرم بحق دينه ونفسه، انطلاقاً من مفهوم الربط الوثيق بين هذا الإطار الإسلامي وبين العمل للإسلام. وهذا خطأ يقع فيه أبناء الحركات الإسلامية، حيث يعيشون حالة من النرجسية الحزبية تجعلهم ينظرون نظرة فوقية لمن هم خارج حزبهم أو جماعتهم.

لقد شهدنا في لبنان وغيره عدداً من الحالات لإخوة وأخوات اختاروا الانفصال، وكان الخير بالنهاية للعمل الإسلامي. وليس أدلّ على هذا من مثال الراحلة الدكتورة منى حداد يكن، التي التزمت أول أيام عطائها في صفوف الحركة الإسلامية، لكن طبيعتها الاستقلالية لم تتوافق مع ما يتطلبه الانتماء الحزبي، فكان الخيار أن تنفصل عن هذا الإطار لتعمل مستقلة. وها قد رأينا ما أسسته من عمل طيّب ومؤسسات، لربما ما كانت لتنجح في تأسيسها لو بقيت منضوية في صفوف الجماعة. وقد بقي الودّ والتعاون بين الطرفين حتى وفاتها رحمها الله. فكان ترك الصف في هذه الحالة خيراً لها وللجماعة.

وحريّ بنا القول إن العمل الإسلامي أرحب وأوسع من أن يحدّه تنظيم أو حزب أو جماعة، مع تثبيت الفضل لتلك الفئة التي ارتضت الالتزام في العمل الإسلامي المنظم، وتحمّلت بذل الجهد والوقت والنفس والمال من أجل دعوتها.

وأختم، حقّ للمنتسبين في صفوف الحركة الإسلامية أن يفخروا بانتمائهم لرسالتها وفكرها، وعليهم أن يشكروا الله أن هيأ لهم أسباب الانتماء للعمل الإسلامي المنظم، لكن هذا لا يجب أن يوقعهم بمرض العصبية الحزبية. فنحن جماعة من المسلمين لا جماعة المسلمين، نتكامل مع كل مؤسسة أو جماعة أو فرد يعمل للإسلام. وفي كل خير.

المصدر: http://www.basaer-online.com/%D9%82%D9%80%D8%AF-%D9%8A%D9%83%D9%80%D9%88...

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك