الدِينُ والفَلسَفَةَ

الدكتور محمّد سعيد رمضان البوطي

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله ولي كل توفيق.

والصلاة والسلام على عبده ونبيه المرسل رحمة للعالمين.

وبعد، فهذه إعادة مبسطة وموسعة لحوار وجهته ذات يوم إلى باحث مختص في الفلسفة، ورئيس لقسم الفلسفة في إحدى جامعات البلاد العربية في خليجنا العربي.

ولا أعتقد ان ثمة أي مصلحة في التعريف به، أو التعريف بالجامعة التي هو فيها. فالمأمول أن يكون قد هدي بفضل الله وتوفيقه إلى معرفة الحق والانصياع له.

إنما المهم أن يسجل  هذا الحوار الذي يجسد أما المثقفين مشكلة من المشاكل الفكرية والعلمية، ويضع الحل العلمي بجانبها. والأحداث تمر عادة وتنطوي بعد وقوعها. ولكن يجب أن تبقى معانيها وآثارها مصدر عبرة. ومادة ثقافة ومعرفة .

وإنما تتكون الثقافات من عصارة الأحداث.

المقـدّمة

ضياع الذَات

مصدر المشكلات كلّهَا

محنة هذه الأمة واحدة، وإن ترائت لها جوانب قد تبدو منفصلة ومستقلة بعضها عن بعض. وربما كانت المحنة الفلسطينية أو محنة ما يسمى بالتخلف عنها أبرز هذه الجوانب و أخطرها. غير أنها لا تعدو أن تكون واحدة من فروع كثيرة أخرى، ينبثق جميعها منة جذع واحد لا ثاني له.

وقد كدنا نضيع بين تلافيف هذه الفروع ولأغصان المتشابكة . بل لعل كثيرين مناقد ضاعوا فعلاً.

منذ سنوات طويلة، ونحن نحبس أنظارنا وتأملاتنا عند رؤوس المشكلات والمصائب التي تطوف بنا دون أن نحرر أنفسنا يوماً ما من سجن هذه الفروع المتشابكة، لنسبر أغوارها، ونصل إلى جذعها وجذورها. فكيف نطمع ان نحل هذه المشكلات، ونحن واقعون منها وسط هذا التيه؟

من أين نبدأ، وإلى أين ننتهي؟ وأنى هي النقطة المحورية التي تحدد لنا كلاً من طرفي الابتداء والانتهاء؟

أنبدأ المعالجة من مشكلة التجزئ والفرقة، أم من مشكلة التخلف العلمي والتقني، أم من مشكلات الفقر والتخلف الاقتصادي، أم من مشكلة ضياع الوطن والأرض، أم من مشكلة الاضطراب الفكري وأزدواج الرأي والسلوك؟

كل هذه المشكلات مصائب(متواضعة) في جسم هذه الأمة. ما في ذلك ريب. ولكن السؤال المحير هو: عند أي واحدة من هذه المشكلات يكمن منبع سائر المصائب والمحن الأخرى؟

والجواب أن هذه المصائب كلها فروع متساوية لمصيبة كبيرة هي في الحقيقة أهم وأخطر منها جميعاً. إلا انها مصيبة خفية لا تطفو على السطح، بل تختبئ في الاعماق، فلا حيلة في السعي إلى إبرازها واضحة للعين المجردة وأمام أصحاب النظرة السطحية للأشياء.ولو بقيت هذه الأمة قروناً متطاولة، وهي تقرع مصائبها السطحية هذه واحدة بأخرى، وتعالج كلاً منها كما يعالج الرجل شقوق بناء أقيم على غير أساس، لما جاءت جهودها بأي طائل، ولظلت تهوي من ضعف إلى ضعف، ولبقي العدو المتربص بها يزداد تمكناً منها واستلاباً لذخرها ومقدراتها، حتى يحين منها التفاته جادة إلى جذورها المعضلة واساس المحنة ، ثم تعكف بصدق على معالجة تلك الجذور ، عندئذ يمكن أن يقال: إنها عثرت أخيراً على الشعلة الهادية وسط الظلام، وعلى الباب الذي يخرجها من سجن تلك الدائرة المغلقة.

فما هو ذلك الجذع المستصلب الغليظ الذي تتوالد منه فروع هذه المحن كلها؟

إنه، وبكلمة بسيطة وموجزة: ضياع الذات.

نعم، ضياع الذات هو الجذع المستصلب الخطير الذي انتشرت منه في كل الجهات فروع وأغصان من المحن المتنوعة التي لا حصر لها.

وإنما اشدد على هذه الكلمة، وأأكد أنها ـ على الرغم من بساطتها وسهولة ما تدل عليه ـ هي ينبوع مصائبنا كلها، لأنني أعلم أن كثيراً ممن حبسوا عقولهم وسط رقعة من شطرنج السياسة، أو عودوا أفكارهم وأعصابهم على الدوران النظامي الربيب ضمن الدوائر المغلقة، لا يقيمون لهذه الكلمة ولا لمدلولها أي وزن. إنهم لا يزالون يتوهمون ـ حتى بعد أن أنهكتهم التحركات السياسية ودوختهم المناورات التي تظل تراوح في مكانها ـ أن جذور هذه المحن كلها إنما تتمثل في إرادة الدول العظمى والتحركات السياسية الكبرى، أو في الجمود عند الأفكار العتيقة!..

وإنما يغذي هذا الوهم لدى أصحابه، تقادم انحباسهم في قاع تحركاتهم الدائرية المغلقة التي لا يستبين فيها بدء من ختام، ولا يتضح فيها الفرق بين أثر ومؤثر أو نتيجة وسبب!..

وربما غذاه لدى فئات أخرى من الناس أنهم استمرؤوا المحنة وتفيؤوا منها ظلالاً وارفة أنعشت أهواءهم وحققت الكثير من رغائبهم. فهم لا يتأففون منها إلا بمقدار ما ينشطون في السعي ابتغاء نيل ثمارها واكتساب آثارها.

غير أن هذا كله ما ينبغي أن يحجب عنا الحقيقة الجاثمة أمام أنظارنا وما ينبغي أن يجعلنا نتغاضى عن مصدر البلاء وجرثومة هذه الأمراض. لا سيما وقد تراكم حصاد هذه المصائب أمام أعيننا، كأخطر ما يمكن أن تبدو عليه مصائب أمة ما ، في أي عصر من العصور.

ألم تتفكك من بقايا القوى وتتحول إلى انكاث؟

ألم يتمزق ما بيننا من صلات القربى ورحم الآلام والآمال؟

ألم تتبعثر ثرواتنا الاقتصادية مواد وأدوات أولية في أسواق الصناعات الأجنبية، لترتد إلينا إغلالاً تصفنا حتى الاعناق؟

ألم تتعاظم نواة الاحتلال الصهيوني تحت أسماعنا وابصارنا حتى ضربت لها جذوراً في عمق بلاد الشام، وأقامت على أرضنا المقدسة أوتاداً من القوة، لا تبلغها قوى هذه الامة جمعاء؟

ألم يتحول كيدنا لها وصمودنا ضدها الى الكيد لأنفسنا والتربص ببعضنا، حتى استحر الموت منا بعشرات الآلاف؟

إذن فهل يجوز أن نبقى ـ وهذه هي حالنا ـ رهن الاحتباس على رقعة شطرنج تتلاعب بها ايدي سياسة تستطيل من أجل المحنة في انتظار انمحاقنا، أو أن نبقى ضمن دائرة مغلقة نطوف فيها حول محور الوهم، ونقطع في تطوافنا حوله آلاف الأميال؟

إن جزءاً يسيراً من آلام هذه المصائب، من شأنه أن يوقظ النائم وينبه السادر، فكيف وإنه ليس بذلك الجزء اليسير ولكنه كل هذه المصائب والآلام.

***

لابد أن نخرج من المأزق أولاً .

وإنما الخطوة الأولى إلى ذلك أن نستيقن بملء عقولنا أن مرد المصائب التي حاقت بهذه الأمة، إنما يتمثل في كونها تعيش اليوم ضالة عن ذاتها.

ويقيننا الذي لاريب فيه أنها إن لم تهتد إلى ذاتها وهويتها ثم تعكف بجد على تحقيق مقومات هذه الذات، فإن إضعافاً كثيرة أخرى من الجهود العشوائية قد تبذل دون أي فائدة تجنى.

وماذا نعني بالذات؟ إننا، بحكم البداهة، لا نعني الذات البشرية التي تتكون من مقومات الإنسانية العامة التي يتساوى الناس جميعاً فيها.وإنما نعني المقومات الفكرية والاعتقادية، ومن ثم السلوكية التي نسجت ذاتيتنا الحضارية وأورثتنا لدى التمسك بها كل ما كنا نملكه إلى الامس القريب من الثروات الهائلة و القوة الراسخة والحضارة التي لا نزال نتباهى بأمجادها الدابرة، ونكرر الترنم بحكاياتها في رقى وتمائم ونتمسح بها ونسميها التراث!..

فما هي هذه المقومات؟

إنها تتمثل في أصول اعتقادية شرحت لنا حقيقة الكون والإنسان والحياة، وملأت بذلك ساحة فراغنا الفكري والنفسي.وهاهو ذا سجل هذه الاصول الاعتقادية جاثم أمامنا، وأسمه: القرآن.

ثم إن وحدة الاعتقاد كان لابد لها أن تثمر وحدة السلوك المنسجم مع واقع كل من الكون والإنسان والحياة. ثم كان لابد لها أن تثمر وحدة الامة، وأن تضفر جهودها وتجمع أمرها من شتات.

ثم كان لابد لهذه الوحدة أن تفجر ينابيع كنوزها وخيراتها، وأن تيسر أسباب نموها وسبيل الاستفادة منها. وكان لابد ان توجه العقول والأفكار، في تناسق دائم، إلى تعميق المعارف والعلوم، وأن توسع نطاق الثقافة بأنواعها.. فكان من ذلك كله ما نسميه اليوم: الحضارة الإسلامية.

لقد تحقق ذلك كله، في اقل من ثلث قرن من الزمن، في كلاءة  دقيقة من اصول العقيدة الإسلامية التي كونت ذاتية هذه الأمة وأعطتها سماتها وخصائصها الحضارية المتكاملة.

لولا العقيدة الصحيحة الراسخة في كيان هذه الأمة، لما تحققت لها وحدة بعد طول ما عانته من فرقة وشتات؛ ولولا هذه الوحدة لما تكونت لها قوة تتحصن فيهان ولولا هذه القوة لما امتدت لها من الأرض أوطان فسيحة، ولما تأتى لها أن تستثمر شيئاً من ذخرها وخيراتها، التي اختصها لله بها من دون سائر الناس.

هكذا ينطق تاريخ هذه الأمة.

وإنه لمنطقي ويدركه كل ذي عقل متحرر من عصائب العصبية والأهواء، بل هو ألف باء واقعنا التاريخي، الذي لا يتماسك عليه أي لبس أو اضطراب.

ثم إنه المنطق الذي تأمله فوعاه أعداؤنا الذين كانوا، ولا يزالون، يتربصون بنا الدوائر.. لذا فقد خططوا للمكيدة ولم يسيروا إليها بشكل عشوائي. لقد بدؤوا أولاً بإفساد الجذور.

ودونك فاقراء تاريخ الاستعمار البريطاني وتأمل فلسفة المواجهة الاستعمارية للأمة العربية والإسلامية، فيما كتبه رسل الاستعمار البريطاني أنفسهم. اقرأ ما كتبه(لورنس) في كتابه (اعمدة الحكمة السبعة) وتأمله وهو ينتشي بذكر مكائد حكومته وأحبيلها التي لعبت بها على هذه الامة، من اقصى حدود العراق إلى الشام الى اطراف الجزيرة العربية. وأقرأ ما كتبه اللورد كرومر في مذكراته، وهو يتحدث عن مثل هذه المكائد والألاعيب ذاتها، وكيف نفذ بها إلى عقول العرب والمسلمين في ربوع مصر والسودان. ثم أقرأ إلى جانب ذلك مذكرات حاييم وايزمن، التي يذكر  فيها كيف خطط لإقامة الوطن اليهودي في ربوع فلسطين بالتعاون مع هذا التدبير الاستعماري ذاته.

إقرأ وتأمل.و لتعلم كيف ظل العمل منسقاً بين كل من بريطانيا والمنظمات الصهيونية، وكيف كان يسير في نفق خفي لا يبدو منه في الظاهر شيء طوال أحقاب من الزمن.

لقد كانت الجهود كلها متجهة إلى تفريغ ذهن الشخصية الإسلامية من المضمون الاعتقادي الحي، ذلك المضمون الذي ظل يشكل العمود الفقري لوحدتها الراسخة وقوتها المتنامية.

ولكي تسير العملية بهدوء ونجاح، ولا تستيقظ الأمة العربية والإسلامية على لواعج الفراغ الفكري الذي ستفاجأ به، أخذ الاستعمار البريطاني، مستعيناً بكل طابيره ورسل، يستل مقوماتها الاعتقادية بيد، ويضع في مكانها روابط القومية والعنصرية بيد اخرى. ليكون لها من اشتغالها بهذا الأمر الثاني ما ينسيها فقدها لأعز ما كانت تتحصن به وتلتقي عليه، ثم ليكون من هذه النقلة خير مقدمة للسير بها إلى العلمانية المقترحة[1]فلما تم ما اراد( كما يزدهي بذلك اللورد كرومر في مذكراته) استحالت عقيدة هذه الامة عن الكون والإنسان والحياة، إلى مزق من التقاليد والطقوس الميتة، وأقيمت على اطلالها روابط العصبة والعصبية الجاهلية، وأخذ يتجه الاستعمار البريطاني، ومن وراءه من المنظمات الصهيونية الناشطة إلى طوق الوحدة العربية والإسلامية الذي اصبح قائماً في العراء، بعيداً عن كل وقاية وحراسة، فحطمها بأيسر جهد. وكانت أداته في ذلك قوتين اثنتين: إحداهما القوة الخارجية ، وهي قوة ثانوية في خطورتها وبعد ثأثيرها.

والثانية قوة داخلية، وتتمثل في العواصف والشقاقات المذهبية التي اهتاجت داخل كيان الأمة، في أعقاب الفراغ الفكري الذي منيت به. وإنما كان ينفخ في نيران هذا الهياج طوابير معينة معروفة، تصطنع الوطنية ظاهراً، وتنفذ المخططات التي تم اتخاذها في المؤتمرات الصهيونية باطناً.

بهذه المساعي الخفية استطاعت بريطانية ان تحقق وعدها الذي قطعته على نفسها لليهودية والصهيونية العالمية. وبهذه المساعي تحولت وحدة الأمة العربية والإسلامية إلى شقاق لا ينتهي وتصدع لا يلتئم.

وبهذه المساعي بسطت الصهيونية سلطانها على فلسطين، ثم راحت تتخذ منها منطلقاً وقاعدة لاصطياد أوطان أخرى لها، هنا وهناك.

وبهذه المساعي تحولت كنوز هذه الأمة وخيراتها إلى مغانم سخية استقرت في جيوب الناهبين.

وبهذه المساعي تقوض بنيان الحضارة الإسلامية، واستحالت إلى انشودة ذكرى، في أفواه الحالمين الكسالى، وعادت بلاد الأمة وأسواقها مجرد (فاترينات) لعرض منجزات الحضارة الغربية في أحط أنواعها وأشكالها.

ومع ذلك فلنتساءل، أحقاً أننا اليوم قد استيقظنا على آلام جراحنا. وبتنا ننشد السبيل الصحيح لاستعادة الحق ولم الشعث، وإصلاح الحال؟

إذن، فمن البديهي ان علينا أن نبدأ في السير إلى إصلاح الحال من حيث تم السبيل إلى إفساده.

أي لابد من القضاء على الفراغ الفكري الذي منينا به على أيدي أعدائنا. ولا يتم القضاء على هذا الفراغ الا بإعادة الصورة الصحيحة إلى اذهان هذه الأمة عن واقع الكون والإنسان والحياة. ولا بد أن تتعاون في سبيل إعادة ترسيخها سائر الجهود التربوية والإعلامية على كل المستويات، تماماً كما تم إفساد هذه الصورة من قبل المساعي الاستعمارية بسائر الجهود المتنوعة وعلى كل المستويات.

فإذا تم القضاء على الفراغ الفكري، وعادت العقيدة الإسلامية تملأ(حية نابضة) جوانب الساحة الذهبية لهذه الأمة، فيلسوف تعود فتتلاقى الجوانب المتباعدة لدائرة وحدتنا العربية والإسلامية من جديد بشكل ذاتي ومن أيسر طريق.

بقطع النظر عن الشكل أو الاسم الذي قد يتسم به الإطار الذي تتجلى فيه هذه الوحدة.

وفي ظل الوحدة تتضافر القوى، وتتلاقى الثروات، وتتناسق الجهود وتزدهر المعارف والعلوم، وتحل المشكلات وتتبدد المحن واحدة إثر أخرى.

والناس، كل الناس، يمجدون الوحدة ويهتفون بها بالألسن أو على الورق.

ولكن ما عجبت لشيء، كعجبي من حال من ينشد وحدة الامة ويدعو إليها، وهو يرى الافكار والمذاهب المتصارعة تهيج وتموج داخل كيان الأمة، وتحيلها إلى فرق متعادية، ثم لا يتحرك للقضاء على مصيبة هذا الفراغ الذي هيج في داخلها موجبات التفرق والشقاق قبل كل شيء.

وقديماً علمنا كتاب ربنا عز وجل أن وحدة الامة لا تلتقي إلا على محور جامع، ولا يتمثل المحور إلا في اليقين الفكري الشامل الذي يتبنى صورة متكاملة عن حقيقة الوجود كله. أولم يقل لنا: (وأعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم..)آل عمران103.

فانظر كيف أمر بوضع المحور أولاً وهو الاعتصام بحبل الله، المتمثل في بنيان العقيدة المتكاملة والاجتماع عليه، ونهاهم عن الإعراض عنه، كي لا يزجهم ذلك في ضيعة وشتات. ولو أنه أمرهم بالاتحاد وعدم التفرق، قبل أن يضع أمامهم المحور الجامع، لكان ذلك عبثاً من القول، ولكانت محاولة الوحدة أشبه بمن يريد أن يرسم دائرة متكاملة دون أن ينطلق إلى تكويرها من نقطة محورية ثابتة.

وكثيرون هم الذين يؤمنون بهذا الكلام على الصعيد النظري، وفي ميزان التحاكم إلى المنطق وواقع التجارب المحسوسة المنبثة من كلا خطي الطرد والعكس. غير أن جل هؤلاء المقتنعين، يعجزون عن تحويل قناعاتهم هذه إلى سلوك وتطبيق، سواء بالنظر إلى الرغبات الفردية أو الجهود الجماعية.

وسبب هذا العجز أنهم يتصورون سبيل السعي إلى تطبيق قناعاتهم متمثلاً في بذل جهود اجتماعية ومعاناة حضارية، والاصطباغ بأفكار ثقافية والتجميل بمذاهب فلسفية!.. ومن المعلوم أن هذه المساعي لا تفيد في تحقيق هذا الهدف شيئاً، بل لا تزيد  أصحاب هذه الجهود إلا تفرقاً وضياعاً.

ولا بد أولاً من العثور على وحدة الادارة الفعالة، ولا يتم العثور عليها إلا من خلال استعادة تحقيق الذات.

 إن لنا هوية معينة من وراء كوننا بشراً يعرفها الفلاسفة قديماً بالحيوان الناطق. وما لم نعرف هويتنا هذه ولم نسع إلى رعايتها وحمايتها من الضياع، فإن الثقافات المتنوعة والمذاهب الفكرية والفلسفية لن تزجنا إلا في متاهات وخصومات لا نهاية لها. وإن بوسعنا أن نعثر على هويتنا الجامعة لنا والموحدة لأفكارنا وثقافاتنا لدى وقفة يسيرة أما مرآة الذات. هذه المرآة التي تنطق ، بوضوح ما بعده وضوح، اننا عبيد مملوكون لله عز وجل، وأننا النخبة المكرمة من مخلوقاته التي سخر الله لها الكثير من مكوناته، وأقامها على مهمة متميزة في مملكته.

إن كل ما يدخل تحت معنى المساعي والانشطة الحضارية، اقل من أن تخلص هذه الأمة من محنة الفراغ الفكري والنفسي، لتضفر بعد ذلك جهودها على طريق الوحدة الحقيقية. ولكن هذه المساعي والأنشطة الثقافية والحضارية ستغدوا جنداً مخلصاً وأميناً لتحقيق ذاتيتها واستعادة وحدتها، إن بدأت قبل كل شيء باستعادة هويتها ثم الانطلاق منها إلى الانشطة الثقافية والعلمية والحضارية المختلفة.

وآية هذا الذي نقول أن أمتنا العربية والإسلامية، لم يتح لها أن تبني تاريخها الحضاري المجيد، من خلال مساع حضارية أو جهود علمية أو ثقافية ، وإنما أتيح لها أن تنهض نهضتها التاريخية المجيدة تلك من خلال عثورها على هويتها، ثم إيمانها الراسخ بتلك الهوية. وإنما جاءت المساعي الأخرى بعد ذلك.

وليس معنى هذا أنها لم تحتج إلى أن تغذي ذاتها وأفكارها بالمعارف والعلوم، وإنما المراد أن استمساكها بهويتها كان الأساس الصلب لما قد أشادته فوق ذلك من صرح المعارف والثقافات والعلوم، فلولا استمساكها بهويتها ولولا اعتزازها بها، لما قام شيء من ذلك الصرح، ولتهاوى أو أنزلق كما ينزلق بناء أقمته على آكام من الرمال. وهو ذاته الذي يجري في حياتنا اليوم!..

وأزيد هذا الكلام إيضاحاً فأقول: إن الصرح الحضاري الذي نهض ذات يوم شامخاً راسخاً لهذه الامة، إنما تم ترسيخه من خلال يقين ديني عززه علم يؤيده وسلوك يتفق معه. ولقد كان هذا اليقين الديني من الصفاء والخلوص عن الشوائب، بحيث لم تكن آثارها الحضارية مقصودة أو ماثلة في نفوس اصحاب ذلك اليقين أي فما سخروا يوماً ما قناعاتهم الدينية ويقينهم الإيماني لخدمة اهداف حضارية أو مطامح سياسية. بل إن الله تعالى لم يكرمهم بتلك الثمار والنتائج الحضارية، إلا جزاء إخلاصهم لدين لوجهه، واهتمامهم بالمثول أمام مرآة الذات تجاوباً مع هوياتهم وانسجاماً مع واقع عبوديتهم لله عز وجل. فكانوا في الحقيقة والواقع مظهراً أميناً لقول الله عز وجل:(وما أمروا إلا ليعبدوا لله مخلصين له الدين) البينة5.

ولو ابتغوا بديونتهم لله عز وجل كسباً حضارياً أو تفوقاًَ أقتصادياً مثلاً، لدخل بذلك الزغل في جوهر الدين ولاتطوى على خديعة ومكر، ولكان ذلك سبباً لمقت الله لهم، بدلاً من أن يكون طريقاً إلى انتصارهم.

إذن ، فاستعادة هذه الأمة لكينونتها الذاتية بالتفصيل الذي ذكرناه، رهن بإقامة قاعدة صلبة من الدين الحق نعبر من خلالها عن عبوديتنا لله عز وجل يقيناً وسلوكاً، بطواعية وصدق. فعلى هذه القاعدة الصلبة، دون غيرها، ينهض صرحنا الحضاري المنشود، وانطلاقاً من هذه القاعدة نتخلص من مصيبة الفراغ الفكري، ونسترد وحدتنا المنشودة، ومن ثم تتلاحق متوالية بقية حلقات السلسلة الحضارية بطواعية ويسر.

والخلاصة، أن الإسلام الحضاري الذي نفتتن به اليوم، لا ينهض إلا على الإسلام التديني الذي نعرض عنه اليوم. علم ذلك من علم وجهله من جهل. والتاريخ الغابر مع التجارب الحاضرة خير شاهد على ذلك.

***

وبعد، فقد هذه المقدمة كلها، ليزود منها القارئ بما يكشف عن الحجم ، أو العسب الحقيقي للمشكلة الكامنة في فكر إنسانأ قبل يجعل من الفلسفة اليونانية، في مورثاتها القديمة، أو مآلاتها الغربية الجديدة، حاكماً على الإسلام وحقائقه، بل حطاماً على المنطق العقلي من حيث هو.

إن المسألة قد تبدو على أنها مظهر للتحرر العقلي من الانتماءات الدينية والمذهبية المقيدة، أو أنها تطلع إلى آفاق الفكر المطلق، والعلم المتحرر عن كل قيد. وما أكثر ما فهمها أناس على هذا النحو.

ولكنها تنطوي في الحقيقة على نقيض ذلك و إن المشكلة الكامنة في فكر هذا الإنسان، أنه ضال وتائه عن هويته، ومن ثم فهو يعاني من فراغ نفسي، في مجال تحقيق الذات. ومن أهم أسباب الوقوع في هذا الضلال أو التيه، التربية الجانحة التي يتلقاها مثل هذا الإنسان منذ نعومة اظفاره، إذ ينشأ بعيداً عن معينة التاريخي والثقافي مفصولاً عن أحاسيس فطرته ونداءاتها.

وكلنا يعلم أن الفلسفة اليونانية مرآة للهوية اليونانية، قبل أن تكون ميزاناً لسلامة الفكر الإنساني.

ولذلك فإنك لا تكاد ترى هذا الإنسان مقبلاً إلى نفسه وإلى الامتداد الثقافي والتاريخي في ذاته قط، إذ هو لا يحس بشيء من هذا الاتصال أو الامتداد. ومن ثم فهو يحرض على أن يستكمل ذاته بغيره وأن يستعض عن وجوده الفكري والثقافي بافكار الآخرين وثقافاتهم.

إنه لا يتصور أن يجد في تاريخ الفكر الإنساني بديلاً عن فكر أرسطو وأفلاطون وأمثالهما، لا يتصور أن يجد نسيجاً تحاك منه حضارة إنسانية حديثة، سوى نسيج الفكر الغربي، ذلك ما ينطوي عليه ويجر إليه.

وهو لم ينته إلى هذا القرار بعد معاناة في التعرف على جوهر الإسلام وحضارته،ثم مقارنة بينهما وبين نسيج الفكر الغربي سواء في تاريخه الفلسفي القديم أو آثاره الحضارية الحديثة.

لا .. ولكنه إنما أنتهى إلى قراره هذا من خلال جهله بذاته، ومن ثم من خلال إعراضه عن أي تبصر بحقيقة الإسلام وتاريخه ومقوماته وثقافته.

إنه محشو إعجاباً بالآخرين، لانه محشو جهالة بذاته وانتقاصاً لها. ومهما كان هذا الذي هو معجب به لدى الآخرين ، في حقيقته، سجناً من الذل يحيط به فإن توهمه بأنه أبن للعراء الذي قضي عليه أن يضيع ويتيه فيه لا يجعله يرى ذلك السجن المهين الذي يطوقه إلى قصراً باذخاً منيفاً.. يرتع فيه!..

وهكذا، فإن هؤلاء في حقائق الإسلام، لا يصدر عن مجرد جهالة منهم بها، وإنما يصدر أيضاً عن استكبار منهم عليها وعن تأت للانصياع لها. وإنما يثور استكبارهم هذا من جهلهم بعبوديتهم لله عز وجل، ومن ثم من جهلهم بربوبية الله تعالى ومالكيته المطلقة لهم.

وهذا ما نعنيه بضياع الذات، الذي هو أصل المشكلات ومصدرها.

فلو عرف هذا المجادل باسم العلم والفلسفة والمنطق ، انه عبد مملوك للخالق الأوحد عز وجل، لهدته معرفته هذه لنفسه إلى معرفة الوهية الله عز وجل، ولا بد عندئذ أن تملأ هذه المعرفة قلبه بحكمة الله وعدالته ورحمته. ولا بد أن تمتص هذه الثقة كل شك وريبة تجاه بيان الله وقراراته وأحكامه، كما لا بد لها بالمقابل ان توجه شوكه وريبه كلها إلى تلك الفلسفات والأفكار التي كان يدين لها بل يقدسها ويقيد عقله منها بأغلال وآصار.

***

اما البحث الذي يلي هذه المقدمة، فنقاش وجهته ذات يوم لواحد من هؤلاء الذين حدثتك عنهم، لقد كان يومها رئيساً لقسم الفلسفة في جامعة ما من جامعات بلادنا العربية.

وكان الرجل يرى في الفلسفة الإغريقية القديمة وما قد توالد عنها من الفكر الغربي الحديث، ما يغني عن كل دين..

وكان الرجل يأخذ على الدين ـ أي الإسلام ـ انه لم يتتلمذ على الفلسفة وأساتذتها، فضل السبيل إلى اهدافه التي ابتغاها. ولو انه لم يقحم نفسه فيما لاشأن له فيه، من معالجة أمور فكرية واجتماعية، تخص الجهد الفلسفي دون غيره، إذن لحلت مشكلات كثيرة نعاني منها في مجتمعاتنا العربية والأسلامية اليوم.

لا يهمني أن أكشف عن هوية هذا الرجل  ، إذ لا مصلحة لنا في ذلك، بل لعل الرجل غير من رأيه، وعاد الى رشده

مهما يكن، فإن القصد إنما هو مناقشة أفكار وتصورات تائهة ، يتوارثها محترفو الغزو الفكري في بلادنا، ثم تنتشر عدواها في أوساطنا الثقافية وتسري إلى كثير من الأفكار النظيفة التي لا هم لها إلا البحث عن زاد طهور من الثقافة والعلم.

أنا لا اهدف ، من خلال عملي هذا، إلى أكثر من تحصين افكار الجيل(ومعظمها أفكار سليمة ونظيفة)ضد هذا الوباء الذي يهيجه رسل الاستعمار الفكري فيما بيننا، تحت شعارات وأسماء كثيرة شتى.

أما بطل هذه المناقشة الذي أروي للقارئ حديثه وأفكاره، وأواجه بحواري معه ومناقشتي له، فلعله يعذرني في إعادة روايتها، إذ هي قد نشرت من قبل على كل حال، هذا إن كان لا يزال يتبنى أفكاره تلك ويدافع عنها. أما أن كان قد تحول عنها إلى الحق الذي لابد أن يعود إليه كل ذي فكر موضوعي باحث عن الحقيقة الصافية عن الشوائب، فلن يعدو حديثي الحواري هذا أن يكون في مضمونه دعوة معه إلى هذا الحق.

وإنه ليسعدني أن نلتقي معاًً ـ ولو بالمشاعر والافكار ـ على طريق الذود عن الحقيقة والسعي إلى تحصينها ضد سائر المعكرات من الأغراض والأهواء.

والله هو المستعان أن يجمعنا على الحق، ويجعلنا جنداً لحمايته ورعايته.

هَل الإيمانُ بالله منهج؟

في مقال مطول كتبه رئيس قسم الفلسفة هذا، تحت عنوان:(الفلسفة والدين في المجتمع العربي المعاصر) في إحدى المجلات اللبنانية[2]، قال:(إن منهج التفكير الفلسفي نقدي لا يصمد إلا لاختيار المنطق العلمي الدقيق، في حين أن منهج التفكير الديني إيماني يعتمد على القول المعتقد تسليماً ودون أي نقاش).

والرجل إنما يعني بالدين الإسلام، إذ هو المعني بالدين في مقاله الطويل هذا.

فكيف يمكن للمنطق الفلسفي أو العقلي العام أن يوافق هذا الزعم العجيب القائل: إن الإيمان بالله منهج؟

 

الإيمان منهج؟!..إذن فما هي الغاية التي تكمن في نهاية هذا المنهج؟!

إن المنهج سير اختياري في طريقة من البحث تتجه نحو مقصد وغاية، أما الإيمان أو الأعتقاد فنتيجة انفعالية تتحقق في أعقاب ذلك السير الاختياري، لا يملك الإنسان ـ إذا وصل إليها ـ أي تنكر لها أو صدود عنها.

 

دعنا من أصحاب المذهب الذرائعي الذين يروضون عقولهم على قبول المعتقدات لمجرد ما قد يترتب لهم على ذلك من مصالح وأغراض. فالإسلام لا يقيم للفكر الذرائعي أي وزن، ولا لما يسميه أمثال(وليم جيمس)إرادة الاعتقاد، ولا لذلك الشعار الأخرق القائل(تعالوا نخلص الدين من العقل).

 

وإنما يقول الإسلام من خلال مصدره الاساسي الأول:(ولا تقفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كلّ أولئك كان عنه مسؤولاً) الإسراء:36.

 

إن الواجب الذي يخاطب الله به الناس في هذه الآية، هو أن يسلكوا إلى معرفة الحقيقة، أياً كانت، منهجاً علمياً لا تشوبه شائبة مصلحة أو هوى، ثم أن يقفوا وقفة يقين وإذعان عند النهاية التي يقودهم إليها هذا المنهج. وهذا الإذعان هو الإيمان. ولا شك أن الإيمان الذي يتبناه العاقل تقليداً لأسرته أو بيئته، أي قفزاً فوق منهج المحاكمة العقلية والتبصر بالادلة العلمية، إيمان مرفوض في موازين الإسلام وحكمه.

 

إن صاحب هذا الشكل من الإيمان ـ وإن عومل في الدنيا على أنه مؤمن حسب ظاهر حاله ـ غير مؤمن يوم القيامة، بقرار رب العالمين الذي ينظر إلى سرائر عباده قبل أن يقوم ظواهرهم.

 

والتكليف الإلهي الذي توجه إلى الإنسان، إنما يتعلق بالبحث العلمي المعتمد على حركة الفكر والذهن، لا بالنتيجة الانفعالية المتمثلة في اليقين الإيماني. ذلك لأن البحث العلمي هو الذي يدخل في طوق الإنسان واختياره، أما النتائج المتمثلة في الإيمان وعدمه في انفعالات قسرية لااختيار لأحد من الناس فيها.

 

ولعل من المفيد لرئيس قسم الفلسفة أن يعلم أن كلمة:(حرية الاعتقاد) التي يرددها الغربيون، وفي مقدمتهم (ستوارت ميل) في كتابه الحرية، لا يوجد لها أي مضمون علمي في المنهج المرسوم إلى الإيمان بالله عز وجل،ذلك المنهج الذي تاه عنه فيلسوفنا هذا فلم يقع له على أي اثر قط.مما جعله يتصور ان الإيمان ذاته هو المنهج!..

 

ذلك لأن الاعتقاد، فيما يقرره البحث العلمي، انفعال قسري كما اسلفنا، يهيمن على الذهن بعد تجمع أسبابه ومقدماته السليمة، فلا يتصور إمكان ممارسة أي حرية في قبوله أو رده.

 

هل سمعت أن مفكراً ما تأمل في مسألة رياضية واهتدى إلى القرار المقنع الصحيح في حلها، وانفعل عقله بالإذعان لذلك القرار، ثم شعر بأي حرية داخلية في أن يذعن له أو لا يذعن؟!.. إن الاعتقاد الإيماني، أياً كان مضمونه، كذلك. من أجل هذا القرآن أن عملية الإكراه على اعتقاد ما، غير واردة ولا ممكنة.

 

إن الاعتقاد في حقيقته إنما يتمثل في اليقين الداخلي الناتج عن البحث في أصوله ومقدماته، لا القسر أو الحرية الذاتية لا سلطان لها من الإنسان إلا على كيانه وهيكله الخارجي. ودونك فتأمل هذه الحقيقة في قول الله عز وجل:

 

(لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي)

 

و(لا) ههنا نافية وليست ناهية كما وهم بعض المتسرعين أن معنى الآية: لا يُتَصَوَّرُ إمكان غرس العقيدة الإيمانية في الأذهان بالإكراه، ولا يتأتى ذلك لأحد. ومن ثم، فإن التكليف الإلهي الذي اتجه إلى الناس، إنما انصب ـ كما قلنا ـ على عمل أو سلوك اختياري يتمثل في توجيه العقل والفكر إلى البراهين والمقدمات والأسباب التي من شأنها أن تبصر الإنسان بكل من الحق والباطل.

 

فئن أثيب المؤمن على هذا التوجه الاختياري يثاب، ولئن عوقب الجاحد على إعراضه الاختياري يعاقب. أما النتائج ايا كانت، فانفعالات قسرية كما أوضحنا، لا يتعلق التكليف بها بحال من الاحوال. لأنها لا تدخل في وسع الانسان  وطاقته، وقد قال الله عز وجل:(لا يكلف الله نفساً إلا وسعها).

 

وحصيلة هذا الكلام أن الله تعالى إنما كلف عباده بالتزام المنهج العقلي الموصل إلى معرفة الحق، وأن يذعنوا بعد ذلك لليقين الذي يبثه اتباع  ذلك المنهج في عقولهم، وأن لا يتكلفوا الإعراض عنه، ولا يتظاهروا ـ كاذبين أو متكبرين ـ بعدم اقتناعهم به.

 

وبوسعك أن تفهم هذا من قول الله تعالى:(فاعلم أنه لا إله إلا الله***) أي فاسلك سبيل النظر في البراهين التي توصلك إلى العلم بان لا إله إلا الله.

 

غير أن فيلسوفنا هذا، يجهل أو يتجاهل كل هذا الذي هو واضح لأي مثقف باحث قبل أن نزيده وضوحاً، ويتصور الأمر على نقيض هذه الحقيقة الواضحة. إنه يتصور أن التكليف الإلهي وارد على الإيمان والاعتقاد مباشرة، دون أي محاكمة عقلية أو منهج منطقي ودون أي بحث أو نقاش، بل قفزاً فوق ذلك كله، ولجوءاً إلى التسليم المطلق!..

 

ولعله لم يقرأ في كتاب الله تعالى شيئاً من هذه الآيات:

 

(ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن).

 

(قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم).

 

(إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار).

المنهج العلمي .. والنَص الدّيني

 

رئيس قسم الفلسفة هذا، يلح على تسمية الإذعان لمضامين النص القرآني: تسليماً لا عقلانياً!..يقاوم منطق العقل والعلم..

 

ويلح بالمقابل على تسمية الحيرة التي يتخبط فيها الفلاسفة، في أصل الكون ومصيره ومصير الإنسان بعد الموت، اعتصاماً بالمنطق العلمي والنقدي الدقيق!!..

 

لعل الدكتور الرئيس، بعيد العهد عن دراسة منهج المعرفة!.. ومن ثم، فلعله بحاجة إلى مراجعة جديدة لكثير من تفاصيله ومكوناته هذا إن احسنا الظن، ولم يجنح إلى القول بأنه ربما يتجاهل ما يعرف، ليصل بالقارئ دون تنبه منه إلى ما يقصد.

 

ونحن نسأل: هل يمكن لمنهج المعرفة، أياً كان الموضوع المطلوب معرفته، أن يتكون من التأمل الفكري الصافي، دون أستعانة بأي مضمون خبري مما يسمى بالنص؟

 

انه ليكاد يكون من المعلوم بالضرورة أًن المعارف الغيبية العامة لا يمكن ان تكون وتترسخ إلا من سدى التأمل الفكري ولحمة الخبر العلمي، أي الخبر الذي ثبت صدقه وصدق مصدره بالميزان العلمي.. لعله لم يخلق بعد عقل من ذلك النوع الذي يدرك حقائق الكون والحياة، دون أي استعانة بما يقوله صانع هذا الكون، سبحانه، مخبراً ومعلماً لنا انباء تقديره وصنعه!..

 

إن أي معرفة سليمة عن حقيقة الجهاز الصغير الذي يقع في يدك، وعن طرق استعماله وكيفية صيانته، متوقفة إلى جانب التأمل الفكري الدقيق، على الرجوع إلى ذلك الكتيب(الكاتالوك)الذي يحوي مضمونات خبرية صادرة عن المصنع الذي أنتج ذلك الجهاز، والذي يحوي بياناً بكيفية صنعه، وأصول استعماله والطريقة المفضلة لصيانته.

 

وإن أي عاقل يضع منهج المعرفة من حياته اليومية موضع التطبيق، لا يكاد يخرج من داره صباحاً قبل أن يصغي إلى نص النشرة الجوية إذ يخبر بها ذوو الدراية بالأنواء والأرصاد، مستسلماً لمضمونها متفاعلاً مع مستلزماتها من إعداد العدة للحر أو البرد، طبقاً لما قد أخبر به النص الذي أصغى إليه.

 

وإن أي عاقل من هؤلاء لا يمكن أن يستدبر النصوص الإخبار الصحيحة، عندما يحاول أن يعلم واقعة تاريخية ماضية، ثم أن يتجه بتأملاته الفكرية العزلاء إلى ظلام ذلك الماضي يستطلع منه حوادثه وأنباءه.

 

وإن أياً من هؤلاء العقلاء لا يمكن أن يعرض عن نص خبري اذاعته الدولة حول عقوبة أقرتها على ارتكاب جريمة ما، أعتزازاً منه بالمنهج العقلاني الصافي عن شوائب النصوص، ثم يتكل على بصيرته( العقلانية) تلك، ويرتكب تلك الجريمة آمناً مطمئناً، لأن النصوص( اللاعقلانية) لا تقاوم المنهج العلمي!..

 

اليست هذه الأمثلة المتعلقة بأحداثنا اليومية التي تنقلب فيها، أجزاء داخلة، بل سارية، في صميم هذا البنيان الكوني كله؟

 

إذن فكيف يتصور ذو فكر سليم، بأن الخوض في مجاهل هذا الكون لمعرفة دقائقه ـ مبدئه ومنتهاه، وصانعه وما ينتظره الإنسان بعد موته ـ إنما يكون بتسليط حوافز الفكر صافياً عن الاستعانة بأي نص إسلامي أو توجيهي، يلقي الضوء على هذه المجاهل الخطيرة ويكشف لنا شيئاً عن خفاياه وأنبائه؟

 

إن من البداهة بمكان أن الرجوع بمعرفة صحيحة لشيء من ذلك كله لا يمكن أن يتم إلا اعتماداً على نسيج فكري يتكون، كما قلنا ، من سدى ولحمة.أما السدى فهو التأمل العقلي بالطريقة السليمة، وأما اللحمة فهي الاعتماد على الخبر والنص كلما احتاج الامر إلى ذلك.

 

كل ما في الأمر أن منهج المعرفة يشترط للأخذ بالنص أن تتوافر فيه مقومات الصحة، بل اليقين في طريقه، وأن تتحقق الثقة العلمية بمصدره. فصحة الرواية التي ترتقي إلى درجة التواتر+ الثقة العلمية بمصدرها يساوي ضرورة اليقين العلمي بمضمونه. تلك حقيقة علمية لا يمتري فيها عاقل أياً كانت نحلته ومذهبه، فضلاً عن أن يجهلها ممارس للفلسفة، فضلاً عن أن ينكرها رئيس لقسم الفلسفة!..

 

إذن، فحيثما توافرت في النص الذي يرفد رحلة البحث عن الحقيقة، دلائل الصحة القطعية في طريقه والثقة العلمية بمصدره، فلا مناص من الإذعان لمضمونه، وسم هذا الإذعان(استسلاماً) إن شئت، فإنما هو على كل حال استسلام للمنطق العقلي والمنهج العلمي الخاليين عن أي من الشوائب، وليس استسلام هوى أو رغبة ذرائعية، متحكمة في النفس.

 

وعلى هذا، فإذا ثبت بالبرهان العقلي الصافي عن أي اسبقية أو تذرع أو هوى، أن القرآن منقول نقلاً صحيحاً متواتراً عن فم سيدنا محمد (ص)، وإذا علمنا بالبرهان المنطقي السليم أن هذا القرآن قد أوحي به إليه من عند الله بواسطة جبريل عليه السلام، أي فهو(ص) لم يتقوله على ربه تدجيلاً وافترائاً، فإن من ضروريات المنهج العلمي ومن أخص أحكام المنطق ومقتضياته، التصديق الجازم بكل ما يتضمنه هذا القرآن من إخبارات، والإذعان بين أن يتبين العقل الإنساني براهين صدق هذه المضمونات، أو أن يقف منها موقف الحائر أو الجاهل.

 

ولكن هذا الباحث المتفلسف يعرض عن المنهج العلمي الدقيق الذي يثبت عن طريقه صحة النص القرآني صحة لا يخامرها الريب، ثم يلح على تسمية الإذعان لمضمون هذا النص(تسليماً لا عقلانياً)!!..[3].

 

أن يعكف صاحب الجهاز الذي ابتاعه للتو، على الكتيب البياني الصادر من مصنعه، يتلقى منه أنباء مزاياه وكيفية استعماله وصيانته، تسليم إيماني أعمى لا يقره المنطق العلمي. أما أنسياقه وراء الخيال والتأمل الأعزل عن أي مستند أو مضمون، في حل ألغاز ذلك الجهاز وكيفية الاستفادة منه،بعيداً عن الإصغاء إلى نصيحة مخترعة، فهو، لا غيره، التامل مع العقل، والاعتصام بالمنطق العلمي الدقيق!!. هل عاقل يصدق مع نفسه ثم يقول هذا الكلام؟!.

 

أما نحن الذين اخترنا سبيل الوصول الى معرفة الحق، منهجاً علمياً صافياً عن شوائب الذرائع والأهواء والأسبقيات، فإننا لنوقن، بمقتضى هذا المنهج وحكمه، أن الانصياع لليقين بأخبار النشأة الثانية بعد الموت، وبأن الله جل جلاله يعلم كليات الأمور وجزئياتها، خضوعاً وإذعاناً للنص القرآني المخبر بذلك، أحق وأجدر بتسميته قراراً منطقياً متفقاً مع العلم، من السير وراء حدس الفلاسفة بأحداث ما بعد الموت، وبأن الله عز وجل لا يعلم إلا كليات الأمور، ويجهل ـ والعياذ بالله ـ جزئياتها.

 

إن حدس الفلاسفة، يستند إلى مجرد التخيلات والأوهام التي تساق إلى ما وراء مجالاتها ويحاول أن يحمل العقل أكثر من طاقته، فلا يأتي هذا الجهد وذاك إلا بأفكار مضطربة وافتراضات وهمية مهزوزة. أما النص القرآني فكلام رب العالمين يتحدث عن ذاته قائلاً:

 

(وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) الأنعام:59.

 

ويخبر عن احداث ما بعد الموت قائلاً:

 

(.. ثم إنكم بعد ذلك لميتون، ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) المؤمنون :15و16.

 

(افحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون، فتعالى الله الملك الحق لا إله هو العرش الكريم) المؤمنون:115و116.

 

وإننا لنوقن أيضاً، بمقتضى هذا المنهج وحكمه، بأن النص القرآني القاضي بأن المكونات التي نراها من حولنا اليوم مسبوقة بالعدم، أحرى بالتصديق والاتباع من تصور أولئك الفلاسفة بأن المكونات ربما كانت قديمة بالنوع..

 

ذلك لأن النص القرآني كلام صانع الكون ذاته يخبر كيف بدأ خلقه وصنعه في مثل قوله عز وجل:(ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة ايام وما مسنا من لغوب) ق 38.

 

وهو لما قرر في هذه الآية أن ابتداء خلق السموات والأرض محصور في زمن مدد، شطب بذلك على وهم أنها ربما كانت قديمة بالنوع قدم الخالق ذاته!..

 

أما تصور الفلاسفة فافتراض مجرد، لا يستند إلا على خيال يجرونه في الطريق الذي يشاؤون، دون الاعتماد على أي مستند علمي.

 

غير أن مما لاريب فيه أن كلامنا هذا، يغدو شيئاً سابقاً لأوانه،عند من لايؤمن بان القرآن كلام الله عز وجل، وبأن محمداً(ص) ناقل أمين له عن ربه عز وجل، إذ الاستناد إلى ما تقضي به نصوصه ـ في تصور هذا الانسان ـ لا يعدو أن يكون مثل استناد البناء إلى كثيب من الرمال.. فإن كان فيلسوفنا هذا واحداً من هؤلاء الناس، فلا ريب أن النصوص القرآنية، بما يتبعها من نصوص السنة ليست إلا كثباً أهيل، لا يجوز أن يستند إليه بشيء غير أن عليه في هذه الحال أن يكون صريحاً وجريئاً، وأن يعلن لنا أنه لا يصدق النسبة القائمة بين القرآن ومنزله وهو لله عز وجل، وبأنه لا يصدق بأن محمداً كان صادقاً في رواية هذا الكلام عن ربه عز وجل!..

 

وعندئذ، لابد أن يتحول الحديث بيننا وبينه من البحث في قيمة النصوص ومدى صلاحية الأخذ بها، إلى عرض الدلائل العلمية القاطعة على أن القرآن لا يمكن أن يكون كلام بشر من الناس، وبأن محمداً (ص) لا يعقل، فيما عرف من سيرته وتحليل حياته ونفسه، أن يكون دجالاً على الله وعلى الناس.

الرّهبة المزعومة من سلطان النّصوص

 

ثم إن هذا الكاتب يدعي أن الاستشهاد بالنصوص، لدى أصحاب النزعة الدينية، يقوم على سلطان الإرهاب والتخويف!..أي (إن أحدهم يقول: هذا ما يقضي به النص ، فإما أن تخضع وتستسلم، وإلا فإنك كافر)..

 

ويزعم الكاتب أن هذا الإرهاب والتخويف، من شأنهما أن يلجئا صاحب النزعة العلمية والعقلية إلى التلاعب بالنصوص باسم التأويل أو باسم القراءة المعاصرة، بدلاً من المصارحة بإنكارها وعدم التصديق بصحتها، حتى لا يتهم بأنه كافر!.:.

 

وإننا لنقول: أما أن يوجد بين من يتشدقون بكلمات العلم وأصطلاحاته، من لايريدون أن يكتشف الناس جحودهم وكفرانهم بالحق، فيتسترون بدعوى الإيمان ثم يجرون النصوص إلى حيث يريدون ـ فنحن لا نشك أن في الناس كثيراً من هذا النوع.

 

وحسبك من الدوافع إلى ذلك، أن المجاهرة بالكفر والإلحاد، يجرد المجاهر عن شعارات العلم ومصطلحاته التي يتربص بها ويختفي وراءها. ويعرضه للمواقف الحرجة في مجال البحث والنقاش.

 

وأما أن يكون منهج الأخذ بالنصوص عند المؤمنين بها والمعتمدين عليها، هو سلطان الإرهاب والتخويف، فهذا ما لم نعثر عليه في أي من المصادر التي تتحدث عن المنهج العلمي في قبول النصوص، ثم عن المنهج العلمي في تفسيرها. وهو شيء لم نسمع به ولم نجده في مناقشات العلماء إذ يتعاملون مع النصوص ويستشهدون بها.

 

وأي تخويف يكمن في القول بأن رفض النصوص القرآنية كفر بالله عز وجل، عند من لايقيم فعلاً لهذه النصوص أي وزن؟

 

أليس مثل هذا الإنسان كاذب بالله وبنصوصه فعلاً؟ فأي جديد في أن يهدد البط بالشط؟!..

 

أما المنهج العلمي في قبول النص من حيث المبدأ، فقد أوضحناه آنفاً، فلا نعود إليه بالتكرار. وأما المنهج العلمي المتبع في تفسير النصوص، فغريب وعجيب جداً أن لا يكون عند رئيس قسم الفلسفة أي علم به أو خبر عنه!..

 

ألم تسمع يا هذا بعلم يسمى( قواعد تفسير النصوص)؟

 

لو سمعت بهذا العلم، إذن لعلمت أنه مجموع قواعد علمية حيادية، لا تتأثر بأي سلطان أو إيحاء ديني، وإنما تستمد مسوغاتها وواقعها العلمي من اللغة العربية التي هي اصطلاح التخاطب بين أي متكلمين باللغة ذاتها. فإن مما لاريب فيه عند أي عاقل أن سبيل التفاهم بهذه اللغة يكمن في خضوع المتحاورين لاصطلاحاتها المستقرة الثابتة، وإلا فلا سبيل إلى التفاهم بينهما ، مهما امتد بهما حبل المحادثة والكلام.

 

وقد كان من فروع المنهج العلمي للبحث عن الحقيقة، عند علماء المسلمين، الأخذ بهذه القواعد العلمية الحيادية،التي لا مندوحة عن اللجوء إليها في فهم المراد بالنصوص العربية عموماً، وفهم النص القرآني والسنة النبوية خصوصا.

 

وهي مثل قولهم: الاصل في الكلام الحقيقة ولا يصار إلى المجاز إلا عند تعذرها، وقولهم: المطلق يجري على إطلاقه، وقولهم: إذا اطلق اللفظ حمل على الفرد الكامل. وقولهم: العام يجري على عمومه، وقولهم: دلالة اللفظ على المفهوم الموافق معتبرة..إلخ.

 

فما كان من هذه القواعد محل اتفاق عند علماء العربية، فإنه لا يدع مجالاً لأي اختلاف في تفسير النصوص على ضوئها، ومن ثم فإن العلماء الذين يعتد بعلمهم لم يختلفوا بشأنها ولا بتفسير النصوص على ضوئها. بل لا يسعهم إلا الاتفاق من حيث لا يسعهم إلا الخضوع لسلطان هذه القواعد.

 

وما كان منها محل نظر وخلاف عند علماء العربية والبيان ( كخلافهم في دلالة العموم هل يكسب المعطوف عموماً مثله؟) فالاجتهاد في تفسير النصوص على ضوء هذه القواعد الخلافية وارد ومشروع، ولا مجال عند اختلاف الآراء ضمن الحدود الاجتهادية هذه، لأي تكفير أو تسفيه أو نقد.

 

ولكن رئيس قسم الفلسفة لا يعلمن على مايبدو، أن للاخذ بالنصوص شروطاً وآداباً تقضي القواعد العربية بالتزامها، لذا فهو لا يرى مبرراً لضرورة الأخذ بها عند توفر شروط ذلك، إلا القصد إلى الإرهاب والتخويف!..

 

كما أنه لا يعلم، أو ربما لايريد أن يعلم، أن لتفسير النصوص واستخراج المعاني المرادة منها منهجاً آخر ذا دقة علمية متناهية لا يزال علماء القوانين الوضعية عالة، في تفسير قوانينهم عليها. ومن ثم فهي خاضعة بنظره للعب بها والعبث بدلالتها، سواء لمصلحة من يقدرها ويأخذ بها أو لمصلحة من يضيق بها ولا يعول عليها.

 

ولكن ترى ما هو المنهج العلمي الذي ينطلق الكاتب الفيلسوف من الاعتماد عليه في تجاوز النص وعدم التقيد به في سائر الظروف والأحوال؟

 

لا ادري، ولعل الرجل ذاته لا يدري، على الرغم من أنه فيلسوف يتعامل مع الفلسفة، وأعتز بأنه لا يتخلى في محكماته الفكرية عن المنهج المنطقي الدقيق.

 

على أن الرجل ما يلبث أن يلفت النظر إلى الحل الجذري الذي يراه مناسباً لمشكلة النص الديني وأحكامه وقيوده. إنه الحل الذي تبنته الفلسفة الغربية في آماد معينة من عصر الحضارة الغربية. الا وهو معاملة النص الديني على أنه ذو عمر زمني محدود. ويسوق في هذا الصدر تصور أمثال(أوجست كونت) للدين. إنه يرى أن المرحلة الدينية بحد ذاتها مرحلة أولية من مراحل الفكر البشري، ومن ثم فلابد من تجاوزها فيما بعد.

 

وعلى الرغم من أنه يجري وراء هذا الحل الذي يراه رائعاً(لمشكلة) الدين عموماً، فإنه مع لك أن يدري شهوته أو رغبته هذه، من خلال قوله(يكفينا أن نشير إليها ـ أي إلى هذه النظرية ـ بوصفها ممكنات نظرية وحسب،بقطع النظر عن كونها مقبولة).

 

غير أنه في حديث صحفي مع بعض الصحف، لم يستطع أن يخفي رغبته هذه، فصرح بأن أوربا قد وجدت الحل الأمثل لمشكلة الدين في حياتها، أما نحن فلا نزال ننتظر من يتمتع بالجرأة الكافية في تقديم حل لها.

 

ونحن نقول: إن( أوجست كونت) يمثل الحجة العلمية على أن الديانة في أوربا ليست أكثر من ظاهرة اجتماعية نسجتها الأيدي البشرية، وإن كانت جذورها الخفية الأصلية وحياً حقيقياً من عند الله. فالموروثات الدينية في أوربا، فيما يعرفه جميع الباحثين ومؤرخو الأديان، ليست موروثات أولئك الحواريين الذين أخلصوا لعيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، واتبعوا عقيدته وساورا على نهجه، وإنما هي أفكار بولس اليهودي وقسطنطين الروماني اللذين تتابعا على إنشاء نسيج فكري واعتقادي مختلف، لا عهد للمسيح ولا لأحد من حوارييه بها.

 

وأناجيل اليوم إنما هي، كما يقرر(ستوارت ميل)في كتابه (الحرية) كتابات ومذكرات صاغها من يسمون بالرسل الذين جاؤوا وتوالوا من بعد، ودونوا فيها ما يعلمونه من حياة المسيح وأخباره.

 

إذن، فمن حق(أوجست كونت) أن يضيق ذرعاً بالخضوع لدين تتجلى عليه بصمات الصنع الإنساني، ويفيض بآراء التصورات البشرية.

 

ولكن هل من مستلزمات هذا الحق أن نضيق ذرعاً بالقرآن أيضاً، وأن نسقط عليه ذلك التصور ذاته، فنحكم عليه حكماً غيبياً لا يستند إلى أثارة من علم، بأنه هو الآخر ظاهرة أجتماعية، وأنه مجموعة نصوص تعاقبت عليها الأيدي البشرية تأليفاً وصنعاً؟

 

إن هذا الإنسان ، فيما يصف به ذاته، رجل علم!..

 

فما هو الدليل العلمي عند رجل العلم هذا على ان القرآن الذي يتلى اليوم نصوص جمعت من أقوال المصلحين ورجال الدين؟ وما هو الدليل العلمي عنده على أن العقائد الاساسية التي بها يعد الإنسان مؤمناً ليست إلا تصورات وأفتراضات بشرية كلتي جاء بها بولس وقسطنطين؟

 

كنت أنتظر من رجل العلم والفلسفة هذا أن يسوق بين يدي دعواه القياسية هذه برهانه(المنطقي الدقيق) عليها، وأن يستعمل في عرض برهانه هذا سلطانه الفلسفي النقدي المنطقي العقلي الصافي عن الشوائب والأخلاط ( الإيمانية التسليمية).

 

ولكنه ـ وهو المعتز بالمنهج المنطقي النقدي العلمي ـ قد تخلى عن هذا الذي يعتز به تخلياً تاماً، وطرح دعواه القياسية هذه عارية عن أي برهان أو شائبة برهان، مستعيراً، على ما يبدو، طريقة(الإيمانيين التسليميين).

 

ولعل القارئ يلاحظ ـ إن صدقت في حقنا التهمة ـ ونحن مؤمنون وربانيون ولله الحمد ـ أننا قد استعرنا منه برهانه المنطقي العلمي النقدي فاستعملناه بدلاً عنه، فكان ميزاناً مؤيداً لقائنا الإيمانية التي أيقنا بها وألزمنا أنفسنا بها، لا سيما بعد أن تخلى هو عنه، وآثر على التقيد به، في مخاصمته للدين، المغمرة الرعناء، والافتراضات الغيبية التي لا يضبطها أي منطق أو علم.

 

وتتلخص افتراضاته الغيبية هذه في0 مسلمتين ثابتتين في نظره: إحداهما أن الدين، من حيث هو، ظاهرة اجتماعية نسجتها الافكار البشري.. والثانية أن الفلسفة كالعلم، حقيقة راسخة لا تنهض أحكامها إلا على ما يسميه: (المنطق النقدي الدقيق).

 

وكلتا( المسلمتين) ليستا ملمتين إلا في تصوره ووهمه.

 

فالإسلام الذي هو المعني بالدين في حديثه هذا، ليس ظاهرة اجتماعية نسجتها الافكار والإنسانية، بل هو حقيقة موضوعية ذات وجود مستقل عن الإنسان وفكره، تتمثل في الوحي الإلهي الذي لا قبل للعقل الإنساني بجلبه أو رده، وليس له تجاهه أكثر من دور التلقي ثم الوعي والفهم. والفلسفة ليست مجموعة حقائق قائمة على المنطق الدقيق كما يقول، بل هي ـ في أكثر ما انتهت إليه أو حامت حوله ـ معاناة فكرية أنتجت أخيلة وتصورات تتعلق بمسائل غيبية لا يمكن لطبيعة العقل البشري أن تستقل بإلقاء أي حبال فكرية نحوها، أو بمد أي جسور من الفهم الصحيح إليها.

 

ومهما أراد الكاتب، بوصف كونه مختصاً بالفلسفة غيوراً عليها،أن يعيد ويكرر الحديث عن العلم وألفاظه، ليضفي بذلك على الفلسفة مزيداً من رصانة العلم وقدسيته، فسيظل الفارق المعروف بينهما ماثلاً للعيان لكل باحث مثقف، وستظل الفلسفة جملة محاولات للاقتحام بالحق لابشري إلى ما وراء الساحة المحددة له، حيث ظلام الغيب الخفي المتواري وراء عمر الأزمنة والدهور، أو خلف تلافيف المستقبل الغامض المجهول.

 

وتلك هي نقطة الضعف التي لابد أن تعاني منها الفلسفة دائماً مادام أن الدارسين لها أو المتحدثين باسلوبها، لا يريدون أن يحكموا في ذلك منهج المعرفة الإنسانية القائم على ركنيها الأساسيين، وهما أتباع ما يقضي به صريح المعقول وما يخبر عنه صحيح المنقول؛ وما داموا يلمحون على أصول المعرفة الإنسانية ان تسير بهم إلى ما يبتغون من الحقائق على عجلة جانبية واحدة،هي المعقول وحده.

 

وقد عرفنا بحكم البداهة أنه لابد للعقل ان يتعثر، عندما يساق جراً في تعاريج هذا المتوعر المظلم، ولن تكون الصور التي يعود بها ـ وقد حملها كرهاً ـ إلا صوراً مهزوزة مضطربة، كتلك الاشباح المتداخلة المضطربة التي يحاول التلفزيون ان يحملها إليك من وراء الحدود الخاضعة لطاقته وإمكاناته.

 

وأي قراءة في افكار الفلاسفة، في أي من موضوعاتهم الفلسفية، تبرز لك صورة هذا الاضطراب المتعثر في كل من الفهم والأحكام.

 

وأي تامل في حال أي ممن أسلموا عقولهم للأفكار الفلسفية، يجسد لك قدراً كبيراً من القلق الذي عانية والضياع الذي يتيه في بابه. وعلى الرغم من أن رئيس قسم الفلسفة هذا، يعترف ضمنياً نقطة الضعف هذه، وعلى الرغم من اعترافه بأن الباحث الفلسفي لا يقوى على الصمود طويلاً في الحوار والمناقشة أما المنطق الديني القائم على أحترام النص ـ فإنه يحيل أسباب هذا الضعف إلى خوف يتلبس الباحث الفلسفي من أن يمضي في النقاش إلى المدى الاخير!.. هكذا يقول.

 

ترى من أين جاء هذا الخوف، وما هو سببه؟

 

إن سببه في تصور هذا الرئيس، هو أن المتفلسف المناقش مغلول ـ على حد تعبيره ـ بألف قيد وقيد. ووجود هذه القيود يفرض عليه أحياناً ان يلجأ إلى التأويل والالتفاف حول أهدافه بطرق غير مباشرة، بل قد يرغمه على اللجوء إلى الخداع.

 

الف قيد وقيد؟!..

 

ما هي هذه القيود؟ ومن أين جاءت؟

 

لوكنا نعيش في عصر الإرهاب الفكري وسط مجاهل أوربا، وكان الفكر الإسلامي في حواره يمثل طغيان الكنيسة وجورها ضد حرية البحث والرأي آنذاك، والفكر الفلسفي يمثل النزعة العلمية ـ فيما يتصور ويقول ـ لجاءت دعوى انحباس هذا الفيلسوف المناقش بألف قيد وقيد دعوى عريضة مبالغاً فيها. فكيف وإن الساحة الفكرية والأعلامية في أكثر البلاد والأصقاع الإسلامية، فضلاً عن غيرها، مفتوحة لأصحاب الهرطقات الذهنية والنزعات اللادينية، قبل أن تكون مفتوحة للباحثين الإسلاميين. هذا ما نعرفه ونراه يقيناً، فمن أين جاءت مئات القيود هذه، لتصد هذا الفيلسوف المسكين عن الصدع بكلمة الحق، ولتملأ قلبه خوفاً ورعباً من السنة المؤمنين؟

 

إن مصدر الخوف إنما يتمثل في طبيعة تراجع الباطل أمام منطق الحق عندما يتواجهان في ساحة البحث والحوار ، لا سيما عندما يكون الحوار على ملأ من الناس ومسمع منهم، وليس مصدره قيوداً مادية أو أدبية ترهب المنطق والفكر. فلسنا نعيش في عصر الإرهاب الفكري الذي انحط لحساب المعتزلة على أحمد بن حنبل وأمثاله، ولا الذي انحط على المنطق العلمي لحساب الكنيسة وأباطرتها.

 

ونعود فنقول: إن مشكلة هذا الباحث أنه يفهم مسمى كلمة( الدين) من خلال منظور فكري خاص به، ثم يوقع الإسلام بذلك تحت طائلة الجرائر التي تتحملها سائر الأديان الوضعية التي نفض بها فكره.

 

بل هو يعتمد حمل نفسه على هذا الفهم والتخطيط له!..

 

واعتماداً منه على هذا اللفق والرقع، يصوب سهام هجومه إلى الإسلام، أي من خلال منظور ديني آخر وضعه نصب عينيه، دون أن يكون بينهما أي صلة او علاقة.

الـمادَية.. والمثاليّة .. والدّين

 

يتخيل رئيس قسم الفلسفة ـ ولا أدري ما هو مصدر هذا الخيال  أن أئمة الفلسفة المثالية أقرب إلى رضا المسلمين من أئمة الفلسفة المادية. ولعله يتصور أن بين المسلمين والفلاسفة المثاليين قاسماً مشتركاً من الجنوح إلى الأوهام والأخيلة التي ينأى عنها الفكر المادي، على حين يختلف المسلمون عن أصحاب الفكر المادي باعتماد هؤلاء على الموازين العلمية،وشرود المسلمين عنها!..

 

يقول:(من المؤكد أن العوامل الدينية هي التي تفسر جانباً كبيراً من المكانة التي احرزتها الفلسفة المثالية، والسمعة السيئة التي اكتسبتها الفلسفة المادية وكذلك الوضعية لدى كثير من مفكرينا والمشتغلين بالفلسفة في بلادنا، ذلك لأن المثالية ترتبط في أذهان هؤلاء بالجوانب الروحية والمثل العليا، في حين أن المادية ترتبط بالسعي وراء الماديات).

 

من قال هذا؟

 

من أين للكاتب هذا التصنيف لكل من الفلسفتين المثالية والمادية، في ميزان الرؤية الإسلامية؟

 

أما أنا فلم اطلع قط على شيء من هذا التصنيف.

 

إنني ـ بكل تأكيد ـ لم أعرف ولم أسمع أن أمثال (بركلي) و (كانت) و (هيغل) من الفلاسفة المثاليين قد أحرزوا لنفسه في الاعتبار الإسلامي مكانة أرفع شأناً مما أحرزه لأنفسهم في الاعتبار ذاته أمثال( ماركس) و(انجلز) و(بوكنز) و(لينين).

 

إن مقياس البصيرة الإسلامية يقرر أن الإلحاد المادي ليس أكثر سوءاً من الإلحاد المثالي، بل إن هذا يضيف إلى مساوئه الإلحادية سخافة التخريف والجنوح عن بديهيات المعرفة وحقائقها الأولى.

 

ولئن كان في تخيلات(هيغل) عن الوجود المطلق، وفي أوهام( سير كير كجورد) عن وحدة الوجود وعن آماله في الاتحاد مع ما يسميه: الوجود الابدي الأقدس، وفي سمادير (فخته) عن أسبقية الفكر على كل شيء وأن منه ينبثق كل من المادة وصورتها معاً ـ نقول: لئن كان في أوهام هؤلاء ما يجعلهم في مقياس الموازين الغربية مؤمنين بالله عز وجل، فإنها في معيار الحقائق الإسلامية إيمان وهمي أخرق. بل إنه ليس في مآله إلا لوناً سخيفاً من ألوان الإلحاد، جاء يطفو على سحابة من الأخيلة الخرافية المجنحة.

 

ولقد أوضحت في كتابي( أوهام المادية الجدلية) أن الحق في كثير من الجزئيات التي أختلف فيها الماديون والمثاليون، إنما هو في جانب الماديين، وأن كانوا يجحدون بالخالق. وليس في ذلك الإيمان الأخرق الذي ينادي به المثاليون ما يسوغ أي جنوح عن الحق أو أي تحيز إلى الباطل.

 

تلك هي طريقة الذرائعيين الذين يسخرون سبل الإيمان أو الإلحاد ، كلما اقتضت المصلحة، أداة لعصبياتهم وخادماُ لموروثاتهم أو خلفياتهم.

 

أما الإسلام فقد حارب النهج الذرائعي وحذر منه، بمقدار ما عانق العلمية الصافية وحاكم إلى موازينها، وتسامى على كل صداقة وعدوان في سبيلها.

 

وكيف يرضى الإسلام أن يصفي المسلمون لأنفسهم أصدقاء بهذا الدافع الذرائعي أو العصبي، وإن قرار الإسلام في كتاب الله تعالى يقول:

 

(ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا، أعدلوا هو أقرب للتقوى).

 

ولكن أليس عجيباً ألا يعلم بدهيات هذه الفوارق بين قانون الرؤية الإسلامية والرؤى الدينية الأخرى عند الغربيين، باحث فلسفي يتبوأ كرسي الفلسفة ويرأس قسمها في واحدة من جامعاتنا العربية المعروفة؟!..

 

بل أليس عجيباً ان تصنف موازين الرؤية الإسلامية لدى باحث يتمتع بقسط ما من الثقافة والدراية، في قائمة مذاهب الفكر المثالي؟

 

***

 

إن من الأمور التي باتت في حكم البدهيات الواضحة، أن المبادئ والعقائد الإسلامية جاءت ثمرة منهج علمي راسخ متماسك، وهو منهج مستقل بذاته لا ينتمي إلى أي رؤى فلسفية، ولا يجنح إلى مذهب منها دون مذهب، ولا يحابي واحداً منها على حساب غيره.

 

ونهجه الذي يسير عليه لا يعجب المثاليين كما لا يعجب الوضعيين كما لا يعجب الماديين، تماماً بالقدر الذي يسبقه كل من هذه المذاهب الثلاثة بعضها البعض.

 

وليت أن رئيس قسم الفلسفة شغل وقته وجهدة بالعمل على تحرير المذاهب الفلسفية من صراعاتها الفكرية، والسعي لإطلاق سراح أئمتها من سجون الحيرة التي كانت ولا تزال تطوف برؤوسهم حتى حيال الأمور البدهية في هذا الكون.

 

إذ إن الفلسفة لا يرجى لها أن تحتل كرسي الأستاذية والقيادة للفكر الإنساني، وهي لم تستطع بعد أن تقود نفسها على صراط علمي مستقر بين الأصول والمعالم، بعيداً عن الحيرة والاضطراب.

 

ولكن الكاتب الفيلسوف لما لم يستطع أن يتخذ سبيلاً إلى ذلك، نظراً ان من شأن طبيعة الفكر الفلسفي التطوح بين الاحتمالات والتفسيرات المختلفة المتناقضة، ومن ثم بعث قدر كبير من الحيرة والاضطراب في الفكر ـ بل في النفس أيضاً ـ فقد رأى ان يشغل نفسه بنقد الإسلام، والتسامي ـ ولو بالأحلام والأماني ـ على الحل الإسلامي للغز الكون والوجود والإنسان.

 

على الدًين ان يتخلّى عن العلم !..

 

نعم، هكذا يطلب الكاتب!..

 

إنه يحتج على الدين، أي على الإسلام، انه قد اشتط بنظره إلى خارج حدوده، واقتحم السبل إلى ما لا يحيه ولا يعينه، الا وهو البحث في الطبيعيات وفي الكونيات. وقد كان عليه ان يهتدي بهدي الفلسفة وأهلها الذين اعترفوا بعجزهم عن الخوض في تلك الميادين، فوقفوا عند حدود ما يعرفون!..

 

ومن الواضح أن إصبع الاتهام هنا إنما تتجه إلى القرآن.

 

وذلك عندما يشتط (بنظره وعلى حد تعبيره) فيدخل فيما ليس من شأنه ولا اختصاصه، إذ يطلق أحكامه التقريرية عن الكونيات كالسماوات والأرض والافلاك والبحار والرياح واللواقح والسحب والأمطار وقانون اختزان الارض للمياه، ونحو ذلك.

 

لقد كان على فقهاء النصوص الدينية ـ بنظر الكاتب ـ أن يقطعوا صلة ما بين هذه النصوص ومعانيها الكونية، بأي وسيلة من وسائل التأويل أو التحوير أو القراءة الكونية، بأي وسيلة من وسائل التأويل أو التحوير أو القراءة المعاصرة، حتى يوقفوا الدين بذلك عند حدود، ويبعدوه عما لا يدخل في أختصاصه.

 

وأنا، فكم كنت أود أن يبين لي هذا الكاتب وأمثاله، الجهة أو الدولة أو الشخصية التي رسمت للدين حدوده وعرفته على اختصاصه.. وعندئذ يكون بوسعنا أن ننضم إليه، في تذكير الدين بهذه الحدود التي يجب الا يتجاوزها، واختصاصه الذي ينبغي أن لا يتعداه.

 

على الدين أن لا يتحدث عن شيء من الكونيات وان لا يدلي بأي حكم في حقها. لأن هذا الحديث يدخل في نطاق العلم، والدين لا علاقة له بالعلم!..

 

إن هذا الكلام يعني أن الكاتب يعترف بالدين، وقر بأن له مهمة ووظيفة في الحياة، غير أن هذه المهمة لا تتصل بالعلم من قريب أو بعيد.

 

ولكنا نسأل بدورنا: ما هي هذه المهمة التي لاصلة لها بالعلم؟ وما هي قيمتها في حياة الإنسان بعد أن تنفصل عن العلم؟.. ومن ذا الذي يملك أن يقود الإنسان المتميز بالوعي والعقل في طريق لا شأن ولا صلة له بالعلم؟!..

 

ثم بأي حجة يضيق الكاتب من مدلول العلم ومعناه، حتى يحصره في مسائل الطبيعيات والماديات، ولم نعلم للعلم يوماً ما  إلا معنى واحداً قال به الفلاسفة والحكماء والعلماء قديماً وحديثاً، هو: إدراك الشيء على ما هو عليه بدليل. أو هو بتعبير آخر: موافقة المفهوم الذهني  الخارجي بدليل.

 

وهل فرض الدين وجوده يوماً ما، منذ فجر وجوده،إلا بسلطان العلم؟ وهل الدين في حقيقته إلا الدينون لمن بيده مقاليد العلم؟

 

ونظراً إلى هذا الكاتب لا يصارحنا برأيه الخاص في مصدر الإسلام والقاضي به والداعي إليه، فلا بد أن نفترض، من قبل حسن الظن به، أنه يرى ما يراه ويعرفه المسلمون جميعاً، من أن الله عز وجل هو مصدر هذا الإسلام وهو منزله وشارعه والآمر للناس جميعاً بالتزامه واتباعه. ذلك لأن الله عز وجل لا غيره هو القائل خطاباً لسائر عباده في الأرض:

 

(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً).

 

وإذن، فلا معنى لكلام هذا الكاتب المتفلسف إلا انه يتجه بالنصح لفاطر السماوات والأرض، مبدع النواميس الكونية، وخالق القوى والقدر، أن لا يخوض في خطابه لعباده، في شيء من مسائل الكون والطبيعة، لانها ليست من اختصاصه، وإنما هي من اختصاص عباده الذين خلقهم فسواهم وجعل لهم الابصار والافئدة وعلمهم ما لم يعلمون!!..

 

فهل في هذه الدنيا كلها من يؤمن بالله عز وجل، ويوقن بأن القرآن كلامه، ثم ينطق بهذا اللغو العجيب؟!..

 

ولكن رئيس قسم الفلسفة في جامعة من أبرز الجامعات الخليجية، كتب هذا الكلام، وابدى أسفه الشديد لأن الدين الإسلامي لم يقف عند الحدود المرسومة له، كما فعلت الفلسفة التي لم تتجاوز حدوده، بل أبى إلا ان يخوض على غير بينة في مسائل الطبيعة والكونيات.

 

بل الرجل يزيد على هذا، فيعلن عن انتظاره لمصلحين جرآء يقدمون دون مخافة ولا وجل، على إصلاح هذا الفساد، وعلى إبعاد الدين عما ليس من اختصاصه.

 

ولم يكن ليستوقفني هذا الكلام التافه، بأي تعجب أو استنكار، لو أن صاحبه الذي اقام من نفسه حارساً على العلم ضد غوائل الدين، ضبط الإسلام بأي عملية سطو أو عدوان على حقيقة من حقائق العلم، بأن يرينا نصاً في كتاب الله تعالى تضمن ما يناقض أياً من الحقائق العلمية الثابتة.

 

ولكن الرجل، وهو يقدم نصيحته الممجوجة هذه للدين الذي هو الإسلام، ويظهر الخشية منه على العلم واهله، ويعلم علم اليقين( كما يعلم كل مثقف من الناس) ان العلم كان ولايزال ساجداً لكل آية، بل لكل جملة، في كتاب الله عز وجل. ولا شأن لنا هنا بالنظريات والفرضيات التي تتطوح في عما التجارب والتصورات.

 

فهلا وضعنا هذا المشفق على مصير العلم من غوائل الدين الذي ( يتدخل فيما ليس من شأنه) أمام طائفة من تجنبات الدين على العلم، لا ، بل أمام موقف واحد تجنى فيه الإسلام على حقيقة علمية ثابتة؟!..

 

نقول كل هذا بناء على ما افترضناه ـ من قبيل حسن الظن به ـ أنه يفهم ما يفهمه المسلمون جميعاً من أن الله عز وجل هو رب هذا الدين ومنزله.اما إن افترضنا ان الكاتب عاقل من الناس، ومن ثم فلا يعقل أن يهذي هذا الهذيان المنكر، ويقدم النصح لقيوم السماوات والأرض ان لا يخوض بدينه في قضايا العلم، وأن يحيلها إلى المتخصصين من عباده، كما فعل الفلاسفة العقلاء من قبله، فلا مناص إذن من فهم المعنى الوحيد الذي لا ثاني له، لكلامه هذأ، ألا وهو ان القرآن إنتاج عقل بشري ، سواء أكان عقل محمد عليه الصلاة والسلام أو عقل غيره من العرب وبذلك يصبح الدين الإسلامي في مجموعه إبداعاً إنسانياً وتراثاً عربياً خاضعاً لاحتمالات الوقوع في الخطأ والصواب، بل هو عندئذ من تصورات ومواضعات اناس لم يكن لهم زاد من الثقافة ولا دراية بالعلم والحضارة، بل كانوا مخلفين وراء دنيا الانشطة العلمية والحضارية. ومن ثم فقد كان عليهم ـ وهم واضعو هذا الدين ـ أن لايخوضوا به وراء حدود جزيرتهم وأن لا يدونوا في كتبه أكثر من احداه هذه الجزيرة وأنبائها.

 

على ان الرجل يرى مع ذلك ـ متفضاً ـ أن لا حاجة في الوقت الحاضر إلى القيام بثورة شاملة للقضاء على الاسلام، بل لا مانع من أن يأخذ طريقة في المجتمع إلى جانب سائر الاديان الاخرى، ولكن على أن يتم إبعاده عن العلوم والاقتصاد والانشطة الفكرية والسياسية. وأن يمنع من الخوض فيما ليس  من شأنه!!..

 

***

 

أي قاسم مشترك بقي بيننا وبين الكاتب لنناقشه على اساسه؟

 

من الواضح أنه لم تبق بيننا وبينه، في هذه الحال، أي أرض مشتركة نقف معه عليها لنحاوره انطلاقاً منها، اللهم إلا شيء واحد هو( المنهج) و(المنطق الدقيق) اللذان يتباهى بهما، ويأسف في صدر مقاله، لافتقار الفكر الديني في رؤوس المسلمين إليهما.

 

إذن فلنقبض على كلمة( المنهج) هذه، ولنحاكم هذا (المنهجي) إليها.

 

أين هو المنهج في هذا الذي تكتبه وتقرره، وأين هو (المنطق الدقيق) في هذه المخاضة التي تخوضها عن الإسلام والعلم؟

 

أمن المنهجية في شيء أن تناقش المسلمين في إسلامهم، قبل أن يكون بينك وبينهم تلاق واتفاق على قاسم مشترك في معنى الإسلام ومصدره؟

 

امن (المنطق الدقيق) ففي شيء أن تناقش خصمك في موضوع، لم تتفقا على حقيقته ومفهومه، وأن تتصارع الحجج بينكما على أكثر من مورد؟

 

كيف تستسيغ، وأنت الفيلسوف المثقف، أن تناقشني في الإسلام الذي هو في ذهنك تراث من وضع الجزيرة العربية، بينما هو في ذهني وحي منزل من لله عز وجل ، دون ان تكاشفني بهذه المفارقة الخفية بيني وبينك، وتمضي تدلي بحججك  من منطلق ما تخفيه عني في ذهنك، بينما أقارعك الحجة من منطلق ما اصارحك به من إيماني الراسخ بالله عز وجل وكتبه ورسله؟

 

ألم تسمع ـ وأنت الباحث المنهجي ـ بنقطة(تحرير محل النزاع) وأنها المحور الذي لا يصلح دوران النقاش إلا عليه؟

 

أنت تتصور أن الإسلام ديانة وضعية صنعتها عقول بشرية، فهي تخضع لاحتمالات الخطأ والصواب والمعرفة والجهل.

 

ونحن نجزم بأن الإسلام حقيقة موضوعية ذات وجود مستقل عن فكر الإنسان، تتمثل في الوحي الإلهي المنزل على سيدنا محمد(ص).

 

فباي مسوغ منهجي تتجاهل هذا الخلاف بيننا في فهم المصدر والمنطلق، ثم تلقيه وراءك ظهرياً ، وتمضي في مناقشتنا في الفروع والجزئيات، بعد ان تلونها بلون تصوراتك الخاصة بك والتي لا نشترك معك منها بشيء؟

 

الا تعلم، وأنت الذي تنعي علينا (المنهجية) أن الخطين المتوازيين لا يمكن ان يلتقيا مهما طال بينهما التنافس والسباق؟!..

 

وإذا كان مما يهمك حقاً أن نبلغ معك إلى الحقيقة العلمية البعيدة عن التخيلات والأوهام، فلماذا لا تصارحنا ولا تلفت انظارنا إلى اننا مخطئون في فهم مصدر الدين وأساسه، من حيث انبهت أنت إلى ما لم ننتبه إليه وتوقيت هذا الخطأ الذي انجرفنا فيه؟

 

لماذا لا تعود بنا إلى اصل المشكلة التي بيننا وبينك، فتقنعنا بما قد أوتيت من حجة وبرهان، بأن الإسلام في مصدرية: القرآن والسنة، ليس وحياً إلهياً كما قد توهمناه وإنما هو مجموعة رؤى وأفكار بشرية اكل عليها الدهر وشرب، وعندئذ سيواجهك بالبرهان الذي وقفنا عليه واهتدينا به في اليقين بأن الإسلام وحي تنزل من عند الله وليس تراثاً بشرياً ظهر في الارض. ولن تختفي الحقيقة لدى تقابل الأدلة والبراهين، وسيمتاز الوهم والزيف عن الحق الذي لا مرية فيه. ولسوف تجدنا لا نرضى عن الحق بديلاً، ولسوف تجد ان إسلامنا هذا ربانا على أن لا نستبدل بميزان العلم الحقيقي شيئأ، حتى ولو كان تراثاً أو ديناً، اجل فلقد ربانا على اتباع هذا النهج منذ أن خاطبنا قائلاً:

 

(ولاتقف ما ليس لك به علم آن السمع والبصر والفؤاد، كل أولئك كان عنه مسؤولاً) الإسراء:36.

 

أما أن تكتم عنا خلافك الذري معنا في فهم المصدر والاساس، ثم توجع رؤوسنا بالجدل الذي لا ينتهي، دفاعاً عن النتائج التي افرزها انفرادك عنا بالرأي الذي انتهيت إليه وتكتمت عليه، فلا ريب أنه عبث ما بعده عبث، وأشهد أنك تعلم بأنه تضييع للوقت من غير طائل.

 

وإن العمر لأثمن من أن نضيعه معك في هذا الجدل العابث الذي لا نهاية له، ومن ثم فلا معنى له.

الكاتِبُ يكلُم نفسه.. ويقترح على ذاته

 

بعد هذا الذي قلناه لكاتبنا (المنهجي) صاحب (المنطق الدقيق) نعود فنضيف الكلام التالي:

 

إن أبى الكاتب الفيلسوف رجوعاً إلى محور البحث ومصدر الخلاف، وأصر على أن يعابثنا بنقده وتقديم اقتراحاته بهذه الطريقة، فلا ريب أن لا شأن لنا بشيء مما يقول، ولسنا نحن المعنيين بخطابه وحواره وانتقاداته، إذ لسنا من ذلك الإسلام التراثي الذي يتصوره في شيء. وإنما هو إسلام ابتداعي خاص قائم في ذهنه هو، وربما في أذهان قلة من أمثاله.

 

وإذن، فهو إنما يكلم نفسه ويحاور ذاته، بوصفه صاحب ذلك التصور الذي يترتب عليه عرض ما يبديه من انتقادات واقتراحات.

 

بل إن من الإنصاف أن أقول: إن الرجل المنطقي في افكاره الفرعية هذه التي يبديها ويتحمس لها،إذ هي منسجمة كل الانسجام مع ذلك الإسلام الخاص به والقائم في ذهنه.

 

إنه يقول لنا، وبكل بساطة، إن الفلسفة ترفض اعتقاد وجود معصوم عن الخطأ أياً كان هذا المعصوم، شخصاً أو مذهباً أو كائناً ما. وهو يعتز بانتصاره لهذا الرفض، ويخطئ الدين في ذهابه إلى خلاف ذلك!!..

 

وإنا لنرى أن هذا الرفض نتيجة طبيعية ومنطقية لتصوره بأن الإسلام ليس إلا نسيج فكر إنساني، وبأن الدنيا ليست أكثر من حقل للأفكار البشرية التي تخطئ وتصيب. ومن ثم فلا عجب من أن يرى صاحب هذا التصور ان القرآن واحدة من ثمار هذه الافكار، وأن يقف موقف المنكر، بل الساخر من قوله تعالى:(لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد).

 

وهو يقرر أيضاً، بكل طمأنينة ويقين، أن مبدأ صلاحية الدين لكل زمان ومكان مرفوض ايضاً، وأن القرار الفلسفي الذي يخالف ذلك هو الحق الذي يجب المصير إليه!!..

 

ونقول: إن الرفض نتيجة منطقية وطبيعية أيضاَ لذلك التصور في فهم الإسلام، بل هو من مسلتزمات القول بعدم العصمة، إذ من أين تأتي الصلاحية لكل زمان ومكان إذا كان هذا الدين بحد ذاته ثمرة فكر يحتويه زمن محدد؟ ومن المعلوم أن المطلق لا يمكن ان يتولد من الواقع النسبي.

 

ويمضي الرجل في تجميع النتائج المنطقية لتصوره الخاص به  للإسلام، فينكر إعطاء النص الديني أي حاكمية أو سلطة في شيء من ميادين الأحوال الشخصية أو السياسية أو الاقتصاد أو العلوم أو الاجتماع. ويرى أن قبول هذه الحاكمية ـ بأي صيغة كانت ـ يناقض النزعة الإنسانية في التراث الفلسفي.

 

ولاريب أن هذا الإنكار هو الآخر ثمرة طبيعية لتصوره ان النص الديني ليس إلا صياغة بشرية، في كل من الشكل والمضمون وأنه ليس، كما يقولون وحياً منزلاً من السماء.

 

 

إذن فما الأمر العجيب الذي نستنكره؟

 

إن الأمر العجيب الذي تشمئز منه موضوعية الفكر والنقاش، هو أن يخفي الرجل عنا نظريته الشخصية هذه إلى الإسلام، ثم يمضي يناقشنا في النتائج المنبثقة عن نظرته هذه، وهو يعلم أننا لا نلتقي معه على أصول واحدة لها. بل يلح علينا ـ على الرغم من هذا ـ أن نفهم هذه الفروع كما يفهم، وأن ننفذ اقتراحاته كما يريد!!..

 

فكيف يمكن أن نسلم له أنه ذو( منطق دقيق)؟ وما هو سلطان هذا المنطق وأين هو أثره في هذه المجادلة الخداعية المكشوفة كما رأينا؟

 

وليت أن الرجل يتركنا ننتبه إلى مذهبه الشخصي فيفهم الإسلام وتصوره ومصدره، من خلال مستلزمات كلامه ومقتضيات افكاره كما لاحظنا.

 

ولكنه لا يتركنا لندرك ذلك، بل يصر على أن يلبس علينا الامر، ويزيد على هذا فيجعل من نفسه واحداً من أولئك المتفلسفين الذين دافع عنهم وأشفق عليهم، إذ تضطرهم المخاوف إلى مراوغة النصوص والتلاعب بالحجج والبراهين.

 

فهو عندما يرفض (سلطة النصوص الدينية) يوهمنا انه لايريد بذلك ان ينكر الوحي الإلهي، ويحذرنا من أن نتهمه بذلك بل الذي يريد أن يفهمنا إياه ان الوحي لا يمكن أن يتنزل إلا على بشر من الناس. وإذا انسكب الوحي في الذات الإنسانية، فإنه يفقد بذلك ذاتيته، ويندمج في الكيان الإنساني، بكل ما يتصف به من قصور وضعف وأهواء، فيفقد الوحي بذلك عصمته وصلاحيته المطلقة، ولا بد أن يفقد عندئذ هيمنته وحاكميته.

 

اجل.. هذا ما يقوله بالضبط فيلسوفنا الكبير!!..

 

هل في الناس كلهم من لا يعلم أن هذا الكلام العجيب صورة تطبيقية لمن قال عنهم من قبل، مشفقاً ومدافعاً:إن المخاوف تضطرهم إلى المناورة والمراوغة من حول الادلة والنصوص؟

 

ولكن من هو هذا الساذج يمكن أن يخدعه هذا الكلام، على الرغم من كل ما فيه من مراوغة وخداع؟

 

أي من هو الساذج الذي يصدق بأن الكاتب موقن بأن الله موجود وبأن القرآن وحي آت من لدنه فعلاً إلى رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، ولكنها محاولة فاشلة من الله عز وجل، إذ فاته ـ أي فات الله عز وجل ـ أن الوحي إذا انسكب في الذاتية الإنسانية فقد بذلك ذاتيته واندمج في الكيان الإنساني بكل ما يتصف به من قصور وضعف فيفقد الوحي بذلك عصمته وصلاحيته!!..

 

وهكذا فإن رئيس قسم الفلسفة يكون قد تنبه إلى هذه الحقيقة التي لم(يتنبه) إليها الله عز وجل، عندما أنزل تعاليمه الموحى بها إلى الرسل والأنبياء!![4]..أصحيح أن الكاتب موقن بأن منزل هذا الوحي هو الله، وأنه عز وجل لم يعلم هذا الذي علمه عباده أصحاب (الضعف والقصور والاهواء) على حد تعبيره، فسلك بوحيه إليهم سبيلاً لم يصل إليهم إلا وهو مندمج في الكيان الإنساني ممزوج بمظاهر قصوره وأخطائه؟

 

الا يعلم هذا الكاتب ـ وهو رئيس قسم الفلسفة ـ أن الله عز وجل إن كان قد بلغ به العجز إلى حيث لا يستطيع أن يبلغنا وحيه بما يتضمنه من تعليمات إلا ممزوجاً بشوائب البشرية مستهلكاً وسط كدورات الضعف والعجز الإنساني، فمن المحال أن يكون إلهاً بل من المحال أن يتسامى بأي درجة على عباده الذين تنبهوا من حيث لم يتنبه، وعلموا من حيث لم يعلم.

 

اصحيح بعد هذا كله أن يكون هذا الكاتب موقناً بوحي.. وبآله؟..

 

أليس هذا كمن يخادعنا فيقول: من خلق الله؟

 

يسميه: الله، شأن من يؤمن به ويوقن بوجوده، ثم يسأل السؤال المناقض لإيمانه هذا فيقولك من خلقه!.. وقد علم كل عاقل حتى من سذج الناس وبسطائهم أن الله عز وجل هو إله الكون، خالق غير مخلوق، صانع غير مصنوع، وأن وجوده لابد أن يكون من ذاته لا فيضاً من غيره.

 

اجل، إنه لون مكشوف وممجوج من الخداع.

 

والعاقل الذي يتصور أن الله من العجز بحيث لا يستطيع أن يبلغ أخباره وتعاليمه لعباده صافية عن الدخيل والشوائب، لابد أن يدرك في الوقت ذاته ان هذا الكائن الذي يعاني من هذا العجز ليس بإله.

 

وإذا كان هذا ما لابد أن  يدركه كل عاقل، فهو ما لابد أن يدركه ـ من باب أولى ـ رئيس قسم الفلسفة.

 

ولكن رئيس قسم الفلسفة يصر، على الرغم من هذا، بأنه مؤمن بالوحي، ومن ثم موقن بالله عز وجل، ويحذرنا من أن نتهمه بخلاف ذلك، إنه يصر على هذا كله كي يتسنى له اتهام الله عز وجل بالجهل والعجز، ثم كي يتسنى له البرهان على أن وحيه هذا غير معصوم وأنه غير صالح لكل زمان ومكان.

 

وكأن الرجل لا يشفى غليله أن يزعم بأن الله لا وجود له، ومن ثم فلا وجود لما يسمى بالوحي الإلهي، وإنما الذي يشفي غلته أن يقول لنا، بل أن يعلمنا، أن لله وجود وان له وحياً خاطب به البشر، ولكنه إله عاجز مغلوب على أمره، لم يستطعه أن يوصل وحيه إلينا إلا مستهلكاً متبدداً في بشرية الرسل والأنبياء المطوية على الضعف والعجز.فهل سمعت بتلبيس وتدليس ومراوغة عن الحق اوضح من هذا واعجب.

 

ومع ذلك فإن بطل هذه المراوغة ينعي علينا عدم الانضباط بالمنهجية و(المنطق الدقيق) ويعلمنا كيفية الالتزام بهما، من خلال هذه المراوغة!!..

 

هَلِ الوَحي القرآني ممزوج بشوائب البشريّة؟

 

بقطع النظر عن كل ما قلناه، دعنا نتساءل: هل الأمر في حقيقته كما يدعي رئيس قسم الفلسفة؟ أي هل القرآن الموحى به إلى سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام،ممزوج ومستهلك في شوائب البشرية؟

 

هذا هو القرآن ذا بين أيدينا، موضوع تحت مجهر النظر والتدبر من عقولنا، إنه وحي صاف خالص عن الشوائب، في كل من صياغته اللفظية ودلالته الموضوعية. لم يتزيد محمد(ص) على بنيانه التعبيري حرفاً واحداً، ولم يضف من عنده إلى معانيه أي معنى.وصدق الإله الذي قال عنه رسوله، تأكيداً لهذه الحقيقة:

 

(ولو تقول علينا بعض الاقاويل، لاخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من احد عنه حاجزين) الحاقة ـ47.

 

ولا نعلم إلى اليوم أن مفكراً في تاريخ الفكر العربي أو الإسلامي أو اديبا في تاريخ الأدب العربي ، أو فيلسوفاً في تاريخ الفلسفة العربية زعم أن القرآن لم يتنزل على محمد(ص) حتى امتزجت حقائقه الربانية في بشريته، وتعكر صفاؤه في كدورات ضعفه وعجزه الإنساني، فتحول ذلك الوحي الصافي إلى أفكار وصياغات بشرية غير منزهة عن الخطأ والانحراف.

 

ولو كان في الأمر شيء من ذلك، لكان أولى الناس بالشعور به والإعلان عنه والتنبيه إليه سيدنا محمد(ص) ذاته.

 

ومع ذلك فليكن هذا الرجل هو أول من علم ذلك فأعلن عنه، لا مانع.. ولن يمنعنا شيء من الإصغاء إلى هذا الذي امتاز عن سائر الناس بمعرفته والاطلاع عليه، من هذا الأمر.

 

ولكن فما له لا يبدأ قبل كل شيء فيحدثنا عن نظرته الشمولية هذه إلى الوحي وحقيقته وما قد تسرب إليه، مشفوعة بالأدلة العلمية التي وضع يده عليها؟.. وهذا يقتضي أن يضعنا أمام الملف الكامل للنتائج التي انتهى إليها من خلال دراسته العلمية والتحليلية للقرآن الذي يمثل الوحي المتلو المنزل على رسول الله(ص).

 

اجل.. ماله لا يحدثنا قبل كل شيء، عن هذه المشكلة الكلية التي وضع يده عليها، على أن لا يقتصر حديثه في ذلك على دعوى عارية يطرحها، وعلى أن لا يجعل دليله عليها مجرد أوهام وتخيلات.

 

اعتقد ان كلاً من0 المنهجية) و(المنطق الدقيق) اللذين يعتز الكاتب بهما، ويأسف لعد التزامنا بهما، يستوجب البدء بهذه المشكلة الكلية قبل الخوض في المسائل والقضايا الجزئية.

 

***

 

وعلى الرغم من أنني واحد من (الإيمانيين) الذين يقول الكاتب الفيلسوف عنهم: إنهم يعتمدون على القول المعتقد تسليماً ودون أي نقاش، اجدني منساقاً بدافع افتراض أجاري به دعوى هذا الكاتب، إلى النظر من جديد في القرآن الذي ما مر علي يوم إلا ازددت يقيناً بأنه الكلام الرباني المنزه عن شوائب البشرية ومظاهر الضعف الإنساني، واضعاً يقيني هذا في زاوية نائية من فكري، مبتدئاً رحلة جديدة على درب التبصر العلمي بحقيقة القرآن ودلائل صدقه وإعجازه.

 

فما اجد في رحلتي هذه؟

 

إنني أحاول أن أعثر في شيء من آية أو بحوثه وموضوعاته على أي سمة إنسانية أو على أي بصمة من بصمات الفكر الإنساني، فلا أجدني من ذلك إلا أمام مظهر جلال الربوبية يتبدى واضحاً خلال كلماته وجمله وآياته.

 

وهذا هو المعنى الأول، أو المظهر الأول، لإعجاز القرآن الذي اذعن له، كما يقول المعري، كل جاحد ومهتدي وكل متنكب عن المحجة ومقتدي[5].

 

ولعل من الخسر أن نحلل هذا المظهر الاعجازي (مظهر جلال الربوبية في القرآن) بشيء من الدقة والتفصيل، حتى يتبين للكاتب الذي يجهل الحقائق أو يتجاهلها أننا لم نكن يوماً ما لنعانق القول المعتقد تسليماً ودون أي نقاش.

 

اجل، سأمضي في تحليل هذا المظهر الإعجازي، الذي يوضح مدى المسافة الفكرية التي سلكناها تدبراً ونقاشاً على طريق وصولنا إلى يقيننا الاعتقادي الذي نركن إليه اليوم بكل طمأنينة وإذعان. وهي ذاتها المسافة الفكرية التي قفز فوقها الكاتب المتفلسف دون أي مرور بها أو وقوف عندها، لينتهي إلى تصوراته الاعتقادية عن الوحي الإلهي تسليماً، ودون التزام أي منهج، أو التبصر بأي نقاش، فاعجب لمن يتلبس بالداء ثم يتهم به الأصحاء والأبرياء!!..

 

إن خلاصة برهاننا العلمي الذي وعيناه وناقشناه وقلبناه على وجهه، إلى أن أسلمنا بالنهج المنطقي إلى الحقيقة الناطقة بأن القرآن يشع، من أوله إلى آخره، بمظهر جلال الربوبية الصافي عن الشوائب، ومن ثم فلا يمكن أن يكون كلام بشر من الناس، تتمثل فيما يلي:

 

من المعلوم أن الكلام مرآة دقيقة لطبيعة المتكلم، فما تتجلى الطبائع والأغوار النفسية لشخص على شيء، كما تتجلى على ما قد يكتبه أو يقوله.وكما تبسط الإنسان في الحديث وجوانب القول ازدادت خصائصه النفسية جلاء ووضوحاً.

 

لذا، لم يكن من اليسير أن يقلد كاتب كاتباً آخر في اسلوبه إذا كتب، فلا يستطيع الرجل أن يتقمص في كتابته نفسية المرأة مثلاً.. ولا يستطيع كاتب معاصر ـ مهما بلغ من السيطرة على اسلوبه البياني ـ أن يقلد كاتباً عاش قبل هذا العصر.. ولقد حاول كثيرون ان يقلدوا أسلوب الجاحظ مثلاً، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً..

 

ذلك لأن الأسلوب ليس مجرد طريقة معينة في صوغ العبارة ووصف الكلام، بل هو قبل ذلك مرآة دقيقة لنفسية الكاتب صاحب الاسلوب. فلئن استطاع هذا الكاتب أن يقلد الآخر في صوغ العبارات، فهيهات أن يستطيع تقليده في إبراز نفسية كنفسيته. فمن هنا يأتي العجز عن أن يتقمص أي كاتب أسلوب غيره.

 

وليزداد الأمر وضوحاً لك، إفرض أن العقاد رحمه الله، أحب أن يقلد ـ وهو الكاتب القدير ـ أسلوب المازني رحمه الله في مرحه ودعابته، أفيستطيع ذلك بنجاح؟ .. من البداهة بمكان أن أياً منهما لا يملك تقليد الآخر، لأن ما طبع عليه كل منهما من الطبائع النفسية الخاصة به يحول دون إمكان التجرد من طبعه ليمثل طبع الآخر. إن من الواضح لنا جميعاً أن أياً منا لا يستطيع أن يتجرد عن طبعه ويرتدي طبعاً آخر لم يفطر عليه، ولو على سبيل التقليد والتمثيل، وهذا على الرغم من اشتراكنا جميعاً في قاسم مشترك من الطبيعة الإنسانية العامة.

 

فإذا اتضحت لنا هذه الحقيقة، فأحرى ـ في باب البداهة والوضوح ـ أن لا يستطيع إنسان من الناس أياً كان، أن يتجرد عن بشريته وطبيعته، ثم يجعل من نفسه إلهاً يتصف بكل ما لابد أن يتصف به الإله الحقيقي من الصفات الربانية المضادة للطبيعة البشرية ومظاهر الضعف الإنساني، فينطق بكلام تبرز فيه هذه الربوبية بكل ما فيها من صفات وخصائص مجرداً عن سائر الصفات والطبائع البشرية العامة.

 

ولا أظن أن في الناس، على اختلاف نحلهم ومذاهبهم، من يجهل هذه الحقيقة العلمية التي لا تخضع لأي ريب أو نقاش.

 

والآن، فلنفترض أن القرآن كلام بشر من الناس أو أنه ـ كما يرى الكاتب الفيلسوف ـ وحي إلهي تبدد واستهلك في الطبيعة البشرية التي عجزت عن أن تكون وعاء أميناً له. إذن يجب أن نرى القرآن فياضاً بسائر مظاهر الضعف الإنساني والصفات البشرية. ولو كان القرآن في واقعه كذلك، لما ترددنا في صحة كلام رئيس قسم الفلسفة، بل لذهبنا إلى أبعد من ذلك، ولجزمنا بأن هذا الكتاب ليس إلا تأليف بشر من الناس ليس بينه وبين الوحي الإلهي أي نسب أو امتزاج.

 

ولكنا تأملنا في هذا الكتاب، ووقفنا أما آياته التي تخاطبنا بالأمر والنهي آناً وبالاخبار والإعلام آناً آخر، واعدنا فيها التأمل والتدبر أكثر من مرة، فإذا هي تشع بجلال الربوبية ومظاهر الألوهية، دون أن نجد فيها أي بصمة من البصمات البشرية أو أي معلمة من معالم الطبيعة الإنسانية.

 

ترى من هو هذا الإنسان الذي اخترق نواميس العلم التي لا مجال لنكرانها، مما أوضحناه الآن، فاستطاع ـ من حين عجز الإنسان عن تقليد طبع أخيه الإنسان ـ أن يصوغ من عنده كلاماً بعيداً عن شوائب بشريته، يفيض بمعاني الربوبية، وينشر، بل يتقد بجبروت الألوهية، ليجعل بذلك من نفسه رباً للعالمين، ينطق باسمه ويتجلى بمظهره، ويتسم ـ من خلال كلامه هذا ـ بكل صفاته؟

 

إن هذا الافتراض مستحيل بلا شك.. وأوغل منه في الاستحالة أن نتصور أن الوحي أو الكلام الإلهي اصطدم بالسمات البشرية والضعف الإنساني، فتصارع الطرفان، فتغلبت الطبيعة البشرية بكل ما فيها من ضعف وعجز، وتمكنت من احتواء الوحي  الإلهي والهيمنة عليه فإذا هو مستهلك ومتبدد في غمار الطبع الإنساني. وإذا بهذا الطبع هو المتجلى في وحي الله وكلامه.

 

ولا شك أن هذا الكلام ينبثق من سمادير غيبية وهمية لا تلامس شيئاً من أرض الواقع وحقيقته.

 

فها هو ذا القرآن أمامنا وبين أيدينا أين تجد فيه مظهراً من مظاهر الطبيعة البشرية، وأين فيها الآية التي لا تتألق بمظهر أخّاذ من جلال الربوبية.

 

وعلى الرغم من أن القرآن كله مصداق متكامل لهذا الواقع المشاهد الذي أذكر به وأبه إليه، فلا اضع القارئ أمام أمثلة ونماذج لهذه الحقيقة الساطعة التي تقف من سمادير هذا الكتاب وأحلامه الغيبية موقف الشرق من الغرب، بل موقف النقيض من النقيض.

 

تأمل في هذه النصوص القرآنية، وتلمس فيها أي مظهر أو رائحة للطبع الإنساني والهوية البشرة، ثم قل لي هل تجد فيها شيئاً من ذلك.

 

ـ(إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري، إن الساعة آتية اكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى، فلا يصدنك عنها من لا يؤمن واتبع هواه فتردى) طه: 14ـ16.

 

ـ ( ويقول الإنسان أ إذا ما مت لسوف اُخرج حيا، أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاًن فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا، ثم لننزعن من كل شيعة أيهم اشد على الرحمان عتياً، ثم لنحن اعلم بالذين هم أولى بها صلياً، وإن منكم إلا واردها كل على ربك حتماً مقضياً، ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا) مريم 66ـ72

 

ـ (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري غيره، وإذاً لأتخذوك خليلاً، ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً،إذاً لاذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً، وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها، وإذاً لا يلبثون خلافك إلا قليلاً ، سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا، ولا تجد لسنتنا تحويلاً) الإسراء :71ـ77.

 

ـ (نحن خلقناكم فلولا تصدقون، أفرأيتم ما تمنون، أأنتم تخلقونه ام نحن الخالقون، نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين، على أن نبدل امثالكم وننشأكم في ما لا تعلمون، ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون، أفرايتم ما تحرثون، أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون، لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تفكهون، إنا لمغرمون، بل نحن محرومون، افرأيتم الماء الذي تشربون، أأنتم انزلتموه من المزن أم نحن المنزلون، لو نشاء جعلناه أجاجاً فلولا تشكرون) الواقعة:57ـ 70.

***

 

فتامل في هذه المقاطع من كتاب الله تعالى، ثم قل لي أفتجد ان مثل هذا الكلام مما يمكن لبشر من الناس أن يصطنعه اصطناعاً وأن ينطق به تمثيلاً أو أن يتحلى به تزويراً؟

 

أما إن الطبع لغلاب كما قلنا!..وليقم أي فرعون من الفراعنة المتألهين أو المتجبرين، ثم ليجرب أن ينطق بشيء من هذا الكلام الذي يشع بمعاني الربوبية ويغمر النفس بالرهبة والجلال، فإن لسانه سيدور في فمه على غير هدى، وسيأتي بكلام يكشف بعضه زيف بعض، فيه محاولة التمثيل وليست فيه صنعته، إذ بين الطبيعة البشرية وصفات الربوبية تناقضاً بيناً يستعصي على أي تصنع أو تمثيل.

 

اجل، إن بشرية الإنسان وضعفه يمنعانه من أن يقول:

 

(نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وان عذابي هو العذاب الأليم)، أو ان يقول: ( كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) ، أو أن يقول:( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم)

 

ومهما حاول أي من الجبابرة البشر أن يقول شيئاً من هذا الكلام، فسيلتوي عليه لسانه ويتعثر بضعفه ومخلوقيته، ثم لن ينجح في النطق بمثل هذا الكلام.

 

ومع ذلك فإن رئيس قسم الفلسفة، يقول، في غيبوبية عجيبة عن هذه الحقيقة الماثلة للعيان: إن الوحي الإلهي إذا انسكب في كيان الإنسان فقد بذلك ذاتيته واستهلكته الطبيعة البشرية.

 

إنني على يقين أن الرجل في ذهنه هذا التصور ويقول هذا الكلام، دون أن تكون له أي معرفة مباشرة بالقرآن، ودون أن يبحث عن مصداق تصوره هذا بالنظر في شيء من آياته. وإنما يتبنى هذا القرار افتراضاً. ويستسلم له استسلاماً غيبياً عن أدلة المنطق والعلم.

 

إذ إنه لو عرف القرآن من خلال قراءته أو قراءة بعض من آياته لوقف على مثل هذه المقاطع التي عرضناها، إذن لوقف على نقيض ما يتصوره ويحكم به من خلال قرار غيبي مجرد.

 

كيف يتصور أن بشرية محمد عليه الصلاة والسلام استهلكت ذاتية الوحي الرباني، من يقف بشيء من التدبر على قول الله عز وجل:(ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين،فما منكم من أحد عنه حاجزين) الحاقة 44ـ 47 أو على قوله عز وجل: ( إنا نحن نحي ونميت وإلينا المصير ، يوم تشقق الأرض غير الأرض  عنهم سراعاً ذلك حشر علينا يسير ، نحن أعلم بما يقولون، وما أنت عليهم بجبار، فذكر بالقرآن من يخاف وعيد) ق 43ـ 45.

 

ومع ذلك كله، فليس العجيب هذا.

 

إنما العجيب حقاً أن يتهمنا هذا الرجل بالإيمان التسليمي الذي يقفز فوق النظر والمناقشة، وهاهو ذا غارق إلى حد الاختناق في تصوراته الوهمية الغيبية التسليمية، دون الوقوف لحظة واحدة على أرض الواقع.

 

العجيب حقاً ان يتهمنا بعدم الانضباط بالمنهج و(المنطق الدقيق) وها هو ذا يعانق أحلاماً غيبية مجنحة، ثم  يتخذ منها قراراً إيمانياً يدين به ويجادل عنه، دون أن يضبط نفسه بشيء من ميزان المنطق الدقيق الذي دفنه حتى الموت تحت قدميه.

أَخيراً

 

مَاذَا صَنَعَت الفَلسَفَة في سَبيلِ الحَقيقة؟

 

يختتم أستاذ الفلسفة ورئيس قسمها افكاره الضبابية هذه، بعرض ما يتصوره تناقضاً بين

 

( شكليات) الأحكام الدينية وجزئياتها من جانب، والنظرة الشمولية التي يجب الانطلاق منها والتركيز عليها بالنسبة إلى المجتمع الإنساني من جانب آخر.

 

فالإسلام (في احكامه التي يتحمس لها الجيل المتدين اليوم، شكليات من الممارسات الميتة والقيود الجزئية التي لا تستطيع أن تقاوم شيئاً من تحديات العصر ومشاكله السياسية والاجتماعية والاقتصادية)[6].ما الحل إذن؟

 

الحل ( ان يخضع الدين ـ من حيث هو ـ للتنظير الفلسفي وأن يسير في ركاب الفلسفة وطبق ما تخطه له وترشده إليه)!!..

 

أكذلك أيها الرجل؟!..

 

أو تتمتع الفلسفة بكل هذه الخصائص التوجيهية والإصلاحية ونحن لا ندري؟!..

 

إذن فما لها لا تقف في وجه التحديات العصرية؟..

 

وما لها لا تقضي بمنهجيتها الرشيدة على ما نعانيه من مشكلات سياسية واجتماعية واقتصادية؟ وما لها لا تأخذ بأيدي قادة هذه المرافق إلى حيث الفوز والتقدم والأمان؟

 

بل مالها لم تؤلف ـ قبل هذا كله ـ بين قلوب أهلها وعلمائها، ولم تجمع عقولهم بمنهجيتها و(منطقها الدقيق) على صراط فكري وسلوكي واحد، وليكن هذا الصراط عريضاً بالقدر الذي يشاؤه السائرون عليه والمجتمعون من حوله.

 

ما هي الفلسفة؟ وما هي حصيلتها الفكرية والواقعية، على صعيد المجتمعات الإنسانية قديمها وحديثها؟

 

إننا لم نرها في أي من العصور أكثر من طريقة متميزة في المحاكم و الفكرية وتبنى المواقف والتصورات التي يفضلها أصحابها، أيا كانت، كل يتخذ منها ـ أي الفلسفة ـ مطية ذلولاً لبلوغ الرأي الذي يتبناه ويدعيه.

 

الوجوديون، يسمون أنفسهم فلاسفة، ويحملون لأنفسهم وللناس تصورات عجيبة لا يؤيدهم فيها أحد من غيرهم، ويحصنون تصوراتهم هذه بالالفاظ والمصطلحات الفلسفية ذاتها.

 

والمثاليون، يسمون أنفسهم أيضاً فلاسفة. ويستعملون في التعبير عن مذهبه من بل مذهبهم، التي ينكرها عليهم رئيس قسم الفلسفة، اللغة والعبارات الفلسفية ذاتها.

 

والماديون الجدليون، يعدونهم أيضاً انفسهم فلاسفة، ويستعملون لنشر أفكارهم والدعوة إليها الاطر والتعابير الفلسفية ذاتها.

 

والسفسطائيون، والادريون، هم الآخرون من العائلة الفلسفية، ولا يترجمون هرطقتهم، ولا يعبرون عن أخيلتهم وأوهامهم إلا باللغة الفلسفية ذاتها.

 

فاين هو ـ في غمار هذه التناقضات المتماوجة ـ ذلك المنهج المنطقي العظيم الذي تتمتع به الفلسفة؟ وهلا استعانت أو استعان تلامذتها به في جمع هذه المذاهب المتدابرة بل المتناحرة على قاسم مشترك إن لم يمكن جمعها على صراط كلي واحد؟

 

على الفلسفة، قبل كل شيء، أن تلم شعث افكارها وأن تجمع أشتات رعاياها وعائلتها من أوديتهم السحيقة المتخاصمة المتقاطعة. فإن هي فرغت من ذلك، وأفحت في إخضاع اهلها للحقيقة العلمية الراسخة طبق منهجها المنطقي الدقيق، آن لها عندئذ أن تلتفت إلى الدين، أي إلى الإسلام، لتتولى القيام بتوجيهه وإرشاده، ولتهديه إلى سواء الصراط المستقيم.

 

إننا ما عرفنا الفلسفة، إلى هذا اليوم، إلا معاناة فكرية مخفقة على طريق البحث عن كنه الوجود وأسراره.

 

ويقيننا أن هذه المعاناة ستظل مخفقة، وستظل تورث أهلها شيئاً واحداً، هو الحيرة والاضطراب والضياع، مادامت تحاول استخراج تلك الأسرار الكونية بأداة واحدة، هي هذا الفكر الذي يتمتع به الإنسان، على ما فيه من ضعف في الذات ومحدودية في الساحة التي يملك ان يتحرك فيها.

 

فإذا هديت الفلسفة ـ بهداية أهلها طبعاً ـ إلى أن اسرار الوجود لا يمكن أن تستجلي على حقيقتها إلا بتعاون صريح المعقول العلمي مع صحيح المنقول الخبري، فإنها تستطيع عندئذ أن تنتهي من سعيها ومعاناتها إلى غاية مفيدة، وأن تصل إلى الكثير المسعد من حقائق الوجود وأسراره.

 

وليس صحيح المنقول، هنا، إلا ما ورد من صانع الكون ذاته، سبحانه وتعالى، طبق منهج علمي معروف ومدروس. علم ذلك من علم وجهله من جهله من جهل وستكشف الغواشي كلها عما قريب.

 

وإلا، فما اطول ضلالة من يتيه داخل نفق مظلم، مستغنياً عن النور المتكافئ الذي لابد أن يدعم نور عينيه، مكتفياً بتحديق عينيه في الظلمات المحيطة به، مدعياً أنه يملك من حدة البصر ما يغنيه عن ضياء الشمس المشرقة أو المصباح المنير‍..

 

***

 

بقي ان أهمس في اذن اخي رئيس قسم الفلسفة قائلاً: لك ان تتخذ من الفلسفة، والفلسفة وحدها، رفيق رحلتك هذه التي تقطعها في فجاج الحياة. ولكن لا تنس أن عليك أن تطمئن وتتأكد أن الفلسفة من جانبها وفية معك في هذه الرحلة، وأنها لن تتخلى عنك في ساعة من أخطر الساعات التي أنت على موعد معها.

 

إنك لتعلم أن من شروط المرافقة الوفاء والثبات.

 

وما أظن إلا أن فلسفتك هذه متخلية عنك عما قريب، إن لم تكن قد تخلت عنك الآن فعلاً.

 

ولعلك تكون قد صحوت الآن إلى الحقيقة، وتعرفت على الرفيق الذي لن يتخلى عنك حتى في احلك الظروف التي قد تمر بك.

 

ولك مني عندئذ التهنئة القلبية الخالصة.

 

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

 

--------------------------------------------------------------------------------

[1] من المعلوم أن كلاً من العروبة والإسلام، كانا وال يزالان متلازمين. فلا يصلح واحد منهما بدون الآخر. وإنما كان عمل الاستعمار البريكطان متمثلاً في الفصل بينهما ومحاولة نسخ كل منهما بالآخر.

[2] هي مجلة (المستقبل العربي) اللبنانية عدد حزيران عام1985.

[3] كل ما يرد بين قوسين فهو من كلام صاحب المقال.

[4] نستغفر الله من هذا اللغو الذي اضطرنا إليه تصوير التهافت العجيب الذي يتمرغ فيه صاحب هذا الكلام من حيث يوهمنا أنه استاذ في المنهجية و0 المنطق الدقيق).

[5] انظر رسالة الغفران للمعري:479.

[6] من نص صاحب المقال.

المصدر: https://uqu.edu.sa/page/ar/65277

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك