نزاهة الوالي العام عن المال العام – النموذج عمر بن الخطاب رضي الله عنه

الشيخ جعفر طلحاوي

فى الكتاب العزيز قرن الله تعالى بين الأمانة والعدل كأعظم أركان الدولة لاستقرارها وتقدمها ورخائها؛ فقال عز من قائل: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا” النساء (58)،

والخليفة الراشد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – نموذج فى العدل والأمانة وقد استفاض كتاب السير والتراجم قديما وحديثا فى تقصي عدله فى الحكم وأمانته ولا سيما فى المال العام وعفة طعمته وأهل بيته عن ذلك، وكفاك به فخرا وشرفا ما قاله أنس بن مالك رضي الله عنه: “نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أقرئ عمر السلام وأخبره أن غضبه عز ورضاه عدل[1]”.

وما قاله فيه ابن مسعود: “كان إسلام عمر – رضي الله عنه – عزا، وكانت هجرته نصرا، وكانت خلافته رحمة، والله ما استطعنا أن نصلي ظاهرين حتى أسلم عمر[2]، وإني لأحسب أن بين عينيه ملكا يسدده[3]”، وهو أحد من دعا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه للأخذ بسنته والاهتداء بهديه: كما فى الصحيح عن الْعِرْبَاض بن سَارِيَة – رضي الله عنه – صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا قَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عبدا حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ من يَعش مِنْكُم يرى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»، ولهذا سنذكر نماذج من محافظته وعفته – رضي الله عنه عن المال العام وأخذه لأولاده كنفسه فى ذلك:

أولا: مع نفسه

أ: يعف عن شم طيب عام من بيت مال المسلمين..

روي أنه أتى إليه بمسك من بيت المال فقسم بحضرته فسد على أنفه، فقيل له: يا أمير المؤمنين إنما يتجاوز إليك ريحه فقال: وهل يراد من المسك إلا رائحته[4]”.

ب: يقترض من آحاد المسلمين وتحت يده مال الدولة..

أرسل عمر إلى عبد الرحمن بن عوف يستسلفه أربعمائة درهم، فقال عبد الرحمن: أتستسلفني وعندك بيت المال، ألا تأخذ منه ثم تردّه؟ فقال عمر: إني أتخوّف أن يصيبني قدري، فتقول أنت وأصحابك: أتركوا هذا لأمير المؤمنين؟ حتى يؤخذ من ميزاني يوم القيامة، ولكني أتسلّفها منك لما أعلم من شحّك فإذا متّ جئت فاستوفيتها من ميراثي[5].

ثانيا: مع أولاده

عن الأَصمعي أن ابناً لعمر بن الخطاب رحمة الله عليه ولم يسمّه سأَله أن يعطيه من مالِه، أو مال المسلمين، فقالَ عمر: أرَدْتَ أن ألقى الله ملكاً خائناً؟ هلا سألتني من مالي؟ ثم أعطاه كذا وكذا، شيئاً صالحا قد سمّاه من ماله[6].

مع ابنته وأقاربه

الحسن: أتى عمر رضي الله عنه مال كثير، فأتته حفصة فقالت: يا أمير المؤمنين، حق أقربيك، فقد أوصى الله بالأقربين، فقال يا حفصة، إنما حق أقربائي في مالي، فأما مال المسلمين فلا، يا حفصة نصحت قومك وغششت أباك. فقامت تجر ذيلها[7].

ثالثا: مع نسائه وأهل بيته

نماذج على أمانة الراعي ومحافظته على بيت مال المسلمين

وجّه عمر رضي الله عنه إلى ملك الروم بريدا فاشترت امرأة عمر، أمّ كلثوم بنت عليّ، طيبا بدينار وجعلته في قارورتين وأهدته إلى امرأة ملك الروم، فرجع البريد بملء القارورتين من الجواهر، فدخل عليها عمر وقد صبّته في حجرها فقال: من أين لك هذا؟ فأخبرته فقبض عليه وقال: هذا للمسلمين، فقالت: كيف وهو عوض من هديتي، قال: بيني وبينك أبوك، فقال عليّ: لك منه بقيمة دينارك والباقي للمسلمين لأن بريد المسلمين حمله [8].

رابعا: مع صهر من أصهاره

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ صِهْرًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ فَعَرَّضَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَانْتَهَرَهُ عُمَرُ وقَالَ لَهُ: «أَجِئْتَنِي لِأُعْطِيَكَ مَالَ اللَّهِ؟ مَا مَعْذِرَتِي إِلَى اللَّهِ – تَعَالَى- أَأَرَدْتَ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ مَلِكًا خَائِنًا. وَمَنَعَهُ وَأَخْرَجَهُ، فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ، ثُمَّ لَقِيَهُ عُمَرُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ: هَلَّا كُنْتَ سَأَلْتَنِي مِنْ مَالِي» وأَعْطَاهُ مِنْ صُلْبِ مَالِهِ عَشْرَةَ آلافِ دِرْهَمٍ[9].

خامسا: يأخذ ولاته بما أخذ به نفسه

روى أن عمر بن الْخطاب كتب إِلَى أبي مُوسَى الأشعري أما بعد فَإِن أسعد الرُّعَاة عِنْد الله من سعدت بِهِ رَعيته وَإِن أشقى الرُّعَاة عِنْد الله من شقيت بِهِ رَعيته وَإِيَّاك أَن ترتع فترتع عمالك فَيكون مثلك عِنْد الله مثل بَهِيمَة نظرت إِلَى خضرَة من الأَرْض فرتعت فِيهَا تبتغي فِي ذَلِك السّمن وَإِنَّمَا حتفها فِي سمنها وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَن الْوَالِي مَأْخُوذ بظُلْم عماله وظلم جَمِيع حَوَاشِيه فَكل ذَلِك فِي جريدته وينسب اليه[10].

ومع هذا كله لا نجاة ولا خلاص له من بين يدي الله تعالى إلا برحمته تعالى وربوبيته

روى عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ أَنه قَالَ دَعَوْت الله تَعَالَى اثنتى عشرَة سنة اللَّهُمَّ أَرِنِي عمر بن الْخطاب فِي مَنَامِي فرأيته بعد اثنى عشرَة سنة كأنما اغْتسل واشتمل بالأزرار فَقلت يَا أَمِير المؤمين كَيفَ وجدت الله تَعَالَى قَالَ يَا أَبَا عبد الله كم مُنْذُ فارقتكم قلت مُنْذُ اثنتى عشرَة سنة قَالَ كنت فِي الْحساب إلى الْآن وَلَقَد كَادَت تزل سريرتي لَوْلَا أني وجدت رَبًّا رحِيما فَهَذِهِ حَال عمر وَلم يملك من الدُّنْيَا سوى درة فليعتبر بِهِ[11] هذا وبالله التوفيق ومنه وحده العصمة من الخطأ والخلل والزلل فى القول والعمل.

 ——————————————————————–

[1] أخرجه أبو نعيم في الإمامة ص 293، وابن عدي في الكامل 1/261، واخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 12/38 عن سعيد بن جبير مرسلا.

[2] إلى هنا أخرجه الطبراني في الكبير 9/178 – 182، وابن سعد في الطبقات 3/270 عن القاسم بن عبد الرحمن عن ابن مسعود وهو منقطع.

[3] قوله: “وإني لأحسب.. ” روي ذلك عن ابن مسعود – رضي الله عنه – من عدة طرق أخرجها الطبراني في الكبير 9/181، والإمام أحمد في فضائل الصحابة 1/247، وأبو نعيم في الإمامة ص 286.

[4] لم أقف على من ذكره، وقد روى ابن شبة في تاريخ المدينة 2/703 أن مسكا وعنبرا قدم عليه فقالت زوجته عاتكه بنت زيد: “هلم أزن لك فإني جيدة الوزن”، قال: “لا، إني أكره أن تصيب يدك فتقولين هكذا على صدرك بما أصابت يداك فضلاً على المسلمين”.

[5] [عيون الأخبار 1/ 365]

[6][تعليق من أمالي ابن دريد ص: 88]

[7] [ربيع الأبرار ونصوص الأخيار 3/ 398]

[8] التذكرة الحمدونية (1/ 147):

[9] [الطبقات الكبرى ط العلمية 3/ 230] [جامع معمر بن راشد 11/ 105] [الأموال لابن زنجويه 2/ 517]

[10] [فضائح الباطنية ص: 212]

[11] [فضائح الباطنية ص: 212]

المصدر: http://www.basaer-online.com/%D9%86%D8%B2%D8%A7%D9%87%D8%A9-%D8%A7%D9%84...

الحوار الداخلي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك