رفاعة الطهطاوي ونظرية المنافع العمومية

بقلم زكي الميلاد

رحلة الشيخ الأزهري رفاعة الطهطاوي (1216-1290هـ/1801-1873م)، إلى فرنسا التي دامت خمس سنوات (1826-1831م)، هي التي غيرت وقلبت سيرته ومجرى حياته، وصنعت له تاريخًا مختلفًا ومميزًا، وجعلت منه في دائرة التذكر دائمًا.

ولولا هذه الرحلة وطريقة الطهطاوي الجادة والمدهشة في التعامل معها، لما عرف واشتهر كما عرف واشتهر بعدها، فالطهطاوي بعد فرنسا هو غير الطهطاوي قبلها، في وعيه وعلمه وعقله، وفي ذاكرته وتجاربه وأفقه.

أي أنّ الطهطاوي بعد العلوم والمعارف الحديثة التي تعرف عليها، وتواصل معها، وجد واجتهد في كسبها وتحصيلها خلال رحلته إلى فرنسا، هو غير الطهطاوي قبل تحصيل هذه العلوم والمعارف الحديثة واكتسابها.

هكذا فعلت هذه العلوم الحديثة فعلها في ذهن الطهطاوي، وفي شخصيته وسيرته وسلوكه، عملاً بتوصية أستاذه حسن العطار، الذي أوصاه أيضا بتدوين كل ما يرى ويسمع ويخبر وتسجيله، وقد أشار الطهطاوي إلى هذه التوصية، وقال عن أستاذه العطار إنّه مولع بسماع عجائب الأخبار، والاطلاع على غرائب الآثار.

وهي التوصية التي عمل بها الطهطاوي على أحسن وجه، وأثمرت كتابًا ذاعت شهرته على نطاق واسع، حمل عنوان (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) صدر سنة 1834م، جمع فيه الطهطاوي ودوّن مشاهداته وانطباعاته عن الحياة العامة هناك، وخاصة تلك التي قال عنها الطهطاوي نفسه، واصفًا إيّاها بالأمور الغريبة، والأشياء العجيبة، ليكون الكتاب حسب قوله نافعًا في كشف القناع عن محيا هذه البقاع.

ومع الطهطاوي، سجل الفكر الإسلامي تطورًا كبيرًا في تدعيم اتجاهات التجديد والإصلاح ومسلكياتهما، وبهذا يكون الطهطاوي قد مثل محطة مهمة يرجع لها، ويتوقف عندها بعناية واهتمام الباحثون والمؤرخون على اختلاف ميولهم ومنازعهم الفكرية والمنهجية وتعددها، وذلك حين يؤرخون لتاريخ تطور الفكر العربي والإسلامي الحديث.

وبهذا التطور يكون الطهطاوي قد خطا خطوات متقدمة غطت على أستاذه الشيخ العطار ومشروعه، بطريقة يمكن القول إنّ الطهطاوي من جهة مثل امتدادًا للشيخ العطار ولمشروعه الفكري والإصلاحي، كما يمكن القول من جهة أخرى إنّه قد تجاوزه وتفوق عليه، من جهة المستوى الكمي والكيفي للتجديد والإصلاح، الذي أنجزه ونهض به في ساحة الفكر العربي والإسلامي الحديث.

ويتكشف هذا الموقف ويتأكد حين العودة إلى الكتابات والدراسات الفكرية والتاريخية العربية والإسلامية وحتى الأوروبية، التي أولت الاهتمام بالطهطاوي بشكل يفوق ولا يقارن بشيخه وأستاذه العطار، فالمؤرخ الإنجليزي من أصل عربي ألبرت حوراني (1334-1414هـ/1915-1993م)، وهو يؤرخ للفكر العربي في عصر النهضة، أشار إلى حسن العطار واعتبره أحد علماء العصر الكبار، لكنّه اعتنى بالحديث عن الطهطاوي بشكل يفوقه أهمية، واعتبره أول المفكرين السياسيين العظام في مصر الحديثة.

الأمر ذاته نجده عند الدكتور غالي شكري، وهو يؤرخ لتاريخ الفكر المصري الحديث في كتابه (النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث)، إذ جاء على ذكر الشيخ حسن العطار مرتين فقط في هذا الكتاب، وليس بشكل مستقل، وإنّما في سياق الحديث عن الطهطاوي الذي أولاه درجة عالية من الاهتمام، واعتبره صاحب النهضة الأولى في تاريخ الدولة المصرية الحديثة.

ومن أبرز ملامح التجديد والإصلاح في خطاب الطهطاوي، أنّه جدد علاقة الفكر العربي والإسلامي بقضايا التمدن والعمران والآداب العصرية، ودفع نحو التواصل والانفتاح على العلوم والمعارف الحديثة من دون خشية أو رهبة، ودعا إلى التخلي عن ذهنية القطيعة والانغلاق في العلاقة مع العالم الحديث والفكر الحديث، واعتبر أنّ إصلاح المؤسسات السياسية وقوامها على العدل والحرية والإنصاف، هو الأساس لبناء الدولة وتقدمها في المجال العربي الحديث والمعاصر.

وفي هذا الخطاب التجديدي والإصلاحي، استند الطهطاوي على نظرية فعالة عرفت بنظرية (المنافع العمومية)، التي شرحها وأسس لها، وتوسع في الحديث عنها، وكشف عن موادها ومتفرعاتها وأقسامها وتطبيقاتها، في كتابه الشهير (مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية) الصادر سنة 1869م.

هذا الكتاب أقامه الطهطاوي على نظرية المنافع العمومية، وقسم أبوابه على أساس هذه النظرية، فالباب الأول جاء لبيان المنافع العمومية من حيث هي، والحديث عن موادها ومتفرعاتها، وما يتعلق بها، وجاء الباب الثاني لبيان تقسيم المنافع العمومية إلى ثلاث مراتب أصيلة، وجاء الباب الثالث لبيان تطبيق أقسام المنافع العمومية في الأزمان الأولية، والباب الرابع جاء لبيان التشبث بعود المنافع العمومية إلى مصر.

وحين يعرف الطهطاوي هذه النظرية بالمعنى العام، يقول: (اعلم أنّ ما عبرنا عنه هنا بالمنافع العمومية، يقال له في اللغة الفرنساوية: إندوستريا، يعني التقدم في البراعة والمهارة، ويعرف بأنّه فن به يستولي الإنسان على المادة الأولية التي خلقها الله تعالى لأجله، مما لا يمكن أن ينتفع بها على صورتها الأولية، فيجهزها بهيئات جديدة يستدعيها الانتفاع، وتدعو إليها الحاجة، كتشغيل الصوف والقطن للباس الإنسان، وكبيعهما، فبهذا المعنى يقابل الإندوستريا، وتكون عبارة عن تقديم التجارة والصناعة، فيقال: الملك الفلاني يشوق الزراعة، والإندوستريا أي التجارة والصناعة، يعني يسعى في تقديم المنافع العمومية.

وتطلق بمعنى آخر أعم من الأول، فتعرف بأنّها فن الأعمال والحركات المساعدة على تكثير الغنى والثروة وتحصيل السعادة البشرية، فتعم التشغيلات الثلاثة الزراعية والتجارية والصناعية وتقديمها، فتكون مجمع فضائل المنافع العمومية، وكثرة التصرف والتوسيع في دائرتها، ثم إنّ براعة المنافع العمومية بالمعنى العام، متولدة من كون الإنسان له اختيار وميل إلى ما فيه نفعه، وإلى قضاء وطره، وإلى تحصيل حوائجه المعاشية، وأنّه محل لهذه الفضائل).

وما نجزم به، أنّ من دون هذه النظرية، لا يمكن الإحاطة بفهم الخطاب الفكري والإصلاحي للطهطاوي وتحليله، الذي ما زال إلى اليوم يعرف بنظرية المنافع العمومية، وباتت تعرف به وبأدبه وخطابه.

المصدر: http://mominoun.com/articles/%D8%B1%D9%81%D8%A7%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84...

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك