التفكير الناقد

عبدالله أبو شرخ

بداءة، لا يسعني إلا أن أتقدم بجزيل التقدير والعرفان للأستاذ القدير والمعلم الفاضل / حسن عابد ( أبو هاشم ) من مونتريال في كندا،  حيث كان للمسائل البديعة التي أرسلها أثراً كبيراً ودافعاً قوياً لإنجاز هذه المقالة، سائلاً المولى جلّ وعلا التوفيق والرشاد لجميع أمة العرب والمسلمين.

مفهوم النقد

لغوياً ([1][1][1])   نَقَدَ الدراهم أي ميز الذهبية منها .. بمعنى اكتشف  الزائفة .. ومن المعاجم الأخرى يفهم أن النقد عبارة عن تمحيص الأمر لإظهار  عيوبه .. وهو تنقية وعزل لما حاد عن الصواب .. ومن الناحية الفلسفية نجد أن النقد ينحى إلى شروط العقل ومقاييسه التي تضمن تصورات صحيحة وتعطي قيمة صائبة  للأفكار بل وللأحكام ذاتها.

 

التربية النقدية

تهدف التربية النقدية إلى تكوين العقل بما يمكنه من إصدار الحكم على الأفكار والتصورات والأحكام الأخرى لمعرفة مدى انسجامها واتساقها عقلياً قبل اعتمادها، فالعقلية النقدية لا تقبل ( الأمور والحوادث كما تروى لها .. ولا تسرع إلى تصديقها، بل تعرضها على ميزان العقل ومحك التجربة لتتحقق من مدى صحتها أو خطئها. لذا ألح " ديكارت " في قاعدته المشهورة " البداهة " على " ألا يسلم المرء بأمر على أنه حق ما لم يتأكد بالبداهة أنه كذلك " ([2][2][2])

والتربية النقدية عكس التلقينية، فالأخيرة تحيل الإنسان إلى وعاء متلقي وتغتال فيه كل تفاعل خلاّق، ويصبح السبيل الوحيد للاندماج في الجماعة هو التسليم الكلي للتصورات والأفكار والأحكام التي تفرضها ( القبيلة – العائلة – الصحبة -  ... ) مع فقدان القدرة على مراجعة الأفكار المسبقة ناهيك عن إنتاج أو ابتكار أفكار جديدة.

 

ولكي تعمل التربية على تنمية ملكة النقد ينبغي لها استبعاد التلقين ما أمكن ذلك، باعتباره معيقاً رئيساً ومثبطاً لكل انفعال نفسي وعقلي، وباعتباره الربيب الأول للامتثال والخضوع . ويمكن للمعلم أن يشجع طلابه دوماً على القراءة الفاحصة وينمي قدرتهم على الملاحظة الدقيقة للرسومات والمعطيات، وألا يتسرع هو في إصدار أحكام الصح والخطأ التي تصدر كاستجابات من جانب الطلبة، ليشرك الآخرين ويشجعهم على إعمال العقل ويحتفظ المعلم في النهاية بإيجاز الموقف وإغلاقه بصورة مقنعة وليظهر أن هذا القرار " الصحيح " هو نتاج للتفكير والمشاركة الجمعية بما فيها المحاولات الخطأ.

 

حل المشكلات Problem Solving    ([3][3][3])

إن إكساب المعرفة هدفاً مهماً للتربية بلا أدنى شك، ولكن الهدف الأسمى والأعمق هو إكسابهم القدرة على التعلم الذاتي واكتساب المعرفة بأنفسهم، ولا يمكن لهذه القدرة أن تتولد أو تنمو بدون أن يواجه الأفراد المشكلات ويتعلموا كيفية المواجهة والتفكير المنظم من تراكم الخبرات والتفاعل معها؛ وإن مجرد تقلين الطلبة وتخزين المعلومات في عقولهم  دون تفاعل يشبه إلى حد بعيد زراعة غصن أخضر بلا جذور .. فلا احتمال لاستمراره في الحياة فضلاً عن إمكانية إنتاجه للثمار ! ذلك  تماماً ما يحدث في التربية العربية حيث تتبخر معظم المعلومات وتتلاشى من عقول الطلبة بمجرد خروجهم من قاعة الامتحان .. وفي سياق الحديث عن أسلوب حل المشكلات يطفو سؤال مهم وجوهري للغاية: هل يمكن للطالب أن يخوض غمار المشكلة ويبحر بقاربه إلى شاطيء الأمان إذا لم يمتلك القدرة على تفحص خطواته ومدى انسجامها واتساقها ؟ وهل يعد الحصول على قيمة أو إجابة  معياراً لصحة حله للمسألة  ؟

 

الرياضيات ملكة العلوم ومنطقها أساس العقل

ولا شك في أن لا شيء يعادل الرياضيات في دقتها وقوة منطقها وشدة تناسقها، والنظرية المبرهنة رياضاتياً تكون بمثابة يقين عقلي مطلق بصرف النظر إذا كان منطبقاً على الواقع أم غير منطبق .. الأهم أن يتسق البناء المنطقي مع نفسه ([4][4][4]) .. معطيات القضية مع استنتاجاتها .. مقدماتها مع تواليها .. فرضياتها  مع نتائجها .. المبرهنة  الرياضاتية مكتملة مطلقاً في صحتها وترابطها ولا يعنيها بعد ذلك مدى انطبقاها على الواقع أو تصديقها له  ..  أما في العلوم الإخبارية والتجريبية فوسائلها الحواس والتصورات ومدى التناغم والصدق مع الواقع .. لذا رأينا علوم الفلك والفيزياء تتعرض للتصديق والتكذيب، فتبطل النظريات الجديدة القديمة والشواهد على ذلك في تاريخ العلوم تكاد لا تحصى .. مثل كيفية الإبصار وطبيعة الكهرباء وعلوم الفلك والتصورات حول الكون و .. إلخ. لهذه الأسباب أيضاً سميت المبرهنة الرياضاتية theorem  للدلالة على يقينها .. أما في العلوم التجريبية والإخبارية  فالنظرية theory .. مجرد تصور ..  لا يرقى لليقين المطلق الذي تحظى به المبرهنة الرياضاتية، لهذا السبب سميت  الرياضيات بلقب "ملكة العلوم "  .. وهذا يعني تماماً أن مهمة تكوين العقل الناقد وتمليكه أدوات ومقاييس الحكم ومفاهيم الصح والخطأ المجردة -  هي مهمة  تتعلق مباشرة وبالضرورة بالمنطق الرياضاتي المجرد ولا تتعلق بالحساب أو بالرياضيات التطبيقية والفيزياء فكلها لا تعدو أمثلة، وذلك لا ينفي بأي حال أن التطور المعرفي المذهل الذي حققه الإنسان هو "  ثمرة  اتحاد الاستدلال الرياضاتي ( بشقيه الاستقرائي والاستنتاجي ) مع التجريب ( الفيزياء وعلوم الفلك بشكل خاص ) " ([5][5][5]).  

 

كيف يسهم تعليم الرياضيات في تكوين العقل الناقد ؟

تعد عبارات الصح والخطأ من أكثر مواد الرياضيات ملائمة لصناعة وتطوير ملكات النقد، ولا يأتي ذكرها في هذا السياق من باب التعريف، فهي مألوفة لكل المشتغلين بتعليم الرياضيات وتشكل جزء أساسياً من مهامهم المهنية إن جاز التعبير. إن ما يعنينا الآن هو الوعي الفلسفي بقيمتها ودورها البالغ الأثر في تكوين وتشكيل العقل الناقد.

تعتمد عبارات الصح والخطأ على أداة تفكير أساسية وسليمة بل مطلقة في سلامتها وهي البداهة التي أشار لها ديكارت، ونقصدالثالث المرفوع ( بحسب  منطق أرسطو )  .. إما أ أو لا أ .. يستحيل حدوث الشيء ونقيضه معاً .. فلان في البيت أو أنه في الخارج .. ليس ثمة خيارات أخرى مقبولة عقلياً .. في أي مستوى يكون المستقيمان متوازيين أو أنهما متقاطعان .. أي مثلثين إما أنهما متطابقان وإما غير متطابقين  .. ومن هنا تأتي أهمية تعزيز نفي  احتمال حدوث هذا الثالث المرفوع  .. وإن كان ذلك فإن المفضل أن يختبر المتعلم الموقف بنفسه وباستقلالية .. فلا خبرة يمكن تلقينها ..  الأنسب عدم تكرار العبارات ونسخها، بل يجب استحداثها وتجديدها، ذلك أن النسخ والتكرار يعطلان المشروع من أساسه !

 

 والرياضيات بتركيبها الدقيق غنية بصورة لا تضاهيها فيها أي مادة أخرى، ولن يجد لا المعلم خلال التعليم، ولا صانع الامتحان صعوبة تذكر في جعل مسائل الصح والخطأ مبتكرة دائماً .. إذا أسقطنا أي شرط من شروط التعميم ينتج عن ذلك عبارة خطأ، نورد هذه العبارات على سبيل المثال لا الحصر:

 

* المستقيم المرسوم من منتصف أي وتر يمر بمركز الدائرة ( خطأ .. لماذا ؟ )

* الزوايتان المتقابلتان  في الشكل الرباعي متكاملتان ... ( ادعاء غير صحيح ! )

* مستطيل مساحته 24 سم2 وطوله 6 سم فإن عرضه 3 سم ( غير معقول ! )

* لديك مثلث أطوال أضلاعه 4 ، 5 ، 10 من السنتيمترات  أوجد .. (ما رأيكم .. هذا مضحك!).

* مثلث قائم أطوال أضلاعه 5 ، 12 ، 14 ... ( لا يجوز !! )

* إذا كان س2 = ص2 فإن س = ص .... ( العبارة خطأ .. وهذا النوع من أخطر وأشد التعميمات صعوبة في الحكم ... أي عندما يكون الاستنتاج صحيحاً في أحد احتمالاته .. والمعلوم أن التعميم لا يكون صحيحاً إلا إذا كان كذلك  في " كل " احتمالاته !!).

لتعميق ما سبق تأمل العبارة: زوايا القاعدة في المثلث متساوية في القياس ( ..... )  

يشار هنا إلى أن معالجة القضايا السابقة باستخدام الرسومات أفضل – بل ضروري – خلال الشرح والأنشطة، ويجب إدراك أن صعوبة المسألة تتضاعف كثيراً إذا لم تكن مصحوبة بشكل أو رسم توضيحي .. الجمل المجردة بالكامل موينبغي للامتحانات أن تراعي ذلك.

المسائل التالية ملائمة تماماً لموضوع التفكير الناقد. بعضها نشر مفرقاً من قبل، وبعضها لم ينشر، نتأمل المتعة والفائدة للجميع بإذن الله.

5

المسألة 4

المسألة 3

المسألة 2

المسألة 1

 

 

 

2

1

بعض حلول للمسألة رقم 4

 

 

الخلاصة

1 - التربية النقدية قضية تتعلق من حيث المببدأ بتنمية  قدرة الطلبة على إصدار أحكام يقينية حول الأفكار والمواقف المختلفة.

2 – تعد مسائل الصح والخطأ وكل موقف آخر يتطلب اكتشاف خطأ ما -  اللبنة الأولى لتأسيس العقل الناقد والمفكر، وهي في الوقت ذاته تتطلب مستويات تفكير متقدمة لذا فهي شديدة الصعوبة سيما إذا كانت المواقف جديدة وغير مألوفة.

3 – الجمل والمواقف المشهورة والمكررة ضعيفة الأثر.

4 – التغذية الراجعة لأي عبارة أو موقف من مواقف الصح والخطأ سلاح ذو حدين، من الممكن أن يتشدد المعلم في تحذير الطلبة من مغبة الوقوع في مصائدها ويكون بذلك قد عمل على زيادة التوتر والخوف .. ومن الممكن أن يعالج الأمر بروية وهدوء ويقلل من نبرة العتاب واللوم ويعمل على ترسيخ العكس أي تفهم الدور العظيم للهدوء .. لأن  معالجة هذه المواقف تحتاج إلى هدوء وتأمل أكثر من غيرها وبذلك يكسب الطلبة قيم احترام الهدوء كشرط أساسي من شروط التفكير الجيد.

المصدر: https://uqu.edu.sa/page/ar/60497

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك