النموذج الصيني
نقرأ في الدرس الافتتاحي الذي ألقته "آن شانغ" سنة 2008، بعد أن أسند لها كرسيّ "التاريخ الثقافي للصين" بالكوليج دو فرانس، وكان تحت عنوان: "الصّين، هل هي تفكر؟": "ومن جهتها لم تعد الصين تقبل أن تظل سلبية، مثل صورة جامدة تسلم نفسها للدرس، وإنما غدت محاورا فعّالا يسهم في جدالاتنا، وذلك لسبب وحيد، وهو أنها انكبّت، منذ ما ينيف على ثلاثين سنة (أي منذ جيل)، انكبت على تحصيل كل ما جاءت بها العلوم الإنسانية الغربية، كما انكبت منذ وقت قريب، على إعادة تملك تراثها الفكري والثقافي، انطلاقا مما يخزّنه ماضيها. إن الاكتشافات الأركيولوجية، ورغم ما ينطوي عليه الأمر من مفارقة، كانت قد ابتدأت في خضمّ الثورة الثقافية، وهي تضاهي، في حمولتها والوقع الذي خلفته على نظرتنا إلى العهود الصينية القديمة، تضاهي اكتشاف مخطوطات البحر الميت: فقد عملت على تأكيد صحة بعض المصادر التقليدية، في الوقت ذاته الذي خلخلت تصوراتنا التي ورثناها عما كان يعتبر أمرا مسلما به. بعد انقضاء العهد الماوّي، أخذ المثقفين الصينيين تعطش كبير دفعهم لأن يتهافتوا على كل ما هو جديد صادر عن الأوساط الجامعية الغربية، وخصوصا ما يأتي من أمريكا الشمالية. ومن سخرية الدهر أن الموضات الثقافية الأمريكية هي التي كانت واسطة في تعرّف النّخب الثقافية الصينية على الفكر الفرنسي الحديث، أو ما يطلق عليه الأمريكيون "النظرية الفرنسية". أعقبت هذا سلسلة من "أشكال الحمَّى" طبعت العشر سنوات الأخيرة: الحمّى الثقافية المتأثرة بماكس فيبر، النزعة البراغماتية، البنيوية، التفكيكية، ما بعد الحداثة... ومنذ بداية سنة 2000 أصابت حمَّى أخرى عالم الثقافة، وهي إحياء التراث و"الدراسات الوطنية": وهكذا أرادت الصين أن تكون هي نفسها فعالة في إعادة تملك ماضيها. ليس بإمكاننا والحالة هذه، أن نتجاهل وجهة نظرها، حتى وإن كنا سنجانب الصواب إن اعتقدنا أن معاصرينا الصينيين هم بطبعهم أقدر من الغربيين للحكم على تراثهم، بحكم أنهم انفصلوا عنه بفعل التحديث ومن جراء قرن من الثورات، إذ أنهم، عندما لا يكونون تحت تأثير التأويلات الغربية التي استوعبوها، بكيفية لاشعورية في بعض الأحيان، بفعل الوقوع في نوع من الاستشراق الذاتي، فإنهم قد يقعون ضحية أطروحات ذات منحى ثقافوي، فيتوهمون أنهم يمتلكون الحقيقة بدعوى انتمائهم إلى أصل "أصيل"، إن لم نقل أصلا جينيا".
تعمّدت نقل هذا النصّ، رغم طوله، لأسباب متعددة قد لا تخفى على القارئ. فإضافة إلى ثرائه، وإلى محاولته خلخلة الصورة المترسّخة عن الصين، وكونها "حكمة قديمة" لا تفكر الآن مثلما "فكرت" في الماضي، وفضلا عن كوننا قد نجد أنفسنا في الصورة التي يرسمها للصين في علاقتها بتراثها، وبما يروج في العالم المعاصر، فضلا عن كل هذا فلعل فيه أيضا جوابا عن الاعتراض الذي يبديه بعضنا إزاء توجهنا نحو الفكر الأوروبي، وإهمالنا لما قد تحبل به ثقافات معاصرة أخرى من فكر قد يغنينا عن كل نظرة أحادية، بل يحررنا من كل تبعية لكل تمركز حول ذات ثقافية بعينها.
من أهم النقاط التي يثيرها هذا الدرس الافتتاحي هو محاولة تفنيد هذا الرأي الذي يذهب إلى أن الفكر الصيني هو أساسا "حكمة قديمة" ظلت بمنجى عما يهز الثقافة العالمية. والغريب أن هذه الفكرة هي التي نلفيها حتى عند الدارسين الغربيين أنفسهم، بل لعلهم هم من رسخوها. تورد صاحبة الدرس اقتباسا لأحد الصينيين المهتمين بالعلوم الاجتماعية، يقول فيه: "لقد سادت لمدة طويلة أوساطَ الدارسين الغربيين للصين، الفكرةُ التي ترى أن قدماء المفكرين الصينيين قبل العهد الإمبراطوري وحدهم هم من يمكن أن يصدق عليهم نعت الفلاسفة (ولم تعرف هذه الذهنية التغيّر إلا مؤخرا). لقد كان هؤلاء المفكرون يُعَدّون بمثابة حكماء الصين القديمة. في مقابل انجذاب الدارسين الغربيين نحو الفكر الصيني القديم، نجد إعجاب الصينيين المحدثين بالفلسفة الغربية الحديثة. لقد كان التصور الضمني للحركة التاريخية هو هو، إلا أن الصين كانت مأخوذة بغرب ما بعد "عصر الأنوار"، بينما يحلم الغرب بالصين القديمة، التي لم تقتحم بعد العصور الوسطوية، الصين المفصولة عن تطورها الحديث".
تُعلق صاحبة الدرس على هذا الاقتباس: "يتعلق الأمر هنا بنوع من الدراسات المقارنة التي مازالت رائجة، خصوصا وأنها فرضت نفسها كشعار يوجه تقاليدنا الأكاديمية يسند الرغبة في الانفلات من قبضة النزعة الأوروبية المتمركزة على ذاتها. إلا أنه يظل تابعا لمنظور استشراقي من حيث إنه يرمي إلى تحويل الفكر الصيني إلى متحف، واختزاله ليلعب دور "الآخر" كطرف مقارنة لكي يتم إرغامه على الجواب على أسئلة لا تخصُّه هو بالذات. هذه كيفية في الإبقاء على نظرية في الآخر تُجمّد التعارضات وترمي بها خارج الزمان والمكان، فتحُول دون رصد التعدد والتنوع الذي يطبع الاختلافات، حيث توجد بالفعل".
تنتفي إذن، تلك الرؤية الاختزالية التي تجعل من الفكر الصيني "الآخر المطلق"، وتعتبر أن التوجه نحوه قد يمكن أن يكون طريقا إلى التخلص من هيمنة نزعة التمركز حول الذات الأوروبية، وبديلا جديدا كل الجدة عن "الثقافة الغربية". إن هذه الرؤية ترى إلى الثقافة الصينية على أنها، من شدة ما فكرت قديما، لم يعد بإمكانها أن تفكر.
المصدر: http://mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%85%D9%88%D8%B0%D8%AC-...