مفهوم الثقافة

 

الفصل الأول

تحديد المصطلحات وضبطها

وظيفة هذا الفصل هي تحديد المراد بالمصطلحات، والمفاهيم الأساسية في هذه الدراسة؛ لتأسيس خلفية معرفية؛ نتقاسمها مع القراء، ونبني عليها بقية الفصول في هذا الكتاب. وسوف يدور الحديث حول المفاهيم التالية:

أولاً : مفهوم « الثقافة »: 

سوف نعرض بالنسبة لمفهوم "الثقافة" المعني اللغوي للكلمة، وما يُشتق من جذرها اللغوي. ثم نتابع تعريفات المفهوم في الفكر الغربي، وخاصة عند أعلام الأنثروبولوجيا، بدءًا بالعالم البريطاني Tylor, E.B. تايلور، وكيف استخدم المفهوم بعده على أنه وحدة للتحليل؛ وليس مفهومًا "وصفيًا".. وننظر بعد ذلك في تأثر مفهوم "الثقافة" بمدارس علم النفس، وخاصة "تحليلية فرويد"، و"السلوكية القديمة" عند و"اطسن"، و"السلوكية الحديثة" عند سكنر Skinner, F.B. ونخلص من ذلك إلى فكرة "الأنماط الثقافية" على النحو الذي تجلى في أعمال بندكت (Bendict, R.F.) وما تَبِعها من المفاضلة بين الثقافات؛ ووصف بعضها بأنها "همجية" وبعضها الآخر بأنها "متحضرة"، وسوف نكشف عن خطأ مثل هذه المفاضلة من المنظور الإسلامي للثقافة.

ثم نقدم في هذا الفصل إجابة لسؤالين مهمين: أولهما: أين تستقر الثقافة في الفرد أو في المجتمع أو فيهما معًا. وكيف؟وثانيهما: يتصل بالتساؤل عن المكون الناظم والمنظم لمفردات الثقافة التي تختلف في طبيعتها، ذلك المكون الذي يجعلها ظاهرة متناسقة تُتناقل عبر أجيال الأمة.

وسوف نضمن هذا الفصل عرضًا لتصنيف المفردات المكونة للثقافة إلى: عموميات، وخصوصيات، وبدائل ، ثم نعقب على هشاشةهذا التصنيف، وندعم تعقيبنا ببعض ما أوضحته مدرسة "الأنثروبولوجيا الناقدة" في شأن تصنيف الثقافات. وننهي الحديث عن هذا المفهوم "الثقافة" بالتمييز بينه وبين مفاهيم ذات صلة وثيقة به كالحضارة والمدنية.

ثانيًا : مفهوم «التربية والتعليم»:

ما معنى التربية في اللغة العربية؟ وماذا توازي من كلمات وردت في القرآن الكريم؟ ونفرق في هذا المفهوم بين المعنى العام للتربية وبين معناها الخاص الذي يراد به التعليم المدرسي Schooling. ثم نعرض تصورنا للتعليم المدرسي بوصفه نظامًا أو نسقًا، تغذيه مُدخلات Inputs وتجري بداخله عمليات Processes وتسفر تلك العمليات عن مخرجات Outputs. وحرصنا في هذا الصدد على وصف نسق التعليم المدرسي بأنه نسقٌ "ثقافي – أيكولوجي" يتمايز عن الأنساق والنظم التي يتحدث عنها في الصناعة.

وسوف نشدد على الجانب الثقافي في "نسق" التعليم المدرسي؛ وذلك 
على النحو الذي يتبدى في مصطلحين بدأ استخدامهما في وصف نسق 
التعليم هما: مصطلح "علم النفس الشعبي" Folk Psychology ومصطلح "التعليم الشعبي" Folk Pedagogy.

ثالثــًا: مفهوم المنهج: 

ونعرض في شأن هذا المفهوم معناه في اللغة، وامتداد الدلالات اللغوية في مجالات الممارسة. ونعرض تعريفين لهذا المفهوم ونعلق عليهما. ثم أقدم تعريفي الخاص لهذا المفهوم، وما يُزعم له من ميزات في الفكر النظري في مجال المناهج وفي التطبيقات العملية.

أولاً : الثقافــــة

جذر اللفظ في اللغة العربية هو: ثَقِف، يثقَف، ثَقَفاً؛ من باب فَرِحَ؛ ويعني صار حاذقًا فطنًا، وثَقِف العلمَ والصناعةَ: أجاد فهمهما، وثَقِف الرجلَ في الحرب أدركه، وظفر به، ففي القرآن الكريم: } وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ {([1])، و} إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُون َ{([2]).

ويجئ الفعل – أيضًا – من باب كَرُم؛ فيقال: ثَقُفَ الرجلُ: صار حاذقًا في علم أو صناعة، ومصدره "ثقافة"، وثاقفه، مثاقفة وثِقافًا: خاصمه وجالده بالسلاح إظهارًا للمهارة والحِذق. وثَقَّف الشيءَ أقام المعوج فيه وسوَّاه، وثقَّف الإنسانَ: أدَّبه وهذبه وعَلمه. و"الثقافة" لفظة محدثة؛ بمعنى أنها كلمة استعملها المحدثون في العصر الحديث، وشاع استعمالها في لغة الحياة العامة, وذكر في المعجم الوسيط: "أنها تعني العلوم والمعارف والفنون التي يُطلب الحِذق فيها".

وعرفت الثقافة في المعجم الفلسفي بوصفها "مصطلحًا" على النحو التالي:

"كل ما فيه استثارة للذهن، وتهذيب للذوق، وتنمية لملكة النقد والحكم لدى الفرد أو في المجتمع. وتشتمل على المعارف والمعتقدات، والفن والأخلاق، وجميع القدرات التي يسهم بها الفرد في مجتمعه، ولها طرق ونماذج عملية وفكرية وروحية، ولكل جيل ثقافته التي استمدها من الماضي، وأضاف إليها ما أضاف في الحاضر، وهي عنوان المجتمعات البشرية"([3]).

وللكلمة في الثقافة الغربية تاريخ طويل؛ يقال فيه إن جذرها يرجع إلى اللفظ اللاتيني Culture ويعنى حرث الأرض وزراعتها، واستخدمه "شيشرون" Ciceron بمعنى زراعة العقل وتنميته، ويستعمل اللفظ Culture في الإنجليزية والفرنسية و Kulture في الألمانية ليعني "ثقافة". وقد عرّفها عالم الأنثروبولوجيا البريطاني إدوارد بيرنت تايلر([4]) E.B. Tylor في كتاب صدر عام 1871م بعنوان "الثقافة البدائية" فقال إنها:

"الكل المركب الذي يشتمل على المعرفة والعقيدة، والفن، والأخلاق، والقانون، والعرف، وكل القدرات والعادات التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع".

وواضح أن تعريف المعجم الفلسفي للمصطلح الذي قدمناه قبلاً اعتمد فيه على تعريف Tylor إلى حد كبير، وذلك على الرغم من الفارق الزمني بين وضع التعريفين (108 سنة). وهذا لا يعني فقرًا في تعريف المصطلح؛ فقد أحصى "كلاكهوهن" و"كروبر" في كتاب لهما صدر عام 1952 ثلاث مائة تعريف للمصطلح([5]). وأحسب أن تضخم عدد التعريفات دليل قاطع على عدم حسم ذوي الاختصاص لطبيعة "ظاهرة الثقافة" ومكوناتها وللعلاقات بين هذه المكونات .. وتجدر الإشارة هنا إلى أن "كلاكهوهن" وزميله أوصيا بضرورة ألا يستخدم المصطلح "ثقافة" على أنه مصطلح يصف مجموعة من ألوان السلوك الإنساني أو سمات الشخصية؛ بل يتعين أن يستخدم المصطلح بوصفه مصطلحًا للتحليل لا للوصف؛ ومعنى استخدام المصطلح للتحليل هو أن تُجْرى وفقًا له – بوصفه وحدة للتحليل – ملاحظات علمية منضبطة للسلوك البشري في المجتمعات، وأن يتم تحليل هذه الملاحظات وفقًا لوحدة التحليل "ثقافة" ثم يستخلص من تحليل الملاحظات وإدراك العلاقات بين مفردات الظاهرة تجريدات، تركّب في صورة "أنماط ثقافية".

وأرى أن إجراء تحليلات وفقًا لمفاهيم لم يتفق أهل الاختصاص على طبيعتها، ولا على مكوناتها، ولا على التفاعلات التي تنشأ بين هذه المكونات – عملٌ يجافي المنطق السليم، ويتنافى مع المعطيات الأساسية لمنهج "البحث الأمبيريقي" الذي شاع وذاع في الفكر الغربي في الفترة ابتداءً من عشرينيات القرن العشرين إلى نهاية خمسينياته. وحددت لهذا المنهج أربع مهام هي: الوصف، والتفسير، والتنبؤ، والضبط. والانتقال من مرحلة إلى مرحلة أعلى في مسيرة البحث الأمبيريقي يقتضي إتقان وإنجاز متطلبات ما يسبقها من مراحل.

وأحسب أن دقة الوصف وشموله هي أمارة وجود "الظاهرة" التي يقوم عليها "العلم" وأن إتقان الوصف الذي يجسم الظاهرة في كل أبعادها هو إجابة عن السؤال: كيف تحدث الظاهرة؟ وأن الباحثين لا يجوز لهم أن ينتقلوا إلى مرحلة التفسير التي تجيب عن السؤال: كيف تحدث الظاهرة؟ إلا بعد استكمال مقتضيات الوصف. والتحليل – عادة – هو الخطوة الأولى للتفسير.

وأرى أن هذا التجاوز هو السبب الرئيسي في الحيرة، والخلط، والتخليط والالتباس الماثلة في حصاد التقدم العلمي في القرن العشرين بالنسبة للعلوم الإنسانية. وهذا مبحث أرجو ألا أشغل القارئ به الآن؛ ولكني سأعود إليه في موضع تال... دعنا نتابع سويًا"تنميط الثقافات" الذي كانت إحدى بواكيره دراسات بندكت([6]) (R.F. Bendict) فقد لوحظ أن الدراسات التي سبقت دراسات "بندكت" كانت تركز على الصفات الجسمية للبشر، وما للبيئات المختلفة من آثار انتقائية على هذه الصفات، وامتد هذا التوجه في الدراسات البشرية إلى تصنيف الثقافات تبعًا لمصطلحات، لا تفي بغرض التصنيف الدقيق؛ وذلك حيث يقول "لنتون": إن المصطلحات الفنية التي كانت تستخدم في تصنيف البشر مثل مصطلح: جنس Race أو سلالة، كانت تطابق استعمال نفس المصطلح في تصنيف الحيوانات الأليفة كالكلاب الاسكتلندية الصغيرة. وقد وجد أن أنقى السلالات البشرية موجودة بين الجماعات المتخلفة ثقافيًا [هكذا !!] وأن جميع الشعوب المتحضرة هي في الغالب جماعات مُهجَّنة وليست جماعات نقية عرقيًا.

ويضيف "لنتون" قولـه "ومما يبعث على السخرية أن الأنصار الرئيسيين للنظرية القائلة بأفضلية السلالات النقية كانوا من سكان أوروبا، وهي القارة التي تفوق جميع مناطق العالم من حيث تغلغل التهجين البشري([7]).

والإسلام يؤثم هذه النظرة إلى الإنسان؛ فالناس جميعًا في سائر البقاع والأزمان سواء؛ في النشأة وفي المصير؛ فمما يروى عن الرسول r قوله: «إن الله قد أذهب عنكم عَيْبة الجاهلية وتعاظمَها بالآباء والأجداد؛ الناس لآدم، وآدم من تراب». ومعيار المفاضلة بين الناس لا يستند إلى عرق أو نسب، أو أصل اجتماعي، أو قوة بدنية أو مالية، وإنما معياره التقوى في معناها الواسع الشامل الذي تشير إليه الآيات الكريمة: } يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ {([8])، وقوله تعالى:    }...فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ {([9]).

والتقدم الماثل في دراسات "بندكت" كان جوهره تصنيف الثقافات وفقًا لأنماط "سيكولوجية" كلية في ضوء مرئيات "المدرسة السلوكية" للعمل الإنساني، تتم نسبتها إلى شعب ما، وإلى العلاقات الشخصية بين أفراده وجماعاته في مرافق حياتهم المختلفة.

هذا، وقد أدى تنميط الثقافات إلى إثارة عدد من القضايا الجدلية والمشكلات. ومن هذه المشكلات: أن المعايير التي تستخدم في تصنيف الثقافات تلتبس فيها القيم المعيارية بأوصاف لغوية للواقع، وأن التحليلات التي تجري بهدف التنميط تستخدم فيها متوسطات إحصائية، وهي في- الأغلب والأعم - مؤشرات كمّية؛ تحجب أو تُغيِّب كثيرًا من الأوصاف النوعية التي يتسم بها الأفراد والجماعات في الثقافات المختلفة، ويضاف إلى هذا أن اللجوء إلى نظريات علم النفس لحل قضايا ومشكلات تنميط "ثقافة الشعوب" لم يؤد إلى نتائج يعتمد عليها في تفسير كيف تختلف الشعوب في ثقافاتها؛ ذلك أن علم النفس ذاته كانت نظرياته              تتسم بالتناقضات.

ولعل أبرز مَثَل لهذه التناقضات في تفسير الظواهر النفسية في أواسط القرن العشرين؛ التناقض الذي كانت تمثله نظرية التحليل النفسي التي أسسها "فـرويد"   (1856-1939م) ومقارنتها بالنظرية السلوكية؛ كما تجلت في أعمال "واطسن"؛ حيث تعمقت تحليلية فرويد في بحث الظاهرة النفسية في ضوء مصطلحات تقسم العقل إلى: (أ) جانب غير شعوري في النفس؛ يعتبر مصدرًا للطاقة الغريزية (الهو/ الهي Id)، وهو جانب فطري مغروس في الإنسان؛ يولد مزودًا به، وهذا الجانب هو الدافع للإنسان لإشباع الحاجات الجسدية، وسُيدت فيه الغريزة الجنسية على ما عداها من غرائز، (ب) جانب الذات أو الأنا (Ego) وهو الممثل للغرائز البيولوجية. (ج) جانب الذات العليا (Super-Ego) وهو الذي يتحكم في السلوك الخلقي للفرد وللجماعة، كما أنه يضبط السلوك القائم على دوافع الذات.

وقد أثرت نظريات فرويد ميادين علم الإنسان (الأنثروبولوجي) وعلم الاجتماع، وذلك بالتأكيد على أهمية مرحلة الطفولة، وبالتشديد على أن العلاقات الاجتماعية بين الكبار في أي مجتمع تجري في عالم الكبار – متأثرة بما كانت عليه العلاقات الأسرية.

وقد واكبت تحليلية فرويد "النظرية السلوكية" التي قدمها (عام1913) "جود برودس واطسن" (1878-1958م) واعتبرت حركة ثورية في الدراسات النفسية، وكان قِوامها الشك في وجود العمليات العقلية التي يقول بها الفلاسفة وعلماء النفس، ويتوفرون على دراستها، واعتقد "واطسن" وأتباعه أن البحث العلمي في الدراسات النفسية يوجب الاعتماد على السلوك الظاهري للفرد، وليس على أعماق تجربته الباطنة، وأن السلوك الظاهري هو المصدر الوحيد للمعلومات التي يمكن الوثوق بها في دراسة الظاهرة النفسية. وأكد السلوكيون على أهمية البيئة في تكوين السلوك الفردي في ضوء "المثيرات والاستجابات".

واستنادًا إلى الإطار المرجعي لهذه النظرية انطلقت صيحة "أن الإنسان منتج طبيعي للبيئة الثقافية التي نشأ فيها" وفي منتصف القرن العشرين ظهرت "السلوكية الحديثة" وجذبت انتباه العاملين في العلوم الإنسانية بفضل أفكار بي.إف.سكنر (B.F. Skinner) وتبدو مظاهر التناقض بين السلوكية، قديمة كانت أو حديثة، والتحليل النفسي لفرويد، وهو المثل الذي نسوقه هنا لتناقض الدراسات في الظواهر النفسية – تبدو مظاهر التناقض في منهج البحث وما ينشأ عنه؛ فالسلوكية تؤمن بأن ملاحظة السلوك الظاهري، وإخضاعه للقياس هما المعيار الأوحد للموثوقية في نتائج البحث، وتنفي السلوكية الحاجة إلى افتراض أية نماذج تتصل "بالوعي" أو "بالخُلق" أو "بالمعرفة الشخصية" - وإن لم يستطع الفرد التعبير عنها – وهذا يعني الوقوف عند سطح الظاهرة النفسية، وإسلام القياد للمعطيات التجريبية، وإهمال ما يتصل بعمليات التفكير، والتصور الذهني التي عمقتها التحليلية؛ بالرجوع إلى الماضي والحاضر والمستقبل، وإلى الشعور واللاشعور، وإلى العلاقات الإنسانية في مراحل العمر المختلفة، وخاصة في مرحلة الطفولة.

والخصائص التي تنسب إلى تحليلية "فرويد" لا تسوّغ استخدام نظريات التحليل النفسي وما أسفرت عنه تجاربه في الدراسات الخاصة بثقافة الشعوب، وتنميطها في ضوء مقولات: التحضر والهمجية (مثلاً)، وذلك لاعتبارين: أولهما؛ أن وصف "همجي" في معظم الكتابات الثقافية الغربية يعني الانتماء إلى أية حضارة تختلف اختلافًا ملحوظًا عن الحضارة الغربية الحديثة (الأوروبية – الأمريكية) بمعنى أن المعتقدات والسلوكيات التي تختلف اختلافًا جذريًا عما هو ماثل في الحضارة الغربية توصف بأنها همجية وغير منضبطة.

وثاني الاعتبارين هو أن تسوية التباين بين الثقافات بالاختلاف بين المرض العقلي والصحة العقلية زيفٌ تتولد عنه -ومن خلاله- تأثيرات خطيرة في الحكم على الميراث الثقافي للشعوب، وعلى ما يستحدث في الثقافة من فنون وآداب         عبر الأجيال([10]).

ويهمنا أن نتساءل هنا عن مدى تأثير "النظرية السلوكية" في التقدم المعرفي المتصل بموضوع الثقافة، ولنأخذ تأثيرها في الدراسات الأنثروبولوجية (دراسات علم الإنسان) مؤشرًا على هذا التقدم.

تؤكد موسوعة حديثة في علم الإنسان أن تأثير السلوكية في الأنثروبولوجيا كان هزيلاً، وأنها عجزت – ولا زالت تعجز– عن تفسير مجالات واسعة من سلوك الإنسان؛ ويبدو هذا العجز واضحًا في أكثر المجالات صلة بالثقافة، وهو مجال اللغة، على نحو ما تشير إليه أعمال عالم اللغة الأمريكي – ذائع الصيت – "ناعوم تشومسكي" N. Chomosky ؛ فيما يتصل بالبنية السطحية والبنية العميقة للغة، وما يتصل بنموذج التشريط Conditioning؛ من حيث إنه لا يمكن أن تفسر في ضوئه قدرة البشر على ابتداع مقولات جديدة لم يسبق لهم سماعها بدرجة متكررة، الأمر الذي أكد فيه تشومسكي افتراض وجود مقدرة لغوية فطرية مبرمجة داخل الطفل تتيح له تعلم اللغة بمجرد أن يتعرض لها([11]).

وتجدر الإشارة هنا إلى أن تناقض التفسيرات التي تنسب للظواهر الإنسانية ليس مقصورًا على ما قدمنا من تناقض بين "تحليلية فرويد" و"النظرية السلوكية"، وإنما هو ماثل في فروع شتى من العلوم الإنسانية؛ حيث "تسرف مدارس: الوضعية المنطقية Positivism والوظيفية Functionalism والبنيوية Structuralism في الدراسات الإنسانية الاجتماعية في التأكيد على ثبات المجتمع واستقراره؛ بينما تسرف مدارس أخرى في التركيز على حركية المجتمع وتغيره"([12]). ولعل أقرب مثل للمدارس الأخرى هو المدرسة البنائية Constructivism وتطبيقاتها في عدد من العلوم الإنسانية كالتربية، وعلم النفس، وعلم التواصل ونحوها.

الثقافة بين الفرد والمجتمع:

وقد دلتني متابعة تصور "الثقافة" لدى علماء الأنثروبولوجي – في الكتابات الغربية – على أن ثمة حيرة بارزة تتمثل في نقطة البدء في دراسة الثقافة لمعرفة الصفات المشتركة بين جمهرة المواطنين، بما يسوِّغ الحديث عن نمط ثقافي؛ ويمكن التعبير عن هذه الحيرة بالتساؤل الذي يتردد طرحه: هل الثقافات كيان موجود فعلاً، ويمكن متابعة تأثيره في أبناء الثقافة؟ أم أنها تجريد عقلي يخلص إليه الباحثون من دراساتهم النفسية للأفراد؟

وهذا السؤال يعني أن التساؤل دائر حول مستقر الثقافة ومستودعها. وقد حاول "رالف لنتون" أن يجيب عن هذا التساؤل؛ فهو يرى: أن الثقافة شيء غير ملموس، وأن استيعابها عن طريق الإدراك المباشر أمر غير ممكن؛ حتى للأفراد الذين شاركوا في صنعها، وأن شكل الثقافات ومحتواها أمر لا يمكن استخلاصه إلا من السلوك الذي ينشأ عن هذه الثقافات. "والسلوك" في نظره كلمة ذات معانٍ واسعة؛ تضم الأعمال اليومية العادية التي تمارس في جوانب الحياة المختلفة، كما تضم الأشياء المصنوعة التي تعتبر منتجات لأعمال الناس في المهن والحرف المختلفة. وهذا يعني أن الثقافة ظاهرة تقع خارج نطاق الظواهر الطبيعية، وأن إدراكها يكون بإدراك الآثار التي تحدثها في حياة الناس المادية والنفسية والاجتماعية([13]).

ويمكن القول – إذن – إن مستقر الثقافة ومستودعها هو عقول أبنائها ووجداناتهم بكل ما تحوي من: معتقدات، وأفكار، ومعارف، وقيم، وتوجهات، واتجاهات، وبما يتمثل في سلوكياتهم العملية من مهارات عقلية وفنية وتقنية مختلفة، وما ينتج عن هذه المهارات من منجزات متنوعة.

ومما يدعم هذه الفكرة؛ فكرة أن الثقافة مركب عقلي معقد ماثل ومستقر ومتجدد في نفوس الناس وعقولهم، ذلك الفرق الواضح بين "الثقافة" بوصفهـا تركيبًا عقليًا، و"مظاهر الثقافة"؛ فالمظاهر الثقافية لشعب ما تتمثل في أجهزة وأدوات ومنشآت ومؤسسات وتنظيمات ونظم وعادات، وطقوس تؤدي في مناسبات مختلفة... فلو فرضنا أن هذه المظاهر قد دمرت عن آخرها بفعل كارثة طبيعية أو بفعل نزعة عدوانية عنصرية، على النحو الذي مارسته ولا تزال تمارسه بعض قوى الطغيان في العالم... هنا نقول: إن بعض مظاهر الثقافة قد دُمر أو أبيد، ولكن الثقافة ذاتها باقية في عقول ووجدانات آلاف الأفراد الذين ينتمون إلى الثقافة، ولن ينقضي وقت طويل حتى يستعيض هؤلاء الأفراد ما دمر من مظاهر ثقافتهم؛ بفضل جوهر الثقافة الماثل في عقوهم، والذي ينتقل من جيل إلى جيل.

وأحسب أن هذه التفرقة بين الثقافة ومظاهر الثقافة تفسر لنا مظاهر الضعف الثقافي التي تطرأ على بعض الثقافات عبر الأحقاب الزمنية؛ لعوامل مختلفة، ثم استرداد الثقافة لعافيتها ما دام أبناؤها تتوفر لديهم الإرادة في بعث ثقافتهم، وماداموا قادرين على توفير وسائل النهوض والتمكين لبعث ثقافتهم.

الثقافة – إذن – تمثل روح الجماعة أو الأمة، وهي القدر العقلي والوجداني المشترك بين أبناء الثقافة، الذي ييسر لهم التعايش، والتكافل والتناصح، والاعتماد المتبادل في كثير من شئون الحياة، يحدث هذا على الرغم من تباين ما يحوزه الأفراد في المجتمع من محتويات ثقافتهم، والثابت أن الثقافة – حتى في أبسط أشكالها – تضم محتويات لا يستطيع عقل فرد واحد أن يستوعبها بصورة كاملة؛ وإن يكن أبناء كل ثقافة قادرين على الإلمام بعدد من عناصر ثقافتهم، وإن لم يستطيعوا التعبير عنها؛ لأن هذا ليس مطلوبًا منهم.

محتوى الثقافة :

وما قدمناه قبلاً يوحي بأن كل فرد ينضوي تحت ثقافة ما، مطلوب منه أن يسهم – بقدر ما – في معرفة ثقافته، وصيانتها، وتنميتها دون أن يبلغ درجة الكمال أو حد الإتقان في كل جوانبها، وأن يختار وفقًا لاهتماماته وقدراته وطموحاته جانبًا أو أكثر من جوانب الحياة في المجتمع يتفرغ له، ويفرغ فيه وسع جهده؛ ليكون هو ونظراء له في المجتمع أهل الاختصاص في هذا الجانب. ومن الحقائق المستقرة في الدراسات الأنثروبولوجية أن أي مجتمع متجانس يمكن تقسيم محتوى ثقافته إلى ثلاث فئات تعتمد على مدى اشتراك أعضاء المجتمع في كل من هذه  الفئات الثلاث([14]).

(1) العموميات  Universalities

وتضم هذه الفئة المعتقدات الدينية والقيم الخلقية والمعارف الطبيعية والاجتماعية العامة التي يشترك فيها جميع أعضاء المجتمع البالغين العقلاء. وتشمل هذه الفئة – أيضًا – اللغة القومية، ونماذج العلاقات داخل الأسرة (ضوابط تكوين الأسرة، والأدوار المنوطة بكل فرد فيها)، ونماذج المساكن، والمنشآت المختلفة، والنماذج المثالية للعلاقات الاجتماعية في السياقات والمواقع  الاجتماعية المتنوعة.

(2) الخصوصيات Specialities

وتحتوي هذه الفئة على العناصر الثقافية التي يتقاسمها أعضاء جماعات معينة من الأفراد؛ وليست حيازة مشتركة لمجموع أبناء المجتمع؛ ولكنها تظفر باعتراف المجتمع واحترامه. وتمثل العناصر الثقافية الداخلة في هذه الفئة معارف خاصة، ومهارات فنية وتقنية ويدوية، تمارس في إطار مفهوم "الاعتماد المتبادل" بين أبناء الثقافة الواحدة، وتسند إلى قطاعات مختلفة من أبناء المجتمع وبناته، في سياق مبدأ "توزيع العمل" وتصنف محتويات هذه الفئة تبعًا للمهام التي يقوم بها المهنيون في مجالات مثل: الطب في شعبه المختلفة، والقضاء، والتعليم، والهندسة، والإعلام، والتمريض، والإدارة ونحوها، وفي المجالات التي يمارسها أصحاب الحرف المختلفة كالزراعة، والتجارة، والتعدين، والحدادة، والسباكة، والحياكة وكثير من وظائف الخدمات العامة التي تسير حياة المجتمع. وواضح في محتويات هذه الفئة أنها تمثل العناصر والمهارات والتنظيمات التي تتعلق باستغلال البيئة الطبيعية والسيطرة عليها، وإدارة المرافق ومؤسسات الخدمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتعليمية والترفيهية.

وبدهي – الآن – أن إجادة النشاطات الداخلة في هذه الفئة من محتويات الثقافة تحتاج إلى معارف نظرية دقيقة في كل مجال، وإلى توظيف هذه المعارف في ممارسات تتسم بالتبصر والمهارة والإحكام؛ كي تظفر بقبول اجتماعي يدعمها وينميها، ويجنب الثقافة ردود الفعل الغاضبة إزاء الممارسات الفاشلة في هذه الفئة من محتويات الثقافة.

(3) البدائل Alternatives

وتضم المحتويات الثقافية لهذه الفئة الأفكار والعادات والممارسات غير الشائعة في المجتمع؛ وإنما تقتصر على فئة من فئات السكان المعترف بها اجتماعيًا. ويقال إن عناصر هذه الفئة من محتويات الثقافة متنوعة وممتدة في مجالات كثيرة، ولكنها تلتقي في قَسْمة واحدة؛ تميزها عما يطلق عليه العموميات أو الخصوصيات في عناصر الثقافة. وهذه النقطة الفارقة هي: أن هذه البدائل تمثل استجابات متباينة، أو ردود أفعال مختلفة، أو وسائل فنية أو تقنية لمثيرات أو احتياجات أو أوضاع واحدة في المجتمع. ومن أمثلة هذه البدائل ما يلي:

اختلاف أبناء الثقافة الواحدة في الاختيار بين بدائل وسائل المواصلات: كاستعمال الحيوانات والدرجات والقطارات والسيارات والطائرات، ووسائل الاتصال السلكي واللاسلكي.

أنواع التعليم المختلفة التي تقبل عليها قطاعات مختلفة من أبناء المجتمع (ديني – مدني – عام – مهني – تقني – وطني – أجنبي).

ويستدرك علماء الأنثروبولوجي على هذا التقسيم لمحتويات الثقافة بملاحظة أن ثمة فئة رابعة من العادات والأفكار والاستجابات العاطفية المشروطة [هكذا] توجد خارج الثقافة، وهي ذات أثر بالغ في تحريك الثقافة ونقلها إلى مستويات أرفع في المجالات المختلفة، ويقصد بهذه الفئة من العوامل "المزايا الفردية" Individual merits التي يحوزها بعض الأفراد في الثقافة سواء فيما يتصل بالعقائد أو المعارف أو المهارات أو العادات الجسدية أو العقلية أو الفنية والتقنية.

ويقال: إن هذه المزايا الفردية التي تتاح للعباقرة في الفكر وفي العلم وفي الفن تمثل بالنسبة للثقافة – في مجملها – التغيرات الفردية الوراثية بالنسبة للنوع البيولوجي. وإنجازات هؤلاء العباقرة والمخترعين تندمج في الثقافة بمجرد تحررها من خصوصية عقل ووجدان العبقري المخترع؛ بالتعبير عنها، وبثها للعامة بوسائل مختلفة، وبهذا تعتبر جزءًا من الثقافة، وإن لم يشترك في اختراعها والكشف عنها أكثر من فرد واحد([15]).

ويهمني أن أؤكد أن ما عرضته في شأن محتويات الثقافة يمثل – في رأيي – التيار السائد في الكتابات الغربية حول هذا الموضوع. وقد حرصت في عرضه على اختيار مرجع أساسي لواحد من مشاهير المتخصصين في علم الإنسان (الأنثروبولوجي). ووصف ما قدمت بأنه التيار السائد يعني أن ثمة وجهات نظر أخرى في الثقافة: سواء في ذلك ماهيتها، أو مكوناتها، والتفاعلات القائمة بين هذه المكونات، أو الغايات المرجوة من بحث ثقافات الشعوب. وسوف أعرض – في إيجاز– لبعض وجهات النظر تلك، في مواضع تالية. وفيما يلي تعليق على ما قدمت في شأن محتويات الثقافة.

تعقيب:

ولنا على هذا التصنيف لمحتويات الثقافة تعقيب نوجزه فيما يلي:

  • يفتقد هذا التصنيف صفتي "الجمع والمنع" الضروريتين في أي تصنيف منطقي؛ فمحتويات الثقافة في الفئات الأربع يتداخل بعضها في بعض. ولعل السبب في هذا التداخل هو مجرد نِشْدان التصنيف الجامع المانع في أمور تتصل بكيان كلي متكامل – فردًا كان ذلك الكيان أو جماعة – إن التقسيم أو التجزئة أو التفكيك لمقومات هذا الكيان وسيلة إلى غرض مؤقت؛ فالغرض في مثل الموقف الذي نعلق عليه هو تيسير الفَهم والإفهام، وبعد تحققهما، ومن خلالهما يجب أن تعاد إلى الكيان كليته التي يحقق بها ذاته ويؤدي وظائفه الكلية.
  • أن هذا التصنيف يجدي نفعًا في النظر إلى تحليل ثقافة معينة بذاتها؛ ولا يجدي – أو ينبغي ألا يستخدم – في دراسات مقارنة لأنماط الثقافات؛ وأقرب مثل يحضرني هو أن عنصر "العقيدة الإيمانية" في الثقافة الإسلامية (مثلاً) بمعني الإيمان بأحدية خالق الكون – جَلّ علاه – وأنه أحد، صمد، ليس له كفؤ، ولا شريك، وليس كمثله شيء، هذا الإيمان عنصر ثقافي عام في محتويات الثقافة الإسلامية، وهو عنصر مفقود كلية في ثقافات أخرى معاصرة كالبوذية، بوصفها ديانة وضعية قديمة، ولها اتباع في مجتمعات شتى؛ في آسيا، وبعض بلاد أوروبا، والولايات المتحدة، واستراليا.
  • وهذا التصنيف – ومثله كثير– يعتمد في الدراسات الثقافية على مجرد الوصف والتحليل، ويقف عند هذه الخطوة؛ فلا يتجاوزها إلى السؤال: لماذا تحدث بعض الظواهر في بعض الثقافات ويمتنع ظهورها في ثقافات أخرى؟ إنه سؤال عن أسباب حدوث الظاهرة، وتفسيرات حدوثها، وهذا السؤال مَعْلمٌ أساسي في غايات "البحث الأمبريقي" القائم على المشاهدات الحسية والتجريب. ومن أبرز وجوه النقص في "البحوث الإنسانية" اعتماد تفسير نتائج البحث على رأي الباحث أو آراء فريق البحث؛ دون التعمق في فَهم أسباب الظواهر الإنسانية في رأي العينات المبحوثة؛ بالصورة التي يتطلبها البحث النوعي Qualitative Research وخاصة البحوث الأثنوجرافية Ethnographic Research.
  • واضح فيما قدمناه من تصنيف لمحتويات الثقافة التسليم بأن الأوضاع الثقافية في المجتمعات المختلفة – متقدمة كانت المجتمعات أو نامية – تمثل ضربة لازب؛ وأنها ثابتة لا تتغير؛ وقرينة هذا الاستخلاص هي غياب "القيم المعيارية" التي يمكن في ضوئها تطوير الثقافة من داخلها؛ إن البدائل المشار إليها في فئة "البدائل الثقافية" واقع ثقافي غاب عنه "العدل الاجتماعي" واتسعت فيه الثغُرة في القدرة الاقتصادية بين المواطنين؛ بصورة جعلت فئة من أبناء الثقافة الواحدة يحملون أمتعتهم على ظهورهم في أثناء سفرهم، وفئة أخرى تستخدم الدواب في الانتقال، وثالثة تستخدم الطائرات العامة والخاصة. واختيار البدائل في التعليم له علاقات وثيقة العُرى بالمقدرة المالية، وبالمستوى الثقافي والتعليمي للوالدين.

وجدير بي أن أذكر أن مجمل ما أوردته من تعقيبات على تنميط الثقافات تتصايح به فئات من الباحثين في أوروبا والولايات المتحدة؛ بطريقة علمية منظمة؛ ولكن القوى المجتمعية المسيطرة في الغرب لديها من الإمكانات والوسائل ما يجعل هذه الصيحات همسات؛ لا تسمع في مناخ العواصف الصحراوية التي تشنها هذه القوى في أرجاء العالم المختلفة، حفاظًا على مصالحها الاقتصادية، وضمانًا لاستمرار هيمنة ثقافتها على ثقافات العالم.

وسوف أكتفي هنا بإشارات موجزة للتعريف بإحدى المدارس التي تلتقي في فلسفتها ومناهجها في البحث مع جوهر ما أوردت من تعقيب، وهي المدرسة المعروفة باسم الأنثروبولوجيا الناقدة.

الأ نثروبولوجيا الناقدة([16]) Critical Anthropology

q     فرع من فروع المعارف البينية، يهتم فيه بتجميع التحليلات الخاصة بالنمط الثقافي لحياة شعب معين، وتستقصي من خلال هذه التحليلات تأثيرات النظام السياسي والاقتصادي، وأنساق الضبط والتحكم التي تمارسها سلطات الدولة القومية National ، وكذلك التأثيرات التي يفرضها النظام العالمي على الشعب في الدولة المعنية. وتمثل الاستقصاءات والتحليلات حصيلة خبرات واهتمامات وبحوث أنثروبولوجية نقدية موجهة – في الأغلب – بمبادئ وفلسفة "الماركسية الجديدة" وبمبادئ النقد الأدبي الحديث، وبفلسفة وأنثروبولوجية ما بعد البنيوية Meta-structuralism.

q     يتم في نطاق الجهد البحثي في إطار هذه المدرسة متابعة الدراسات الأنثروبولوجية الناقدة لثقافة الشعب – موضوع البحث – عبر فترة زمنية محددة – ويتوخى في هذه الدراسات الدفاع عن استقلال الشعوب، وتمكينها من حيازة أوضاع أيكولوجية واقتصادية واجتماعية وثقافية من شأنها دفع التنمية الشاملة والمطردة فيها.

q     تقبل هذه المدرسة وتقدر الكشف عن النسق الثقافي المتسق للثقافة دون افتراضات: التجانس، أو الوظيفية، أو الهامشية، أو السيطرة. كما تقبل التنوع العرقي والثقافي بوصفهما عنصرين في الطبيعة الإنسانية.

q     ترفض المصطلحات التي توشي بدلالات عنصرية، أو تعصب للنوع (ذكر/ أنثى) وترفض وسم أية ثقافة بأنها متدنية أو بدائية أو همجية أو متوحشة.

q     تؤمن بأن التناقضات الظاهرية في المجتمع، وعدم الاتساق ليست دليلاً على تحلل المجتمع أو انفراط ثقافته، وتعتبرها جزءًا طبيعيًا من الظرف الإنساني ذي الأثر في ثقافات الشعوب، ويقصد بهذا الظرف المتغيرات الداخلية في ذات الثقافة، ومحاولات التدافع العالمي بين الشعوب.

q     تتبنى هذه المدرسة في بحوثها إثارة تساؤلات عن المجتمع والثقافة من شأنها خدمة شعوب العالم جميعها، على الرغم مما بينها من تباينات، وتسهم في إحياء الطابع "الإنساني – العلمي" (Human Scientific)، الذي يكفل مواجهة الصور النمطية للظلم الشائع في التكوينات السياسية والاقتصادية والتعليمية للدول المختلفة.

q     لم تحظ هذه المدرسة "الأنثروبولوجيا الناقدة" بمكانة بارزة في الولايات المتحدة الأمريكية؛ ولكنها مزدهرة في أمريكا اللاتينية، وفي بعض الإسهامات الأوروبية.

من توابع الأ نثروبولوجيا الناقدة:

هذا، واستكمالاً للفائدة من التوجه العلمي الذي تمثله مدرسة "الأنثروبولوجيا الناقدة"، أرى لزامًا عليَّ أن أسترعي الانتباه إلى مفاهيم أخرى، تصب في ذات الاتجاه، وأدعو – من يريد من القراء – أن يتابع القراءة عنها في ذات المرجع الذي اعتمدت عليه في تقديمي الموجز لمدرسة "الأنثروبولوجيا الناقدة" أو في غيرها من المراجع المتاحة.

  هذا، والمفاهيم التي أزكي متابعتها كثيرة؛ وأخص بالذكر هنا منها مفهومين هما:

  • مفهوم "الثقافة" بوصفها كيانًا فوق عضوي : Culture as a super-organic entity في ذات المرجع (ص ص : 595-596).
  • مفهوم "الوظيفية البنيوية ": Structural Functionalism (في ذات المرجع، ص ص 740-741)(*).

قضايا جدلية في الثقافة:

  • وأحسب أنه من الضروري في توضيح مفهوم "الثقافة" من المنظور الغربي أن نحسم بعض القضايا التي يكثر حولها الجدل ويحتد، وسوف أنتقي اثنتين منها؛ لما لهما من ارتباط وثيق بالتربية والتعليم، وبالتنمية الشاملة:

(1) مكانة الدين في الثقافة:

قدمنا فيما سلف أن الثقافة مفهوم يشار به إلى عدد كبير من المكونات التي تختلف في ماهياتها، وفي وظائف كل مكون فيها اختلافًا جذريًا، ومما يجلي هذه الفكرة أن نستحضر في أذهاننا (مثلاً) "الرسم الكاريكاتيري" مقارنًا بالمعتقدات الدينية أيًا كانت هذه المعتقدات؛ ذلك أن مصطلح المعتقد الديني شاع استخدامه ليشمل العقائد التي جاءت بها الأديان السماوية، وخاتمها الدين الإسلامي الحنيف، والديانات الوضعية كالبوذية، والاعتقادات السلبية المنافية لما جاءت به الأديان السماوية، بوصفها معتقدات تنصب على ذات الموضوعات الأساسية التي برزت في الأديان السماوية. والسؤال الذي يُثار في هذا المقام هو ما مكانة المعتقدات الدينية – أية معتقدات – في بنية الثقافة – أية ثقافة؟

وفي الإجابة عن هذا السؤال أرى أنه يمكن الاتفاق على أن "الشعور الديني" يبدو إحساسًا فطريًا عامًا مشتركًا بين الناس أجمعين في كل زمان ومكان، وأقصد بالشعور الديني حالات القلق والحيرة والتساؤل التي يتعرض لها الإنسان (الجنس) عندما يدرك ذاته، ويدرك ما يكتنفه من ظواهر طبيعية: ليل ونهار، ظلام ونور، أرض ذات أوتاد، وسماء ذات أبراج، وأنهار ذات ماء عذب، وبحار ذات ماء أجاج. كل هذه الظواهر الطبيعية - تدعو الإنسان إلى الحيرة والقلق والتساؤل: كيف خُلق هذا الكون المتسق؟ وما هي القوة التي قامت بخلقه؟ وما هي القوة أو القوى التي تسيره، وتصونه دون خلل أو تبديل في السنن؟ وما مصير الحياة التي يحياها الناس؟ إن مضمون ما تشير إليه هذه الأسئلة هو ما قصدته بتركيب: "الشعور الديني" الفطري الذي تجسمه الظاهرة الدينية في كل الثقافات، والذي يتوفر على دراسته الآن فرع متمايز من فروع المعارف هو الأنثروبولوجيا الدينية Anthropology of Religion.

وأعود إلى السؤال الذي أثرته عن مكانة المعتقدات الدينية بوجه عام في بنية الثقافة، وفي حركتها، فأقول:

هذا هو السؤال الذي أثاره ت.س. إليوت (1888-1965م)، أبرز الشعراء الإنجليز في القرن العشرين في محاولته الكشف عن الصلة الجوهرية بين الثقافة والدين، وقال إنه لم يستخدم كلمة "العلاقة" لما فيها من نقص؛ حين تستعمل للدلالة على صلة الدين بالثقافة. فماذا قال([17])؟

  • "أول دعوى مهمة أقيمها هي أنه لم تظهر ثقافة، ولا نمت إلا بجانب دين: ومن هنا تبدو الثقافة نتيجة من نتائج الدين أو الدين نتيجة من نتائج الثقافة، طبقًا لوجهة نظر الناظر"([18]).
  • "...الدين والثقافة وجهان لشيء واحد؛ وهما شيئان مختلفان ومتقابلان"([19]).
  • ... وفي تنوع الحكم على معتقدات الدين بين رجال الدين وعلماء الاجتماع يقول: "لا يوجد دين يمكن فَهمه فَهمًا كاملاً من خارجه"([20]).
  • "إن القوة الرئيسية في خلق ثقافة مشتركة بين شعوبٍ لكل منها ثقافته المتميزة هي الدين"([21]).
  • "ما أظن أن ثقافة أوروبا يمكن أن تبقى حية إذا اختفى الإيمان المسيحي اختفاءً تامًا... إذا ذهبت المسيحية فستذهب كل ثقافتنا "([22]).
  • "يجب أن نعمل على تجنب خطأين متعاقبين: خطأ اعتبار الدين والثقافة شيئين منفصلين بينهما علاقة، وخطأ المطابقة بين الدين والثقافة"([23]).

ووضعاً للاقتباسات السابقة في سياقها العام الذي كتبت فيه وله، يلزم أن أؤكد أن مدلول كلمة الثقافة عند "إليوت" له ذات الدلالات التي نجدها في الكتابات الأنثروبولوجية التي تمثل التيار السائد، إذ قال: إن ما أعنيه بالثقافة هو ما يعنيه الأنثروبولوجي وهي أنها طريقة حياة أفراد شعب معين يعيشون معاً في مكان واحد وتظهر هذه الثقافة في فنونهم وفي نظامهم الاجتماعي وفي عاداتهم وأعرافهم ودينهم([24])، وهي دلالات يختلط بعضها ببعض، وتتراوح الكتابة عنها بين: الموقف الجدلي، والموقف المثالي الطوبوي، والموقف الذي يفرضه منهج البحث الأمبيريقي؛ (منهج البحث في العلوم الطبيعية)؛ ومن أمثلة هذه المراوحة الفكرية محاولة "إليوت" أن يثبت أن الطبقة العليا High Class أو الأرستقراطية التي يتوارث أهلها الثروة والنفوذ شرط ضروري لازدهار الثقافة. وهو مُراوح – أيضًا – في تفكيره بين الطبقة والنخبة، أي الصفوة Intelligentsia، والغريب أنه يرى أن الطبقة شرط ضروري لازدهار الثقافة بإطلاق، دون إيلاء أدنى اعتبار للظروف التاريخية لكل ثقافة، ودون ذكر للكفاءة الخاصة التي يجب أن يمتلكها أهل الطبقة الأرستقراطية، وإعمال هذه الكفاءة في الرقي الثقافي، وذلك حيث يقول عن وظيفة الطبقة الأرستقراطية "إنها ليست إلا المحافظة على مستويات الآداب الاجتماعية، وهي عنصر حيوي في ثقافة الفئة".

وهذا يسوغ القول إن "ت.س. إليوت" كان يؤمن بوجود ثقافتين: إحداهما شعبية، والثانية نخبوية أرستقراطية؛ ليس لها من وظيفة إلا حماية مصالح الطبقة ذاتها. ومن شأن هذه الثنائية أن تحول دون "وحدة الثقافة" التي يتحدث عنها بعض الأنثروبولوجيين على أنها (الثقافة) ذات بنية "عضوية". ويرى آخرون أنها ذات بنية فوق عضوية Super-organic.

ومن قرائن الارتباك الفكري فيما يخص الثقافة في الكتابات الغربية تعليق "ت.س. إليوت" على ما نقله عن "كارل مانهايم" فيما يتصل بالبحث في الثقافة: "إن البحث الاجتماعي في مجتمع حر يجب أن يبدأ بحياة أولئك الذين يخلقون الثقافة؛ أي المثقفين ومكانهم في المجتمع ككل". ويعلق إليوت على مقولة "مانهايم" هذه بما يفيد: أنه يتصور أن الثقافة من خَلْقِ المجتمع كله، وليست من خلق أي قطاع واحد في المجتمع، وأن الصفوة – المصطلح الذي استعمله "مانهايهم" – لا تخلق ثقافة، وأن جهدها لا يغير كنه الثقافة؛ وإنما هو أقرب إلى إحداث نمو جديد للثقافة؛ من حيث التعقد العضوي؛ كأن تصير أكثر وعيًا بذاتها وبمجتمعها، ولكنها لا تزال هي نفس الثقافة.

ويرى "إليوت" أن المستوى الأرقى للثقافة قـَيِّمٌ في ذاته، ووظيفته أن يكون – في ذات الوقت – مثريًا للمستويات الأدنى في الثقافة، وبهذا تسير الثقافة في حركة تشبه الدورة، وتغذي كل طبقة الطبقات الأخرى([25]).

وأستخلص مما قدمت هنا عن صلة الدين بالثقافة أن بعض أعلام المفكرين في الثقافة المسيحية الغربية يرون ضرورة الدين للثقافة؛ حتى ليوشك بعضهم أن يوحد بينهما، أو – في الأقل – لا يستطيع أن يتصور أحدهما مستقلاً عن الآخر، وأن الثقافة الواحدة تقوم بداخلها ثقافات فرعية؛ بسبب التمايز "الطبقي" أو بسبب النشاط المهني أو الحرفي الذي تتفرغ له – أكثر من غيره – فئات معينة من أبناء الثقافة، وأن حصر الثقافة في حيز جغرافي معين محدود، فكرة تناقض الواقع الثقافي المعاصر، بدليل أن ما يتحدث عنه – الآن – على أنه "الثقافة الغربية" أو "الثقافة البوذية" أو "الثقافة الإسلامية"، كل منها ثقافة أضحت منتشرة في أرجاء متباعدة في العالم. ويحدث ذلك على الرغم من أنه يمكن التحدث عن وحدة الثقافة المسيحية، ووحدة الثقافة البوذية ووحدة الثقافة الإسلامية.

(2) أثر الاستعمار في ثقافة الشعوب:

ومن القضايا التي يشتد حولها الجدل تأثير الاستعمار الاستيطاني القديم في ثقافة الشعوب التي خضعت سنوات طويلة لهذا الاستعمار، وأثر المحاولات التي تبذلها القوى الكبرى – الآن - لتسييد ثقافتها تحت شعار "العولمة".

وثابت الآن أن الاستعمار الغربي الذي خضعت له دول مختلفة في أنحاء العالم قد أحدث تشويهًا ملحوظًا في ثقافة الشعوب التي استعمرت، منذ بداية الربع الأخير في القرن التاسع عشر، وخلال العقود الستة الأولى في القرن العشرين. وليس هذا المقام مقام استقصاء تاريخي لهذه الآثار؛ لأنها توشك أن تكون معروفة لخاصة الناس وعامتهم، ولأن الدخول فيها سوف يبعدنا عن الأغراض المحددة التي وضع من أجلها هذا الكتاب.

وقد يكفي هنا أن يتذكر القراء أسماء بعض الدول التي خضعت للاستعمار الغربي الذي اختلفت ألوانه، في كل قارات العالم؛ ليسترجع الخبرات السيئة التي عانت منها الدول المستعْمَرَة (بفتح الراء) في أمور الحياة كافة: سياسة، واقتصادية، وثقافية، وتعليمية. وأحسب أن الإشارة في هذا المقام يمكن أن تغني عن التفصيل الطويل الممل فيما أحدثه الاستعمار من شروخ عميقة في البـُنى الثقافية للدول المستعمَرة. وخاصة فيما يتصل باللغات القومية لهذه الدول، وبمعتقداتها الدينية، وهما جوهران من جواهر أية ثقافة.

لقد حرص الاستعمار في كل البلاد التي خضعت له على أن يستقر في قلوب المواطنين وعقولهم أن لغتهم الوطنية متدنية، وأنها لا تستجيب لما يتطلبه العصر من كشوف علمية، وتطبيقات تقنية، وأن لغة المُسْتعمِر (بكسر الميم) – أيًا كانت – أقدر على الوفاء بمتطلبات الحداثة العلمية، والتطبيقات التقنية؛ فاتخذت لغة المستعمِر لغة للتعليم في مؤسسات التعليم النظامي في تلك الدول، وأهمل تعليم اللغة القومية إهمالاً تامًا. ومما زاد الطين بلة في هذا الصدد أن شجع المستعمرون اللهجات العامية؛ حتى تنقطع الصلة بين الناس ولغتهم القومية، واستقطبوا لنصرة هذه الدعوى الخبيثة بعض المثقفين في كل دولة من الدول المستعمَرة ، ممن ابتعثوا للتعلم في الدول الأوروبية، وعادوا إلى بلادهم، وهم في حالة انبهار بما حققته الدول الأوروبية في مجالات الحياة المختلفة. ورُفعت في البلاد المستعمرَة شعارات شتى لخداع الجماهير، واستخدمت هذه الشعارات في حملات "إرهاب ثقافي" يستهدف "الاستخفاف" بالتراث الثقافي لهذه البلاد؛ بل تسعى إلى أن يزدريه أهله، ويفروا منه؛ للوقوف تحت مظلات: "التجديد لا التقليد" و"الإبداع لا الاتباع"، و"عالمية الثقافة" و"الثقافة العالمية"، و"الحضارة الإنسانية"، وكتب ممثلو المستعمر وأتباعهم عن الدين الإسلامي (مثلاً)، كلامًا خطيرًا، وسوف أقتبس قليلاً مما قيل عن حالة "مصر" في عهد الاستعمار الإنجليزي.

قال "وليم جينورد بلجراف" (أحد المستشرقين الذين عملوا في خدمة الاستعمار):

  • "متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب يمكننا حينئذ أن نرى العربـِّي يتدرج في سبيل الحضارة [المراد المسيحية الغربية] التي لـم يبعده عنها إلا محمد r وكتابه"([26]).

لاحظ الخبث في إسناد الكتاب إلى ضمير يعود على محمد r .

وكانت وسيلة الاستعمار إلى إقصاء القرآن الكريم هي السيطرة على وسائل التعليم، وتوجيهه وجهة تقطع الصلة بين المواطنين ولغتهم وثقافتهم الإسلامية، حيث شبهت العربية الفصحى باللغة اللاتينية، التي انحصر دورها في كونها لغة عبادة وأداء للمناسك ، توقفت، وأخلت الطريق لعاميات، غدت اليوم لغات أوروبية مثلاً الإيطالية والإنجليزية والفرنسية، أما عن اللغة العربية فهذا ما قاله مهندس إنجليزي كانت مهمته "التبشير" في محاضرة نشرت في مجلة الأزهر داعيًا إلى اتخاذ العامية في مصر لغة للعلم والتعليم والتواصل:

"إن الذي عاق المصريين عن الاختراع هو كتابتهم بالفصحى..." ودعا إلى التأليف بالعامية. ثم أضاف: "وما أوقفني هذا الموقف إلا حبيّ لخدمة الإنسانية، ورغبتي في انتشار المعارف، وما أجده في نفسي من الميل إليكم، الدال على ميلكم إليَّ"([27]).

ويعجب المرء أشد العجب وأصدقه حين يقرأ لمثقف إنجليزي رفيع المستوى وذائع الصيت قولـه: "إن الضرر الذي أصاب الثقافات الوطنية أثناء التوسع الاستعماري ليس إدانة للاستعمار نفسه بحال"([28]).

وما أوردت قبلاً يمثل التأثيرات الوسيطة – زمنيًا – للاستعمار الغربي في تعويق الثقافة الإسلامية، وتشويهها، ومحاولة القضاء عليها. ويرد بعض المؤرخين بداية هذه الهجمات إلى فترات تاريخية أبعد، يصلون بها إلى بدء القضاء على الثقافة الإسلامية في الأندلس بسقوط غرناطة (1492م) وطرد المسلمين واليهود منها.

أما عن التأثيرات الحديثة لدول الاستعمار الأوروبي القديم وللدول التي تحاول الهيمنة في عصرنا الحالي على ثقافة الشعوب غير الغربية المعاصرة، فيكفي فيها أن أشير إلى الموجة الطاغية لظاهرة "العولمة Globalization" التي أصبحت مزاعمها، والدعاية لها – بوسائل مختلفة – الشغل الشاغل للدول المركزية الغربية (الولايات المتحدة وأوربا وأمريكا، واليابان) تستوي في ذلك الحكومات وأجهزة الإعلام، والشركات متعدية الجنسيات، ومؤسسات البحث.

ومعروف – الآن – أن العولمة تمثل تحديًا لدول العالم النامي، وأنها ظاهرة يجب ألا تواجه بمجرد الإنكار أو الاستنكار؛ بل يجب أن تحلل دواعيها، وأن تدرس كوامنها، ومهدداتها السلبية على ثقافة الشعوب النامية... وأحسب أنه أحرى بالشعور النامية – إزاء الهجوم الكاسح للعولمة – أن تتوفر على اتخاذ نظرة تحليلية ناقدة لثقافاتها، تستخرج من خلالها مواطن القوة؛ فتنميها طولاً وعرضًا وعمقًا، وتعرف مواطن الضعف في هذه الثقافات؛ لتعدل عنها أو تستأصلها. وقد بذلت جهود فكرية في هذا الصدد أكدت أن "العولمة" سلاح خطير؛ يرسِّخ الثنائية في الثقافات الوطنية، ويؤدي إلى انشطار الهوية الذاتية والوطنية، ويفضي إلى انفصام الثقافة الأصلية للشعوب عن النظام الاجتماعي القائم فيها. ويقال في شأن المعركة بين القوى الرئيسة الفاعلة في ظاهرة "العولمة" والدول النامية إنها ستكون معركة خاسرة؛ إذا لم تتسلح الشعوب النامية فيها بأدوات ثقافة العولمة ذاتها؛ تلك الأدوات التي تعتمد على أسس اقتصادية، وعلمية، وتقنية، وثقافية متينة؛ ذلك لسبب بسيط هو أن التركيز على "الثقافة" وحدها اختزال وتبسيط لحركة عالمية معقدة جدًا؛ ذات آثار فاعلة في مجالات الاقتصاد، والسياسة، والعلم، والبحث العلمي، والتعليم، والتقانة، ونجاح العولمة في تحقيق أهدافها في المجالات السابقة كلها تتبعه وتنتج عنه "التبعية الثقافية" أو "عولمة الثقافة".

هذا، وقد صدرت في شأن ظاهرة "العولمة": ما لها وما عليها؟ ماذا أنجزت في العقد الأخير من القرن العشرين وبواكير القرن الحادي والعشرين؟ وماذا يتوقع لها أن تُحدث في المستقبل كتابات كثيرة، وأكتفي هنا بالإحالة إلى عينة من هذه الإصدارات([29]).

ثقافة، حضارة، مدنية :

الحديث عن الثقافة يلتبس – أحيانًا – بلفظيين آخرين، هما: "حضارة، و"مدينة" فما الفرق بين دلالات هذه المصطلحات؟

حضــارة: جذرها اللغوي حضر، والحضور: نقيض المغيب والغيبة؛ يقال: كلمته بحضور فلان: أي بمشهد منه. والحَضَر: خلاف البدو، والحاضِر: المقيم في المدن والقرى والريف في مقابل البادي: المقيم بالبادية، والمحاضرة: مفاعلة، وتعني المغالبة والمجالدة؛ كأن يحاضرك إنسان بحقك فيذهب به مغالبة. وحاضر البديهة سريع الخاطر، وحاضرة البلاد: المدينة التي يقيم فيها الحكام، ولم ترد كلمة "حضارة" في لسان العرب لابن منظور، ولكنها وردت في المعجم الوسيط (الحَِضارة) بفتح الحاء، وكسرها، بمعنى: مظاهر الرقي العلمي والفني والأدبي والاجتماعي، وهي لفظة مولدة، أي أنها ليست "محدثة" تمامًا؛ فقد استعملت بعد عصر الرواية.

وثابت أن "عبد الرحمن بن خلدون" (732-808 هـ: 1332-1406م) هو أول من التفت إلى مفهوم الحضارة، وتحدث عنها بألفاظ الحضارة والعمران والتحضر، وقد حمَّل لفظة "التحضر" دلالات سياسية؛ تتصل بنظم الحكم وتوارث السلطة، وتتابع الحكام. وقد عُني في "المقدمة" بالحديث عن "الصنائع" التي تَكْمُل بكمال العمران وكثرته، كما تحدث عن اختلاف الأمم في مدى إجادة الصنائع؛ التي عدَّ منها: الفلاحة، والبناء والتجارة، والخياطة، والتوليد، والطب، والوِراقة.

وعدَّ ابن خلدون التعليم من الصنائع "الإنسانية". وأبان في مقدمته أن الصنائع تكسب صاحبها عَقْلاً، وخصوصًا الكتابة، والحساب، وعلوم اللسان العربي، وعلوم الطبيعيات، والفلك وغيرها([30]).

وواضح من هذا العرض الموجز أن "ابن خلدون" استعمل لفظ "الحضارة" على أنها مفهوم كلي شامل، تندرج فيه مفردات شتى تغطي: العلم والتعليم والمهن والحرف، التي يحاول فيها الإنسان مواءمة الطبيعة لاحتياجاته، وتسخير مواردها ومعطياتها، لتيسر للناس القيام بأمانة عمران الأرض. ويدخل في نطاق الحضارة عند "ابن خلدون" كل ما ينمي العقل، ويهذب الخبرة الإنسانية، وعدَّ من ذلك تحصيل "الملكة اللسانية"، وصناعة الشعر، ووجه تعلمه، وتنمية التذوق.

والحضارة هي اللفظة العربية الموازية لكلمة Civilization الإنجليزية وجذرها في اللاتينية Civites ومعناها مدينة، ومنها أخذت كلمة Civis ساكن المدينة وكلمة Citizen وتعني، المواطن.

وتشير دراسة جادة لتطور كلمة حضارة Civilization في اللغة الإنجليزية إلى أن دلالات الكلمة تطورت من مرحلة مدن "الكاتدرائية" حيث كان الدين في أوروبا هو قِوام حياة المدينة في مرحلة ما قبل الصناعة، مرورًا بالمدن الصناعية، ثم بالمدن الكبرى "الميتروبوليتان" التي تتميز بزيادة عدد السكان، واختلاف طبقاتهم، وبما تشهده المدن الكبرى في أوروبا من ثراء مالي، ونمو في القدرة الاقتصادية، وامتداد لنفوذها في ما حولها من ضواحٍ.

وفي عصر "التنوير" الأوروبي بدأت حركة إصلاح ديني، وحملت كلمة مدنية Civilization بشحنة سياسية، جوهرها أن المدنية تقتضي مقاومة "الدين المسيحي" في أوروبا، وكان هذا ردًا طبيعيًا على هيمنة الكنيسة على شئون الحياة كافة، ومحاولة لتحرير رقاب الناس وعقولهم من قيود فرضتها "الكهانة" على الناس، وعانى منها العلماء والمفكرون معاناة شديدة. وهكذا ظهر مفهوم "المجتمع المدني" مقابلاً للمجتمع "اللاهوتي" أو "الكنسي"، ومفهوم الثقافة المدنية Civic Culture مقابلاً للثقافة الدينية، والتعليم المدني مقابلاً للتعليم الديني. وبهذا أصبح الوصف "مدني" في أوروبا منذ عصر "التنوير" معاكسًا ومناقضًا لوصف "ديني" وشاع هذا التناقض، ووظفت دلالاته في مجالات: القانون والاجتماع والسياسة([31]).

ومغزى ما قيل في الفِقرة السابقة هو أن تناقض الدين والمدنية يمثل في نشأته وتطوره إشكالية أوروبية مسيحية كاثوليكية؛ كان لها امتدادات في الثقافة الغربية، وأن هذه الإشكالية كانت لها أسباب مقبولة ومعقولة في السياق الأوروبي وفي نطاق "المسيحية الغربية"؛ إلا أنه مما يؤسف له أن مصطلح "مدنية" نقل إلى اللغة العربية، وتم تداوله في الفكر، وفي بعض الكتابات والتشريعات والتنظيمات، معبأً بدلالة هي: أن "الحضارة" أو "المدنية" تستبعد الثقافة الدينية، وأن الإيمان بالوحي الإلهي يناقض الإيمان بإعمال العقل. حدث هذا مع بداية حركة التحديث في مصر في عهد "محمد علي"، حيث بدأت الدعوة إلى أن يسارع الناس إلى اعتناق مبادئ المدنية الأوروبية، وإليكم مثلاً واحدًا من الأبواق التي نفخت، والطبول التي دقت لمهرجانات الالتحاق بالمدنية الأوروبية:

"إن علة الأقطار العربية ورأس بلواها أننا ما زلنا نعتقد أن هناك مدنية غير المدنية الأوروبية، فلا نتقبل مبادئ البرلمانية والديمقراطية والاشتراكية. وهذه مبادئ لم تعرفها آسيا، أُم الاستبداد الأتوقراطي ، في الحكومة والدين والأدب والعلم، مع أنها لب النجاح القومي... إن في العالم العربي صراعًا بين المبادئ التي ينصرها ويذود عنها رجال الدين، والمبادئ التي تدين لها وتعمل على نشرها طبقة صغيرة عددًا، ولكنها كبيرة حرمة وجاهًا، باعتبار أن في يدها مقاليد الحكم، فهذه الطبقة تستطيع أن تحضِّر العالم العربي بسن قوانين؛ كأن تعاقب المرأة المحجبة... ولا قبل لنا بانتظار التطور الاجتماعي؛ لأن العالم يثب إلى الأمام([32]).

ولا  يزال التساؤل مطروحًا . . .

بم يتمايز مفهوم "الحضارة" عن مفهوم "الثقافة " ؟

q          يرى أحد أعلام المفكرين المسلمين أن التباس الحضارة بالثقافة يمثل تعبيراً عن حالة القلق والتوتر التي يعاني منها المسلمون والمسيحيون الذي يحيون خارج الحدود الرسمية للحضارة الغربية؛ ذلك أن هؤلاء يدركون الفجوة الماثلة بين الحضارة الغربية، التي يعيشون على منجزاتها في معظم بلاد العالم: في الأثاث، والرياش، وتصميم الأبنية، والمؤسسات، ووسائل التواصل – والثقافة المستقرة في عقولهم ووجداناتهم بكل ما تنطوي عليه من معتقدات وقيم دينية وخلقية واجتماعية.

ولذا فإن "خاتمي" يرى أن الحضارة مصطلح يشير إلى الآثار المادية للحياة الاجتماعية، والمؤسسات الاقتصادية والسياسية والصناعية التي تيسر حياة الناس وتنظمها، في أطر للحركة العملية والاجتماعية. أما "الثقافة" فهي مصطلح يشار به إلى المعتقدات والعادات والتقاليد والتراث الفكري والفني الذي تمتد جذوره في المجتمع.

هذا، وتصور الحضارة (المدنية) مستقلة عن الثقافة ، يعني أن الثقافة التي نشأت منسجمة مع حضارة ما، يمكن أن تبقى ثقافة فاعلة ومؤثرة لمدى طويل على الرغم مما قد تعانيه الحضارة من ضعف أو خلل([33]).

وأعتقد أن هذه التفرقة معادلة لما يتحدث عنه بعض الأنثروبولوجيين في التمييز بين "الثقافة" و"مظاهر الثقافة"؛ فالأولى معتقدات وقيم ومعارف وأفكار ووجدانات ومهارات، والثانية تجسيمات مادية يمكن أن ينالها تشويه أو تدمير، ولكن بقاء الثقافة مستقرة في النفوس، مستمرة عبر الأجيال، كفيل بأن يعيد المظاهر الثقافية التي خُربت أو أُبيدت([34]). وخلاصة هذا هو أن "الثقافة" مصطلح مستقل عن "الحضارة" وليس أحدهما مرادفًا للآخر.

q         يرى آخرون: أن النواتج المادية للحضارة تسبقها دائمًا أفكار تتجسد فيما بعد في صور مادية، وأن الإبداعات المادية ليست إلا رموزًا تعبر عن أفكار تنقل للآخرين، وأن جوهر تصميمات الصناعة الحالية فكر ينتج، ويباع مستقلاً، ثم يتشكل في صناعة وأجهزة مدنية، ولا تخرج بهذا عن كونها مظهرًا ثقافيًا([35]).

ويرى أحد علماء الأنثروبولوجيا العرب أن الثقافة مرادفة للحضارة، وأنها تعني النشاط الفكري والفني الواسع، وما يتصل بهما من مهارات، وأنها موصولة بمجمل أوجه النشاط الاجتماعي، وتشمل سعي الإنسان في علاقات طويلة ومتنوعة مع البيئة الطبيعية، في كل ما طوع فيها، واكتشف وسخر، واخترع. وفي علاقته مع البيئة الاجتماعية بكل ما شرع فيها ونظمَّ واختبر وابتدع([36]).

ونستطيع في ضوء ما قدمنا عما يعطي لمصطلح الثقافة ومصطلح الحضارة من دلالات أن نستعمل المصطلحين – في هذه الدراسة – بالتبادل؛ أي أن أحدهما مرادف للآخر؛ لأن المصطلحين يدلان على سعي الإنسان، وتعامله –عبر الأجيال– مع البيئة الطبيعية التي عايشها، وحاول تسخيرها، ولاءم بين قواها وبين ذاته واحتياجاته؛ طلبًا لما فيها من نفع، ودفعًا لما فيها من ضرر، وتلك هي فيما يرى كثير من المفكرين "الحضارة" وما تمثله من كشوف واختراعات ومنشآت. وتبقى البيئة الاجتماعية التي تضم الإنسان الفرد، بكل ما غرس فيه من نزعات فطرية، وما يعتمل في عقله من معتقدات وأفكار وقيم وتوجهات تدفعه إلى أقوال وأفعال بذاتها، وتجعله يعزف عن أقوال وأعمال أخرى، ونظرًا إلى أنه كيان بشري اجتماعي بطبعه؛ فإنه يخرج ما اعتمل في نفسه من فكر ألهمه إياه خالقه، ودعمته عشيرته الأقربون بالتنشئة، وساندته مؤسسات تعليمية واجتماعية، وبذل فيه هو جهدًا من خبرته الذاتية، ويتمثل هذا الإخراج في إنتاج متنوع الأنماط، متعدد الدلالات. وتلك هي النصوص Texts التي يتداول الناس إنتاجها وقراءتها في الكون الإنساني الفردي والمجتمعي، وفي العالم الطبيعي، وتلك هي الثقافة، ونقطة التقاء الثقافة بالحضارة هي "الإنسان".

ونكتفي بهذا القدر من القول عن مفهوم الثقافة بمعناه العام. ونرجئ الحديث عن الثقافة الإسلامية: نشأتها، وخصائصها التي تميزها عن غيرها من الثقافات للفصل الثاني من هذا الكتاب. وتمايز الثقافات لا يعني انعزال بعضها عن بعض، ولا يسوِّغ لأي من هذه الثقافات الاستعلاء على الثقافات الأخرى لتحقيق غايات عنصرية، أو عرض تجليات نرجسية ثقافية، وفي كليهما إهدار لإنسانية الثقافة، أعني إنسانية الإنسان".

وتنتقل الآن إلى مفهومي "التربية والتعليم".

*     *     *

ثانيا: التربيـــة والتعلـيـم

رَبَا الشيءُ، يربو رُبُوَّاً، ورِبا يعني زاد ونما، وأربيته: نميته } وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ {([37]). ورباَّه، تربية: نشَّأه، ونمىَّ سائر قواه: البدنية والعقلية والخلقية. وفي التنزيل الحكيم: } وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً{([38]).

وتضاف التربية لكل ما يُنمَّي؛ كالولد والزرع والحيوان والنحل والطير، والرابية: ما ارتفع من الأرض. وتربَّى: تنشأ وتغذى وثقف. والرَّب: اسم الله جَلّ علاه، ولا يقال معرفًا لغير الله سبحانه، ويعرف غير الله بالإضافة، كأن يقال: رب الدار، لمالكها أو ساكنها. والرَّابُّ بتشديد الراء والباء: زوج المرأة يربي ولدها من غيره، ومؤنثه رابَّة، والرُّبَّة، براء مشددة مضمومة: جماعة كثيرة من الناس.

والرَّبوب: ابن امرأة الرجل من غيره، ومؤنثه: ربيبة، والرِّبِّي جمع كثير من الناس، وفي الذكر الحكيم } وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ {([39]).

والغاية التي توخيناها من إيراد منظومة الكلمات من الجذر اللُغوي "ربـا" هي أن نتأمل سويًا مجموعة من الدلالات التي تشير إليها هذه الكلمات؛ وأولى هذه الدلالات: الزيادة الشاملة والنماء المتكامل الذي يضم الجسم والعقل والوجدان والروح، وثانيتها:انصراف دلالة فعل التربية إلى الزرع والطير والنبات والنحل، وهذه الدلالة توشي بأن المرُّبَّى ذو إمكانات فطّر عليها، وقابليات مغروزة فيه، تيسر له النماء، والزيادة ، وأداء وظائف للمربَّي، ولجنسـه، ولجماعتـه، ولأمته } وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ {([40]).

وأحسب أن دور التربية هو أن تحرص على إفساح المجالات للفطرة التي فطر الله الإنسان عليها؛ كي تبرز وتتجلى وتبدع على نحو أرقى وأبدع مما يصنع الطير في الأجواء، وما يصنع النحل في تنظيم سعي جماعته وأمته. وفي إطلاق لفظ التربية على غير الإنسان ما يشد الانتباه إلى أثر البيئة والمناخ والتربة التربوية، وفي عبارة أخرى، تشير هذه التسوية في التربية – لغة – بين الإنسان والزرع إلى ضرورة أن ينظر القائمون على التربية إلى السياق "الزمكاني" الذي يحيط بمن يعهد إليهم تربيتهم، وذلك بأن يحرصوا في اختيار الغذاء العقلي الذي يمدون به المتعلمين على أن يكون مناسبًا لمستواهم العقلي، ملائمًا لتنمية الثقافة التي تعمل مؤسسات التعلم على خدمتها. وفي عبارة ثالثة، يجب أن ينظر إلى أن التربية نظام "ثقافي أيكولوجي" على النحو الذي نوضحه في مكان تال في هذا الجزء من بحثنا إن شاء الله.

وثالثة الدلالات التي توحي بها هذه الكلمات هي: أن التربية عمل ينهض به الفرد ذاته: تربَّى ويزَّكيَّ، وينهض به فرد آخر حين يسهم في تربية إنسان مما تدل عليه كلمتا الرَّابُّ والرَّابَّة، مثلما تسهم فيه الجماعة المتخصصة في مجالات مختلفة تتصل باحتياجات المربيَّ، مما تشير إليه كلمة: رِبىَّ: جماعة، وجمعها: ربيِّون.

ومن الألفاظ التي تلتقي في دلالاتها مع التربية لفظة "التزكية" وجذرها زَكَا ومصدرها زكاء، ممدودة، وزُكوُّ. ومعناها النمو والزيادة. ففي حديث عليّ – كرم الله وجهه – "المال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق"، ويقال غلام زكِي (بالزاي وكسر الكاف): طاهر صالح. وأرض زكية، ورائحة زكية: طيبة. وزكاة المال ما يخرجه الفرد من ماله لمصارف معينة؛ لأن فيها تطهيرًا للمال يثمِّره وينميه، وزكَّى تزكّية، موازية في مبناها ومعناها لربَّى تربية، والتزكية الموازية للتربية تنصب على النفس } قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا {([41]). ويلفت النظر في مادة زَكىَّ أن الفعل قد جاء في القرآن الكريم متعديًا لمفعول به كما في الآية السابقة وفي:         } أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاء {([42]).

والتزكية هنا منصرفة إلى التطهر والتنقية من الخطايا والآثام. وقد جاء الفعل تزكى لازمًا ماضيًا، ومضارعه يتزكى في مثل قوله تعالى: } فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى {([43])بفتح خفيف على الزاي، وتقرأ – أيضًا – بتشديد وفتح الزاي، تزَّكى، وأصلها تتزكى؛ وأدغمت التاء الثانية في تاء الأصل، ومعناها تتطهر من الشرك بأن تشهد أن لا إله إلا الله. ويتسع المعنى في الآية الكريمة: } وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ {([44]) للإشارة إلى أهمية الجهد الذاتي في عمليات التربية، وأنه أكثر نفعًا للذات، وأن من شأن تراكم التعلم الذاتي أن يفجر طاقات المتعلم.

والتربية التي تقوم عليها المدارس والجامعات هي التربية النظامية، أو التربية المقصودة أو التربية بمعناها الرسمي، وهي التربية التي يعهد بها المجتمع إلى مؤسسات تعليمية متخصصة، وهذه المؤسسات (المدارس والجامعات) هي إحدى القوى التربوية في المجتمع، ولكنها ليست كل القوى؛ ذلك أن الأسرة في كل مجتمع قوة تربوية، تقوم على التنشئة الاجتماعية للأجيال في مرحلة مبكرة؛ وتأثيراتها في شخصيات المتعلمين عميقة وشاملة، وتتم فيها التربية بصورة عارضة وغير مقصودة؛ يتعلم من خلالها الطفل كثيرًا من القيم والمعارف والأفكار والعادات والتوجهات بطريقة عفوية عارضة؛ ولكن تأثيراتها بالغة الأهمية، وعظيمة القيمة؛ لأنها تحدث في مواقف طبيعية، وفي سياقات مختلفة، تعتمد على النشاط الذاتي للطفل؛ فَيَخْبرُ بطريقة عملية البيئة الاجتماعية والبيئة الطبيعية           اللتين تكتنفانه.

ونظرًا لخطورة مرحلة الطفولة المبكرة التي تناط فيها التربية الأولى بالأسرة، وإلى أن نتائج بعض البحوث التي أُجريت على الأطفال قبل التحاقهم بالمدرسة، قد أكدت أن الأطفالَ قادرون على تعلم أشياء كثيرة، وعلى اكتساب مهارات عديدة بعد بلوغهم سن الثالثة تقريبًا – فقد شرعت بعض الدول في تنظيم مؤسسات تعليمية متخصصة هي دور الحضانة ورياض الأطفال، وهي مؤسسات ينتظم فيها الأطفال قبل سن السادسة. وهذا يعني أن مفهوم الاستعداد Readiness للتعليم([45])، وشروط القبول للالتحاق بالحضانات ورياض الأطفال يجب ألا يكون معيارهما الأوحد هو العمر الزمني. وأن تتاح فرص الالتحاق بالحضانات للأطفال من الأسر الفقيرة في الريف وفي عشوائيات المدن التي لا يتوفر فيها للأطفال مناخ أسري جيد من شأنه تنمية مواهب الأطفال في وقت مبكر.

ثم تتابع تربية الأجيال في التعليم النظامي، في المدارس والجامعات، وهي مؤسسات ذات أهداف خاصة.

ويواكب التربية في الأسرة وفي المؤسسات النظامية قوى تربوية أضحت ذات حظ عظيم في التربية الثقافية هي: أجهزة الإعلام الجماهيري: الصحافة، والإذاعة المسموعة، والتلفاز، والمسرح، والسينما. وقد أدى التقدم العلمي والثورة التكنولوجية إلى استحداث وسائل شتى للتعلم أظهرتها شبكة "الإنترنت".

ومن القوى التربوية في كل المجتمعات المعاصرة الأحزاب السياسية، ومنظمات ما يسمونه "المجتمع المدني". والحاجة ماسة دائمًا إلى ضرورة التنسيق بين ما تبذله أو تبثه هذه القوى التربوية، ويتناول التنسيق أهداف هذه القوى، ونوعية ما تبثه أو تعلمه للناس، والطرق التي تقدم بها أنشطتها.

أعود إلى مفهوم "التعليم" بمعناه الخاص الذي تقوم عليه المدارس والجامعات لأقول – في إيجاز – إن الجذر اللغوي للفظة هو: عَلِمَ الشيءَ: عرفه من خلال علامات وأوصاف تميزه عن غيره، والمصدر عِلْم، وهو نقيض الجهل، واسم الفاعل عَالِم، وصيغة المبالغة: علاَّمة وعليمٌ، وعلاّمة – بتاء مربوطة –للمبالغة؛ وليست للتأنيث. ويقال في اللغة علَّمته الأمر فتعلَمه، والمصدر من علَّم هو تعليم ومن تعلَّم هو تَعلُّم. والعِلْم (المصدر= العملية Process) يعني إدراك الشيء بحقيقته وبكليته، وتفرّق المعاجم اللغوية العربية بين العلم بوصفه مصدرًا؛ وهو المراد بالعملية (الحدث بلا زمن) والعِلْم بوصفه اسمًا يطلق على مجموعة من المعارف المنتظمة ذات البنية أو المسائل الكلية التي تجمعها جهة واحدة؛ كعلم اللغة، وعلم الآثار، وعلم الفيزياء، وعلم التاريخ، ونحوها، وهو ما يطلق عليه في اللغة الإنجليزية مصطلح "نظام معرفي" Discipline ويتميز بأنه: مجال محدد للمعرفة الإنسانية المنضبطة الصادقة الدقيقة، وبأنه – أيضًا– مجال للبحث العلمي المستمر؛ بغية توليد معارف جديدة في ذات المجال. والعَلْماني: نسبة إلى العَلْم بمعنى العالَمْ الدنيوي المشهود.

نسق التعليم:

إن التعليم النظامي أو التربية المقصودة –في أي مجتمع – يمكن اعتبارها نسقًا أو نظامًا System. والنظام أو بالأحرى "النسق" مصطلح يشير إلى "أن تنظر إلى ظاهرة معقدة – كظاهرة التعليم – على أنها ذات بنية مركبة Structure حقيقية أو مفترضة Assumed يمكن من خلالها أن تدرك الأجزاء أو الوحدات أو العناصر المكونة، لكينونة الظاهرة، وأن تعرف ما بين هذه المكونات من علاقات، وما يتم بينها من تفاعلات، واعتمادات متبادلة، من شأنها أن تحفظ توازن النسق، وتكفل أداءه للوظائف التي وُجِد من أجلها، وتجنبه التوقف أو الانهيار([46]).

ومن المعروف أن تشغيل كل نسق يحتاج إلى :

(أ) مُـدْخـلات Inputs، ويُغذَّي بها من خارجه، ومدخلات أخرى داخلية؛ تتخلق داخل النسق ذاته. فمن مدخلات نسق التعليم الخارجية: الميزانية المالية التي تخصص لنفقات التعليم، ونظام إعداد المعلمين والمديرين الذي يتولون التعليم في مؤسسات التعليم، وينهضون بإدارتها، وأهداف التعليم التي تضعها الدولة لمراحل التعليم المختلفة.

ومن أمثلة مُدْخلات التعليم الداخلية؛ التي تتولد من داخل النسق ذاته مناهج التعليم، والمواد التعليمية التي يضعها النظام لتحقيق أهدافه، ومستوى دافعية العاملين في النظام جميعًا للعمل على تحقيق أهداف النسق.

(ب) عمليات تشغيل Processing، ويحتاج كل نسق في أداء وظائفه إلى عمليات من شأنها أن تحرك النسق، وتضبط حركته، وتكفل لوحداته أو أجزائه الفاعلية، والاستفادة من الاعتماد المتبادل بين أجزاء النظام وعناصره؛ بغية: أن يحقق النسق أقصى فائدة من مُدخلاته بنوعيها، وأن يظل متوازنًا؛ لا يختل ولا ينهار، وأن يصحح نفسه؛ إن اعتل أو انحرف. ومن أبرز هذه العمليات:

  • نوعية إدارة الفصل الدراسي، وإدارة المدرسة (مستبدة– مرنة– متسيبة).
  • نوعية أساليب التعلم والتعليم (إلقاء وإملاء– حوار وجدل– تعلم ذاتي).
  • نوعية نظم التقويم التكويني والنهائي السائدة في النظام (قياس ما حفظه التلاميذ –قياس مهارات التفكير– قياس مدى القدرة على توظيف المعارف والمهارات– مركب متوازن من كل ما تقدم – إبداع).

(ج) مخرجات النظام: Outputs: وتتمثل مخرجات نظام التعليم فيما أحدثه التعليم فيمن يلتحقون به من حيث ما يلي:

  • مدى كفاءتهم في استيعاب المعارف واكتساب المهارات التي عُلِّموا إياها (مثال من مرحلة التعليم الابتدائي عمليات الجمع والطرح، مهارات اللغة في فنونها المختلفة: ملاحظة – تحدث – استماع – كتابة – وقراءة) وهذا هو ما يعرف بقياس الكفاية الداخلية للنظام.
  • مستوى الأداء (Performance) الفعلي للأعمال التي يمارسها الخريجون في المواقف الطبيعية التي يعملون فيها بعد تخرجهم (مستوى أداء الصيادلة والأطباء والمهندسين والإعلاميين والمعلمين للمهن التي يزاولونها)، ومستوى أداء خريجي التعليم الفني والتقني للأعمال التي يضطلعون بها، ومستوى أداء خريجي الثانوية العامة لمتطلبات التعليم الجامعي) وهذا هو ما يعرف بقياس الكفاية الخارجية للنظام.

هذا، والتعاملُ مع نظام التعليم في أي مجتمع – بوصفه نسقًا - تقنيةٌ تفيد في تشخيص مشكلات نسق التعليم، وفي تحليل المتغيرات الفاعلة في هذه المشكلات، مثلما تفيد في التشخيص والعلاج لأدواء النظام وفي تطويره.

ومما يستأهل الالتفات إليه هنا ألا يُظن أن نسق التعليم نسقٌ تتوفر فيه مفاصل قوية بين مكوناته؛ وذلك على النحو الماثل في النظم المطبقة في مصانع الأسلحة، أو في النظام البيولوجي للإنسان؛ وإنما هو نسقٌ تتسم النقاط المِفصلية بين مكوناته بالتراخي، وهشاشة الربط (Loosely-Coupled System). والأمثلة على هذه الهشاشة كثيرة؛ أذكر لك هنا بعضًا منها :

  • أهداف التعليم التي تضعها السلطة المركزية المسئولة عن التعليم، ومدى التزام المعلمين والمعلمات في المدارس باتباع أساليب التدريس التي تحقق الأهداف المرادة في صياغة هذه الأهداف.
  • الموازنات المالية المخصصة للتعليم ونوعية المناخ الثقافي السائد في المدارس من حيث إتاحة فرص للتفكر المستقل، والتعبير الحر، والنقد البناء لمظاهر الخلل والفساد في المدرسة.
  • القرارات التي تتخذ في المستوى المركزي لتطوير التعليم ومدى الالتزام بتنفيذها في المدارس في مواقع جغرافية مختلفة.

وبسبب تراخي المفاصل بين مكونات نسق التعليم، وجد أنه حَري بالمشتغلين بشئونه أن يحددوا الفوارق الرئيسة بين نظام التعليم والأنظمة الأخرى التي ذكرنا أمثلة لها، وأجريت لتحقيق هذه الغاية دراسات ميدانية طويلة المدى في العقد الأخير من القرن العشرين؛ وأسفرت هذه الدراسات عن ضرورة التحول من الحديث عن نظام التربية أو التعليم System of Education إلى الحديث عن  نظام "التعليم المدرسي" أو "المدرسية" Schooling(*) لأن مدارس التعليم،هي الملتقي الذي تتجمع فيه كل المدخلات التي تُهيأ للتعليم، وفيها تتم العمليات المباشرة ذات الأثر الفعال في شخصيات المتعلمين، وهم المنتج النهائي لكل المساعي التعليمية، سواء في مستوى الحكومة المركزية، أو في الأقاليم المحلية، أو في المدارس أو في الفصول الدراسية.

وفي ضوء هذا التحول يوصف التعليم بأنه نسقٌ "ثقافي أيكولوجي" (Cultural Ecosystem) وتوصف المدرسة أو الكلية الجامعية بأنها مؤسسة "ثقافية أيكولوجية". فماذا يعني هذا الوصف؟ وما التطبيقات التربوية التي يفرضها؟

الافتراض الأساسي الذي أُجريت في ضوئه الدراسات التي أحدثت هذا التحول مغزاه: أن كل الجهود التي تبذل في نطاق كليات التربية وإعداد المعلم، وكل الجهود والنفقات التي تبذلها وزارات التعليم بكل أجهزتها جهود غايتها تحسين عمليات "التعلم" و"التدريس" في المدارس المختلفة؛ فهي إذن جهود داعمة للتعلم والتعليم، وليست منشئة لهما أو مؤثرة فيهما بصورة مباشرة. وأن خطوط الإنتاج التعليمي ذات الأثر الفعال موجودة في المدارس، وأن العاملين على خطوط الإنتاج هم المعلمون.

واستنادًا إلى التسليم بهذا الافتراض وجهت الجهود لدراسات ميدانية طويلة الأجل لدراسة ما يجري في المدارس، والتعرف على المتغيرات ذات الأثر الفعال فيه، ثم وصف النواتج المختلفة لأنماط الجهود المبذولة في التعليم فعلاً في المدارس، كما تتجلى في سلوك المستغرقين في عمليات التعلم والتعليم.

ووصف نظام "المدرسة" أو نظام التعليم المدرسي بأنه نظام "ثقافي" يعني أن التعليم – في الأغلب الأعم – يوشك أن تتماثل بناه "المادية" في مجتمعات العالم، وأن تتمايز عن نظام المستشفيات أو السجون؛ فالتعليم في أمريكا، وفي الصين، وفي ماليزيا، وباكستان، واليابان (مثلاً) تخضع بناه الهيكلية لقواعد عامة في التصميم، والتشييد، وفي التزويد بالأجهزة والمعدات. ولكنه في غاياته ومضامين عملياته يخضع "لثقافة". والثقافة هنا تعني أن مجموعة البشر المستغرقين في التعلم والتعليم – معلمين ومتعلمين ومديرين ومعاونين – في الصين (مثلاً) موسومون بميسم ثقافي، يمايز بينهم وبين نظرائهم في مصر أو في المملكة العربية السعودية (مثلاً) من حيث المعتقدات والقيم والاتجاهات والمعارف العامة والمثل التي تدفعهم إلى الفكر والفعل، ومن حيث العبادات التي يتعبدون بها، وماذا يحل، وماذا يحرم من ألوان السلوك. وهم كذلك مختلفون في الرواسب التاريخية للثقافة التي    ينتمون إليها.

وهذه الذخائر المكنونة في عقول البشر، المختلجة في وجداناتهم، السارية في عروقهم مجرى الدم – تدفع المستغرقين في التعلم والتعليم  في كل ثقافة إلى أن يقوموا في التعلم وفي التعليم بأعمال معينة يستشرفون من خلالها تحقيق ذواتهم، وإنجاز نفع لهم ولجماعتهم وأمتهم، وهم – في الوقت ذاته– يعزفون عن أعمال أخرى. ويكفي أن نستحضر في هذا الصدد أثر دعامتين أساسيتين للثقافة عند كل فئة: هما الدين، واللغة.

أما وصف "أيكولوجي" لنسق "المدرسية" أو "التعليم المدرسي"، فيشير إلى أن المدارس تحل في بيئات طبيعية واجتماعية مختلفة: ساحلية، وزراعية، وريفية، ومدنية، وبعضها ميسرة طرق الوصول إليه، وبعض آخر يحتاج الوصول إليه إلى جهد، ويجد الناس فيه بعض الصعوبات للحصول على احتياجاتهم، ويتأثر إنجاز المدارس تبعًا للمستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للأسر التي ينتمي إليها التلاميذ، كما يختلف الدعم المادي والمعنوي الذي يوجهه المجتمع المحلي –بعامة– ومؤسسات الخدمات الأخرى العاملة في مجال الوقاية الصحية والتداوي بخاصة، كما تختلف إنجازات المدارس تبعًا لحجم المدرسة (عدد الطلاب المنتظمين فيها).

وفيما يلي أعرض عليك بعض ما أسفرت عنه دراسات أجريت في إطار افتراض أن التعليم المدرسي نسق "ثقافي أيكولوجي" - وقد أجريت هذه الدراسات في العقدين التاسع والعاشر في القرن العشرين في الولايات المتحدة الأمريكية، تحت إشراف واحد من أشهر التربويين هناك، ومن أكثرهم وأغزرهم خبرة بالقضايا الجدلية في شئون التعليم هو John I. Goodlad .

وقد تنوعت المدارس التي أجريت عليها الدراسات من حيث: الموقع الجغرافي، وحجم المدرسة، والمستوى الاقتصادي –الاجتماعي للأسر التي يفد منها الطلاب، والمرحلة الدراسية (ابتدائي– ثانوي). وقد شملت الدراسات 1016 فصلاً دراسيًا ضمت 17163 طالبًا من النوعيين، واستقطبت فيها آراء 1350 معلمًا ومعلمة، ووجهات نظر 8624 من الآباء والأمهات، ونشرت نتائج الدراسات في تقارير متتابعة، نقتبس من أبرز نتائجها ما يلي([47]):

  • ثمة أوجه شبه كبيرة بين المدارس جميعها من حيث المظهر العام للمباني، وتتشابه المدارس في مناهج التعليم وفي الكتب المستخدمة، وفي التنظيم المدرسي، وفي ممارسات التعليم.
  • صنفت المدارس إلى فئتين: مدارس جيدة الأداء - بصفة عامة- ومدارس ضعيفة الأداء. وقد وجد أن المدارس جيدة الأداء تتصف بما يلي:

-        مدارس تتصف إدارتها بالرشـد، ورعاية العلاقات الإنسانية، وتتسم العلاقات فيها بين إدارة المدرسة ومعلميها، وبين المعلمين بعضهم بعضًا، وبين الطلاب والمعلمين، وبين الطلاب أنفسهم بروح ديمقراطية وحوار بناء.

-        وهي المدارس التي لا تستبد إدارتها باتخاذ القرار في المشكلات المدرسية؛ وإنما تلجأ إلى إتاحة فرص واسعة للمعلمين والمعلمات والطلاب لمناقشة المشكلات، والمشاركة في اتخاذ القرارات التي تتصل بحلول هذه المشكلات، وبتنظيم العمل في المدرسة بوجه عام.

  • وتتصف مجموعة المدارس جيدة الأداء بروح المودة والاحترام والتقدير بين العاملين فيها جميعًا، وبدت في هذه المدارس بصورة بارزة صور التعاضد والتعاون بين فئات العاملين فيها، وداخل كل فئة على حدة.
  • وهي المدارس التي تضع مخططًا لإنجاز أعمالها، وتُعمل فيه نظامًا للأولويات يسبق فيها الأهم المهم، ويلتزم في - الخطة المدرسية - بمواقيت زمنية لكل عمل، ولا يجوز فيها الانتقال إلى عمل، ما لم يتم إنجاز الأعمال التي تسبقه في سلم الأولويات.
  • وهي المدارس التي تزداد العناية فيها بتأصيل المناخ الأكاديمي أكثر من العناية بالمباريات الرياضية وفرص الترفيه.
  • المدارس التي تتوثق فيها الصلات بين المدرسة والأسر التي ينتمي إليها الطلاب، والتي توظف فيها هذه الصلات بصور معلنة ومنتظمة.
  • ويصدق على المدارس جيدة الأداء أنها كانت المدارس صغيرة الحجم من حيث عدد الطلاب؛ سواء أكانت هذه المدارس في الريف أم في المدن أم في ضواحي المدن الكبرى.

هذا، وقد اتسمت المدارس ضعيفة الأداء بالسمات التالية مجتمعة: مدارس المدن ذات الحجم الكبير، وينتمي معظم طلابها إلى الأقليات Minorities ، وتتصف أسر طلابها بتدني مستوي الأسرة اقتصاديًا واجتماعيًا وتعليميًا.

وتجدر الإشارة إلى أن نتائج هذه الدراسات قد أوضحت أن السمات الفردية للمعلمين والمعلمات وهي: العمر، والمؤهل الدراسي، والنوع (ذكر/ أنثى) والتوجه السياسي وعدد سنوات الخبرة في مهنة التدريس ليست عوامل فارقة في التمييز بين المدارس جيدة الأداء والمدارس ضعيفة الأداء.

 

 

علم النفس الشعـبـي :

ولعل أحدث مثال – في حدود ما أعرف– يجلِّي أن "المدرسية" Schooling أو التعليم المدرسي شأن ثقافي؛ تلتبس فيه وجهات نظر الجماهير بوجهات نظر المتخصصين المهنيين هو أن بعض أهل الثقة في مجالات "التعلم" و "التعليم" في الثقافة الغربية شرعوا يؤصلون علميًا لتوازي مصطلحين هما: علم النفس الشعبي Folk Psychology والتعليم أو التربية الشعبية Folk Pedagogy – لتوازيهما مع ما يجري في الممارسات التعليمية، وقد أبانوا في هذا الصدد أن أنماط الممارسات التعليمية التي ينهض بها بعض المعلمين في تعليم الأطفال تقع متأثرة ومختلطة بمفاهيم متباينة تشيع في الثقافة الغربية المعاصرة عن عقول الأطفال([48]).

وعلم النفس الشعبي – في نظر Bruner هو إحدى الأدوات العظمى أثرًا في بنية كل الثقافات الإنسانية، وهو "مجموعة من الأوصاف يتصل بعضها ببعض بدرجة ما، وهي أوصاف "معيارية" تصف كيف يتصرف الناس، كما تصف في الوقت ذاته تصور الناس لعقولهم وعقول الآخرين، وتتنبأ بما يتوقع حدوثه في المواقف المختلفة؛ ويتعلم الناس علم النفس الشعبي في ثقافتهم مبكرًا؛ يتعلمونه مع اكتسابهم لغتهم القومية، ويوظفونه في تبادل المعلومات في مواقف               الحياة الاجتماعية([49]).

أما "التربية الشعبية" فهي مجموعة من المسلمات توجه نشاط الكبار القائمين على رعاية الصغار وتنشئتهم، لمدة تطول، كالآباء والأمهات والحاضنات، والمعلمين والمعلمات، أو تقصر مثل جليسة الأطفال – عند غياب الوالدين – في تعاملهم مع الصغار، وهذه المسلمات تنصب – في التحليل النهائي لها – على ما يعتقده الكبار في كنه وماهية عقول الأطفال، حال التعامل معهم أو تعليمهم وليس ضروريًا أن يكون الكبار قادرين على صياغة هذه المسلمات صياغة لفظية. وقد دلت الدراسات على أن الفروق بين فئات الكبار (الأمهات والمعلمات مثلاً)، في أنماط تعاملهم مع الصغار تعزي إلى تباين الافتراضات بينهم فيما يتعلق بعقول الأطفال؛ ولذا يمكن القول إن التربية الشعبية تعكس علم النفس الشعبي السائد          في الثقافة([50]).

هذا، وقد أوضح "ألسون وبرونر" Olson & Bruner أن أنماط التواصل بين المعلمين والأطفال يمكن تصنيفها في أربعة أنماط:

(1) الأطفال عجزة:

يعتمد هذا النمط على تصور الكبار أن الأطفالَ عاجزون عن القيام ببعض الأعمال، وعن أداء بعض آخر منها على الوجه الصحيح؛ ولذا فإنهم يعمدون في تعليمهم إلى العروض التوضيحية في أداء بعض الأعمال، ويدعون الصغار إلى تقليدهم. ويحدث هذا عادة قبل نمو قدرة الأطفال على استخدام اللغة في التعبير عن أنفسهم.

(2) الأطفال جهلة:

عماد هذا النمط يقوم على تصور أن الأطفال "جهلة" وفي خبرتي أن لفظ "الجُهال" مرادف في لغة الحياة اليومية للفظ "الصغار" في بعض البلاد العربية. والجهل هنا يعني أنهم ليس لديهم المعرفة أو الخبرة التي تجعلهم يبادئون بفكر أو عمل. ولذا فإن مهمة الكبار في تعليم الصغار هي أن ينقلوا إليهم المعلومات التي لديهم هم، في نصوص لغوية شفاهية.

(3) الأطفال شركاء في المعرفة:

ويفترض الكبار في هذا النمط من التواصل مع الصغار أن الأطفال لديهم قدر من المعلومات عن الظواهر والذوات والأحداث، وأن هذه المعلومات يجب أن تستثار دائمًا عندما يراد أن يتعلم الأطفال شيئًا جديدًا. ومن أمارات مشاركة الصغار للكبار في بعض المعارف استخدام الصغار لكلمات مثل: أنا عارف، أنا فاهم، أنت فاكر أني لا أعرف، وقول صغير في الرابعة من عمره لأبيه : "أنت تريد أن تحذرني من الوقوع تحت القطار وأنا حذر"(*).

(4) الأطفال قادرون على المعرفة الموضوعية:

في هذا التصور يفترض الكبار أن الأطفال قادرون – بذواتهم ولذواتهم – على المعرفة الموضوعية، وأنهم قادرون على التعلم بطرق تلقائية، مما يكتنفهم من سياق طبيعي واجتماعي؛ فهم يدركون ذواتهم، ويتطلعون إلى معرفة من حولهم وما حولهم، وهم قادرون على التحرر من قيود الزمان والمكان ؛ فهم معنيون بالآخرين: كيف يحيون؟ وفيم يختلفون عنهم؟ وهم معنيون – أيضًا – بالماضي قدر عنايتهم بالحاضر. ولذا فإنهم مع نضجهم اللغوي، وكسبهم مهارات التواصل المكتوب يمكن أن يستقلوا به، دونما حاجة إلى التواصل الشفوي الذي يستعان في استيعابه بمعرفة نغمات الصوت، وبالإيماءات، والإشارات.

ويهمني بعد هذا العرض الموجز لأنماط التواصل العقلي، محملة بمكنونات علم النفس الشعبي أن أشدّ الانتباه إلى أن هذه الأنماط معروضة في صورة مبسطة، وأنه ركز فيها على المرحلة المبكرة، فيما قبل المدرسة الابتدائية وعلى السنوات الأولى في المرحلة الابتدائية، وأن هذه الأنماط – فيما يبدو لي – تعتمد أكبر اعتماد على النماء اللغوي ونماء الدلالات، وأن هذا النمو العقلُغوي ليس له سقف يقف عنده، وأن العناية بالتربية العقلُغوية مطلوبة في جميع مراحل التعليم.

واعتقد أن الأمثال الشعبية في كل الثقافات الإنسانية تحمل قدرًا كبيرًا من الحكمة الإنسانية المجمعة في كافة المجالات، وسائر الآفاق، في الوجود الطبيعي وفي الوجود الاجتماعي على سواء.

*    *     * 

ثالثاً: المـنـهــج

هذا هو المفهوم الثالث الذي يدور حوله ا­لخطاب التربوي في هذا الكتاب. فماذا يعني المنهج لغةً واصطلاحًا؟

الجذر اللغوي للكلمة هو : نَهَجَ – كمَنَع – نَهجْا، ومَنْهجًا (المصدر الميمي)، والمنهج - لغةً- الطريق البيَّن الواضح؛ يقال: نَهجْت هذا الطريق، وتعني أمرين: أولهما: أبنت معالم الطريق وأوضحتها، بوسائل مختلفة، والثاني: سلكتُ الطريق وسرت في منعطفاته. ومغزى هذا الاشتراك في المعنى هو أن لفظ المنهج –لغة– يتسع لإطلاقه على عمليات تصميم المناهج وتخطيطها وتطويرها، وإعداد المواد التعليمية، والوسائل المعينة على التعليم، وتهيئة ما يحتاج إليه الموقف التعليمي، مثلما يطلق على الأعمال التنفيذية لعمليتي: التدريس والتعلم وهما مضمون مصطلح التعليم Instruction.

ومن ذات الجذر اللغوي جاءت كلمة "مِنْهاج" وهي صيغة اسم الآلة من الفعل، ومن دلالات هذه الصيغة أن المنهج ليس غاية في ذاته؛ وإنما هو وسيلة يُتذرع بها إلى غايات. والمنهاج – في الدين الإسلامي – هو الطريق الجلي الواضح، الذي لا لبس فيه، ولا إبهام؛ ففي التنـزيل الحكيم }...لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ..{([51]). ويقال في اللغة "نَهِج الثوبُ (بكسر الهاء) بمعنى بَلي، ولكنه لم يتشقق، ونَهِج الجسمُ –من باب سمع– إذا ظهرت عليه علامات الضعف والهزال.

واستنادًا إلى مقولة "ابن جني" أحد علماء اللغة الرواد: "الكلمات مُتَصاقِبة(*) الحروف متقاربة المعاني"، يمكن القول إن مناهج التعليم عرضة للبلى، وتقادم العهد؛ مما يفقدها الوظيفة، وذلك لعوامل مختلفة منها: التقدم العلمي؛ متمثلاً في استحداث معارف أو نظريات جديدة في العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية، أو اكتشاف حقائق جديدة تخص البنية الذهنية للإنسان، أو ابتكار استراتيجيات، وأساليب تَمّ تجريبها، وثبتت صلاحيتها – نسبيًا – في عمليات التعلم والتدريس.

وقد كثر الجدل واحتد حول قضايا كثيرة تتعلق بالمنهج: ما ماهيته؟ وما مكوناته؟ وما الصلات الماثلة بين هذه المكونات؟ وما نوعية التفاعلات التي يفترض أن تحدث بين هذه المكونات؟

وسوف أقتصر هنا على معاونة القارئ على أن يتضح في ذهنه مفهوم المنهج من خلال بعض ما وضع له من تعريفات:

  • عُرّف المنهج بأنه "مجموع الخبرات التربوية – الثقافية والاجتماعية والرياضية والفنية – التي تهيئها المدرسة لتلاميذها داخل المدرسة وخارجها، بقصد مساعدتهم على النمو الشامل في جميع النواحي، وتعديل سلوكهم طبقًا لأهدافها التربوية"([52]).

وأرى أن مثل هذا التعريف يستخدم مفهوم المنهج بصورة واسعة؛ تجعل المفهوم معادلاً لمفهوم التربية؛ فالخبرات التربوية مصطلح يطلق على الخبرات التي تعرض للمتعلم في الأسرة، وفي الشارع ، وفي المدرسة، وفي النادي الرياضي، ومراكز الشباب المختلفة. أقول إن هذا التعريف يسوي بين الخبرات التربوية Educational Experiences، والخبرات التعلمية Learning Experiences. وهي الخبرات التي تنظم ويُعرَّض لها المتعلمون في المدارس، والفرق بينهما –  فيما أرى – كبير.

وفي التعريف نص على تسييد ما يطلق عليه "الأهداف التربوية" وهي الصياغات اللفظية التي يضعها المسئولون عن التعليم في المستوى المركزي في كل مجتمع، وهي – فيما أرى – ليست إلا تعبيرًا عن رغبات وأمال وتوقعات من وضعوها، - وهي في الأغلب الأعم – مجرد نوايا طيبة، أو رؤية خيرِّة لما يرجون أن يحدثه التعليم في المتعلمين وفي المجتمع.

وقد دلت بحوث عديدة – عربية وأجنبية – على أن المعلمين في تدريسهم لا يعيرون مثل هذا الأهداف اهتمامًا، وإنما يعلّمون وفقًا للطريقة التي عُلِّموا بها، أو وفقًا للطريقة التي نص عليها في الكتاب المقرر في المادة التي يدرسها المعلم. ويتحدث بعض التربويين عن الأهداف على أنها "خرافة تربوية"([53]).

وقد كانت لي رؤية في موضوع أهداف مناهج التعليم عبرّت عنها في أحد المؤتمرات السنوية للجمعية الأمريكية للبحوث التربوية، ولا زلت أتبناها حتى اليوم؛ وهي أن الأهداف التي توضع للمناهج في وثائق الجهاز المركزي المسئول عن التعليم أو في مراكز البحوث التربوية يجب أن ينظر إليها على أنها مجرد فروض نظرية Hypotheses نُوظفها في واقع تعليمي معقد، لا يستطاع التنبؤ بمتغيراته إلا من خلال الاستغراق في المواقف التعليمية ، التي تتألف –عادة– من: (أ) مادة تعلَّم (محتوى المنهج) ذات بنية خاصة. (ب)مجموعة من المتعلمين – يختلفون في قدراتهم الذهنية، وفي مستوى دافعيتهم للتعلم، وفي قبلياتهم العرفانية(Metacognition)،(ج) معلمون: يختلفون في دوافعهم للعمل وفي درجة رضاهم عنه، وفي كفاءتهم الأكاديمية والمهنية مثلما يختلفون في الأساليب التي يستخدمونها في التدريس.

وهذه متغيرات ذات أثر كبير في الغاية العليا المتوخاة من التعليم. ولعلك توافقني على أن هذه المتغيرات لا يمكن أن يحيط بها من يضعون الأهداف – وإن كانوا من أولي العزم والمعرفة والخبرة – قبل أن يتم تشغيل المتغيرات الكبرى الثلاثة التي أشرت إليها في الفقرة السابقة.

وتأسيسًا على هذا، فإني أرى أن الأهداف التي توضع مقدمًا لمنهج التعليم ليست إلا فروضًا يمكن ألا تتحقق لاعتبارات كثيرة، ويمكن أن يتحقق بعضها، ولا يتحقق بعض آخر منها ويمكن أن يتحقق نقيضها. ويحدث هذا النقيض –مثلاً– في الحالات التي يَكْره فيها الطلاب اللغة العربية أو الرياضيات، ويعزفون عن تعلمها، وفي مثل حالات "التسرب" من مراحل التعليم، بسبب كراهية الطلاب للمناخ العام القائم في المدرسة أو المناخ السائد في تدريس مادة بعينها، أو في النظرة المتدنية لقيمة التعلم.

هذا، والقول بأن تؤخذ أهداف المناهج على أنها مجرد "فروض" يستلزم أن يكون المعلمون قادرين من خلال إعدادهم، وتدريبهم وجهدهم الذاتي بوصف أنهم مهنيون – على أن يصنعوا فروضًا بديلة – لما يستعصى تحقيقه من فروض، وضعت مسبقًا. وهذا مبحث آخر وسأعود إليه في الفصل الثالث بإذن الله(*).

وثمة نمط آخر لتعريف المنهج؛ وفيه يستخدم المصطلح على أنه حصر للموضوعات التي يلزم تقديمها للطلاب في صف دراسي معين، وفي مادة دراسية بذاتها، ولا يعدو المنهج وفقًا لهذا النمط في تعريف المصطلح أن يكون قائمة بالموضوعات التي تدرس في كل مجال من مجالات المعرفة، توزع على الصفوف الدراسية في مرحلة ما من مراحل التعليم. وتعريف المنهج على هذا النحو يعادل مفهوم المنهج بمفهوم المقرر الدراسي Course of Study ويفتقد المفهوم في هذه الحالة التعرض للأهداف التي تعلم من أجلها المواد الدراسية، ويفترض في تعريف المنهج - وفقًا لهذا النمط – أن المعرفة مطلوبة لذاتها وفي ذاتها، وأن لها بنية واحدة مستقرة لا تتغير، وأن حقائقها ثابتة إلى الأبد، وكل هذه أمور منكورة، ومستنكرة في الفكر التربوي.

تعريف المؤلف للمنهج :

ويهمني الآن أن أعرض هنا تعريفي للمنهج. وهو تعريف حرصت على تطويره تباعًا، وفقًا لما تكشف عنه جهود التنظير، والممارسة، والبحث.

  • المنهج مصطلح منسوج؛ يشير إلى مجموعة مشروعة وصادقة من المعتقدات، والقيم، والمعارف، والمهارات، وألوان التذوق، والاتجاهات.
  • ومن شأن هذه المجموعة المعقدة أن تدفع من يكتسبونها – بطريقة واعية أو غير واعية – إلى القيام بأنماط معينة في التفكير، وفي التواصل العقلي، وفي السلوك الفردي والمجتمعي ...
  • ويعهد المجتمع في إكساب هذه المجموعة المعقدة لأجياله الناشئة إلى مؤسسات ثقافية أيكولوجية (المدارس والجامعات)، حيث تضطلع مجموعات مختلفة من المهنيين الملتزمين (المعلمون وغيرهم) بتقديمها لفئات مختلفة من المتعلمين، وينجح المهنيون في تقديم هذه المجموعة المعقدة بدرجات مختلفة، من خلال استخدامهم لتنظيمات وطرق وأساليب ومواد تعليمية؛ تختار إثر تبصر جاد، وتتخذ في شأنها قرارات، يستأنس في صنعها بآراء ممثلين لمن لهم معرفة وخبرة كافية بالخصائص الثقافية والعقلية والوجدانية لمجموعات معينة من المتعلمين([54]).

هذا، ونود أن ندعوك لتأمل ما نزعمه لهذا التعريف من مزايا على التعريفات السائدة لمفهوم المنهج، وقد قدمنا لك أمثلة لها، ونوجز هذه المزايا           فيما يلي:

1-               أكد التعريف أن المنهج – في التحليل النهائي – ظاهرة معقدة تتألف من معتقدات وقيم ومهارات واتجاهات ، وألوان تذوق؛ أي أنه ليس المعارف المكتوبة التي تتحدث عنها بعض الوثائق، وإنما المعارف جزء في المنهج.

2-               ورد في التعريف وصف أهداف المنهج ومحتوياته – على سواء– بأنه يشترط فيها أن تكون "مشروعة"، بمعنى أنها معتقدات وقيم ومهارات.. إلخ، يسوغها الإطار الثقافي للمجتمع؛ لأنها ذات عائد مادي ومعنوي للأفـراد والجماعات، فالعنصر الحاكم في مكونات المنهج – إذن – هو القيـم الدينية والخلقية والاجتماعية. ووصف محتويات المنهج بضرورة الصدق يعني –مثلاً– ألا نعلِّم في مدارسنا نظريات علمية، عفىَّ عليها البحث العلمي ونقضها، واستبدل بها غيرها، أي أن شرطًا من شروط اختيار محتويات المنهج وأساليب تقديمه هو "الحداثة" بمعنى أن نفرق بين محتويات "المتاحف" ومحتويات "المناهج" وبين "العلم" و "تاريخ العلم".

3-               في التعريف ما ينص على أن أهداف المنهج النهائية تتمثل فيما يتعلمه الطلاب من قيم ومهارات، وأساليب تفكير، وأنماط سلوك فردية ومجتمعية.

4-               في التعريف ما يشير إلى أن المنهج ليس مقصوراً على المناهج المقررة المعلنة، وإنما تشير كلمات "واعية وغير واعية" إلى صنف من المناهج يتحدث عنه على أنه "المناهج الخفية" أو "الضمنية" التي تنبثق في ثقافة المدرسة وفي الفصول الدراسية ممثلة في سلوك المعلمين والمديرين الذين يقلدهم المتعلمون ويحتذونهم، وفي التنظيمات الإدارية (جامدة ومستبدة في مقابل مرنة وديمقراطية) وفي نوعية العلاقات القائمة داخل الصف الدراسي وفي المدرسة جميعها (علاقات تشاور، وود واحترام للآخر، ومحاولة تنميته في مقابل الأوامر والتعليمات للآخرين وازدرائهم).

5-               حرصنا في التعريف على أن نجعل عملية التعليم (التدريس + التعلم) هي المحور الذي تدور حوله عمليات المنهج، وفيه بالتالي إشارة إلى أهمية الأدوار المهنية التي يقوم بها الخبراء المتخصصون في مجالات مثل علم نفس النمو وعلم نفس التعرف والخبراء في مادة التخصص ذاتها كاللغة والعلوم والاجتماعيات.

وهكذا – نرجو – أن نكون قد كشفنا عما بين سطور هذا التعريف، الذي نحمد الله على أن هيأ له الذيوع والانتشار، وندعو الزملاء في المهنة إلى تأمله، ودعم ما يرون فيه من إيجابيات، واستكمال ما يستشعرون فيه من نواقص، وإعماله في مشروعات تطوير المناهج في البلاد العربية الإسلامية.

 


([1])    السورة (2) البقرة : 191.

([2])    السورة (60) الممتحنة: 2.

([3])   مجمع اللغة العربية. المعجم الفلسفي. القاهرة: الهيئة العامة للكتاب، 1979م، ص 58.

([4])    Tylor, E.B. Primitive Culture. London: John Murray, 1871.

([5])    Kluckhohn, C.K.M. and Krober. Culture. U.S.A.: Peabody Museum Papers, 1952.

([6])     Bendict, R.F. Patterns of Culture. Boston: Houghton Mufflin, 1934.

([7])    رالف لنتون (ترجمة عبدالملك الناشف). دراسة الإنسان. نشر بالاشتراك مع مؤسسة فرانلكين. بيروت: منشورات المكتبة العصرية، 1964،ص ص 54-58.

([8])    السورة (49) الحجرات: 13.

([9])    السورة (23) المؤمنون: 101.

([10])   كولنجوود، روبن جورج. مبادئ الفن. ترجمة أحمد حمدي محمود. القاهرة: مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2001م، ص ص 143-144

([11])   شارلوت سيمور سميث (ترجمة مجموعة من أساتذة علم الاجتماع بإشراف محمد الجوهري). موسوعة علم الإنسان. المفاهيم والمصطلحات. القاهرة: المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، 1998، ص ص431-432.

([12])   يمنى طريف الخولي. فلسفة العلم في القرن العشرين. الأصول –الحصاد– الآفاق المستقبلية. سلسلة عالم المعرفة، الكتاب رقم 264 (ديسمبر 2000م)، ص383.

([13])   رالف لنتون. مرجع سابق، ص ص 381-382.

([14])   المرجع السابق، ص ص 359-363.

([15])   المرجع السابق، ص ص 363-364.

([16])   شارلوت سيمور سميث. (ترجمة مجموعة من أساتذة الاجتماع بإشراف محمد الجوهري). مرجع سابق، ص ص 171-173.

(*)   لمن يريد متابعة الموضوع في أصله الإنجليزي ، انظر :

Charlote Seymaur- Smith, Dictionary of Anthropology. London: The Macmillan Press, 1992.

([17])   ت.س. إليوت (ترجمة وتقديم شكري محمد عياد) ملاحظات نحو تعريف الثقافة. القاهرة: الهيئة العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، 2001م.

([18])   المرجع السابق: ص 21.

([19])   المرجع السابق: ص 96.

([20])   المرجع السابق، ص 97.

([21])   المرجع السابق، ص 173.

([22])   المرجع السابق، ص 174.

([23])   المرجع السابق، ص 47.

([24])   المرجع السابق، ص 171.

([25])   المرجع السابق: ص ص 52-53.

([26])   نقلاً عن محمود محمد شاكر، أباطيل وأسمار. الجزءان الأول والثاني. القاهرة: المؤسسة السعودية بمصر، مطبعة المدني، الطبعة الثالثة، 1972، ص 158.

([27])   نفوسه زكريا سعيد، تاريخ الدعوة إلـى العامية وآثارها في مصر. الإسكندرية: الدار الأندلسية، 1988، ص ص 32-33.

([28])   ت. س. إليوت، مرجع سابق، ص 130.

([29])   انظر المراجع التالية :

أ ) أسامة أمين الخولي (محررًا) العرب والعولمة. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1998م.

ب) ميشيل تشوسودفيسكي. ترجمة محمد مستجير مصطفى. عولمة الفقر. القاهرة: إصدارات سطور، 2000م.

ج ) عمران أبو حجله (مترجمًا) وهشام عبدالله (مراجعًا) حالات فوضى: الآثار الاجتماعية للعولمة. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1997م.

د ) بول هيرست وجراهام تومبسون. مساءلة العولمة. ترجمة إبراهيم فتحي. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، 1998.

هـ ) مصطفى عبدالغني. الجات والتبعية الثقافية. القاهرة: الهيئة العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، 1999.

و ) هانس – بيتر مارتن وهارولد شومان. فخ العولمة. في سلسلة عالم المعرفة. الكتاب رقم 238. ترجمة عدنان عباس حلمي. ومراجعة وتقديم: رمزي زكي، (أكتوبر 1998).

([30])   عبد الرحمن بن خلدون. مقدمة ابن خلدون. القاهرة: كتاب الشعب (د.ت).

([31])   نصر محمد عارف. الحضارة، الثقافة، المدنية. دراسة لمسيرة المصطلح ودلالة المفهوم. الرياض: الدار العالمية للكتاب الإسلامي والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الثانية، 1995.

([32])   عيسى النصراوي. سلامة موسى والمدنية الأوروبية. بيروت: مجلة الوحدة، المجلد الأول، العدد الخامس، 1980، ص 30. النص منقول في المرجع عن سلامة موسى.

([33])   محمد خاتمي: الإسلام والعالم. تقديم محمد سليم العوا. القاهرة: مكتبة الشروق، 1420 هـ - 1999م. ص ص 17-20.

([34])   وثب إلى ذهني حالتان لتوضيح هذا المثل:

أ ) قدرة الثقافة الأمريكية على تشييد بدائل لمركز التجارة العالمي الذي هدم في أحداث 11 سبتمبر 2001 في نيويورك.

ب) قدرة الشعب الفلسطيني على إعمار مخيم "جنين" الذي دمره الجيش الإسرائيلي المحتل في فلسطين.

([35])   عمر عبيد حسنه. في تقديمه لمؤلف الشيخ محمد الفاضل بن عاشور. روح الحضارة الإسلامية. الرياض: المعهد العالمي للفكر الإسلامي والدار العالمية للفكر الإسلامـي، ط2، 1413 هـ - 1992 م، ص 33.

([36])   محيي الدين صابر. قضايا الثقافة العربيـة المعاصرة. تونس: الدار العربية للكتاب، 1983، ص9، 40.

([37])   السورة (30) الروم : 39.

([38])   السورة (17)  الإسراء: 24.

([39])   السورة (3) آل عمران: 146.

([40])   السورة (6) الأنعام : 38.

([41])   السورة (91) الشمس : 9.

([42])   السورة (4) النساء : 49.

([43])   السورة (79) النازعات : 18.

([44])   السورة (35) فاطر: 18.

([45])   مفهوم الاستعداد للتعلم كان أحد مبادئ نظرية "ثورندايك" في التعليم، وقد عارضته بشدة مع بداية 1960م مقولة Bruner, J.S. التي تشير إلى أن أي موضوع يمكن أن يعلم في أية مرحلة عمرية لو تمت ملاءمة أمينة بين موضوع التعلم والبنية الذهنية للأطفال. انظر:

Bruner. J., The Process of Education.  Cambridge, Mass. The Harvard University Press: 1960, p. 33.

([46])    Ahmed El-Mahdi Abdel-Halim "An Intersystem Model for Curriculum Theory and Practice". Ph.D. Dissertation, The Ohio State University (Unpublished), 1965, p. 13.

(*)   تترجم اللفظة أحيانًا إلى "التمدرس" وأوثر ترجمتها إلى "التعليم المدرسي" أو "المدرسية"؛ دفعًا لما قد توحيه لفظة التمدرس من "افتعال".

([47])    See the following:

a)   Goodlad, J.I. A Place Called School: Prospects for the Future. New York: McGraw-Hill, 1984, Chapter 8.

b)  Goodlad, J.I. (Ed). The Ecology of School Renewal. Chicago: The University of Chicago Press. NSSE Yearbook of 1987,Part I.

c)   Heckman, P.E. "Exploring the Concept of School Renewal". In A Study of Schooling: Technical Report No. 35. Los Angeles:  Laboratory of School and Community Education, University of California, 1988, pp. 63-78.

([48])    David R. Olson and Jerome S. Bruner "Folk Psychology and Folk Pedagogy". In D.R. Olson and Nancy Tarrnace. (eds).  The Handbook of Education and Development. Malden, Mass: Blackwell Publishers Inc., 1998, Ch. 2, pp. 10-27.

([49])    Bruener, J.S. Acts of Meaning. Cambridge: Harvard University Press, 1990, p. 35.

([50])    David Olson and Jerome S. Bruner, op.cit. p. 10.

(*)    كانت عبارة ابني لي هي : "أنت عايز تأنذرني وأنا متنأذر" وأحسبها مثالاً على ما يقال عن قدرة الأطفال الفطرية على بناء كلمات وتركيب جمل تعبر عن بنياتهم الفكرية العميقة في بني لغوية سطحية؛ قد تتفق أو تختلف مع القيود اللغوية المعيارية. (المؤلف).

([51])   السورة (5) المائدة: 48.

(*) صَقِب بكسر القاف صقباً بفتحها تعني قَرُب  ودنا، وصاقبه مُصاقبة وصِقاباً تعنى قاربه وواجهه (المعجم الوسيط).   

([52])   الدمرادش سرحان ومنير كامل. المناهج. القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1969، ص7.

([53])   أرثر كومز (ترجمة عبدالمجيد شيحة). خرافات في التربية. المعتقدات التي تعوق التقدم وبدائلها. القاهرة: عالم الكتب، 1990.

(*)   انظر ص ص 173-176 في هذا الكتاب.

([54])   هذه صيغة معدلة لما انتهى إليه المؤلف في كتابات سابقة باللغتين: العربية والإنجليزية. ولمزيد من المتابعة، انظر ما يلـي :

q Abdel-Halim, Ahmed El-Mahdi. A New Perspective for Curriculum Objectives. A paper presented at Annual Meeting of the American Educational Research Association. New York, April, 4-8, 1977. ERIC, No. 137951.

q     أحمد المهدي عبد الحليم. نحو اتجاهات حديثة في سياسات التعليم العام وبرامجه ومناهجه. مجلة عالم الفكر. المجلد 19، العدد الثاني، 1988.

q     عبد الكريم غريب وآخرون: معجم علوم التربية. الدار البيضاء: منشورات عالم التربية، 1998، حيث اقتبس التعريف وتضمنياته في الصفحات: 59-60، 252، 275.

 

المصدر: https://uqu.edu.sa/page/ar/59428

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك