ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي

الدكتور سفر بن عبدالرحمن الحوالي

المقدمة

الحمد لله الذي خلق السماوات وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون , وصلى الله وسلم على رسوله المبعوث رحمة للعالمين ، الذي أوضح الحجة وأبان المحجة وترك الأمة على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.. أما بعد :

فإن التفرق في الدين والتخاصم في رب العالمين سنة الأمم قبلنا وواقع حالنا بعدهم ، وقد كانت أول فرقة مرقت من الدين وشقت صفوف المسلمين هي ( الخوارج ) . وإنما كان ضلالها حينئذ في مسألة الإيمان ؛ إذ كفرت المسلمين بالذنوب ، واستحلت دمائهم وأموالهم ، ثم تتابعت الفتن وظهرت الفرق ، وكلما ظهرت البدع وانتقـصت الطاعات وارتكـبت المحرمات ازداد حال الأمة تفرقاً وذلاً وضلالاً.

هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ربى أصحابه على التسليم والاتباع والسمع والطاعة ، فلا تقديم بين يدي الله ورسوله ، ولا اعتراض على أمره ، ولا تولي عن طاعته، فكانوا خير أصحاب وحواريين كما كان نبيهم صلى الله عليه وسلم خير نبي ورسول .

آمنوا بالله ورسوله الإيمان الصادق الحي الذي أثنى الله تعالى عليهم به في كتابه ، وما عرفوه فلسفة ولا نظريات ولا جدلاً ، وإنما هو الطاعة في المنشط والمكره ، والصبر في الرخاء والشدة ، والجهاد بكل معنى من معاني الجهاد.

لم يزل هذا الإيمان يكمل ويزداد من زمن الاضطهاد والحصار بمكة ، إلى أحداث أحد والخندق بالمدينة ، إلى أيام مؤتة وحنين وتبوك ، حتى استقامت نفوسهم وزكت قلوبهم وصلحت أعمالهم ، فما قبض الله تعالى صفيه من خلقه إلا وقد صاروا أهلاً لحمل الأمانة وإبلاغ الرسالة والقيام بأمر هذا الدين كله .

فاجتثوا خبث المرتدين ، ثم ثنوا بالدولتين العظمتين فركبوا إليها البر الأجرد والبحر الأخضر ، وما كانت إلا سنوات معدودات حتى أنفقت كنوز كسري وقيصر في سبيل الله عز وجل ، وأصبحت الظعينة تسير من خراسان إلى الأندلس لا تخاف إلا الله، ودفع ملوك الهند والصين الجزية لأتباع خاتم المرسلين ، وخمدت نار المجوسية وخنست النواقيس والصلبان إلى غياهب أوروبا الهمجية ، وظهر أمر الله وأعداؤه كارهون .

واستمرت تلك الموجة الكبرى والمدة العظمى ما شاء الله أن تستمر ، ثم أخذت في الانحسار لما ظهرت الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا يؤمرون ، واستجاب فئات من هذه الأمة للحاقدين والهدامين من بقايا الأديان المنسوخة وشراذم الفلسفات الممحوقة ، وأصابت الأمة سنة الأمم الأولى ؛ فتجارت ببعضها الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبة ، فما مرقت الخوارج إلا وتزندقت الشيعة وفسقت المرجئة ثم ألحدت القدرية – وهذه الأربع هي أصول الفرق – ثم تتابعت الفتن وتكاثرت الأرزاء ، فلولا أن هذا الدين من عند الله وله من جنده المخلصين من يرعاه لما بقيت له من باقية .

ولكن الله جلت حكمته قضى ألا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة لا يضيرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله و " جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى ، يحيون بكتاب الله الموتى ، ويبصرون بنور الله أهل العمى ، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وكم من ضال تائه قد هدوه ، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ، الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عقال الفتنة ، فهم مختلفون في الكتاب ، مخالفون للكتاب ، مجمعون على مفارقة الكتاب ، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم ، يتكلمون بالمتشابه من الكلام ، ويخدعون جهال الناس بما يتشبه عليهم "(1).

والخلاف في مسألة الإيمان – مع كونه أول خلاف في الملة – ظل من أعظم قضايا الخلاف بين هذه الأمة في عصورها كلها ، وفي مطلع العصر الحديث أصبحت أعظم القضايا التي تشغل بال هذه الأمة وذلك منذ أن ظهرت دعوة الشيخ محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله التي أعادت الحنيفية جذعة نقية .

فقد أطبق أعداء السنة على أنها دعوة خارجية وفكرة حرورية لأنها – بزعمهم – تكفر المسلمين ، وما كفرت مسلماً قط ، وإنما كفرت المشركين وحاربت المارقين .

ومهما يكن من أمر فقد أحدثت الدعوة المباركة صدى عالمياً كبيراً اضطر مخالفها إلى إعادة النظر في الإيمان والكفر والشرك والتوحيد.

ثم كانت موجة الحملات الصليبية الأخيرة ( الاستعمار ) وفتنة الحضارة الغربية الجاهلية، فذهلت الأمة عن دينها ونسيت انتمائها حتى شاء الله تعالى أن تخرج من بقايا دعوة الشيخ أو من أصدائها دعوات وحركات تنادي بالإسلام من جديد .

وفي العقود الأخيرة خاصة ظهرت بواكير عودة صادقة إلى الإسلام الكامل والتخلص من أثار الغزو الحضاري الكافر وتمثل ذلك في شباب فتحوا أعينهم على أمة منهارة متطاحنة تعاني أمراضاً مزمنة في كل منحى ومجال.

أمة ترضى من دينها إلى الانتساب الاسمي بلا عمل ولا جهاد ولا دعوة ، وتلقي مسؤولية كل عجز ومرض وتخلف وذل على تخطيط الأعداء ومؤامرات الاستعمار.

ثم وقعت في السنوات الأخيرة أحداث كبرى على الساحة الإسلامية أثبتت الفراغ العقدي الهائل الذي يسيطر على الأمة ، والفوضى الرهيبة التي يعاني منها الشباب في التصورات والسلوك.

لقد استطعنا - نحن شباب الإسلام - أن نكسر طوق الولاء المطلق للغرب ، وأن نرفض حضارته الزائفة إلى حد لا بأس به وعرفنا الكثير من عدونا وخططه ومؤامراته، لكننا حتى الآن لم نعرف حقيقة من نحن ؟ وفي أي طريق نسير ؟

نردد: إنا مسلمون وفي طريق الإسلام نسير.. ولكن أقدامنا تصطدم بصخور وركام أنتجتها قرون طويلة من الضلالات والانحرافات.

وعلينا لكي نرتقي بأنفسنا وأمتنا أن نجتاز عقبة شائكة يعترضها ثلاث وسبعون طريقاً , الطريق المنجي منها طريق واحد فقط وما عداه مهلكة ، وهذا الطريق الوحيد هو منهج أهل السنة والجماعة الذي نجزم عن دين ويقين أنه منهج الفرقة الناجية الذي لا يقبل الله سواه .

وإن تعجب فاعجب لكون النظرة الغالبة على كثير من شباب الدعوة الإسلامية اليوم هو أن عقيدة أهل السنة والجماعة لا تعدوا أن تكون تصورات نظرية صحيحة لعالم الغيب وقضايا الاعتقاد وليست - مع ذلك - منهجاً للدعوة والإصلاح والتغيير!!

ويجب أن نعترف بأن السبب في هذا الفهم القاصر هو حملة العقيدة - قبل كل شيء - الذين لم يوضحوا معالمها ويكشفوا عن كمالها الذي هو حقيقة كمال الإسلام نفسه.

ولهذا رأيت من واجبي - وقد وفقني الله لأن أتربى على هذه العقيدة وأعرف حقيقتها العلمية وأتمثل منهجها العملي مستوحى من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ووقائع الدعوات التجديدية السنية - أن أسخر حياتي العلمية لهذا الأمر العظيم .

وقد بدأت ذلك برسالة "التخصص الأولى" . . التي كان موضوعها : ( العلمانية : نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية ) ثم ثنيت بهذه الرسالة لنيل درجة "التخصص العليا" فكانت الأولى تعالج فصل الدين عن الحياة ، والأخرى تعالج فصل الإيمان عن العمل ، كلتاهما على ضوء هذه العقيدة , ومن هنا كانتا تعبران عن قضية واحدة وإن تباعد موضوعاهما ظاهراً.

وقد كانت الأولى بلا ريب طريقاً للأخرى ؛ فمن خلال الدراسة لأسباب العلمانية الطاغية على الحياة الإسلامية المعاصرة رأيت رأي العين أن سبب كل انحراف وذل وهزيمة وفرقة في حياتنا ، لا يزيد عن شيء واحد هو البعد عن منهج أهل السنة والجماعة في العقيدة والسلوك وسبيل الإصلاح .

وانطلاقاً من ذلك كان منهجي في هذه الرسالة يقوم على ثلاثة أسس :

* الأول : دراسة " الإرجاء " على أنه " ظاهرة فكرية " لا " فرقة تاريخية " .

والفرق بين هذين كبير جداً في طبيعة البحث وفي آثاره ونتائجه ؛ فحين نبحث الإرجاء على أنه فرقة من الفرق التي طواها التاريخ فمن أهم ما يفوتنا هو معرفة حقيقة واقعنا المعاصر الذي يسيطر عليه الفكر الإرجائي، وحينئذ لا يزيد البحث عن كونه عملاً " أكاديمياً " يضاف إلى مجموعة المؤلفات التي تتحدث عن تاريخ الفرق وآرائها .

 أما حين نبحثه على أنه ظاهرة فكرية نشأت ثم تطورت إلى واقع ضخم يواجه كل دعوة تجديدية ، ونفسر بها كثيراً من أسباب التخاذل والتردي الذي تعاني منه الأمة عامة والدعوة خاصة ، فإن النتائج الإيجابية لذلك ستنهال علينا من كل جانب ، وحسبنا إن لم نعط القضية حقها أن نثيرها ونبعثها ونخطو في سبيلها ما استطعنا ثم الله يهيئ لها ما يشاء.

ومن هنا انصب الاهتمام على " ركن العمل " وضرورته للإيمان والدعوة وكيف تخلت الأمة عنه مكتفية من الإيمان بالاسم والإقرار .

وهنا لا بد من بيان حقيقة مهمة كان لها أثرها البالغ في منهج البحث : وهي أن الإرجاء لم يكن - في الأصل - دعوة واعية مقصودة لترك العمل والتفلت من الطاعات ، وإنما كان تفسيراً ضالاً لحقيقة الإيمان أنتجته أسباب تاريخية شرحناها في موضعها.

ولكن الأمة وهي تتراخى عن العمل بالتدريج وتنفلت من الواجبات وتنحدر عن قمة الامتثال رويداً رويداً فكانت تجد في الإرجاء تفسيراً مريحاً يبرر لها تراخيها وتفريطها - وهذه حقيقة نفسية معروفة - فكل ما انحسر عنه العمل واقعياً ستره ثوب الإرجاء الواسع نظرياً.

ولهذا لم يكن المرجئة القدماء بحاجة إلى أكثر من كشف شبهاتهم النظرية وردهم بالدليل العلمي الصريح .

ولكن الحال تغير بعد انتشار الظاهرة وسيطرتها ؛ إذ أصبحت الأمة في القرون الأخيرة تتبنى الإرجاء عقيدة ومنهجاً وتعد مخالفة خارجاً مارقاً ، وتضبط دينها وأحكام إيمانها بأصوله وقواعده.

فصارت تعتقد أن التصديق القلبي المجرد من قول اللسان وعمل الأركان هو حقيقة الإيمان الذي أنزل به الله الكتب وبعث به الرسل وجعله مناط النجاة من عذابه في الآخرة ، وتبني على ذلك لوازم وأحكاماً ، أهونها تخطئه السلف في إجماعهم على أنه قول وعمل وعدم تكفير طوائف من المرتدين .

وأصبح معنى كون الصلاة والزكاة والصيام والحج أركاناً للإسلام هو اعتقاد وجوبها والإقرار به وإن لم يعمل من ذلك شيئاً .

ونحو ذلك مما يستغربه الناظر أول وهلة ، ثم يتأمل فإذا هو عندهم حقيقة واقعة.

والأدهى من ذلك أن تقوم بعض اتجاهات الدعوة الإسلامية - التي عملها وغرضها في الأصل إعادة الناس إلى حقيقة الإيمان اعتقاداً وعملاً - على هذا الفكر العقيم وتتبناه وتدعوا إليه ، كما سنبينه في الفقرة التالية .

من هنا كان لا بد من تغيير منهج العرض والمناقشة لقضية الإيمان وعلاقته بالعمل والدعوة بانتهاج منهج يجمع بين الدليل العلمي النظري من النصوص وكلام السلف، وبين الدليل الواقعي المحسوس من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وحقيقة النفس البشرية ذاتها.

وإيضاحاً لذلك نقارن بين نص من كلام أحد رؤوس المرجئة في مرحلة تأسيس الإرجاء، وبين ما يكتبه بعض الدعاة المعاصرين :

يقول عمر بن ذر الهمداني(1) أحد رؤوس المرجئة ، وابن ذر ابن عبد الله الهمداني الذي قال عنه الإمام أحمد : إنه أول من تكلم في الإرجاء " لما رأى العابدون الليل قد هجم عليهم ونظر إلى أهل السآمة والغفلة قد سكنوا إلى فرشهم ورجعوا إلى ملاذهم من الضجعة والنوم ، قاموا إلى الله فرحين مستبشرين بما قد وهب لهم من حسن عبادة السهر وطول التهجد، فاستقبلوا الليل بأبدانهم وباشروا ظلماته بصفاح وجوههم ، فانقضى عنهم الليل وما انقضت لذتهم من التلاوة ولا ملت أبدانهم من طول العبادة ، فأصبح الفريقان وقد ولى عنهم الليل وبربح وغبن .

أصبح هؤلاء قد ملوا النوم والراحة ، وأصبح هؤلاء متطلعين إلى مجيء الليل للعبادة – شتان بين الفريقين.

فاعملوا لأنفسكم رحمكم الله في هذا الليل وسواده فإن المغبون من غبن خير الليل والنهار والمحروم من حرم خيرهما وإنما جعلا سبيلاً للمؤمنين إلى طاعة ربهم ووبالاً على الآخرين للغفلة عن أنفسهم فأحيوا لله أنفسكم بذكره فإنما تحيا القلوب بذكر الله . كم من قائم في هذا الليل قد اغتبط بقيامه في حضرته وكم من نائم في هذا الليل قد ندم على طول نومه عندما يرى من كرامة الله عز وجل للعابدين غداً فاغتنموا ممر الساعات والليالي والأيام رحمكم الله"(1).

فهذا الرجل كان يقول: الإيمان هو الاعتقاد والإقرار فقط ، لكن هل يتصور منه أن يقول: إن مجرد التصديق القلبي دون قول ولا عمل كاف في النجاة عند الله ، أم إن القضية عنده شبهة نظرية مجردة لم يكن لها أي مدلول واقعي إلا الهروب من تكفير صاحب المعصية الذي وقعت فيه الخوارج ؟

غير إن هذا القول نفسه قاله بعض الدعاة المعاصرين امتداداً لظاهرة الإرجاء العامة وقد ذكرنا كلامهم في موضعه.

  • · الثاني: معالجة واقع الدعوة الإسلامية المعاصرة ، فالمشاهد اليوم أن أصحاب الدعوة ينقسمون غالباً - فريقين - ، وكل فريق تتوزعه فرق وآراء واجتهادات :

? أحدهما: فطن إلى أصل القضية ومكمن الدواء فأراد أن يصحح الأصول ويجلي بديهيات الدين ويربط ذلك بالعمل وضرورته لكنه سلك في سبيل ذلك حرفة عقيمة في الفهم ، وإشارة موغلة في الغلو ظاناً أن هذا هو منهج العزيمة والاستقامة ، فوقع في طامة التكفيرـ أعني تكفير أعيان عوام المسلمين من المخالفين.

وهكذا نفر من بدعة ليقع في بدعة شر منها وسد على نفسه منافذ الاتصال بالناس وإيصال الحق لقلوبهم فتحولت دعوته إلى نظرة عميقة تتآكل كل يوم وتفرز بدعاً جديدة واستتبع ذلك انحرافاً خطيراً في منهج التلقي والاستمداد ، حيث وضعت أصول ومعايير لا تقل شراً وخطراً عن شرائع الطواغيت الوضعية. 

? والآخر: انطلق في دعوته بدون منهج واضح ولا تصور اعتقادي متكامل، فلم يتناول الأمر بالتأصيل العلمي بل بالتهويش العاطفي ، فكان أن واجهه أصحاب الفريق الأول بأصول وقواعد لا يملك مثلها ولا يستطيع ردها ، فهرب من التكفير إلى التبرير ، وأخذ يسند هذا الواقع المنحرف ويؤصله بنظريات بدعية ، ووجد في مذهب المرجئةـ الذي أصبح كما قلنا هو الظاهرة الفكرية العامة - بغية وسنداً ، فنسى نفسه ونسى مهمته الأساس وهو تغيير هذا الواقع لا تبريره.

* فالفريق الأول: أعاد مذهب الحرورية جذعاً.

* والآخر: أحيا مذهب المرجئة غضاً ونقله من الدوائر الأكاديمية التقليدية إلى منهج العمل والتغيير !!

وهكذا أصبحت الكتابة عن هذا الموضوع "حقيقة الإيمان" على ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة ضرورية لكبح جماح الغالين ودفع تفريط المقصرين.

  • · الثالث: وهو كالنتيجة للأولين - اختطاط منهج للبحث يزيد على مجرد البحث العلمي النظري للقضية - أي إيراد الأدلة ونقضها - بإضافة عناصر جديدة تخاطب البديهة والوجدان والعقل معاً ، وأهم جانب من ذلك استحضار واقع الجيل القدوة الذي رباه النبي صلى الله عليه وسلم ، والتأسي بهم في استكمال الإيمان والدعوة إليه والحكم على تاركه ، وكذا بيان حقيقة النفس الإنسانية ، التي لا تخلو قط من إرادة وعمل ، وربط بذلك بحكمة الدين وغايته التي هي إصلاح الإرادات  وتزكية الأعمال ، مما بين أن الإيمان اعتقاد وعمل على الحقيقة الشرعية والواقعية والنفسية في آن واحد.

على هذا دارت مباحث هذه الرسالة ، التي أسأل الله تعالى أن ينفعني بها وإخواني المسلمين ، وأن يجعل كل ما بذل فيها من جهد ونَصَب خالصاً لوجهه الكريم . وتبعاً لذلك قسمتها إلى خمسة أبواب :

الباب الأول: يبحث في حقيقة الإيمان وارتباط العمل به من خلال:

(1) دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته.

(2) حقيقة النفس الإنسانية.

(3) حقيقة الإيمان الشرعية.

والباب الثاني: يبحث في التاريخ الفكري للإرجاء منذ نشأته إلى أن أصبح فرقاً كثيرة، ثم ظاهرة فكرية عامة وواقعاً طاغياً ، مع الاهتمام الخاص بقضية " ترك العمل " وحكمها عند المرجئة والأسباب الفكرية لوقوع ذلك.

والباب الثالث: الإرجاء الظاهرة ، وتفصيل الكلام على نوعي الإرجاء، إرجاء الفقهاء والعباد وإرجاء المتكلمين والمتمنطقين ، وحكم ترك العمل في الطور النهائي للظاهرة.

والباب الرابع: تفصيل لعلاقة الإيمان بالعمل ، والظاهر بالباطن مع الاهتمام الخاص بأعمال القلوب التي كان الانحراف فيها من أعظم أسباب انتشار الظاهرة وشرح نماذج منها وهي بعض شروط لا إله إلا الله.

والباب الخامس: بيان أن الإيمان حقيقة مركبة من ركني القول والعمل، توصلاً بذلك إلى معرفة بطلان مذهب المرجئة في حكم تارك العمل مطلقاً، وبيان حكم صاحب الكبيرة على ضوء ذلك ، وسبب ضلال الفرق فيه.

ثم نقض أهم الشبهات النقلية للمرجئة على أن العمل غير داخل في الإيمان.

هذا ولا يفوتني أن أتقدم بخالص الشكر وعظيم التقدير إلى أستاذي الكريم الأستاذ محمد قطب ، الذي بذل من الوقت الثمين والرأي الصائب ما كان له أثره البالغ في إنجاز هذه الرسالة وتقويمها.

كما أشكر للجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية ولجامعة أم القرى بمكة المكرمة ممثلتين في مسئوليهما كافة ، مما أتيح لي من فرصة لطلب العلم وخدمة لتحصيله ، وأخص بالشكر الأخوة العاملين بمركز البحث العلمي، وكذا كل من قدم لي خدمة ، أو أسدى إلى توجيهات من الأساتذة الكرام أو الأخوة الزملاء.

والحمد لله أولاً وآخراً .

الباب الأول

حقيقة الإيمان وارتباط العمل به

ويشتمل على :

* دعوة النبي صلى الله عليه وسلم (ارتباط العمل بحقيقة الدين والدعوة) *

* حقيقة النفس الإنسانية *

* حقيقة الإيمان الشرعية *

الباب الأول

حقيقة الإيمان وارتباط العمل به

مقدمة :

يقول الله تعالى :

{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56].

ويقول جل ذكره:

{كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات  بغياً بينهم فهدى الله الذين ءامنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [البقرة: 213].

ويقول:

{لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز} [الحديد: 25].

هذه الآيات الكريمة انتظمت أصول الغايات والحقائق الكبرى للدين ، وهي:

الغاية من خلق الثقلين وحقيقة مهمتهم.

الغاية من إرسال الرسل وحقيقة دعوتهم.

حقيقة سنة اقتران القوة بالحق لتحقيق تلك الغايات.

فالله تبارك وتعالى خلق آدم وذريته مفطورين على الإيمان والتوحيد ، وظلت الجماعة البشرية الأولى سائرة على هذا المنهج القويم ما شاء الله أن تسير(1) ، ثم أصابتها السنة الكونية {ولا يزالون مختلفين (118) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم }[هود : 118، 119] ، تلك السنة التي تـقتضي وتستلزم من الحكم والمصالح ، وظهور آثار صفات الله عـز وجل ما يعجز عنه البيان .

ومنذ أن وقع الشرك الأول في بني آدم والمعركة قائمة لم تهدأ ، مستعرة لم تخب بين الحق والباطل وبين الإيمان والكفر .

 

وقد تمثل الشرك الأول في الركنين الأساسين لمفهوم العبادة وهما :

1- التقرب والتوجه والتنسك .

2- الطاعة والتشريع والأتباع .

 وهما ركنان متداخلان .

وما صح لدينا من أخبار الأمة الشركية الأولى " قوم نوح " يدل على ذلك :

1- قال الله تعالى عنهم:

{وقالوا لا تذرن ءالهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً} [نوح:23].

وهذه الأصنام التي تنسكت الجاهلية الأولى بالتقرب إليها ، وهي في الأصل " أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كان يجلسون أنصاباً (تماثيل) ، وسموها بأسمائهم ففعلوا ، فلم تعبد (أول الأمر) حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عُبدت" (2).

روى مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته :" ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا : كل مال نحلته(1) عبداً حلال. وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً .. " (2)الحديث.

فهذا انحرافهم في الطاعة والتشريع ، المقارن لشركهم في التقرب والتنسك.

ومن ثبات السنن الدالة على وحدة " المعركة " أولاً وآخراً أن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم , والعرب واقعة في الشرك في هذين الركنين عينهما ، فقد كانت تعبد الأصنام نفسها التي عبدها قوم نوح ، إذ " صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد. أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل ، وأما سواع فكانت لهذيل ، وأما يغوث  فكانت  لمراد. ثم  لبني غطيف  بالجرف عند  سبأ ، وأما  يعوق فكانت لهمدان ،  وأما نسر  فكانت لحمير لآل  ذي الكلاع " (3) ، مع  ما أضافه عمرو بن لحي  الخزاعي (4) والطواغيت بعده من أصنام أخرى كاللات والعزى ومناة وهبل، وتشريعات غيروا بها ملة إبراهيم .

فكانت العرب أيضاً واقعة في شرك الطاعة والاتباع ، وقد ذكر الله تعالى أمثلة له من " البحيرة والسائبة والوسيلة والحامي "(5) وغيرها مما أفاضت فيه سورة الإنعام مثل : قتل الأولاد واستحلال الميتة وما جعلوا لله – مع شركائهم – من نصيب في الحرث والإنعام ، وما جعلوا منها من حجر لا يطعمه إلا من يشاءون – بزعمهم - وما حرموه من ظهورها.. كل ذلك افتراءً على الله وتخرصاً على دينه واتباعاً للشياطين {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوهم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون}  [الأنعام: 121].

وهو ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق عن أصحاب الشرك الأول.

ولمناسبة كون المعركة – من نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم - واحدة، وقضيتها واحدة ، جاء التعبير عن الرسالات جميعاً بأنها " كتاب " واحد - في الآيات السابقة – {وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} [البقرة:213] ، {وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} [الحديد:25].

وقوله: {الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان} [الشورى: 17] ، ونحوها.

كما جاء التعبير عن رفض دعوة الرسل وعبادة غير الله - مهما تباعدت الأجيال وتنوعت المعبودات - بأنه عبادة للشيطان {ألم أعهد إليكم يا بني أدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين (60) وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم} [يس:60،61].

وكذلك جاء وصف أعداء الرسالات من البشر موحداً كذلك وهو " الملأ " المستكبرون أصحاب السلطان والمال وذلك في آي كثير .

وموجز دعوة الرسل جميعاً أنها دعوة واحدة إلى منهج " التوحيد " بكل فروعه وأنواعه وموالاة أهله ، وما يستلزمه ذلك من نبذ الشرك بكل صورة وألوانه ، ومعاداة أهله.

وغاية دعوتهم هي مصلحة العالمين أنفسهم ، لكي تقوم حياتهم بالقسط في الدنيا وينعموا برضا الله وجنته في الآخرة {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107].

ومن هنا ارتبطت دعوتهم بالجهد والعمل ، وارتبط كتابهم بالسيف والحديد.

إن حقيقة المعركة التي خاضها الأنبياء مع أممهم ، والسنة الثابتة في دعوتهم، لا تتجلى إلا لمن عرف حقيقتين مهمتين ينبغي لمن أراد الانضمام لموكبهم الكريم وركبهم الناجي أن يجعل معرفتهما منطلقاً لدعوته وأساساً لمنهجه:

1- طبيعة الدين كما أنزله الله وأراده أن يتحقق في واقع الأرض.

2- طبيعة الجاهلية التي نزل لإبطالها وحربها.

والآن وقد دار الزمان دورة ثالثة حتى أوشك أن يعود كهيئته يوم أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم (حيث تردى الإنسان المعاصر إلا قليلاً في عين ما وقع فيه قوم نوح والعرب من شرك في التقرب والنسك ، وفي الطاعة والتشريع) أصبح لزاماً على أولي البقية الذين ينهون عن الفساد في الأرض تجلية هذه الحقائق عن الدين ، قبل الدخول في أية تفصيلات أو مناقشات مع الفرق المخالفة أو مع المتلوثين بهذا الشرك الجديد ، فالتوحيد هو أول واجب على العبد وأول موضوع للدعوة (1).

ذلك أن الخلل ليس في العمل والسلوك بل تعداه إلى العقيدة ذاتها ، فانحسرت مفهوماتها ، وانحصرت مدلولاتها ، ونسيت المهمة التي جاء الدين من أجلها وقام عليها ، ودرس الإسلام كما يدرس الثوب الخلق حتى لم يبق منه في أكثر البقاع وعند أكثر الناس إلا اسمه ، ولم يبق من القرآن إلا رسمه.

وليس أمام " الغرباء " الذين يريدون القيام مقام " الأنبياء " بهداية الناس للحق ، ويمثلون " الطائفة المنصورة " الناجية التي كتب الله أن تظل على الحق لا يضرها من خالفها ـ ليس أمامهم من خيار في البدء بتصحيح العقيدة ، وتجلية مفهوماتها من خلال هاتين الحقيقتين ، ثم البيان العلمي الواضح لأصول الدين وحقائقه .

وقد دل استقراء نصوص الكتاب والسنة أن هذا الدين يقوم على أصلين : 

1- ألا يعبد إلا الله (بالمعنى الشرعي الكامل للعبادة).

2- وألا يعبد الله إلا بما شرع(2).

هذا في حقيقته وذاته ، أما أسلوبه العلمي ومنهجه الدعوي (وهو الجانب الذي يهمنا الآن) فقد تضمنته آية الحديد السابقة ، التي جعلها شيخ الإسلام ابن تيميه محور كتابه القيم "السياسة الشرعية". قال في مقدمته:

"الحمد لله الذي أرسل رسله بالبينات والهدى ، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ، إن الله قوي عزيز ، وختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، وأيده بالسلطان النصير الجامع معنى العلم والقلم للهداية والحجة ، ومعنى القدرة والسيف  والنصرة والتعزيز"(3).

وقال في خاتمته: "إن قوام الدين بالكتاب الهادي ، والحديد الناصر كما ذكره الله تعالى ـ أي في آية الحديد السابقة - فعلى كل أحد الاجتهاد في اتفاق القرآن والحديد لله تعالى ولطلب ما عنده "(4).

إن اقتران الحديد بالقرآن من أجل إقامة دين الله في الأرض ، ليكشف عن سنة ربانية عظمى في عظمة هذا الدين ، وطبيعة الجاهلية المقابلة ، وهي أن "هذا المنهج الإلهي الذي يمثله الإسلام كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لا يتحقق بالقهر الإلهي على نحو ما يمضي الله ناموسه في دورة الفلك وسير الكواكب وترتب النتائج على أسبابها الطبيعية.

إنما يتحقق بأن تحمله مجموعة من البشر ، تؤمن بالله إيمانا كاملاً ، وتستقيم عليه بقدر طاقتها ، وتجعله وظيفة حياتها وغاية آمالها ، وتجهد لتحقيقه في قلوب الآخرين وفي حياتهم العملية كذلك ، وتجاهد لهذه الغاية بحيث لا تبقى جهداً ولا طاقة. تجاهد الضعف البشري والهوى البشري والجهل البشري في أنفسنا وأنفس الآخرين ، وتجاهد الذين يدفعهم الضعف والهوى والجهل للوقوف في وجه هذا المنهج الإلهي إلى الحد والمستوى الذي تطيقه فطرة البشر"(5).

هذه المجموعة تجاهد الناس بالقرآن {وجاهدهم به جهاداً كبيراً} [الفرقان:52] ، وتجاهدهم بالحديد {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} [البقرة: 251] ، حتى يستقيموا إلى الله ويستقيموا على دين الله ، وهذا ما أعلنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : " بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري ، ومن تشبه بقوم فهو منهم "(1).

وقوله : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله "(2) .

مع نصوص كثيرة لا تحصى ، وليس هذا خاصاً بمحمد صلى الله عليه وسلم ، بل هو سنة جارية في الأنبياء قبله وإن اختلفت صور الجهاد والابتلاء ، فما عليهم إلا الصبر والدعوة أما النصر والتمكين فمن عند الله .

وقد كان الناس الذين يملكون أثارة من علم يعلمون هذه الحقيقة ، قبل أن يقرءوها في  كتاب الله تعالى ، بل قبل أن ينزل بها.

فهذا ورقة ابن نوفل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم بعد سماعه خبر نزول الوحي لأول مرة : " ليتني فيها جذعاً ، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك ! ‍‍".

فيسأله النبي صلى الله عليه وسلم في استغراب : " أو مخرجي هم ؟ ‍". فيقول ورقة : " لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي "(3).

وهذا قيصر الروم يقول في حديثه مع أبي سفيان : " سألتك كيف كان قتالكم إياه ، فزعمت أن الحرب سجال ودول ، فكذلك الرسل تبتلى ثم يكون لهم العاقبة "(4).

وهذا ما صدقه الله بقوله تعالى :

{أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب} [البقرة:214].

وفي هذا رد - وأيما رد - على الذين يحسبون الإيمان نظرية تعلق بالفكر ، يستوجب صاحبها الجنة بلا ابتلاء ولا زلزلة (5)، وهو ما تأباه سنة الله الثابتة هذه ، وتأباه طبيعة الإيمان نفسها ، بل طبيعة الجاهلية أيضاً.

فلا الإيمان كان نظرية مجردة ، ولا الجاهلية كانت كذلك ، ولا يكون ذلك أبداً ، بل هنالك سنة من سنن الاجتماع البشري ، يشهد بها الواقع المحسوس والتاريخ المسطور ، وهي أن "هذه الجاهلية التي واجهها كل رسول بالدعوة إلى الإسلام لله وحده ، والتي واجهها الداعية العظيم محمد صلى الله عليه وسلم بدعوته ، والتي واجهها الدعاة في كل زمان وفي كل مكان. إن الجاهلية لم تكن متمثلة في نظرية مجردة ، بل ربما أحياناً لم تكن لها نظرية على الإطلاق إنما كانت متمثلة في تجمع حركي ، متمثلة في مجتمع خاضع لتطورات وقيم ومفاهيم ومشاعر وعادات ، وهو مجتمع عضوي بين أفراده ذلك التفاعل والتكامل والتناسق والولاء والتعاون العضوي، الذي يجعل هذا المجتمع يتحرك بإرادة واعية أو غير واعية للمحافظة على وجوده والدفاع عن كيانه والقضاء على عناصر الخطر التي تهدد ذلك الوجود وهذا الكيان في أي صور التهديد"(6).

وهذه الطبيعة المتأصلة في الجاهلية جاء الحديث عنها في القرآن في مواضع كثيرة وتصويرها في مواقف كثيرة من أمثال:

{وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين (13) ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد} [إبراهيم: 13، 14].

{قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين (88) قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علماً على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين} [الأعراف:  88 ، 89].

{ولوطاً إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون (54) أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون (55) فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون} [النمل:54، 56].

{وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض  الفساد} [غافر: 26].

{وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيرا} [الفرقان: 31].

{وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون} [الأنعام: 112].

{وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون} [الأنعام: 123].

{وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} [الأنفال:30].

وإيضاحاً لهذا الإجمال ، وتفصيلاً لهذه الحقائق ، رأيت عرض ظاهرة العمل وعلاقتها بالإيمان من خلال :

1- تتبع المسيرة التاريخية لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم ، التي بها تظهر طبيعة هذا الدين في حركته ، والصورة المثلى لقيامه وتحققه في واقع الأرض ، كما تظهر بها الحقيقة الثابتة في الجاهلية سواء في النفوس أو في الأمم.

2- دراسة النفس الإنسانية ومعرفة طبيعة همها وسعيها ودوافع ذلك وضوابطه ، وربط ذلك بواقع الجيل الأول وحقيقة التوحيد الصافية ، إذ بها تظهر حقيقة الإيمان التي أنزله الله ليزكيها ويوجهها فجعله ملائماً لها متسقاً مع فطرتها شاملاً لكل حركتها.

ثم ننتقل بعد ذلك إلى حقيقة الإيمان العملية والنظرية كما هي في الكتاب والسنة ، وعقيدة أهل السنة والجماعة ، لنرى مدى التوافق والتطابق والانسجام .

دعوة النبي صلى الله عليه وسلم

{ارتباط العمل بحقيقة الدين والدعوة}

تعد الفترة السابقة لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم ( ق6 و7 م ) من أحلك القرون في تاريخ الجماعة الإنسانية وأكثرها ضلالاً وضياعاً. ولهذا استحقت المقت من الله تعالى كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب"(1).

فالعالم الأرضي كله يتخبط في ظلمات الأديان المحرفة والوثنيات الكالحة والأنظمة الطاغوتية ، وكان هذا العالم ينقسم قسمين كبيرين:

1- القسم البدائي.                                       2- القسم المتحضر.

أما القسم الأول: وهو يشمل الشعوب الهمجية التي تقطن غرب أوروبا ووسط آسيا وشرقها ومعظم إفريقية . فحالة غني عن الشرح والبيان ، وهو إلى حياة السوائم أقرب منه إلى حياة البشر في كل مناحي الحياة.

والنماذج الباقية منه الآن تعطي صورة مصغرة منه للحال التي كان عليها في ذلك الزمن الغابر.

وأما القسم الأخير: فأبرز من يمثله الدولتان العظيمتان "فارس والروم" ، وكلاهما كان يخضع لنظام طاغوتي استبدادي ، ويدين بدين باطل منحرف.

فالفرس يدينون بالمجوسية ، والروم يدينون بالديانة التركيبية التي أسسها بولس وأظهرها قسطنطين "المسيحية".

والنظام الاجتماعي في الدولتين كلتيهما من أبشع النظم في التاريخ من حيث التمييز العنصري والتفاوت الطبقي.

وكان أعظم مظاهر الانحطاط في هذه الأمم - بل هو أصل الفساد كله، هو عبودية البشر للبشر ، تلك العبودية التي نعاها عليهم منقذ الإنسانية رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في كتابه لقيصر (2)، وواجه بها ربعة ابن عامر قائد جيوش كسرى(3)، سواء العبودية لطواغيت الخرافة والتدين ، أو طواغيت الحكم والتسلط ، وفي واقع دولة أهل الكتاب التي هي خير ما على الأرض حينئذ ما يوضح ذلك.

فالطبقات السفلى تعبد العليا والكل يعبد الإمبراطور ، والدين يشرعه السدنة والأحبار والرهبان ، والقوانين يسنها الأباطرة (4) والنبلاء ، والجيوش الجرارة تحمي هذه الأنظمة الجائرة والأوضاع الظالمة أيما حماية ، وما من مواطن إلا هو مستعد - طوعاً أو كرهاً - لإراقة دمه في سبيل ما أسموه "شرف الإمبراطور والوطن" كما هو خاضع في عقيدته وتدينه لما يشرعه رجال الدين.

أما الشعوب ، الخاضعة لحكم هاتين الدولتين - ومنها سكان العراق والشام ومصر فقد كانت ترزح تحت نير الاستبداد الغاشم والجبروت القاهر ، وحسبك أنهم كانوا كالعبيد لعبيد الإمبراطورية.

أما عقائدهم الدينية فيجب أن تكون تبعاً لما تقرره مجامع روما أو القسطنطينية وإلا فالإبادة والاستئصال وقرارات اللعن والحرمان من الجنة‍.

ويقرب من حال هاتين الدولتين الهند ، إلا أن دينها أكثر إسفافاً ، ونظامها الطبقي أشد بشاعة.

وأما عرب الجزيرة فهم خاصة في حياتهم القبلية وعاداتهم الراسخة أقرب إلى حال الشعوب الهمجية المذكورة في القسم الأول ، لولا ما خصهم الله به من ميزات إرهاصاً لحمل الرسالة العظمى إلى أمم الأرض قاطبة.

والحاصل أن العالم البشري(1) كله كان يعيش واقعاً رهيباً لا يتصور بأي حال من الأحوال إصلاحه من داخله ، أي من خلال حضارته وثقافته وحكمته.

فالقسم المتحضر – خاصة - لم يكن مفلساً من ذلك ، بل كانت له فلسفاته وثقافته وتجاربه ، وقد كان من بين أيدي أممه من مأثورات بوذا وبيدبا وأفلاطون وأرسطو وأردشير وبزرجمهر وأضرابهم الشيء الكثير(2).

كما كان عند العرب من رصيد الحكم ومشهور الأمثال والعبر الذخر الوفير.

فقد كان لديهم دعاة السلم الصارخون كزهير ، وأساطين الحكمة المجربون كأكثم ، والوعاظ المنذرون بسوء المصير مثل قس بن ساعدة..

ولكن هذا الواقع الضخم المظلم لم يكن ليتغير بالنظريات ولا بالحكم المجردة ، بل إن النظريات الفلسفية خاصة لهى إحدى الدعامات الطاغوتية التي قام عليها هذا الواقع في مجال العقيدة والفكر.

أما الحكم الأخلاقية والعبارات التهذيبية مهما نمقها الحكماء وأرسلها الخطباء فهي أشبه بفقاعات في ذلك المحيط الهائج.

هذا  في العالم الممقوت ، وأما بقايا أهل الكتاب المستمسكون بأثارة نبوية فهم من الندرة بمكان ، ثم إنهم قابعون في زوايا النسيان والإهمال ، ينتظرون رسول آخر الزمان بفارغ الصبر ، أو ينتظرون ريب المنون ليخلصهم من هذا الواقع الأليم.

وأما الباحثون عن الدين الحق - على ندرتهم - فمنهم من قتله اليأس والكمد ، ومنهم من اعتنق بعض تلك الأديان لأنه لم يجد سواها (3) ، ومنهم من كتب له الفوز فأدركه النور وانتشلته الرحمة الربانية وهو غارق في متاهات البحث.

والمقصود أن هؤلاء كانوا أعجز وأقل من أن يفكروا في إصلاح شيء من هذه الدنيا المائجة بالضلال والظلام.

لقد كان العالم في أشد الحاجة إلى رحمة إلهية تنقذه من براثن الانهيار المحتوم.

وجاءت هذه الرحمة في النور المبين الذي نزل على النبي الأمي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء:107].

نزل هذا النور ليزيح هذا الواقع الكالح ، ويرفع كابوسه عن الثقلين ، ويقيم مكانه واقعاً يرضاه الله ، وتطمئن له الفطرة ، وترتاح إليه العقول ، وتتحقق فيه الكرامة الإنسانية التي لا تتحقق أبداً إلا بالعبودية الخالصة لرب العالمين والانخلاع الكامل عن عبودية المخلوقين.

ومعنى هذا ومقتضاه أن تلك الإمبراطوريات ، وتلك المعتقدات ، وتلك الأوضاع ، والتقاليد ، وتلك الأنظمة والقوانين ، وتلك الفلسفات والثقافات ، سوف تجتث من جذورها وتستأصل من عروقها ، سواء في واقع الأرض أو في واقع النفوس ، وأن ما زوى الله لحبيبه محمد من الأرض (4) سوف يتطهر من هذه الأرجاس والأديان ويستضيء بنور الهدى والفرقان.

ومعنى هذا أن تلك الجيوش الإمبراطورية الجرارة التي عجز بعضها عن سحق بعض ، لا بد أن يظهر مقابلها جيش إيماني يسحقها جميعاً.

ومن معناه كذلك أن نفوس الملايين من البشر الذين توارثوا تلك الضلالات والخرافات ، وأشربوا في قلوبهم آثارها المدمرة ، لابد لها من تزكية ربانية تحرق الشبهات ، وتحطم الشهوات ، وتستأصل الأمراض المتغلغلة ، والضغائن المتأصلة ، والالتواءات النفسية العميقة.

وهذا عمل ضخم هائل ، لا يدرك حقيقة ضخامته إلا من أدرك ضخامة هذا الواقع الأرضي الثقيل الطاغي في مقابل رجل واحد ، ثم قاس ذلك بمعاناة الأنبياء السابقين صلوات الله وسلامه عليهم مع أممهم.

فهذا نوح عليه السلام يدعوا قومه ألف سنه إلا خمسين عاماً بنص القرآن، ثم لا يؤمن معه إلا قليل بنص القرآن أيضاً ، وهذا القليل - مع اختلاف الأقوال في تحديده - لم ينقل أنه زاد عن مائة نفس (1).

وكثير من الرسل بعده كانوا كذلك ، بل كان منهم من لم يتبعه إلا الرجل والرجلان ، ومنهم من لم يتبعه أحد (2).

وهذا وهم إنما بعثوا إلى أقوامهم خاصة ، فكيف بمن بعث للثقلين عامة وأمر بمجاهدة الدنيا قاطبة ، كما ورد في الحديث الجامع العظيم الذي رواه عياض ابن حمار رضى الله عنه ، ومنه: "وأن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك ، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء ، تقرؤه نائماً ويقظان. وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً ، فقلت: رب إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة ، قال: استخرجهم كما استخرجوك ، واغزهم نغزك ، وأنفق فسننفق عليك ، وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله ، وقاتل بمن أطاعك من عصاك"(3).

إن هذا الحديث يعطي فيما يعطي من دلالات: اعتبار ذلك الواقع الضخم ومراعاته ، وكذلك ضخامة التكليف وعبء الحمل ، كما يوضح مع ذلك كيف تلتقي السنن الربانية - ومنها سنة اشتراط الجهد البشري وابتلاء بعض الناس ببعض - مع سنة العهد الرباني بنصر أوليائه وإن طال الابتلاء ، فهما مقترنتان متضافرتان تعملان عملاً واحداً في النهاية.

وهنا نحتاج أن نقف وقفة طويلة لنستجلي الإيمان بالعمل ، والعقيدة بالحركة ، من خلال مسيرة هذا الدين الواقعية ووجوده المادي في الأرض.

إن الإعداد لتلك المهمة الضخمة - المشار إليها - يبدو ظاهراً جلياً في كل مرحلة من مراحل الدعوة ، بل في كل خطوة من خطواتها ، فالأمر كله جد ونصب ، وكله صبر وابتلاء.

 

1- فمنذ اللحظة الأولى لنزول هذا الدين تأتي الشدة والإجهاد في معاناة تلقي الوحي ، وتبدأ المخاوف والنذر الثقيلة لمستقبل من يحمله.

فقد روت أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها أن "أول ما بدئ به الرسول من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها ، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء. فجاءه الملك ، فقال: اقرأ, فقلت: ما أنا بقارئ ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ, فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني ، فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم} فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة بنت خويلد رضى الله عنها ، فقال: "زملوني ، زملوني" فزملوه حتى ذهب عنه الروع. فقال لخديجة - وأخبرها الخبر - : "لقد خشيت على نفسي". قالت: خديجة: كلا ، والله ما يخزيك الله أبداً ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى - ابن عم خديجة - وكان امرأ تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبراني ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخاً كبيراً قد عمى.

فقالت له خديجة: يا بن عم ، اسمع من ابن أخيك.

فقال له ورقة: يا بن أخي ، ماذا ترى ؟

فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى.

فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى ، يا ليتني فيها جذعاً ، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو مخرجي هم ؟"

قال: نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً ، ثم لم ينشب ورقة أن توفي ، وفتر الوحي"(1).

فمن المعاناة الصعبة في تلقي الوحي إلى السنة الربانية "لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي"(2) ، جاء الإيذان بأمر عظيم منتظر.

2- ثم بعد فترة الوحي هذه التي هي كأنما هي فترة استقرار لروع النبي صلى الله عليه وسلم بعد تلك المفاجأة الكبرى , تأتي خطوة-أو جولة-أخرى تحدث عنها النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً :

"بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء ، فرفعت بصري ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فرعبت منه فرجعت فقلت: زملوني. فأنزل الله تعالى: {يا أيها المدثر (1) قم فأنذر(2) وربك فكبر(3) وثيابك فطهر (4) والرجز فاهجر (5)} الآيات"(3).

وهي آيات كلها -كما ترى - أوامر سريعة متلاحقة ، تأمر بالمبادرة والمفاصلة والصبر ، وتنقل صاحب الشأن من هدأ الروع النفسي إلى ميدان الإنذار الأكبر للعالم أجمع.

ومنذ أن نزلت {قم فأنذر} قام صلى الله عليه وسلم قياماً جهادياً متواصلاً دائباً ، نازل به قومه والعرب قاطبة ، واليهود ثم الإمبراطورية الرومانية …

فكان كما قال صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وكتب الذل والصغار على من خالفني.."(4)

3- بعد ذلك - وما هو منه ببعيد - نزل الأمر بالقيام مرة أخرى ومعه مهام جديدة، فقد نزل مطلع سورة المزمل:

{يا أيها المزمل (1) قم الليل إلا قليلا (2) نصفه أو انقص منه قليلا (3) أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا (4) إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً (5) إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلاً (6) إن لك في النهار سبحاً طويلاً (7) واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا (8) رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً (9) واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً (10) وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً (11) إن لدينا أنكالاً وجحيماً…} الآيات.

وهذه السورة تعطي - أبرز ما تعطي - الزاد الأصيل الذي لابد منه لمن يريد حمل هذه الدعوة ومقارعة العالمين بها ، ذلك هو زاد الصلة القوية بالله ، والتزكية الروحية بالتقرب إليه ، ومناجاته في أرجى ساعات المناجاة وأصفاها.

وامتثل النبي صلى الله عليه وسلم -كالعادة - وتزود بهذا الزاد الزكي ، وشاركه في ذلك صحبه الكرام.

فقد روى الإمام أحمد ومسلم - رحمهما الله - من حديث سعد بن هشام - ضمن قصة جديرة بالإطلاع أنه سأل عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها عن قيام النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: "ألست تقرأ يا أيها المزمل؟ قلت: بلى ، قالت: فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً ، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف ، فصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة"(5).

وفي روايات لغيرهما أنهم قاموا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم أو انتفخت (6) ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استمر على ذلك ـ التزاماً من عند نفسه – فكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه ، فقالت عائشة : لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : "أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً"(7) .

4- وصدع رسول الله بالدعوة ، وسفه أحلام المشركين وعاب آلهتهم ، فثارت عليه قريش ثورة رجل واحد ، وأثارت معها العرب قاطبة ، ولقي صلى الله عليه وسلم من الأذى والبلاء صنوفاً وألواناً. من ذلك ما رواه عروة بن الزبير رضي الله عنه حين قال: "سألت ابن عمرو بن العاص : أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : بينا النبي صلى الله عليه وسلم في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه على عنقه فخنقه خنقاً شديداً ، فأقبل إليه أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله"(1).

5- ومشهد آخر للأذى التي تتورع عنه النفوس الطاغية الدنيئة يرويه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ؛ وهو "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند البيت ، وأبو جهل وأصحاب له جلوس ؛ إذ قال بعضهم لبعض : أيكم يجيء بسلى جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد ؟ فانبعث أشقى القوم فجاء به ، فنظر حتى إذا سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه على ظهره بين كتفيه – وأنا أنظر لا أغني شيئاً ، لو كانت لي منعة! – قال : فجعلوا يضحكون ويحيل – أو يميل - ، بعضهم على بعض"(2)

6- هذا عدا الأذى الأكبر من تكذيبه وهو الناصح الأمين ، والإعراض عنه وهو النذير المبين بين يدي عذاب شديد ، وعدا ما افتراه عليه قومه ونبزوه من ألقاب الزور ؛ كقولهم : إنه شاعر أو كاهن أو مجنون ، أو يتلقى الوحي عن بعض الأعجمين ، أو اكتتبه من أساطير الأولين وأعانه عليه قوم آخرون ، وغير ذلك مما حكاه الله عنهم في كتابه العزيز ، وهو بلا شك أشد وقعاً على النفوس البريئة من ضرب السيوف ووقع النبال.

ولهذا طمأنه ربه وصبره وسلاه فقال : {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً} [الكهف :6] ، أي مهلكها بالحزن والأسف.

وقال: {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون} [فاطر:8].

وقال:

{ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } [الأنعام :33 ].

7 – وقد حدث النبي صلى الله عليه وسلم عن مشهد من مشاهد الأسى القاتل والأسف البالغ حين يبلغ الحد بالإنسان أن ينسى نفسه في غيبوبة الهم والحزن ، قالت عائشة رضي الله عنها ، يا رسول الله : "هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟

قال : "لقد لقيت من قومك ما لقيت ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال ، فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني ، فنظرت فإذا فيها جبريل(3)، فناداني فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك ، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ، فناداني ملك الجبال فسلم عليّ ، ثم قال : يا محمد ، فقال : ذلك فيما شئت ، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً"(4).

8 – وقد عاني أصحابه رضي الله عنهم أشد المعاناة ، وما تعذيب آل بلال وآل ياسر إلا نماذج من ذلك ، بل إن الأذي يصل إلى أشراف القوم من أمثال الصديق رضي الله عنه.

ومع ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم ينفث في أرواحهم الأمل ، ويذكرهم بسنة الله في أنبيائه والدعاة إليه على النحو الذي رأيناه مع ملك الجبال.

فقد روى البخاري في باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين عن خباب رضي الله عنه قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة – وقد لقينا من المشركين شدة – فقلت : يا رسول الله ، ألا تدعو الله لنا ؟ فقعد وهو محمر وجهه(1) فقال : "لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه ، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله – زاد بيان – والذئب على غنمه"(2).

9- وبلغ الأذى قمته في الحصار المادي والمعنوي الذي ضربته قريش ظلماً وعدواناً على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن عطف عليهم من قرابتهم.

قال الزهري: "ثم إن المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا حتى بلغ المسلمين الجهد، واشتد عليهم البلاء، واجتمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية.

فلما رأى أبو طالب عمل القوم جمع بني عبد المطلب وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم ويمنعوه ممن أراد قتله، فاجتمعوا على ذلك مسلمهم وكافرهم, فمنهم من فعله حمية ، ومنهم من فعله إيماناً ويقيناً ، فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمعوا على ذلك ، اجتمع المشركون من قريش ، فأجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهوداً ومواثيق؛ لا يقبلوا من بني هاشم أبداً صلحاً، ولا يأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل.

فلبث بنوا هاشم في شعبهم ثلاث سنين ، واشتد عليهم البلاء والجهد ، وقطعوا عنهم الأسواق ، فلا يتركوا طعاماً يقدم مكة ولا بيعاً إلا بادروهم إليه فاشتروه ؛ يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم الرسول صلى الله عليه وسلم..".

ثم ذكر تخوف أبي طالب من اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم وما دبر لدرء ذلك من الحماية وما أصاب المسلمين من جهد.

وقال ابن إسحاق: "ثم عدوا على من أسلم فأوثقوهم وآذوهم ، واشتد البلاء عليهم وعظمت الفتنة وزلزلوا زلزالاً شديداً" وذكر ما بلغ بهم من الجهد الشديد "حتى كان يسمع أصوات صبيانهم يتضاغون من وراء الشعب من الجوع".

قال السهيلي: "في الصحيح أنهم جهدوا حتى كانوا يأكلون الخبط وورق السمر ، حتى إن أحدهم يضع كما تضع الشاه"(3).

10- وصل الأمر إلى حد أن المسلمين لا يستطيعون دعوة الناس إلى الله، ولا يستطيع  الداخل  في الإسلام  حديثاً أن يجاهر بذلك ، كما يتجلى في قصة إسلام أبي ذر التي رواها عبد الله بن عباس رضى الله عنهما ، قال: "لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء ، واسمع من قوله ثم ائتني.

فانطلق الأخ حتى قدمه ، وسمع من قوله ، ثم رجع إلى أبا ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق ، وكلاماً ما هو بالشعر.

فقال: ما شفيتني مما أردت.

فتزود وحمل شنه له فيها ماء حتى قدم مكة ، فأتى المسجد فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه ، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل ، فرآه عليّ فعرف أنه غريب ، فلما رآه تبعه فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح!! ، ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد ، وظل ذلك اليوم ولا يراه النبي حتى أمسى ، فعاد إلى مضجعه ، فمر به علىّ فقال: أما آن للرجل أن يعلم منزله؟ فأفاق فذهب به معه لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء!!.

حتى إذا كان يوم الثالث فعاد على علىّ مثل ذلك ، فأقام معه ثم قال: ألا تحدثني ما الذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدنني فعلت! ففعل فأخبره ، وقال: فإنه حق ، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك قمت كأني أريق الماء ، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي.

ففعل ، فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه ، فسمع من قوله وأسلم مكانه.

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري".

قال: والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيكم! ، فخرج حتى أتى المسجد ، فنادي بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. ثم قام القوم فضربوه حتى أوجعوه. وأتى العباس فأكب عليه ، قال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار ، وأن طريق تجارتهم من الشام عليهم ؟ فأنقذه منهم ، ثم عاد من الغد لمثلها ، فضربوه وثاروا إليه ، فأكب العباس عليه"(1).

هكذا كانت المعاناة وكان الجهاد قبل الهجرة بل قبل نزول الفرائض.

وهنا لا بد من وقفة سيأتي لها مزيد ببيان:

إن بعض السلف يحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة" ونحوه من النصوص والروايات المطلقة على أن ذلك قبل نزول الفرائض(2)، وذلك ليردوا على المرجئة في قولهم: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان ، مستدلين بمثل هذه النصوص. وهذا أحد أوجه الرد عليهم ، غير أنه لا يعني أن هؤلاء السلف كانوا يظنون أن الإيمان قبل نزول الفرائض كان مجرداً عن العمل ، مقتصراً على تصديق القلوب وقول اللسان ، فهذا ما لا يجوز أن يظن بهم وهم أعرف الناس بمعنى لا إله إلا الله وأعلمهم بهذه المعاناة الكبرى والواجبات الثقيلة التي تلقاها المؤمنون الأولون - وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم - قبل نزول الفرائض ، وهو ما أفاض القرآن المكي في الحديث عنه تثبيتاً وتسلية وتوجيهاً وتذكيراً.

إن شهادة أن لا أله إلا الله لم تكن مجرد كلمة تقال باللسان ، ولا يمكن أن تكون كذلك في أي مرحلة من مراحل الدعوة ، فضلاً عن مرحلة التأسيس التي هي من أشق المراحل وأهمها. وإلا فما معنى تلك المعاناة القاسية وما موجبها ؟

وإنما كانت هذه الشهادة نقلة بعيدة ومعلماً فاصلاً بين حياتين لا رابطة بينهما: حياة الكفر وحياة الإيمان ، وما يستلزمه ذلك من فرائض وتعبدات ، ومشقات أكبر وأعظم من فريضة الصلاة والزكاة ونحوها.

1- من ذلك: فريضة التلقي الكامل عن الله ورسوله ، ونبذ موازين الجاهلية وقيمها وأخلاقها وأعرافها وتشريعاتها.

2- ومن ذلك: الولاء المطلق لله ورسوله ، والعداء الصارم للكفار ولو كانوا آباءً وإخواناً وأزواجاً وعشيرة.

3ـ ومن ذلك: فريضة الصبر على الأذى في الله ، الذي لا تطيقه إلا نفوس سمت إلى قمة تحمل الفرائض والواجبات ، حتى إن الواحد ليكره أن يعود إلى  الكفر كما يكره أن يلقى في النار.

وهذا ونحوه ما كان يعانيه بلال وهو يُسحب في رمضاء مكة وتلقى عليه الأثقال. وما يكابده سعد وهو يرى أمه تتلوى جوعاً ، فيقسم لها لو أن لها مائة نفس فتظل تخرج نفسًا نفسًا حتى تهلك لما رجع عن دينه. وما كان آل ياسر يلقونه وهم يتعرضون لأعظم بلاء تشهده أسرة مضطهدة. وهو ما واجه أبو ذر حين صاح أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وغير ذلك كثير وكثير مما كان قبل أن تنزل الفرائض (1)!

إن في إمكان الإنسان أن يصلي ما شاء الله له ، وينفق بما شاء الله له دون أن يناله كبير مشقة ، ولكن أي إنسان هذا الذي يستطيع أن يخالف عادة اجتماعية درج عليها المجتمع والأقارب أجيالاً ، ويتحدى هؤلاء بمخالفتها؟ أو يستطيع أن يقلع عن عادة نفسية وصلت به إلى حد الإدمان؟

فما بالك إذا كان الأمر ليس مجرد مخالفة عادة أو تقليد ، وإنما هو مفاصلة كاملة ومنابذة تامة لكل عبادة جاهلية وقيمة جاهلية وعرف جاهلي وميزان جاهلي. ثم هو مع ذلك زجر قاطع للنفس عن شهواتها وملذاتها , ومراقبة شديدة لها ، ولهذا رأينا النماذج الكثيرة في الجيل الأول ممن يشهد أن لا إله إلا الله فيعود من فوره إلى بيته ليحطم الأصنام التي طالما عبدها وليقطع العلائق التي طالما وثقها.

إنه حتى على المنطق الجاهلي لا يصح أن نتصور إيماناً بدون تكاليف ، وشهادة بلا أثر في واقع الحياة ، وإلا أفكان الجاهليون يقتلون مواليهم ويعذبون أبنائهم وإخوانهم ويقطعون أرحامهم لمجرد كلمة تقال باللسان أو نظرية ذهنية في المعرفة؟

11- وهكذا كانت كل خطوة من خطوات الدعوة تسير على الشوك والأذى ، حتى كانت الخطوة الفاصلة بالهجرة إلى المدينة ، فاكتنفها من المصاعب والشدائد ما هو أشهر من أن يذكر ، فقد كانت عيون قريش تلاحقه ورصدها يطارده ، حتى قلبوا الجبال  والمغارات إلى أن وقفوا على الغار نفسه الذي كمن فيه هو وصاحبه ، وكانوا من العثور على فريستهم قاب قوسين أو أدنى.

قال أبو بكر الصديق رضى الله عنه: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في العار فرأيت آثار المشركين ، قلت: يا رسول الله لو أن أحدهم رفع قدمه - وفي رواية أحمد: نظر إلى قدميه - رآنا ، قال: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما"(2).

ومع اليقين في وعد الله بالحفظ والتمكين لم ينس النبي صلى الله عليه وسلم السنة الشرعية ، فقد كانت هناك خطة محكمة فريدة تتمثل في اختيار الغار وتضليل المشركين بجهته ، ثم كان ما تحدثت عنه عائشة رضى الله عنها بقولها: "ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بغار في جبل ثور فمكثا فيه ثلاث ليال. يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثـقـف لقن ، فيدلج عندهما بسحر ، فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمراً يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام.

ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولي أبو بكر منحة من غنم ، فيريحا عليهما حين تذهب ساعة من العشاء ، فيبيتان في رسل - وهو لبن منحتهما ورضيفهما - حتى ينعق بها عامر بن فهيره بغلس ، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث.

واستأجر رسول الله صلى الله عليه سلم رجلاً من بني الديل فأمناه. فدفعا إليه راحلتيهما ، وانطلق معهما عامر بن فهيره والدليل فأخذ بهم طريق السواحل"(3).

وبقدر ما كانت الهجرة إلى المدينة ووضع نواة الدولة الإسلامية خلاصاً للدعوة ، وخروجاً بها من مأزق الجمود والحصار الذي كان مضروباً عليها بمكة, كانت أيضاً بداية لمصارعة قوى جديدة ، والعمل في محيط لا يقل عداء وصعوبة عن مكة ، وإن تغير الموقف في الظاهر.

فقد كان على الدعوة أن تصارع العرب المشركين قاطبة - وليس قريشاً وحدها -، واليهود – أمكر خلق الله وأحقدهم - ، والمنافقين - ذلك العدو الأرقط الجديد - وأن تحسب الحساب لمجابهة الدولتين العظمتين فارس والروم. وهذا يستدعي تكاليف باهظة وتبعات جديدة.

هذا كله وهو إلى جانب العبء الأساسي وهو تزكية هذه الجماعة المؤمنة، وإيجاد الترابط الإيماني المنشود بينهما ، وإعدادها لحمل الأمانة العظمى.

ومنذ أن حمل النبي صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة اللبن لبناء المسجد لم يزل بانياً لصرح ما شهد العالم الأرضي مثله حتى لقي ربه ، فقد بنى - بأمر ربه وإذنه - أمة فذة ودولة فريدة تتقاصر دونهما أحلام الحكماء وتخيلات الشعراء.

لقد كانت الجماعة الأولى فذة في تركيبها ومنهجها ونموها وحركتها ، كل ذلك لأن عين الله تعالى ترعاها ووحيه يربيها ويزكيها.

لكن كيف كانت التزكية؟! أهي الأوامر والنواهي وحدها أم التصورات الاعتقادية المجردة ؟!. كلا بل كانت حلقات قاسية من المعاناة والتربية بالأحداث والتجارب والفتنة والابتلاء.

12- فبعد سنة ونصف تقريباً من بناء المسجد كانت معركة "بدر" ، وهي أعظم وأعمق الأحداث في تلك المرحلة ، بل ربما كانت أول مواجهة حربية بين كتيبة الإيمان وجيوش الشرك منذ المعركة التي خاضها طالوت وداود مع جالوت وجنوده(1) ، وهذا يعطيها قيمة كونية كبرى.

وليس المجال هنا مجال الحديث عن بدر وفضل من شهدها وقيمتها العظيمة تلك ، وإنما المراد أن نقول: "إنه مع كل عظمة هذه الغزوة فإن قيمتها لا تتضح أبعادها الحقيقية إلا حين نعرف طبيعتها ، وحين نراها حلقة من حلقات "الجهاد في الإسلام"، وحين ندرك بواعث هذا الجهاد وأهدافه ، كذلك نحن لا ندرك طبيعة الجهاد في الإسلام وبواعثه وأهدافه قبل أن نعرف طبيعة هذا الدين ذاته"(2).

إن هذه المعركة هي بداية مرحلة عليا من مراحل الجهاد ، وهي مرحلة {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله}(3). ومن مراحل الجهاد المتدرجة ـ ومن هذه المرحلة خصوصاً - "تتجلى سمات أصيلة وعميقة في هذا المنهج الحركي لهذا الدين" استنبط الأستاذ سيد قطب رحمه الله منها أربعاً:

* "السمة الأولى: هي الواقعية الجديدة في منهج هذا الدين    

فهو حركة تواجه واقعاً بشرياً ، وتوجهه بوسائل مكافئة لوجوده الواقعي. إنها تواجه جاهلية اعتقادية تصورية تقوم عليها أنظمة واقعية عملية تسندها سلطات ذات قوة مادية.

ومن ثم تواجه الحركة الإسلامية هذا الواقع بما يكافئه ، تواجهه بالدعوة والبيان لتصحيح المعتقدات والتصورات ، وتواجهه بالقوة والجهاد لإزالة الأنظمة والسلطات القائمة عليها ، تلك التي تحول بين جمهرة الناس وبين التصحيح بالبيان للمعتقدات والتصورات ، وتخضعهم بالقهر والتضليلل وتعبدهم لغير ربهم الجليل".

وإذا كانت هذه الحركة لا تكتفي بالبيان في وجه السلطان المادي ، فكيف يتصور بحال من الأحوال أن تكون نظرية حبيسة داخل عقول أصحابها ويكونون مع ذلك مؤمنين بها حقاً ؟!

* "السمة الثانية: في منهج هذا الدين هي الواقعية الحركية.

فهو حركة ذات مراحل ، كل مرحلة لها وسائل متكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية، وكل مرحلة تسلم المرحلة التي تليها ، فهو لا يقابل الواقع بنظريات مجردة ، كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة…".

فهو ليس حركة وعملاً وحسب بل حركة دائبة وعمل متجدد…

"والسمة الثالثة: هي أن هذه الحركة الدائبة والوسائل المتجددة لا تخرج هذا الدين عن قواعده المحددة ، ولا عن أهدافه المرسومة.

فهو منذ اليوم الأول - سواء وهو يخاطب العشيرة الأقربين ، أو يخاطب قريشاً ، أو يخاطب العرب أجمعين ، أو يخاطب العالمين - إنما يخاطبهم بقاعدة واحدة ، ويطلب منهم الانتهاء إلى هدف واحد وهو إخلاص العبودية لله والخروج من العبودية للعباد… لا مساومة في هذه القاعدة ولا لين ، ثم يمضي إلى تحقيق هذا الهدف الواحد في خطة مرسومة ذات مراحل محددة ، لكل مرحلة وسائلها المتجددة ، على نحو ما أسلفناه في الفترة السابقة"(4).

إن الجهاد من حيث هو قمة العمل في الإسلام "وذروة سنامه" ليكشف لنا بصدق وواقعية عن طبيعة هذا الدين ، ومهمته في الأرض ، وأهدافه العليا التي أراد الله تحقيقها في عالم الثقلين ، ولقد سبق أن ألمحنا بإيجاز عن حالة العالم الإنساني في فجر الرسالة ، وأشرنا إلى العبودية التي كانت البشرية تمارسها للطواغيت والأهواء والأحبار والرهبان ، وهذا ما يشير لنا إلى  مهمة هذا الدين وأهدافه التي كان الجهاد أحد - أو أبرز - وسائل تحقيقها.

"عن هذا الدين إعلان (إلهي) عام لتحرير الإنسان في الأرض من العبودية للعباد ومن العبودية لهواه أيضاً - وهي من العبودية للعباد - ، وذلك بإعلان ألوهية الله وحده - سبحانه - وربوبيته للعالمين…

إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها ، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه لبشر بصورة من الصور. أو بتعبير آخر مرادف: الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور. ذلك أن الحكم الذي مرد الأمر فيه إلى البشر ، ومصدر السلطات فيه هم البشر ، هو تأليه للبشر يجعل بعضهم لبعض أرباباً من دون الله.

إن هذا الإعلان معناه انتزاع سلطان الله المغتصب ورده إلى الله وطرد المغتصبين له , الذين يحكمون الناس بشرائع من عند أنفسهم (أو يرسمون لهم مناهج للتعبد والتقرب غير ما شرعه الله) فيقومون منهم مقام الأرباب ويقوم الناس منهم مقام العبيد. إن معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض ، أو بالتعبير القرآني الكريم:

{وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} [الزخرف:84].

{إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم} [يوسف:40].

{قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} [آل عمران: 64]…

وقيام مملكة الله في الأرض وإزالة مملكة البشر وانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد ورده إلى الله وحده ، وسيادة الشريعة الإلهية وحدها وإلغاء القوانين البشرية. كل ذلك لا يتم بمجرد التبليغ والبيان ، لأن المتسلطين على رقاب العباد ، المغتصبين لسلطان الله في الأرض ، لا يسلمون في سلطانهم بمجرد التبليغ والبيان ، وإلا فما كان أيسر عمل الرسل في إقرار دين الله في الأرض ، وهذا عكس ما عرفه تاريخ الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - وتاريخ هذا الدين على مر الأجيال".

بل حتى الأفراد أنفسهم وهم الذين عبدوا أنفسهم لغير الله من الأوثان والطواغيت المختلفة ليس لدى أكثرهم استعداد لترك ما ألفته النفس وسار عليه الآباء والأجداد ويعيش عليه المجتمع كله لمجرد التبليغ والبيان ، بل إن ما نفوسهم من حواجز الكبر والعناد والتمرد لا يقل عن الحواجز الضخمة التي يضعها البشر المتألهون دون شعوبهم المستعبدة.

وإزاء هذه الاعتبارات فإن "هذا الإعلان العام لتحرير (الإنسان) في الأرض من كل سلطان غير سلطان الله وإعلان ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين، لم يكن إعلاناً نظرياً فلسفياً سلبياً. إنما كان إعلاناً حركياً واقعياً وإيجابياً. إعلاناً يراد له التحقيق العملي في صورة نظام يحكم البشر بشريعة الله، ويخرجهم بالفعل من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك (ويظل يحرسهم من الانحراف ويسددهم للاستقامة على العبودية الخالصة لله وحده) , ومن ثم لم يكن بد من أن يتخذ شكل "الحركة" إلى جانب شكل "البيان" ، ذلك ليواجه الواقع البشري بكل جوانبه بوسائل مكافئة لكل جوانبه.

والواقع الإنساني - أمس واليوم وغداً - يواجه هذا الدين ـ بوصفه إعلاناً عاماً لتحرير الإنسان في الأرض من كل سلطان غير سلطان الله ـ بعقبات اعتقادية تصورية ، وعقبات مادية واقعية ، وعقبات سياسية واجتماعية واقتصادية وعنصرية وطبقية ، إلى جانب عقبات العقائد المنحرفة والتصورات الباطلة ، وتختلط هذه بتلك وتتفاعل معها بصوره معقدة شديدة التعقيد.

وإذا كان "البيان" يواجه العقائد والتصورات فإن "الحركة" تواجه العقبات المادية الأخرى ، وفي مقدمتها السلطان السياسي القائم على العوامل الاعتقادية التصورية والعنصرية والطبقية والاجتماعية والاقتصادية المعقدة المتشابكة ، وهما معاً - البيان والحركة - يواجهان "الواقع البشري" بجملته بوسائل مكافئة لكل مكوناته ، وهما معاً لابد منهما لانطلاق حركة تحرير للإنسان في الأرض ، الإنسان كله في الأرض كلها"(1).

ومن بدر ننتقل إلى أُحد:

وفي أُحد تتجلى طبيعة هذا الدين وحقيقة الإيمان الذي جاء به في جانبي العمل الإيماني كليهما: عمل القلب وعمل البدن ، فأما عمل الجوارح وجهادها خلال وقائع المعركة ، فقد كانت التضحيات الكبرى والنماذج الفذة في المصابرة والمناجزة، كما كانت البطولات الرائعة والجراح العميقة التي تحدثت عنها مصادر السيرة الصحيحة (2) ، والتي ستظل الأجيال وراء الأجيال تستمد منها الوقود لجهاد لا يعرف اليأس ، وصبر لا يعرف الوهن.

ولكن الجانب الأعظم في دروس هذه الغزوة - لا سيما بالنسبة لموضوعناـ هو جانب عمل القلب ، وهو الجانب الذي يكشف عن حقيقة معركة هذا الدين وطبيعة سيره وفق سنة الله الثابتة التي لا يصح إغفالها أو تناسيها في أي عصر ولدى أي دعوة.

ٍإن معركة أُحد "لم تكن معركة في الميدان وحده ، إنما كانت كذلك معركة في الضمير ، كانت معركة ميدانها أوسع الميادين ، لأن ميدان القتال فيها لم يكن إلا جانباً واحدا من ميدانها الهائل الذي دارت فيه. ميدان النفس البشرية وتصوراتها ومشاعرها وأطماعها وشهواتها ودوافعها وكوابحها على العموم.

وكان القرآن هناك يعالج هذه النفس بألطف وأعمق ، وبأفعل وأشمل ما يعالج المحاربون أقرانهم في النزال!

وكان النصر أولاً وكانت الهزيمة ثانياً ، وكان الانتصار الكبير فيها بعد النصر والهزيمة. انتصار المعرفة الواضحة والرؤية المستنيرة للحقائق التي جلاها القرآن ، واستقرار المشاعر على هذه الحقائق، واستقرار اليقين، وتمحيص النفوس، وتمييز الصفوف . ووضوح سمات النفاق وسمات الصدق في القول والفعل وفي الشعور والسلوك، ووضوح تكاليف الإيمان وتكاليف الدعوة إليه والكرة به، مقتضيات ذلك كله من الاستعداد بالمعرفة والاستعداد بالتجرد والاستعداد بالتنظيم والتزام الطاعة والاتباع بعد هذا كله، والتوكل على الله وحده في كل خطوة من خطوات الطريق ، ورد الأمر إلى الله وحده في النصر والهزيمة وفي الموت والحياة ، وفي كل أمر وفي كل اتجاه".

ولقد أنزل الله تعالى لبيان ذلك كله وعلاجه وتقريره ستين آية من سورة آل عمران(3)، آيات مفصلات تبين حقيقة الإيمان ومقتضياته ، وارتباط النصر أو الهزيمة بجزئياته التي قد لا يحسب لها كثير من الناس بل من الدعاة حساب.

ومن ثم لم يقف سياق هذه الآيات عند حدود المعركة القتالية ودروسها الحية ، بل تعرض بوضوح وتفصيل لأعمال إيمانية كثيرة ، ذلك أن "القرآن كان يعالج الجماعة المسلمة على أثر معركة لم تكن ـ كما قلناـ معركة في ميدان القتال وحده ، إنما كانت معركة في الميدان الأكبر ، ميدان النفس البشرية وميدان الحياة الواقعية ، ومن ثم عرج على الرِّبا فنهى عنه ، وعرج على الإنفاق في السراء والضراء فحض عليه ، وعرج على طاعة الله ورسوله فجعلها مناط الرحمة ، وعرج على كظم الغيظ والعفو عن الناس ، وعلى الإحسان والتطهر من الخطيئة بالاستغفار ، والتوبة وعدم الإصرار ، فجعلها مناط الرضوان .

كما عرج على رحمة الله المتمثلة في رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم ولين قلبه ، وعلى مبدأ الشورى وتقريره في أحرج الأوقات ، وعلى الأمانة التي تمنع الغلول ، وعلى البذل والتحذير من البخل في نهاية ما نزل في التعقيب على هذه الغزوة من آيات…

عرج على هذا كله لأنه مادة إعداد الجماعة المسلمة للمعركة الكبرى في نطاقها الواسع ، الذي يتضمن المعركة الحربية في إطاره ولا يقتصر عليها ، معركة التعبئة الكاملة للانتصار الكبير ، الانتصار على النفس والشهوات والمطامع والأحقاد ، والانتصار في تقرير القيم والأوضاع السليمة لحياة الجماعة الشاملة.

وعرج على هذا كله ليشير إلى وحدة هذه العقيدة في مواجهة الكينونة البشرية ونشاطها كله ، ورده كله إلى محور واحد ، محور العبادة لله والعبودية له والتوجه إليه في حساسية وتقوى ، وإلى وحدة منهج الله في الهيمنة على الكينونة البشرية كلها في كل حال من أحوالها ، وإلى الترابط بين جميع هذه الأحوال في ظل هذا المنهج ، وإلى النتائج النهائية في ظل النشاط الإنساني كله ، وتأثر كل حركة من حركات النفس وكل جزئية من جزئيات التنظيم في هذه النتائج النهائية.

وإذن فهذه التوجيهات الشاملة ليست بمعزل عن المعركة ، فالنفس لا تنتصر في المعركة الحربية إلا حين تنتصر في المعارك الشعورية والأخلاقية والنظامية ، والذي تولوا يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا من الذنوب ، والذين انتصروا في معارك العقيدة وراء أنبيائهم هم الذين بدأوا المعركة بالاستغفار من الذنوب ، والالتجاء إلى الله ، والالتصاق بركنه الركين.

والتطهر من الذنوب إذن ، والالتصاق بالله ، والرجوع إلى كنفه من عدة النصر وليست بمعزل عن الميدان ، واطراح النظام الربوي إلى النظام التعاوني من عدة النصر… وكظم الغيظ والعفو عن الناس من عدة النصر ، فالسيطرة على النفس قوة من قوى المعركة ، والتضامن في المجتمع والتسامح قوة ذات فاعلية كذلك" (1).

إن هذه كلها شُعب من شُعب الإيمان التي يجب على الجماعة المؤمنة أن تستكملها لتكون أهلاً لنصر الله وتأييده ، والحديث عن هذه الشعب ضمن الحديث عن المعركة وتقديرها ضمن دروس المعركة وتوجيهاتها يعطي أكبر الدلالة على حقيقة هذا الدين وحقيقة الإيمان ، فإن تعليم هذه الأحكام وتقريرها حصل في جو الدماء والمعارك والمجاهدة ، فما بالك بالالتزام بها وتنفيذها في واقع النفس والحياة ، ولهذا قال جل شأنه:

{والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} [العنكبوت: 69].

إن الإنسان ليشعر بالهوة الساحقة بين قمة الإيمان هذه التي يبينها القرآن وتدل عليها سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وحياة الجماعة المسلمة الأولى، وبين مستنقع النظريات الكلامية المجردة وهي تتحدث عن الإيمان في تجريد وغموض وأوهام وأخلاط ، وإن الأمة التي تدع أخذ عقيدتها من كتاب ربها وسنة نبيها وواقع سيرته كي تأخذها من هذه النظريات السقيمة لهي جديرة بأن تكون على الحال الذي عليه أمة الإسلام اليوم وحسبك به حال.

وأنه إذا كانت المخالفة الجزئية لخطة المعركة - كما وقع من الرماة ـ وتطلع بعض النفوس إلى الغنائم المادية ، وتولي بعض الأفراد حين حمى الوطيس - نذائر شؤم وأسباب هزيمة وخسارة ، فما بالك بأمة تلقي كتاب ربها وراءها ظهرياً ، وتعبد الدرهم والدينار ، ولا يخطر على بالها جهاد قط ، وتستحل الربا والغلول و…، و ... , وتفعل ما تعرضت له هذه الآيات وما لم تتعرض له ، ثم تستبطئ نصر الله الذي وعد به المؤمنين ، وتحسب نفسها مؤمنة حق الإيمان لأنها تصدق بقلوبها وتقر بلسانها ، فهذا هو الإيمان كما علمته إياها كتب علم الكلام!

إنها هوة كبيرة جداً بين هذا الإيمان الحي المتحرك الوثاب الذي يخطئ فيرى عقوبة خطيئته ، ويصيب فيرى بركة استقامته ، وبين تلك القضايا الذهنية الباهتة الباردة التي يتوهمها الكلاميون ، والعواطف الغامضة المشوشة التي يتخرصها الصوفيون(2).

وخير مثال لهذه الهوة هو الهوة بين واقع الجيل الأول وواقع العصور المتأخرة عصور الإرجاء!

وبعد أن تمثلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مكسور الثنية مجروح الوجنة متردياً في حفرة يوم أحد ، نتمثله الآن في يوم آخر وهو عاصب على بطنه من الجوع يضرب بالفأس ويجرف بالمسحاة ويحمل في المكتل ، وينشد مع أصحابه :

والله لولا الله ما اهتدينا                     ولا تصدقنا ولا صلينا

ويقول:اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة. فيجيبونه:
 نحن الذين بايعوا محمداً                                  على الجهاد ما بقينا أبداً (1)

وذلك يوم الخندق ، وما أدراك ما يوم الخندق ؟!

هذا اليوم الذي يضيف إلى دروس أحد دروساً جديدة ويرسم معالم إيمانية جديدة أيضاً ، ويعطي صفحة آخرى نقرأ فيها كيف أنه "في معترك الحياة ومصطرع الأحداث كانت الشخصية المسلمة تصاغ ، ويوماً بعد يوم وحدثاً بعد حدث كانت هذه الشخصية تنضج وتنموا وتتضح سماتها ، وكانت الجماعة المسلمة التي تتكون من تلك الشخصيات تبرز إلى الوجود بمقوماتها وقيمها الخاصة وطابعها المميز بين سائر الجماعات.

وكانت الأحداث تنهال على الجماعة الناشئة حتى لتبلغ أحياناً لدرجة الفتنة ، وكانت فتنة كفتنة الذهب ، تفصل بين الجوهر الأصيل والزبد الزائف ، وتكشف عن حقائق النفوس ومعادنها فلا تعود خليطاً مجهول القيم"(2).

وكل ذلك إنما هو مقضيات جديدة للإيمان ، وتحقيق واقعي لزيادته التي ظل هذا الجيل يترقى فيها درجة بعد درجة حتى وصل إلى الكمال الذي لم يبلغه جيل مثله قط ، فاستحق بذلك القوامة على العالمين ، والثناء العظيم من رب العالمين.

ولو إن إيمانهم وقف عند عقبة من عقبات الطريق الشاقة ، أو تملص من فتنة من فتن التمحيص الحادة ، لما تحقق لهم كل ما تحقق ، بل ربما خسروا وخسرت الإنسانية كلها.

ومع ما في الخندق من زيادات للإيمان جديدة ودروس للبناء جديدة ، فإنها كانت امتداداً طبيعياً لسنة الله في سير هذا الدين - كما ألمحنا إليها – وفي تزكية النفس الإنسانية به.

ذلك أن الله تعالى لم ينزل القرآن بمواعظه وتزكيته على قوم محبوسين في الأديرة والصوامع، أو قابعين في زوايا الحياة، وإنما اقتضت حكمته أن تكون الموعظة والتزكية من خلال الابتلاءات والامتحانات المتكررة "فقد علم الله أن هذه الخليقة البشرية لا تصاغ صياغة سليمة , ولا تنضج نضجاً صحيحاً ، ولا تصح ولا تستقيم على منهج إلا بذاك النوع من التربية التجريبية الواقعية التي تحفر في القلوب , وتنقش في الأعصاب , وتأخذ من النفوس وتعطي في معترك الحياة ومصطرع الأحداث.

أما القرآن فينزل ليكشف لهذه النفوس عن حقيقة ما يقع ودلالته ، وليوجه تلك القلوب وهي منصهرة بنار الفتنة ، ساخنة بحرارة الابتلاء ، قابلة للطرق ، مطاوعة للصياغة"(3).ومن واقع أنفسنا اليوم نستدل على هذه الحقيقة ؛ فنحن نقرأ آيات المعركة كما في سورة الأحزاب: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً (9) إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا (10) هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً} الآيات.

نقرأها فنمر عليها مروراً عابراً ، وإذا فسرها المفسرون منا فقد لا يزيدون على قولهم: {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم} : أي من جهتي المدينة ،  وإذ زاغت الأبصار: أي من الخوف ، {وبلغت القلوب الحناجر}: أي ارتفعت من شدة الخوف.. إلخ.

أما أن نقف – ولو في الشعور – مثل ذلك الموقف الرهيب , والكرب الشديد ، والأهوال المحدقة لنواجه أعداء الله ونعلي كلمته متأسين بذلك الجيل ، فهذا ما لا يخطر على قلب كثير من المسلمين اليوم , وعلى رأسهم نحن المنتسبين للعلم الشرعي في كثير من الأحيان ، والله المستعان .

إن الحديث عن الإجهاد والمشقة والجوع والبرد والخوف الذي لقيه المؤمنون ليطول ، وقد أفاضت فيه المصادر الصحيحة (4) ، وهو ذو دلالة عظمى على ما نريد إيضاحه من قضية الإيمان ومقتضياته ، ومع هذا لن نفيض فيها ، وإنما نقتصر على جانب واحد من جوانب العبر الكبرى :

وهو أن هذا الجيل الكريم هو من حيث التكوين النفسي بشر مثلنا ومثل سائر البشر ؛ له مشاعره وعواطفه البشرية بما فيها من نقص وجزع وتأثر بالأحداث..

ونحن نخطئ جداً حين نحسبهم غير ذلك فنفقد الأمل في التأسي بهم . .

"لقد كانوا ناساً من البشر ، وللبشر طاقة لا يكلفهم الله ما فوقها ، وعلى الرغم من ثقتهم بنصر الله في النهاية ، وبشارة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم ؛ تلك البشارة التي تتجاوز الموقف كله إلى فتوح اليمن والشام والمغرب والمشرق (1)..على الرغم من هذا كله ، فإن الهول الذي كان حاضراً يواجههم كان يزلزلهم ويزعجهم ويكرب أنفاسهم.

ومما يصور هذه الحالة أبلغ تصوير خبر حذيفة ، والرسول صلى الله عليه وسلم يحس حالة أصحابه ويرى نفوسهم من داخلها فيقول: "من رجل يقوم فينظر ما فعل القوم ثم يرجع – يشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة – أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة ؟".

ومع هذا الشرط بالرجعة ، ومع الدعاء المضمون بالرفقة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة ، فإن أحداً لا يلبي النداء !!

فإذا عين حذيفة بالاسم قال : فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني (2).

ألا إن هذا لا يقع إلا في أقصى درجات الزلزلة ، ولكن كان إلى جانب الزلزلة وزوغان الأبصار وكرب الأنفاس , كان إلى جانب هذا كله الصلة التي لا تنقطع بالله ، والإدراك الذي لا يضل عن سنة الله ، والثقة التي لا تتزعزع بثبات هذه السنن وتحقق أواخرها متى تحققت أوائلها.

ومن ثم اتخذ المؤمنون من شعورهم بالزلزلة سبباً في انتظار النصر ، ذلك أنهم صدقوا قول الله سبحانه من قبل :

{أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين ءامنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب} [ البقرة: 214].

وها هم يزلزلون ، فنصر الله إذن منهم قريب! ومن ثم قالوا :

{هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً} [الأحزاب:22] (3).

فقد زادهم إيماناً أن رأوا الأهوال تحدق بهم والأحزاب تتألب عليهم ؛ ليقينهم أنه ما لم يكن ذلك الابتلاء والتمحيص فلا نصر ، لأنه في الحقيقة لا إيمان يمكن الجزم به ، بل هي دعاوى كل يقدر أن يدعيها ، فإذا اجتاز المؤمن الابتلاء تحقق الإيمان ، وإذا تحقق الإيمان تحقق النصر . هذه سنن ثابتة وحقائق ساطعة.

وبعد هذا نطوي وقائع شاقة ومشاهد بليغة لنصل إلى يوم الحديبية وبيعة الرضوان . تلك التي كانت كسابقاتها امتحاناً شديداً للإيمان ، ولكنه امتحان من نوع آخر !

إنه امتحان القلوب المؤمنة التي جاشت بالحمية الإيمانية والغيرة لله ورسوله ودينه ، واستقر في أعماقها صدق رسول الله في وعده ، وصدق وعد الله له ، وإن كان هذا الوعد رؤيا في المنام ـ فرؤيا الأنبياء وحي ـ ، قلوب مفعمة باستعلاء الإيمان وعز الطاعة تأبى أن يستضيمها عدو الله أو تنصاع لضغوطه في أي ميدان.

ومع ذلك ترى في يومها ذاك أموراً تبدو مناقضة لهذا كله ، فكانت أهوالاً وكروباً لا يسكن أمامها إلا قلب بلغ الغاية القصوى من الانقياد والتسليم لله ورسوله ، والتجرد مما يخالف ذلك حتى وإن كان دافعه الغضب لله والحمية لدينه والاعتزاز بالإيمان به (4).

كانت صدمة عنيفة لهذه الجماعة الراشدة الزاحفة أبداً إلى الأمام أن تواجه منعطفاً خطيراً يتشهى فيه الكافرون من الشروط ، ويملونها عليها ثم ترى نبيها يقبلها بلا تحفظ.

إن اكتمال الإيمان يقتضي مرحلة عليا من التربية ، مرحلة تتعدى مراحل الحض والإيقاظ ورفع الهمم والعزائم إلى مرحلة تهذيب الحماس وتسكين الحمية الإيمانية ، لتوافق الوحي في كل أمر وتنضبط عليه في كل حركة حتى وإن رأت أن موافقته شاقة ، لا على حظ النفس فذاك أمر قد استأصلته التربية الوثابة ، ولكن على إيمان القلب الثائر للحق.

فلنتصور ما كانت عليه تلك القلوب من حماس وتوقد وغيره واستعلاء بالإيمان ، ثم لنتصور معه كيف تطيق رؤية المفاوض الكافر وهو يصر على محو صفة الرسالة من اسم رسولها الكريم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستجاب له ؟!

وكيف تطيق قبول هذه الشروط المجحفة المتعسفة مثل : أن يرجع هذا العام – وهو على مشارف الحرم – بلا عمرة ويعتمر من قابل ، وأن من أتى المدينة مؤمناً مهاجراً يرد إلى مكة – لتعذبه وتضطهده - ، ومن ارتد من المهاجرين يعود إلى مكة آمناً ؟!

وكيف تتحمل رؤية المعذبين في الله (كأبي جندل) يرسفون في الأغلال ويستصرخون حميتها الإيمانية فيردهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معذبيهم التزاماً بشروط الصلح ؟!

وكيف تتحمل أن تحلق الرؤوس وتنحر الهدى هنا في هذه البيداء ، وهي إنما خرجت من المدينة واثقة مطمئنة إلى رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم بدخول البيت آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين لا يخافون ؟!

ويأتي ثاني رجل في هذه الأمة الزكية ليخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوقد وتحرق :"ألست رسول الله حقاً ؟ قال: "بلى". قال : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال: "بلى". قال : فعلام نعطي الدنية(1) في ديننا إذن ؟

قال : "إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري". قال : أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال: "بلى ، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟" قال : لا ، قال : "فإنك آتيه ومطوف به" (2).

ثم تكون نهاية هذا الموقف العصيب – بعد هدأه القلوب وسكون العاصفة – أن ينزل الله تعالى على رسوله وهو قافل إلى المدينة :

{إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً (1) ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً (2) وينصرك الله نصراً عزيزاً (3) هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليماً حكيماً} [الفتح : 1-4 ].

فيبشر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قائلاً : "نزلت على الليلة سورة هي أحب إلى من الدنيا وما فيها" أو قال : "لهي أحب إلى مما طلعت عليه الشمس" (3).

وكيف لا وفيها البشارة له صلى الله عليه وسلم بالفتح والمغفرة التامة والنعمة العظيمة والهداية القويمة ، وللمؤمنين بالسكينة وزيادة الإيمان والوعد بالجنة ؟!

إن نزول السكينة وزيادة الإيمان بها لهو ثواب كريم على الإيمان السابق المتمثل في الثقة في الله والاستسلام لأمره مهما كان هول الموقف .

وهكذا يرقى الإيمان ويسمو وترسخ قاعدة عظمى من قواعد فقه التزكية الإيمانية ، وهي أن من ثواب الإيمان حصول إيمان أعلى منه ، ومن جزاء المعصية نقص الإيمان بمعصية أخرى. وهي قاعدة لم تثبت من خلال موعظة في مسجد ولا محاضرة في جامعة وإنما هو موقف مهول كهذا الموقف.. ثم نطوي - كذلك – أحداثاً جساماً ووقائع شاهدات للنتقل إلى غزوة تبوك (4).

إنها لبادرة فجائية كبرى في تاريخ الإنسانية أن يخرج جيش من قبائل العرب ينازل الإمبراطورية الرومانية – أكبر إمبراطوريات الأرض يومئذ عتواً وأكثرها حضارة - ، إنه لحدث ما كان العرب من قبل يحلمون به ، ولا كان الروم يتوقعونه ولو في الخيال!

وإن في هذا وحدة لدلالة كبرى على الطبيعة الجهادية لهذا الدين ، والحقيقة الإيمانية التي يبنيها في قلوب أتباعه.

ولكن هناك دلالة أكبر من هذا وأعظم ؛ ذلك أن هذه البادرة الكبرى ما هي إلا مظهر وثمرة لجهد داخلي عظيم ، وخطوة على طريق هائل كبير لم يتوقف دفعة واحدة إلا على "بلاط الشهداء" وأسوار القسطنطينية.

فالجماعة  المؤمنة وصلت في آفاق التزكية الإيمانية وقمم الجهاد - بكل معانيه - إلى غاية لم تبلغها قبلها جماعة قط ، وهذه الغزوة تمحيص نهائي وترقية عليا لها ، واستئصال جذري للطفيليات المحسوبة عليها وليست منها (1).

جيش قوامه ثلاثون ألفاً (2) ، لا يتخلف منه عن هذه الغزوة الشاقة المجهدة إلا ثلاثة نفر! .

ثم هؤلاء يتعرضون لمحنة رهيبة يصفها الله سبحانه وتعالى بأنها وصلت إلى حد أن : {ضاقت عليهم الأرض بما رحُبت وضاقت عليهم أنفسهم} [التوبة: 118].

وتقتضي حكمة الله البالغة أن يكون هؤلاء الثلاثة من السابقين الأولين - اثنان منهما شهدا بدراً (3) "مرارة وهلال" ، والثالث "كعب" شهد العقبة، ليكون ذلك أبلغ وأشد وقعاً في نفوس قوم ربما كانت أنفسهم قد حدثتهم بالتخلف وهم من مؤخرة القافلة.

أما المتخلفون سواهم فما كانوا "إلا رجلاً مغموصاً عليه النفاق ، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء"(4).

وتنزل السورة الفاضحة ، البحوث ، المبعثرة ، المقشقشة ، المخزية ، الحافرة ، المنكلة ، المنقرة ، المدمدمة (5) ، وتتناول ـ عدا المقاطع الأولى منها - موضوع الغزوة ، ويستغرق الحديث عن المنافقين من جميع جوانبه أكثرها ، ويؤخر موضوع توبة الله على الثلاثة إلى آخرها في آخر توبة الله على الجماعة المؤمنة كلها.

وليس من غرضنا الآن - ولن نستطيع - تقصي دروس الموقف وعبره، ولكننا نكتفي بعبرتين ، إحداهما على سبيل الإجمال والأخرى واقعة جزئية.

أما الأولى: فهي أن المنافقين لم يكن يخفى عليهم قط أن الإيمان جهاد وأعباء ، وواجبات وفرائض على النفس والمال ، وعلى القلوب والجوارح، ولهذا لم يدر في خلدهم أن يستخدموا منطق الأمة الإسلامية في عصورها الأخيرة فيقولوا للرسول صلى الله عليه وسلم حين استنفرهم للغزو: لن نجاهد معك ولن يضر هذا في إيماننا ، فنحن مصدقون لك بقلوبنا ومقرون برسالتك بألسنتنا ، فدعنا نأخذ بأذناب البقر ونغرس الأشجار ونهتم بشؤون أهلينا وأولادنا..

لم يكونوا ليفكروا في هذا ، لأن حقيقة الإيمان الحية أمامهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه لم تكن تسمح لهم بذلك ، فقول كهذا في مجتمع مؤمن كهذا يعد لغواً وهذياناً.

لو قالوا هذا أو قريباً منه لكشفته السورة وأزالت شبهته ، لكنه لم يكن يصل في تفكيرهم إلى درجة الشبهة ، ولهذا لجأوا إلى أعذار وتعللات عليها مسحة من الشرعية مثل:

1- الاعتذار بأنهم ليسوا محل تكليف ، إذ مناط التكليف الاستطاعة وهم غير مستطيعين {لو استطعنا لخرجنا معكم} [التوبة:42].

2- الاعتذار بشدة الحر الذي جعله الشارع سبباً في الترخيص والتخفيف، كما في الإبراد بصلاة الظهر ، {وقالوا لا تنفروا في الحر} [التوبة: 81].

3- الاعتذار بوقوع مفسدة تضيع معها مصلحة الجهاد ، وهي الافتتان ببنات الروم {إئذن لي ولا تفتني…} [التوبة:49] ، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح!!

4- الاعتذار بالقياس ، حيث طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذرهم كما يعذر من رفع الله عنه الحرج من الضعفاء والمرضى..{ذرنا نكن مع القاعدين} [التوبة:86].

وغير ذلك من الأعذار المفتعلة التي هي شرعية في فقه المنافقين أو أصول فقههم ، وهو فقه كثير الحواشي طويل الذيل لا يخلو منه عصر ولا دعوة. أما ذاك القول الذي لم يصل أن يكون عذراً ولا شبهة في أصول فقه المنافقين فقد أصبح حجة وقاعدة في أصول دين الطوائف الإسلامية التي دانت بعلم الكلام واتبعت أساطينه.

فقد سود أحبار علم الكلام ورهبانه الصحائف ، واستنفدوا المحابر للتدليل على أن الجهاد - بل كل الأعمال صغيرها وجليلها – ليست من الإيمان، بل صرح أئمة فيهم بأن نطق كلمة الشهادة - مجرد نطق - ليس منه (1).

ورحم الله من قال من السلف في الفرق بين منافقي الصدر الأول والقرون المتأخرة: "كانوا يراءون بما يعملون ، فأصبحوا يراءون بما لا يعملون".

حقاً إن مما سهل للمرجئة نشر عقيدتهم أن حقيقة الإسلام الحية لم تكن قائمة في عصور الانحراف ، فكان يسيراً عليهم أن يقنعوا أمة غير عاملة بأن العمل ليس من الإيمان ، إذ ليس أشهى إلى الكسول من أن يجد ما يبرر كسله ، ولكن المعيار الوحيد هو الجيل الأول ، ذلك الجيل الذي كان منافقوه يجاهدون ويحجون وينفقون ، فلما غابت صورة هذا المعيار عن عقول المرجئة - بل ربما عن عقول بعض مناظريهم من أهل السنة - ، وتحول الأمر إلى جدل نظري بالشبهات والتأويلات , استشرى الخطر وعمت البدعة.

وكان على أهل السنة والجماعة - وما يزال - أن يعيدوا الواقع نفسه حياً قائماً ـ ما أمكن - ، وأن يستحضروا دائماً صورته وهم يعملون ويناظرون.

* وأما الأخرى – أي الواقعة الجزئية -: فهي قصة النفر من المنافقين الذين نزل فيهم قول الله تعالى:

{ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وءايته ورسوله تستهزءون(65) لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} [التوبة: 65، 66].

وقد روى سبب نزولها من طرق كثيرة (2) تثبت بمجموعها صحته. والأشهر أن ما قالوه هو: "ما رأينا مثل قرائنا هناك أرغب بطوناً ولا أكذب ألسناً ولا أجبن عند اللقاء".

فهؤلاء قوم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة الشاقة متعرضين للقتل والأسر أنهكتهم وعثاء السفر ، فجلسوا في خلوة يتلهون بالسخرية ببعض الصحابة ، فأنزل الله تعالى آيات محكمات حكم فيها بكفرهم بعد إيمانهم (3)، وخروجهم من عداد المؤمنين ، وهو ما يترتب عليه خروجهم الأبدي في النار ما لم يتوبوا.

وقبل أن تنزل الآيات فزع هؤلاء النفر يهرعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم معتذرين نادمين يقسمون الأيمان أنهم ما أرادو الكفر ولا قصدوه ، وأن ما صنعوا لم يكن إلا خوضاً ولعباً ولم يكذبهم الله تعالى في دعوى الخوض واللعب بل أوضح أن نفس خوضهم ولعبهم كفر ، فنفس عذرهم إقرار بكفرهم!

إنه لا خلاف بين فقهاء الإسلام في أن الهزل بالكفر كفر – وإن اختلفوا في الهزل في سائر الأحكام كالبيع والطلاق والعتاق(4)- وهذه الآية من أقوى الأدلة على ذلك.

وقد بقى هذا الإجماع محفوظاً نظرياً في كتب الفقه حتى المتأخر منها ، أما في الواقع العملي فإن استمرار الإرجاء، وانحسار مفهوم الإيمان، وغموض مفهوم الكفر، والغفلة عن كثير من ضروبه وأنواعه جعل الأمة الإسلامية تغفل عن تكفير المرتدين قصداً وجهاراً (5) ، فضلاً عن الهازلين الساخرين ، إلا من سار منها على منهج أهل السنة والجماعة وهم في العصور المتأخرة قليل.

بل إن هؤلاء القليل عندما يدعون إلى تصحيح الإيمان وتجلية معانيه ، ويبينون للأمة الكفر وضروبه وخطره نجدها تقف في وجوههم متهمة إياهم بتكفير المسلمين ، كما حصل لشيخ الإسلام ابن تيميه ، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ، والشهيد سيد قطب ، رحمهم الله ، وأمثالهم ، ويعرضون عن تصريح هؤلاء العلماء بأنهم لا يقصدون تكفير الأعيان بل تصحيح حقائق الدين في القلوب والأذهان. (1)

ولئن كان علماء عصور الإسلام الوسطى ، من المرجئة أو المتأثرين بالإرجاء يحجمون عن تكفير ملاحدة وحدة الوجود ، وأمثالهم من الزنادقة أو الساخرين بالدين من الكتاب والشعراء ، وينتحلون لهم التأويات والتبريرات (2) ، فقد استغنى علماء الإرجاء في عصرنا الحاضر عن هذه التأويلات ، لأن الإسلام في عرفهم وراثة لازمة كما تورث الأسماء وأحرف تكتب في الهوية لا ينسخها عمل ولا قول يرتكبه حاملها ، ولهذا تجرأ الملاحدة زعماءً وكتاباً على دين الله سخرية واستهزاء ، وأصبح هذا ميداناً للزعماء والمفكرين ، وملهاة للشعراء والصحفيين ، وجرت ألفاظ الاستهزاء على ألسنة العوام فأصبحت في بعض الأحيان والبلدان كالسلام !!

وعم البلاء حتى تعدى مجال الاستهزاء إلى مجال الكفر الجاد الجلي الذي كان أمراً محظوراً ـ ولو عرفاً وعادة ـ فنسى الناس تكفير الباطنية والقرامطة والدروز والنصيرية وأشباههم ، بل نسى بعضهم أو شك في كفر اليهود والنصارى (3) وأمثالهم ، وغاب عنهم تماماً كفر طواغيت الدجل والخرافة والسحر ، بل سموهم أولياء وصالحين!!

أما طواغيت الحكم والتشريع فقد نسخوا شريعة الله جهاراً ونهاراً ، وحمكوا شرائع الطاغوت في الدماء والأعراض والأموال(4) ، وألزموا الناس في مناهجهم ووسائل تربيتهم بموالاة الكفار وتقديس عظماء الكفر من فلاسفة وقادة وحكام ، ونشروا من استحلال المكفرات والموبقات ضروباً وألواناً ، وسخروا من الحدود والحجاب وتعدد الزوجات وأحكام الميراث والعبادات والأخلاق.. ، كل هذا وأكثر الشعب لا يرفع عليهم رأساً ولا يرى به بأساً ، والجريء منهم يعتبره خطأ أو معصية (5) ، والمنافقون من أصحاب العمائم يقولون كما قال أحدهم: " لو كان لي من الأمر شيء لجعلتك في منزلة من لا يسأل عما يفعل"(6).

وانضم أغلب الطبقة المثقفة - كما يسمونها - إلى الأحزاب الكفرية والمنظمات الإلحادية والمذاهب الأدبية التي تستر الكفر بالشعر ، حتى  إن بعض معاقل الإسلام التاريخية أصبح في كل قرية منها ومدرسة فرع للحزب الملحد.

وسقط حد الردة إلا من كتب الفقه الموروثة ، بل ظهر في صفوف المنتسبين إلى الدعوة الإسلامية اتجاه جديد ينكر حد الردة ضمن ما ينكر من حدود الإسلام وأصوله (7).

ومر على الأمة الإسلامية أجيال بل قرون لا تكاد تسمع فيها أن حد ردة أقيم على زنديق مجاهـر أو ملحد مكابر ، في حين أن الآلاف من الأرواح تزهق لأسباب سياسية أو خلافات شخصية! ، أما الأحكام المتعلقة بأهل الذمة من جزية وصغار ونحوها ، فقد اتـفـقـت كل الأنظمة في نسخها وإلغائها وإنسائها ، وعز الكفار في كل بلد ، وضرب الذل والصغار على من يدعوهم إلى معاملتهم بحكم الله عز وجل ، وصار أهل الكتاب - بل عباد البقر ـ يخططون لإخراج المسلمين عن دينهم في عقر دار الإسلام!!

فيا لها من غربة لا يخفـف وطأتها إلا نسمات الفجر الصادق التي بدأت تهب في كل مكان ، حاملة البشائر بمستقبل زاهر يعز الله فيه أولياءه ويذل أعداءه ، ويعلي كلمة التوحيد والسنة ويقمع رؤوس الشرك والبدعة وما ذلك عليه بعزيز. 

وبعد الاكتفاء بهاتين الوقفتين مع أحداث غزوة تبوك نكتفي أيضاً بما سبق عرضه من المعالم الكبرى في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، التي كانت تطبيقاً وتحقيقاً للدين كما يريده الله تعالى ، وبياناً واقعياً لطبيعة سيره وحكمة إنزاله ، وسنة الله في تزكية الناس به ومجاهدتهم عليه.

وإننا في كل غزوة وسرية من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه التي بلغت مائة غزوة وسرية ، وفي كل موقف من مواقفه في الدعوة والجهاد ، وفي كل مقام من مقامات عبوديته وتبتله إلى ربه , لنجد برهاناً ساطعاً ومعلماً شاخصاً على حقيقة دين الله تعالى ، وحقيقة الدعوة إليه ، وحقيقة النفس التي يجب أن تؤمن به وتستقيم عليه ، مع إيضاح لحقيقة الجاهلية التي يجب أن تُحارب وتُدحر لكيلا تقف في طريقه.

وقد كان الجيل الأول - أصفى أجيال الإنسانية وأعظمها - يدرك هذه الحقائق إدراك من عاناها وتذوقها وتربى عليها وجاهد لأجلها ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامه يعانيها ويدعوا إليها. وقد ملك هذا الإدراك نفوس ذلك الجيل حتى بلغ بهم حداً رفيعاً من الحساسية ورهافة الشعور تجاهها، فاستصحبوا الشعور بالتقصير وسوء الظن بالنفس واستعظام الهفوة، حتى وصل الحال ببعضهم أحياناً إلى ما يشبه قنوطاً ويأساً، وحتى إنهم ليرون ما ليس بذنب ذنباً، ويخشون أن يكون ما أعطاهم الله من الكرامة عقوبة واستدراجاً، والنماذج الثابتة في هذا كثيرة جداً :

"عن أنس رضى الله عنه قال: لما طعن حرام بن ملحان - وكان خاله - يوم بئر معونة قال بالدم هكذا فنضحه على وجهه ورأسه ثم قال: الله أكبر فزت ورب الكعبة"(1).

وعن سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه قال: " إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، ورأيتنا نغزو وما لنا طعام إلا ورق الحبلة وهذا السمر ، وإن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ما له خلط " (2).

وعن جابر رضى الله عنه قال: "سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان قوت كل رجل منا في كل يوم تمرة ، فكان يمصها ثم يصرها في ثوبه ، وكنا نختبط بقسينا ونأكل حتى قرحت أشداقنا ، فأقسم أخطئها رجل منا يوما فانطلقنا به ننعشه فشهدنا أنه لم يعطها فأعطيها فقام فأخذها"(1).

وعن عتبة بن غزوان رضى الله عنه - في حديث عظيم له ـ: "ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا ، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك فاتزرت بنصفها واتزر سعد بنصفها ، فما أصبح اليوم منا أحداً إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار ، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله صغيراً" (2).

وعبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه "أُتِيَ بطعام وكان صائماً فقال: قتل مصعب بن عمير ، وهو خير مني ، كفن في برده إن غُطِّيَ رأسه بدت رجلاه ، وإن غُطِّيَ رجلاه بدا رأسه ـ وأراه قال: وقتل حمزة ، وهو خير مني ـ ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط ، أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا قد عجلت لنا. ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام" (3).

وقال خباب بن الأرت رضي الله عنه: "هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتغي وجه الله ، فوجب أجرنا على الله ومنا من مضى ـ أو ذهب ـ ولم يأكل من أجره شيئاً ، كان منهم مصعب بن عمير ، قتل يوم أحد لم يترك إلا نمرة كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه ، وإذا غُطِّيَ بها رجلاه خرجت رأسه… قال: ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها" (4).

وعن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري قال: "قال لي عبد الله بن عمر: هل تدري ما قال أبي لأبيك؟ قلت: لا. قال: أبي قال لأبيك: يا أبا موسى هل يسرك إسلامنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهجرتنا معه وجهادنا معه وعملنا كله مع برد (5) لنا ، وأن كل عمل عملناه بعده نجونا منه كفافاً رأساً برأس؟

فقال أبي(6): لا والله ، لقد جاهدنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصلينا وصمنا وعملنا خيراً كثيراً ،وأسلم على أيدينا بشر كثير ، وإنا لنرجو ذلك.

فقال أبي: لكني والذي نفس عمر بيده لوددت أن ذلك برد لنا ، وأن كل شيء عملناه بعده نجونا منه كفافاً رأساً برأس . فقلتُ: إن أباك والله خير من أبي"(7).

ولما طعن رضى الله عنه جاءه ابن عباس فمس جسده بيده وقال: جلد لا تمسه النار أبداً - يذكره ببشارة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة - وأخذ يطمئنه ويبشره بصحبته للنبي صلى الله عليه وسلم وللصديق ، وبرضى المسلمين جميعاً عنه في عدله وسيرته.

فقال الفاروق: "أما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه فإنما ذاك منٌّ مِنَ الله تعالى مَنَّ به عليّ ، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذاك مَنٌّ مِنَ الله جل ذكره مَنَّ به عليّ ، وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك (أي الرعية أن يكون قصر في أمرها) والله لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به عذاب الله عز وجل وقبل أن أراه"(8).

وجاءه شاب آخر يبشره بأجر الصحبة والعدل والشهادة فقال عمر: "وددت أن ذلك كفاني لا علىّ ولا لي"(9).

وأبو ذر رضي الله عنه حدث الناس بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولا تلذتم بالنساء على الفرشات… " الحديث. فقال: "والله لوددت أني شجرة تعضد" (10).

وابن مسعود رضي الله عنه يحدث عنه مسروق قال: "قال رجل عند عبد الله: ما أحب أن أكون من أصحاب اليمين ، أكون من المقربين أحب إلىَّ ، قال: فقال عبد الله: لكن هناك رجل ود لو أنه إذا مات لم يبعث - يعني نفسه - " (1).

فهذا الوجل وشدة المحاسبة مع تلك التضحيات والفضائل والدرجة العليا التي شهد الله لهم بها في كتابه.

وقد استمرت سيرتهم امتداداً لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد ـ بكل ضروبه - ففتحوا الآفاق والبلاد ، وفتحوا القلوب والعقول ، ونقلوا للناس هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم حياً ماثلاً ، فما انقضى عصرهم حتى أنفقت كنوز كسرى وقيصر في سبيل الله ، ودانت ملوك الأرض وجبابرتها للملة الحنيفية ، وأظهر الله دينه على العالمين حتى دخلت فيه أو في حكمه أمم الأرض إلا من اعتصم وراء لجج البحار أو بعدت بهم المهامة والقفار ، أو عاشوا مع الوحوش في الأحراش والأدغال ، وسيأتي لهذا مزيد بيان بإذن الله.

ولقد قصر نابليون حين وصف هذه المدة الهائلة بقوله: "إن المسلمين فتحوا نصف العالم في نصف قرن!" ، فما كان القسم الذي لم يفتح نصف العالم قط ، وإنما كان حوشي الأرض التي لم تصلها جيوش الإسلام فقد غزتها ثقافته وحضارته.

ولكن الأوروبيين منذ عصر الإمبراطورية الرومانية إلى الآن يعتبرون أوربا نصف الدنيا ، وكم جمح بهم الغرور فاعتبروها محور العالم ، وسائر الأمم حواشي وهوامش.

وعلى نهج الصحابة سارت بعدهم أجيال فأكملوا المسيرة ، مسيرة الجهاد بكل ضروبه وأنواعه: الجهاد لإدخال الأمم في دين الله وتحريرها من عبودية طواغيت الدجل والاستبداد.

والجهاد في طلب العلم وتعليمه ليعبدوا الله على بصيرة ويدعوا الناس إلى حق وحقيقة.

والجهاد في مقاومة البدع والمنكرات وصيانة الأمة من تحريف الغالين وتأويل المبطلين.

والجهاد في تحمل أذى الدجالين والجبابرة والشياطين من الجن والإنس وجيوشهم من طلاب الشهوات وأتباع كل ناعق.

وقدمت هذه الأجيال من التضحيات وتحملت من المشقات ما سطره التاريخ وما لم يسطره ، مما لا يستطاع حصره ولا تحصى آثاره.

كل ذلك عملوه وجاهدوه لا على أنه مجرد نوافل وتطوعات ، ولا على أنه مهام جانبية تقضى في أو قات الفراغ من الشواغل ، ولا على أنه وسيلة قطعية توصلهم للدرجات العلى في الجنة ، بل كانوا يعملون ذلك كله على أنه هو حقيقة الإسلام ، وهو شُعب الإيمان ، وهو أسنان ومفتاح الشهادتين، وهو الطريق إلى الجنة إن سلم من الآفات والعوارض ، يعملون ذلك وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون ، والخوف من التقصير ، والخوف من أن ترد عليهم أعمالهم ، والخوف من أن تجعل لهم حسناتهم في الدنيا , حاضرٌ في قلوبهم ماثل أمام أعينهم ، كما تشهد بذلك سيرهم التي جمعها بعض المصنفين ، وما لم يجمعوه من أعمال القلوب أكثر وأعظم.

وما نقل من أحد منهم قط أنه قال إن إيمانه كإيمان جبريل أو أنه كامل الإيمان ، وما كان لمثلهم أن يتفوه بهذا.

خاتمة المطاف:

بعد هذا الاستعراض لحقيقة هذا الدين وواقعه العملي وطبيعة سيره ومنهج حركته وتزكيته ، رأيت أن أختم الفصل بإيضاح قضايا مهمة سأوردها في شكل أسئلة خطرت لي كثيراً أثناء الكتابة ، وما أحسبها إلا ستخطر لكل قاريء كذلك.

والمقصود من إيراد هذه الأسئلة والإجابة عليها ، هو التعرف على بعض الحكم الربانية في أن تكون حقيقة هذا الدين ومنهجه على ذلك النحو السابق شرحه، إذ ليس من حقنا - نحن العبيد - أن نسأل عن شيء من سنن الله لم كانت هكذا؟ إلا لنعرف ما يستتبعه ذلك من عبوديات اعتباراً وعملاً.

ولعل الإجابة على هذه الأسئلة تبدد ما قد يبقى في النفس من آثار الإرجاء الباطن الذي توارثته الأمة وألفته النفوس مع طول الأمد. وتبين ـ كذلك ـ مدى رحمة الله وفضله على المؤمنين المتمسكين بمنهجه ، وأنه ـ مع كل ما في التمسك به من ابتلاءات وأعباء ومشقات ـ لم يجعل علينا في الدين من حرج أبداً ، بل هذا المنهج نفسه هو منهج السعادة العظمى والفوز العظيم في الدنيا والآخرة ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وهذه الأسئلة هي:

لماذا كل هذه الجهود والتضحيات والمشقات؟

وما القضية الأساسية التي جاهد من أجلها الأنبياء والشهداء والصالحون ، وهل هي جديرة بكل هذه الجهود الكبيرة الهائلة لا سيما أن بعض الأنبياء – وهم خير من دعا إلى الله – لم يتبعه أحد ، ومنهم من لم يتبعه إلا الرجل والرجلان – كما صح في الحديث(1)، وأكثرهم ما آمن له إلا قليل بنص القرآن؟

والرسول صلى الله عليه وسلم - وهو أكثر الأنبياء تابعاً - أكانت القضية التي دعا إليها تستدعي أن يهب هو وأصحابه حياتهم كلها في سبيلها ، ويكونوا مع ذلك أكثر الناس حرصاً على إيمانهم وحذراً من الذنوب؟

وأيضاً سؤال مهم ، وهو: هل هذه الأعباء والمشقات خاصة بمنهج الإيمان ، فيكون ذلك داعياً أن يركن الناس إلى الكفر طلباً للراحة والطمأنينة؟

وعندما نخاطب المسلمين بأن طبيعة هذا الدين هي هكذا: ألا تكون صعوبة هذا المنهج وارتفاعه وبطء ثمراته وطول طريقه مبرراً لما يتصورونه من إمكان العيش تحت مظلة الجاهلية المعاصرة - مكتفين بأداء الشعائر الفردية ـ هروباً من تلك التضحيات والتكاليف؟

والدعاء خاصة ألا نخشى أن يكون ذلك مبرراً لمحاولة الحصول على الثمرة من طرق أخرى يحسبونها ميسورة سهلة المنال بعيداً عن هذا الطريق المجهد الشاق ، وهو ما يحدث فعلاً في أكثر الدعوات المعاصرة ؟

إن الإجابة الشافية على هذه الأسئلة بإيضاح الحقائق الكبرى التي يغفل عنها من ينظر لهذا المنهج من أول وهلة ، يمكن أن نستنبطها ونقرأها من العرض السابق نفسه ـ أي من واقع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه - ، كما أن علماء أهل السنة والجماعة أجابوا عنها بلسان الحال أو بلسان المقال أو تلميحاً (2) ، وقد وجدت أن أفضل من أجاب على هذه الأسئلة من فقهاء الدعوة المعاصرين هو الأستاذ سيد قطب رحمه الله ، وهأنذا أنقل من كلامه ما يفيد ذلك - مع بعض زيادات توضيحية (3) -:

"إن حقيقة العبادة لو كانت هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت كل هذا الموكب من الرسائل والرسالات ، وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ، وما استحقت كل هذه العذابات والآلام التي تعرض لها الدعاة والمؤمنون على مدار الزمان. إنما الذي استحق كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الدينونة للعباد وردهم إلى الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن ، وفي منهج حياتهم كله في الدنيا والآخرة سواء .

إن توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد القوامة، وتوحيد الحاكمية، وتوحيد مصدر الشريعة ، وتوحيد منهج الحياة، وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونة الشاملة . إن هذا التوحيد هو الذي يستحق أن يرسل من أجله كل هؤلاء الرسل، وأن تبذل في سبيله كل هذه الجهود. وأن تتحمل لتحقيقه كل هذه العذابات والآلام على مدار الزمان. لا لأن الله سبحانه في حاجة إليه، فالله سبحانه غني عن العالمين، لكن لأن حياة البشر لا تصلح ولا تستقيم ولا ترتفع ولا تصبح حياة لائقة بالإنسان إلا بهذا التوحيد الذي لا حد لتأثيره في الحياة البشرية في كل جوانبها على السواء..

إن هذه الحقيقة ليست أهميتها فقط في تصحيح التصور الإيماني ، وإن كان هذا التصحيح في ذاته غاية ضخمة يقوم عليها بناء الحياة كله، بل إن أهميتها كذلك في حسن تذوق الحياة، وبلوغ هذا التذوق أعلى درجات الكمال والتناسق، فقيمة الحياة الإنسانية ذاتها ترتفع حين تصبح كلها عبادة لله، وحين يصبح كل نشاط فيها - صغر أم كبر - جزءاً من هذه العبادة أو كل العبادة متى نظرنا إلى المعنى الكبير الكامن فيه - وهو إفراد الله سبحانه بالألوهية والإقرار الكامل له وحده بالعبودية… هذا المقام الذي لا يرتفع الإنسان إلى ما هو أعلى منه ، ولا يبلغ كماله الإنساني إلا في تحقيقه ، وهو المقام الذي بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى مقاماته التي ارتقى إليها ، مقام تلقي الوحي من الله ومقام الإسراء أيضاً:

{تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً} [الفرقان:1].

{سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من ءاياتنا إنه هو السميع البصير} [الإسراء:1].

وننتـقـل إلى قيمة أخرى من قيم توحيد العبادة بمعنى الدينونة لله وحده وآثارها في الحياة الإنسانية ، إن الدينونة لله تُحَرِّرُ البشر من الدينونة لغيره ، وتخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. وبذلك تحقق للإنسان كرامته الحقيقية ، هذه الحرية وتلك ، اللتان يستحيل ضمانهما في ظل أي نظام آخر غير النظام الإسلامي يدين فيه الناس بعضهم لبعض بالعبودية في صورة من صورها الكثيرة.. سواء عبودية الاعتقاد، أو عبودية الشعائر ، أو عبودية الشرائع.. فكلها عبودية ، وبعضها مثل بعض تخضع الرقاب لغير الله بإخضاعها للتلقي في أي شأن من شؤون الحياة لغير الله. والناس لا يملكون أن يعيشوا غير مدينين ، لا بد للناس من دينونة.

والذين لا يدينون لله وحده يقعون من فورهم في ألوان العبودية لغير الله في كل جانب من جوانب الحياة.. إنهم يقعون فرائس لأهوائهم وشهواتهم بلا حد ولا ضابط، ومن ثم يفقدون خاصتهم الآدمية ويندرجون في عالم البهيمة:

{والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم} [محمد:12] .

ولا يخسر الإنسان شيئاً كأن يخسر آدميته ويندرج في عالم البهيمة ، وهذا هو الذي يقع حتماً بمجرد التملص من الدينونة لله وحده ، والوقوع في الدينونة للهوى والشهوة.

ثم هم يقعون فرائس لألوان من العبودية (يقعون في عبودية الأحبار والرهبان والجن والكهان والدجاجلة والمشعوذين) يقعون في شر ألوان العبودية للحكام والرؤساء الذين يصرفونهم وفق شرائع من عند أنفسهم ، لا ضابط لها ولا هدف إلا حماية مصالح المشرعين أنفسهم ، سواء تمثل هؤلاء المشرعون في فرد حاكم أو في طبقة حاكمة أو في جنس حاكم. فالنظرة على المستوى الإنساني الشامل تكشف عن هذه الظاهرة في كل حكم بشري لا يستمد من الله وحده ولا يتقيد بشريعة الله لا يتعداها… ولكن العبودية للعبيد لا تقف عند حدود العبودية للحكام والرؤساء والمشرعين.

فهذه هي الصورة الصارخة ، ولكنها هي ليست كل شيء ، إن العبودية للعباد تتمثل في صورة أخرى خفية ، ولكنها قد تكون أقوى وأعمق وأقسى من هذه الصورة (ألا وهي عبودية الأعراف والأوضاع والتقاليد) ، ونضرب مثلاُ لهذا: تلك العبودية لصانعي الموضات والأزياء مثلاً! أي سلطان لهؤلاء على قطيع كبير جداً من البشر؟ كل الذين يسمونهم متحضرين.

إن الزي المفروض من آلهة الأزياء في الملابس أو التصاميم أو الموديلات أو العربات أو المباني أو المناظر أو الحفلات؛ أزياء الصباح، أزياء بعد الظهر، أزياء المساء، الأزياء القصيرة، الأزياء الضيقة، أزياء السهرة، الأزياء المضحكة، أزياء المراسم .. إلخ ليمثل عبودية صارمة لا سبيل لجاهلي أو لجاهلية أن يفلت منها، أو يفكر في الخروج عنها. لو دان الناس في هذه الجاهلية الحضارية لله بعض ما يدينون لصانعي الأزياء لكانوا عباداً متبتلين. فماذا تكون العبودية إن لم تكن هي هذه؟! وماذا تكون الحاكمية والربوبية إن لم تكن هي حاكمية وربوبية صانعي الأزياء أيضاً؟!

وإن الإنسان ليبصر أحياناً بالمرأة المسكينة وهي تلبس ما يكشف عن سوءاتها ، وهي في الوقت ذاته لا يناسب شكلها ولا تكوينها ، وتضع من الأصباغ ما يتركها شائهة أو مثاراً للسخرية. ولكن الألوهية القاهرة لأرباب الأزياء والموضات تقهرها وتذلها لهذه المهانة التي لا تملك لها رداً، ولا تقوى على رفض الدينونة لها ، لأن المجتمع من حولها يدين لها. فكيف تكون الدينونة إن لم تكن هي هذه؟! وكيف تكون الحاكمية والربوبية إن لم تكن هي تلك؟! وليس هذا إلا مثلاً واحداً للعبودية المذلة حين لا يدين الناس لله وحده وحين يدينون لغير الله من العبيد.

وليست حاكمية الرؤساء والحاكم وحدها هي الصورة الكريهة المذلة لحاكمية البشر للبشر ولعبودية البشر للبشر ، وهذا يقودنا إلى قيمة توحيد العبادة والدينونة في صيانة أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم التي تصبح كلها ولا عاصم لها عندما يدين العباد للعباد في صورة من صور الدينونة ، سواء في حاكمية التشريع ، أو في صورة حاكمية الأعراف والتقاليد ، وفي صورة حاكمية الاعتقاد والتصور. هذه هي الحقيقة.

إن الدينونة لغير الله في الاعتقاد والتصور معناها الوقوع في براثن الأوهام والأساطير والخرافات التي لا تنتهي ، والتي تمثل الجاهليات الوثنية المختلفة صوراً منها ، وتمثل أوهام العوام المختلفة صوراً منها ، وتقدم فيها النذور والأضاحي من الأموال ـ وأحياناً من الأولاد! - تحت وطأة العقيدة الفاسدة والتصور المنحرف ، ويعيش الناس معها في رعب من الأرباب الوهمية المختلفة ، ومن السدنة والكهنة المتصلين بهذه الأرباب من السحرة المتصلين بالجن والعفاريت.. ، ومن المشايخ والقديسين أصحاب الأسرار ، ومن.. ومن.. ، ومن الأوهام التي ما يزال الناس منها في رعب وفي خوف وفي تقرب وفي رجاء حتى تنقطع أعناقهم وتتوزع جهودهم وتتبدد طاقتهم في مثل هذا الهراء.

وقد مثلنا لتكاليف الدينونة لغير الله في الأعراف والتقاليد بأرباب الأزياء والمودات ، فينبغي أن نعلم كم من الأموال والجهود تضيع إلى جانب الأعراض والأخلاق في سبيل هذه الأرباب! إن البيت ذا الدخل المتوسط ينفق على الدهون والعطور والأصباغ وعلى تصفيف الشعر وكيه وعلى الأقمشة التي تصنع منها الأزياء المتقلبة عاماً بعد عام ، وما يتبعها من الأحذية المناسبة والحلي المتناسقة مع الزي والشعر الحذاء… إلى آخر ما تقضي به تلك الأرباب النكدة.

إن البيت ذا الدخل المتوسط ينفق نصف دخله ونصف جهده لملاحقة أهواء تلك الأرباب المتقلبة ، التي لا تثبت على حال. ومن وراءها اليهود أصحاب رؤوس الأموال الموظفة في الصناعات الخاصة بدنيا تلك الأرباب. ولا يملك الرجل والمرأة ـ وهما في هذا الكد الناصب - أن يتوقفا لحظة عن تلبية ما تقتضيه تلك الدينونة النكدة من تضحيات في الجهد والمال والعرض والخلق على السواء.

وأخيراً تجيء تكاليف العبودية لحاكمية التشريع البشرية ، وما من أضحية يقدمها عابد الله لله إلا ويقدم الذين يدينون لغير الله أضعافها للأرباب الحاكمة من الأموال والأنفس والأعراض.

وتقام أصناف من (الوطن) ومن (القوم) ومن (الجنس) ومن (الطبقة) ومن (الإنتاج) ، ومن غيرها من شتى الأصنام والأرباب.. وتدق عليها الطبول ، وتنصب لها الرايات، ويدعى عباد الأصنام إلى بذل النفوس والأموال لها بغير تردد ، وإلا فالتردد هو الخيانة وهو العار!

وحين يتعارض مع العِرْض متطلبات هذه الأصنام فإن العرض هو الذي يضحي ، ويكون هذا هو الشرف الذي يراق على جوانبه الدم - كما تقول الأبواق المنصوبة حول الأصنام ومن وراءها أولئك الأرباب من الحكام!

إن كل التضحيات التي يقتضيها الجهاد في سبيل الله ليعبد الله وحده في الأرض , ويتحرر البشر من عبادة الطواغيت والأصنام , ولترتفع الحياة الإنسانية إلى الأفق الكريم الذي أراده الله للإنسان ... إن كل هذه التضحيات التي يقتضيها الجهاد في سبيل الله ليبذل مثلها وأكثر من يدينون لغير الله ؛ والذين يخشون العذاب والألم والاستشهاد وخسارة الأنفس والأولاد والأموال إذا هم جاهدوا في سبيل الله – عليهم أن يتأملوا ماذا تكلفهم الدينونة لغير الله في الأنفس والأموال والأولاد – وفوقها الأخلاق والأعراض  , إن تكاليف الجهاد في سبيل الله في وجه طواغيت الأرض كلها لم تكلفهم ما تكلفهم الدينونة لغير الله , وفوق ذلك كله الذل والدنس والعار .

وأخيرا فإن توحيد العبادة والدينونة لله وحده , ورفض العبودية والدينونة لغيره من خلقه ذو قيمة كبيرة في صيانة الجهد البشري من أن ينفق في تأليه الأربا ب الزائفة كي يوجه بجملته إلى عمارة الأرض وترقيتها وترقية الحياة فيها .

وهنا ظاهرة واضحة متكررة ؛ وهي أنه كلما قام عبد من عبيد الله ليقيم من نفسه طاغوتا يعبد الناس لشخصه من دون الله , احتاج هذا الطاغوت كي يعبد - أي يطاع ويتبع - إلى أن يسخر كل القوى والطاقات : تسبح بحمده وترتل ذكره وتنفخ في صورته العبدية الهزيلة لتضخم وتشغل مكان الألوهية العظيمة , وألا تكف لحظة واحدة عن النفخ في تلك الصورة العبدية الهزيلة وإطلاق الترانيم والتراتيل حولها , وحشد الجموع بشتى الوسائل للتسبيح باسمها وإقامة طقوس العبادة لها .

وهو جهد ناصب لا يفرغ أبدا ؛ لأن الصورة العبدية الهزيلة تنكمش وتهزل وتتضاءل كلما سكن من حولها النفخ والطبل والزمر والبخور والتسابيح والتراتيل , وفي هذا الجهد الناصب تصرف طاقات وأموال وأرواح – أحيانا – وأعراض . ولو أنفق بعضها في عمارة الأرض والإنتاج المثمر لترقية الحياة البشرية وإغنائها لعاد على البشرية بالخير الوفير , ولكن هذه الطاقات والأموال والأرواح أو الأعراض لا تنفق في هذا السبيل المثمر ما دام الناس لا يدينون لله وحده إنما يدينون للطواغيت من دونه .

ومن هذه اللمحة يتكشف مدى خسارة البشرية في الطاقات والأموال والعمارة والإنتاج من جراء تنكبها عن الدينونة لله وحده وعبادة غيره من دونه , وذلك فوق خسارتها في الأرواح والأعراض والقيم والأخلاق , فوق الذل والقهر والدنس والعار . وليس هذا في نظام أرضي دون نظام وإن اختلفت الأوضاع واختلفت ألوان التضحيات .

   * والخلاصة التي ينتهي إليها القول في هذه القضية : أنه يتجلى بوضوح أن قضية الدينونة والاتباع والحاكمية التي يعبر القرآن عنها بالعبادة هي قضية عقيدة وإيمان وإسلام وليست قضية فقه أو سياسة أو نظام ؛ إنها قضية عقيدة تقوم أو لا تقوم , وقضية إيمان يوجد أو لا يوجد , وقضية إسلام يتحقق أو لا يتحقق , ثم هي بعد ذلك لا قبله قضية منهج للحياة الواقعية يتمثل في شريعة ونظام وأحكام وفي أوضاع تجمعات تتحقق فيها الشريعة والنظام وتنفذ فيها الأحكام .

وكذلك إن قضية العبادة ليست قضية شعائر ، وإنما هي قضية دينونة واتباع ونظام وشريعة وفقه وأحكام وأوضاع في واقع الحياة ، وإنها من أجل أنها كذلك استحقت كل هذه الرسل ليواجهوا الجاهلية العنيدة" (1)

حقيقة النفس الإنسانية 

تمهيد : 

إن من ميزات هذا الدين الكبرى أنه نزل بالحق والعدل الذي قامت عليه السماوات و الأرض { أنزله الذي يعلم السر في السماوات و الأرض } [الفرقان : 6], وكلما ازداد البشر نظرا في الآيات الآفاقية والنفسية والقرآنية أبصروا من شواهد التطابق العجيب والتوافق الدقيق ما ينطق بأن هذا الدين هو الحق , و أن فاطر النظام الكوني ومنزل الوحي الديني واحد لا شريك له .

فالنظر السليم لا يرى في خلق الرحمن من تفاوت ولا يرى في وحي الرحمن من اختلاف , لو كان فيهـما آلـهة إلا الله لفـسـدتا , ولـو كان من عـند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا .

والنفس الإنسانية هي موضوع الوحي " كتابا وسنة " والمخاطب به . فما نزلت الكتب و أرسلت الرسل إلا لهذا الإنسان - الذي لم يكن شيئا مذكورا - بيانا لغاية خلقه وحكمة وجـوده وتزكية لنفـسه , وهـداية إلى طريق الحق والصلاح , وتحـذيرا من سبل الضلال والفساد , وتعريفا له بصفات معبوده تعالى - الذي معرفته أشرف أنواع العلوم والمعارف وأعظمها أثرا في صلاح الإنسان - وإخبارا له بمصيره إن أطاع أو عصى .

فالدين دين الله والنفس خلق الله , والله تعالى أحكم الحاكمين وهو الغني الحميد , فلهذا لم يشرع لها من الدين إلا ما يتفق وطبعها ويتناسق وحقيقتها ويملأ كل جوانبها ويشبع كل رغباتها , لكن في حدود مقدرة وضوابط مقررة تحفظ لهذا الإنسان سعادته وتكفل صلاحه , ولا يعود ضرر تجاوزها إلا عليه وحده , قال تعالى :

{ فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [ الروم : 30 ] .

وقال صلى الله عليه و سلم : " ما من مولود إلا ويولد على الفطرة , فأبواه يهودانه و ينصرانه ويمجسانه "([1]) .

ولهذا كانت معرفة النفس الإنسانية كما هي في القرآن والسنة من أجلى الأدلة كشفا عن حقيقة الإيمان الشرعية. ومما يؤكد ذلك أنه يتفق مع "منهج الوحي" في الاستدلال والمناظرة , ذلك المنهج الفطري الذي يخاطب البديهة بوضوح وتيسير بعيدا عن الخوض في القضايا الذهنية المعقدة.

فمعرفة الحقيقة النفسية لا تحتاج إلى عناء في الاستدلال والفهم, بل تقوم على بدهيات مسلمة يحسها كل إنسان من نفسه - مؤمنا أو كافرا - ولا ينكرها إلا مكابر مغالط, ومن هنا كثر الاستدلال على التوحيد بما في حقيقة الإنسان من صفات كالعجز والجهل والضعف والافتقار, وهي من أقوى طرق الاسـتدلال و أجلاها لكل ذي لب .

ويتبع ذلك الاستدلال على ضرورة الاستقامة على دين الله واتباع شرعه بما في النفس البشرية من صفات كالظلم و الجهل و الطمع و الشح و الهلع و الكبر و حب الخصام , والإقرار وقت الشدة بما تنكره حال الرخاء !!

وانطلاقا من حقيقة مسلمة في التصور الإسلامي عامة - وهي أن الوحي إنما نزل لتزكية النفس الإنسانية وتقويم عملها؛ ابتداءً من إصلاح الخواطر و الإرادات, وانتهاءً بإصلاح الأعمال والحركات, رأيت أن أعرض حقيقة هذه النفس وطبيعة عملها توصلاً بذلك إلى تحويل حقيقة الإيمان الشرعية من مسألة جدلية إلى قضية مسلمة بدهية كتلك؛ أي إنني سأحاول - ما أقدرني الله عليه - إيضاح العلاقة التطابقية بين الحقيقة البدهية للنفس البشرية وبين المفهوم الصحيح للعبادة؛ ليظهر أي التصورين الصادق المصيب ؛ التصور السلفي أم التصور الإرجائي ؟

إن الناظر لحقيقة النفس الإنسانية وطبيعة عملها في الكتاب والسنة وأقوال العلماء الربانيين المستمدة منهما , يجد أن ذلك يقوم على قضايا بدهية يأخذ بعضها برقاب بعض :

  * والقضية الأولى : أن " كل إنسان عامل ".

يقول تعالى: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه} [الانشقاق : 6].

أي: "يا أيها الإنسان إنك عامل إلى ربك عملا فملاقيه به , خيراً كان عملك ذلك أو شراً , يقول : فليكن علمك مما ينجيك من سخطه ويوجب لك رضاه , ولا يكن مما يسخطه عليك فتهلك"(2) .

قال قتادة : " إن كدحك يابن آدم لضعيف , فمن استطاع أن يكون كدحه في طاعة الله فليفعل ولا قوة إلا بالله"([2]) . ويدل لذلك قوله تعالى :

{ لقد خلقنا الإنسان من كبد } [ البلد : 4 ] .

على المعنى الظاهر المختار في تفسيرها([3]) ، وعلى هذا جاء الحديث الصحيح : " كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها "([4]) , والحديث الصحيح : " أصدق الأسماء حارث وهمام "([5]) .

فالغدو وبيع النفس عمل مشترك لكل حي ، وإنما الفارق أن المطيع يعتق والعاصي يوبق .

وكل إنسان لا يخلو من الحرث والهم , أي العمل والإرادة ، فالتسمية بحارث وهمام وصف للطبيعة البشرية على ما هي عليه دون اقتضاء مدح أو ذم للمسمى ، ولهذا كانا أصدق الأسماء .

و بدهي أن العمل هو أثر النية والإرادة ، فكل يعمل وفق ما يعتقد ويرى ؛ قال تعالى :

{ قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا } [ الإسراء : 84 ].

فهذا إخبار بأن كل إنسان يعمل على شاكلته , قال ابن عباس : على ناحيته ، وقال مجاهد : على حدته وطبيعته ، وقال قتادة : على نيته , وقال ابن زيد : على دينه([6]) . ومؤدى هذه الأقوال واحد .

والمقصود أن الصلة بين الإيمان وبين العمل كالصلة بين العمل والحياة ، فالإنسان بمقتضى كونه حيا حساسا هو كادح مكابد ؛ أي عامل دائب العمل , وأساس العمل هو الفكر والإرادة , ومعلوم أن الإنسان لا يخلو قط من الفكر والإرادة ، وأنه لا بد لها من متعلق ما وأثر ما في القلب والجوارح , وليست حقيقة العمل إلا هذا .

فإن لم يكن للفكر والهم والإرادة أثر يوافقها أو نتيجة تطابقها أو مظهر يصدقها لم تكن فكرة ولا إرادة على الحقيقة , وإنما هي عارض من عوارض الخاطر وعليه لا يصح أن تسمى إيمانا أو اعتقاداً .

وعلى قدر صدق الفكرة وقوة الإرادة يكون تحقق العمل في الخارج إن خيرا وإن شرا , فما يظهر على الجوارح هو الجزء الخارجي من الحقيقة الإنسانية المركبة ومن عملي القلب والجوارح تركيبا مزجيا عضويا, كالسفينة التي أسفلها تحت سطح الماء وأعلاها فوقه ، وهذا ما يطابق تماماً الحقيقة المركبة للإيمان الشرعي ([7]).

يصدق هذا قوله صلى الله عليه و سلم: "إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب""([8]). فهذا مع دلالته على الارتباط العضوي بين الإرادة والعمل - يؤكد مهمة الدين التي هي إصلاح الأصل ليصلح الفرع والأثر .

وهذه العبارة النبوية أبلغ من العبارة التي قالها أبو هريرة رضي الله عنه وهي: "القلب ملك والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده!" ؛ لأن العلاقة بين القلب والأعضاء أقوى منها بين الملك والجنود، لا سيما والكلام في مورد الحديث عن الإيمان, وأصل محل الإيمان القلب, ويسري في الجوارح بحسب قوته في الأصل كالطاقة في الآلة. والملك قد يفسد وبعض جنده صالح وبالعكس بخلاف القلب؛ فإن الجسد له لا يخرج عن إرادته ولا يتحرك بدونه .

فكلام النبي صلى الله عليه و سلم كشف لعين الحقيقة , وكلام الصحابي رضي الله عنه تقريب وتمثيل ([9]).

هذا وقد أنزل الله تعالى الكتب وأرسل الرسل لتدعو هذا الإنسان الكادح بطبعه العامل - بمقتضى حياته- أن يكون كدحه أي عمل قلبه وجوارحه على ما شرع له الله، أي وفق الغاية التي خلقه لأجلها {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [ الذاريات : 56 ] .

فإن لم يجب داعي الله ويؤمن برسالاته فإن عمله ينصرف قطعا إلى ضد ذلك , أي أنه إن لم يكن عابدا لله فإنه عابد للشيطان لا محالة {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين . وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم} [يس : 60 , 61] .

وهذا هو مفترق الطريق بين شطري الجماعة الإنسانية "المؤمنين والكافرين".

وذلك أن حكمة الله تعالى في خلق الإنسان اقتضت أن يكون أمام الإنسان طريقان مختلفان؛ طريق الكفر وطريق الإيمان, وأن يسير في أيهما شاء ابتلاء له وامتحانا {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف : 29] .

وكذا مقتضى ذلك أن جعل للنفس البشرية في حركتها الجبلِّية الدائبة مصدرين متنافرين يمدانها بالطاقة والحركة بين حين وآخر - هما :

1-  ذكر الله بالمعنى الشامل له, ومنه تدبر القرآن والتفكر في المخلوقات والآلاء والعلم النافع، وكل ما من شأنه أن يزكيها ويوقظها ويصلح خلجاتها وخواطرها، وما يقذفه " الملك " فيها من تصديق بالحق و إيعاد بالخير.

2-  وسوسة الشيطان الذي يعبث بها ويغرها ويلهيها ويزين لها ويمكر بها، ويقذف فيها التكذيب بالحق والإيعاد بالشر([10]).

فللملك لمة وللشيطان لمة . والنفس كالرحى الدائرة ؛ إما أن تستمد وقودها و طحينها من هذا أو من هذا ولا تقف عن العمل قط .

وهذه القضية وما يترتب عليها من قضايا تحدث عنها علماء الإسلام الربانيون , متخذينها منطلقا لإيضاح حقائق كبرى في معاملات القلوب مع الله تعالى وأسلوب تزكيتها .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إيضاحا لحديث ابن مسعود : " إن للملك لمة وللشيطان لمة .. " : " هذا الكلام الذي قاله ابن مسعود وهو محفوظ عنه , وربما رفعه بعضهم إلى النبي صلى الله عليه و سلم , وهو كلام جامع لأصول ما يكون من العبد من علم وعمل ، ومن شعور وإرادة .

وذلك أن العبد له قوة الشعور والإحساس والإدراك وقوة الإرادة والحركة , وإحداهما أصل الثانية مستلزمة لها , والثانية مستلزمة للأولى ومكملة لها , فهو بالأولى يصدق بالحق ويكذب بالباطل , وبالثانية يحب النافع الملائم له ويبغض الضار المنافي له([11]) , والله سبحانه خلق عباده على الفطرة التي فيها معرفة الحق والتصديق به ومعرفة الباطل والتكذيب به ، ومعرفة النافع الملائم والمحبة له ، ومعرفة الضار المنافي والبغض له بالفطرة .

فما كان حقا موجوداً صدقت به الفطرة (يعني من العلوم) , وما كان حقا نافعا عرفته الفطرة واطمأنت إليه وذلك هو المعروف, وما كان باطلا معدوما كذبت به الفطرة فأبغضته فأنكرته, قال تعالى:

{يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر } .

والإنسان كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "أصدق الأسماء حارث وهمام" فهو دائما يهم ويعمل, لكنه لا يعمل إلا ما يرجو نفعه أو دفع مضرته, ولكن قد يكون ذلك الرجاء مبنيا على اعتقاد باطل, إما في نفس المقصود فلا يكون نافعا ولا ضارا, وإما في الوسيلة فلا تكون طريقا إليه وهذا جهل. وقد يعلم أن هذا الشيء يضره ويفعله, ويعلم أنه ينفعه ويتركه؛ لأن ذلك العلم عارضه ما في نفسه من طلب لذة أخرى أو دفع ألم آخر جاهلا ظالما حيث قدم هذا على ذاك.

و إذا كان الإنسان لا يتحرك إلا راجيا , فالرجاء لا يكون إلا بما يلقى في نفسه من الإيعاد بالخير الذي هو طلب المحبوب أو فوات المكروه . فكل بني آدم له اعتقاد ؛ فيه تصديق بشيء وتكذيب بشيء , وله قصد وإرادة لما يرجوه مما هو عنده محبوب ممكن الوصول إليه , أو لوجود المحبوب عنده , أو لدفع المكروه عنه .

والله خلق العبد يقصد الخير فيرجوه بعمله, فإذا كذب بالحق فلم يصدق به, ولم يرج الخير فيقصده ويعمل له كان خاسرا بترك تصديق الحق وطلب الخير, فكيف إذا كذب بالحق وكره إرادة الخير؟ فكيف إذا صدق بالباطل وأراد الشر؟ فذكر عبدالله بن مسعود أن لقلب بن آدم لمة من الملك ولمة من الشيطان, فلمة الملك تصديق بالحق وهو ما كان من جنس من غير جنس الاعتقاد الفاسد, ولمة الشيطان هو تكذيب بالحق و إيعاد بالشر, وهو ما كان من جنس إرادة الشر وظن وجوده: إما مع رجائه إن كان مع هوى نفس, و إما مع خوفه إن كان غير محبوب لها - وكل من الرجاء والخوف مستلزم للآخر - .

فمبدأ العلم الحق والإرادة الصالحة من لمة الملك, ومبدأ الاعتقاد الباطل والإرادة الفاسدة من لمة الشيطان ..."([12]).

وعن هذه أو تلك تصدر الأعمال - خيرها وشرها - التي لا يخلو منها بشر قط .

ومن جليل الاستنباط أن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه شيخ الإسلام ابن القيم استخرجا هذه الحقيقة من سورة الفاتحة , وكررا ذلك في كثير من تآليفهما النافعة فكشفا بذلك عن طرف من سر الحكمة الربانية في قراءة هذه السورة في كل ركعة , فكل مسلم لا بد أن يتلوها سبع عشرة مرة في اليوم على الأقل .

يقول ابن القيم رحمه الله: "لما كان في القلب قوتان: قوة العلم والتمييز, وقوة الإرادة والحب, كان كماله وصلاحه باستعمال هاتين القوتين فيما ينفعه ويعود عليه بصلاحه وسعادته. فكماله باستعمال قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته والتمييز بينه وبين الباطل, وباستعمال قوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل, فمن لم يعرف الحق فهو ضال, ومن عرفه وآثر غيره عليه فهو مغضوب عليه ومن عرفه واتبعه فهو منعم عليه.

وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نسأله في صلاتنا أن يهدينا صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. ولهذا كان النصارى أخص بالضلال لأنهم أمة جهل, واليهود أخص بالغضب لأنهم أمة عناد, وهذه الأمة هم المنعم عليهم, ولهذا قال سفيان بن عيينه: من فسد من عبّادنا ففيه شبه من النصارى, ومن فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود"([13]) .

ثم ذكر بعض الشواهد النقلية وقال: "وهذا المعنى في القرآن في مواضع كثيرة؛ يخبر سبحانه أن أهل السعادة هم الذين عرفوا الحق واتبعوه, وأن أهل الشقاوة هم الذين جهلوا الحق وضلوا عنه أو علموه وخالفوه واتبعوا غيره "

ويختم الموضوع قائلا: "وينبغي أن تعرف أن هاتين القوتين لا تتعطلان في القلب, بل إن استعمل قوته العلمية في معرفة الحق وإدراكه وإلا استعملها في معرفة ما يليق به ويناسبه من الباطل.

وإن استعمل قوته الإرادية العملية في العمل به وإلا استعملها في ضده , فالإنسان حارث همام بالطبع كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : " أصدق الأسماء حارث وهمام " .

فالحارث: الكاسب العامل, والهمام: المريد, فإن النفس متحركة بالإرادة, وحركتها الإرادية لها من لوازم ذاتها, والإرادة تستلزم مرادا يكون متصورا لها متميزا عندها, فإن لم تتصور الحق وتطلبه وتريده تصورت الباطل وطلبته وأرادته ولا بد .... "([14]) .

فإذا تبين لنا هذا الجانب عن النفس الإنسانية وأنها في حركة لاهثة مستمرة ما بقيت حية , فمن الضروري معرفة شيء من تفصيل حركتها وعلاقة ذلك بالمظهر الخارجي للحركة " العمل " , وبمصدر الطاقة المستمر " الملك أو الشيطان " , وبالدافع والغرض للحركة " تحصيل النافع الملائم ودفع الضار المنافر " .

وكل هذا جاء مفصلا في كلام شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم - رحمهما الله - مستنبطا من نصوص الوحي .

ونظل مع ابن القيم في تقرير هذه الحقيقة - ولا نقول النظرية - ثم نعود لشيخه الذي عرضها مراراً من خلال التقرير الأهم , وهو تقرير شمول العبودية وضرورتها لكل حي , والربط بين هاتين الحقيقتين الكبريين :

1-      حقيقة الحركة الدائمة للنفس الإنسانية .

2-      حقيقة شمول العبودية لكل خاطرة وهم وعزم وهمس وفعل من تلك الحركة .

يقول ابن القيم: "مبدأ كل علم نظري، وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار؛ فإنها توجب التصورات, والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل، وكثرة تكراره تعطي العادة" . "واعلم أن الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر، فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر، فيأخذها التذكر فيؤديها إلى الإرادة؛ فتأخذها الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل، فتستحكم فتصير عادة. فردها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها.

ومعلوم أنه لم يعط الإنسان إماتة الخواطر ولا القوة على قطعها فإنها تهجم عليه هجوم النفس ، إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها ورضاه به ومساكنته له . وعلى رفع أقبحها وكراهته له ونفرته منه , كما قال الصحابة : يا رسول الله , إن أحدنا يجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة([15]) أحب إليه من أن يتكلم به ؟ فقال : "  أو قد وجدتموه ؟ " قالوا : نعم . قال : " ذاك صريح الإيمان " .

وفي لفظ : " الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة " ([16]).

"وقد خلق الله النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تسكن ولا بد لها من شيء تطحنه، فإن وضع فيها حب طحنته, وإن وضع فيها تراب أو حصى طحنته؛ فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرحى, ولا تبقى تلك الرحى معطلة قط بل لابد لها من شيء يوضع فيها، فمن الناس من تطحن رحاه حبا يخرج دقيقا ينفع به نفسه وغيره. وأكثرهم يطحن رملا وحصى وتبناً ونحو ذلك، فإذا جاء وقت العجن والخبز تبين له حقيقة طحينته" .

واعتمادا على ما تقرر يصف ابن القيم ما ينبغي للمؤمن إزاء هذا فيقول : " فإذا دفعت الخاطر الوارد عليك اندفع عنك ما بعده ، وإن قبلته صار فكراً جوالاً ... " .

ومن المعلوم أن إصلاح الخواطر أسهل من إصلاح الأفكار , وإصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات , وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل ، وتداركه أسهل من قطع العوائد.

فأنفع الدواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون ما لا يعنيك ، فالفكر فيما لا يعني باب كل شر .

ومن فكر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه , واشتغل عن أنفع الأشياء له بما لا منفعة له فيه .

فالفكر والخواطر والإرادة والهمة أحق شيء بإصلاحه من نفسك، فإن هذه خاصتك وحقيقتك التي تبتعد بها أو تقرب من إلهك و معبودك الذي لا سعادة لك إلا في قربه ورضاه عنك وكل الشقاء في بعدك عنه وسخطه عليك .

ومن كان في خواطره ومجالات فكره دنيئا خسيسا لم يكن في سائر أمره إلا كذلك .

وإياك أن تمكن الشيطان من بيت أفكارك وإرادتك، فإنه يفسدها فسادا يصعب تداركه, ويلقي إليك أنواع الوساوس والأفكار المضرة, ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك وأنت الذي أعنته على نفسك بتمكينه من قلبك وخواطرك فملكها عليك . فمثالك معه مثال صاحب رحى يطحن فيها جيد الحبوب , فأتاه شخص معه حمل تراب وبعر وفحم وغثاء ليطحنه في طاحونته ، فإن طرده ولم يمكنه من إلقاء ما معه في الطاحون استمر على طحن ما ينفعه , وإن مكنه في إلقاء ذلك في الطاحون أفسد ما فيها من الحب وخرج الطحين كله فاسداً .

والذي يلقيه الشيطان في النفس لا يخرج عن الفكر فيما كان ودخل في الوجود لو كان على خلاف ذلك ؟!

وفيما لم يكن لو كان كيف كان يكون ؟!

أو فيما يهلك الفكر فيه من أنواع الفواحش والحرام .

أو في خيالات وهمية لا حقيقة لها .

وإما في باطل أو فيما لا سبيل إلى إدراكه من أنواع ما طوي عنه علمه ؛ فيلقيه في تلك الخواطر التي لا يبلغ منها غاية , ولا يقـفه منها نهاية فيجعل ذلك مجال فكره ومسرح وهمه .

وجماع إصلاح ذلك أن تشغل فكرك في باب العلوم والتصورات بمعرفة ما يلزمك من التوحيد وحقوقه ، وفي الموت وما بعده إلى دخول الجنة والنار ، وفي آفات الأعمال وطرق التحرز منها , وفي باب الإرادات و العزوم أن تشغل نفسك بإرادة ما ينفعك وإرادته وطرح ما يضرك إرادته " ([17]).

وتبيانا لأهمية الإرادة والفكر وكونها مبدأ عمل القلب وعمل الجوارح ، ننتقل إلى موضع آخر من كلامه توسع فيه في بيان حقيقة مهمة يمكن أن توجز في أن : " كل إنسان مفكر وكل مفكر عامل " - بيانا لتضاد الأفكار وتعاقبها بما يخرج الإنسان عن أن يكون تمثالا تحفر فيه الكلمة فتبقى ما بقي .

ثم يعود السياق فينتظم بقية كلامه هنا , يقول : " أصل الخير والشر من قبل التفكير ، فإن الفكر مبدأ الإرادة والطلب في الرغبة ([18]) والترك والحب والبغض .

وأنفع الفكر : الفكر في مصالح المعاد وفي طرق اجتلابها ، وفي دفع مفاسد المعاد وفي طرق اجتنابها .

فهذه أربعة أفكار هي أجل الأفكار . ويليها أربعة :

فكر في مصالح الدنيا وطرق تحصيلها , وفكر في مفاسد الدنيا وطرق الاحتراز منها .

فعلى هذه الأقسام الثمانية دارت أفكار العقلاء .

ورأس القسم الأول الفكر و آلاء الله ونعمته وأمره ونهيه ، وطرق العلم به وبأسمائه وصفاته من كتابه وسنة نبيه وما والاهما .

وهذا الفكر يثمر لصاحبه المحبة والمعرفة , فإذا فكر في الآخرة وشرفها ودوامها وفي الدنيا وخستها وفنائها ، أثمر ذلك الرغبة في الجد والاجتهاد وبذل الوسع في اغتنام الوقت .

وهذه الأفكار تعلي همته وتحييها بعد موتها وسفولها وتجعله في واد والناس في واد .

و بإزاء هذه الأفكار: الأفكار الرديئة التي تجول في قلوب أكثر هذا الخلق؛ كالفكر فيما لا يكلف فيه ولا أعطي الإحاطة به من فضول العلم الذي لا ينفع, كالفكر في كيفية ذات الرب وصفاته مما لا سبيل للعقول إلى إدراكه.

ومنها الفكر في الصناعات([19]) الدقيقة التي لا تنفع بل تضر؛ كالفكر في الشطرنج والموسيقى وأنواع الأشكال و التصاوير([20]).

ومنها الفكر في العلوم التي لو كانت صحيحة لم يعط الفكر فيها النفس كمالاً ولا شرفاً , كالفكر في دقائق المنطق , والعلم الرياضي والطبيعي , وآكده علوم الفلاسفة التي لو بلغ الإنسان غايتها لم يكمل بذلك ولم يزك نفسه ([21]).

ومنها الفكر في الشهوات واللذات وطرق تحصيلها , وهذا وإن كان للنفس فيه لذة لا عاقبة له , ومضرته في عاقبة الدنيا قبل الآخرة أضعاف مسرته.

ومنها الفكر فيما لم يكن لو كان كيف كان , كالفكر فيما إذا صار ملكاً أو وجد كنزاً أو ملك ضيعة ماذا يصنع وكيف يتصرف ؟! ويأخذ ويعطي وينتقم ونحو ذلك من أفكار السفّّل .

ومنه الفكر في جزئيات أحوال الناس ومداخلهم ومخارجهم , وتوابع ذلك من فكر النفوس المبطلة الفارغة من الله ورسوله والدار الآخرة .

ومنها الفكر في دقائق الحيل التي يتوسط بها إلى أغراضه وهواه  مباحة كانت أو محرمة .

ومنها الفكر في أنواع  الشعر و صروفه وأفانينه في المدح والهجاء والغزل والمراثي ونحوها ([22])، فإنه يشغل الإنسان عن الفكر فيما فيه سعادته وحياته الدائمة .

ومنها الفكر في المقدرات الذهنية التي لا وجود لها في الخارج ولا بالناس حاجة إليها البتة ، وذلك موجود في كل علم حتى في علم الفقه والأصول والطب ([23]).

فكل هذه الأفكار مضرتها أرجح من منفعتها , ويكفي في مضرتها شغلها عن الفكر فيما هو أدنى به وأعود عليه بالنفع عاجلا أو آجلا ([24]).

وبعد هذه اللفتات التزكوية القيمة نعود لاستكمال الحديث عن تلك الحقيقة الكبرى :

"وبالجملة فالقلب لا يخلو قط من الفكر، إما في واجب آخرته ومصالحها وإما في مصالح دنياه ومعاشه، وإما في الوساوس والأماني الباطلة والمقدرات المفروضة. وقد تقدم أن النفس مثلها كمثل الرحى تدور بما يلقى فيها، فإن ألقيت فيها حباً دارت به وإن ألقيت فيها زجاجاً وحصى وبعراً دارت به، والله سبحانه هو قيم تلك الرحى ومالكها ومتصرفها, وقد أقام لها ملكاً يلقي فيها ما ينفعها فتدور به، وشيطانا يلقي فيها ما يضرها فتدور به، فالملك يلم بها مرة والشيطان يلم بها مرة. فالحب الذي يلقيه الملك إيعاد بالخير وتصديق بالوعد, والحب الذي يلقيه الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالوعد، والطحين على قدر الحب، وصاحب الحب المضر لا يتمكن من إلقائه إلا إذا وجد الرحى فارغة من الحب النافع " ([25]).

وعن القضية نفسها ومن الزاوية التي أشرنا إليها يتحدث شيخه شيخ الإسلام فيقول : " كل من استكبر عن عبادة الله لابد أن يعبد غيره " .

وهذا أصل عظيم من أصول التصور السلفي يشرحه مرتبطا بحقيقة النفس الإنسانية قائلاً: "فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة, وقد ثبت في الصحيح ([26])عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: "أصدق الأسماء حارث وهمام".

فالحارث الكاسب الفاعل ، والهمام فعال من الهم ، والهم أول الإرادة . فالإنسان له إرادة دائما , وكل إرادة فلابد لها من مراد تنتهي إليه ، فلابد لكل عبد من مراد محبوب هو منتهي حبه وإرادته .

فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته، بل استكبر عن ذلك فلابد أن يكون له مراد محبوب يستعبده غير الله . فيكون عبداً لذلك المراد المحبوب؛ إما المال، وإما الجاه، وإما الصور([27])، وإما ما يتخذه إلهاً من دون الله, كالشمس والقمر والكواكب والأوثان وقبور الأنبياء والصالحين، أو من الملائكة والأنبياء الذين يتخذهم أرباباً أو غير ذلك مما عبد من دون الله" ([28]).

وكما أن أحداً لا يخلو من كفر أو إيمان ، فكذلك الحال في تفصيلات الإيمان وشعبه ، فإن الله شرع للنفس من التعبد ما يستغرق كل حركاتها وإراداتها ، فما لم تتعبد بشيء منها وقعت لا محالة في ضده من البدعة أو المعصية ، وأقل ما تقع فيه ترك الأولى واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير والغفلة عن الذكر .

"وهكذا أهل البدع لا تجد أحداً ترك بعض السنة التي يجب التصديق بها والعمل إلا وقع في بدعة، ولا تجد صاحب بدعة إلا ترك شيئا من السنة, كما جاء في الحديث: "ما ابتدع قوم بدعة إلا تركوا من السنة مثلها" ([29]).

وقد قال تعالى :

{فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء} [المائدة : 14] .

فلما تركوا حظا مما ذكروا به اعتاضوا بغيره فوقعت بينهم العداوة والبغضاء .

وقال تعالى :

{فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} [طه:123, 124] .

وقال :

{اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون} [ الأعراف : 3 ] .

فأمر باتباع ما أنزل ونهى عما يضاد ذلك وهو اتباع أولياء من دونه, فمن لم يتبع أحدها اتبع الآخر، ولهذا قال:

{ويتبع غير سبيل المؤمنين} [النساء : 115] .

قال العلماء : من لم يكن متبعا سبيلهم كان متبعا غير سبيلهم ، فاستدلوا بذلك على أن اتباع سبيلهم واجب فليس لأحد أن يخرج عما أجمعوا عليه .

وكذلك من لم يفعل المأمور فعل المحظور, ومن فعل المحظور لم يفعل جميع الأمور، فلا يمكن الإنسان أن يفعل  جميع ما أمر به مع فعله لبعض ما حظر, ولا يمكنه ترك كل ما حظر مع تركه لبعض ما أمر، فإن ترك ما حظر عليه من جملة ما أمر به فهو مأمور ومن المحظور ترك المأمور، فكل ما شغله عن الواجب فهو محرم, وكل ما لا يمكن فعل الواجب إلا به فعليه فعله" ([30]).

وكالشرح لهذا الكلام يتحدث الإمام ابن القيم بأسلوبه الأدبي فيقول : " قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده ، وهذا كما أنه في الذوات والأعيان فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات .

فإذا كان القلب ممتلئا بالباطل اعتقادا ومحبة لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع . كما أن اللسان إذا اشتغل بالتكلم بما لا ينفع لم يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه إلا إذا فرغ لسانه من النطق بالباطل .

وكذلك الجوارح إذا اشتغلت بغير الطاعة ، لم يكن يشغلها بالطاعة إلا إذا فرغها من ضدها .

وكذلك القلب المشغول بمحبة غير الله وإرادته والشوق إليه والأنس به , لا يمكن شغله بمحبة الله وإرادته وحبه والشوق إلى لقائه إلا بتفريغه من تعلقه بغيره , ولا حركة اللسان بذكره والجوارح بخدمته إلا إذا فرغها من ذكر غيره وخدمته . فإذا امتلأ القلب بالشغل بالمخلوق والعلوم التي لا تنفع , لم يبق فيها موضع للشغل بالله ومعرفة أسمائه وصفاته وأحكامه . وسر ذلك أن إصغاء القلب كإصغاء الأذن ؛ فإذا أصغى إلى غير حديث الله لم يبق فيه إصغاء ولا فهم لحديثه ، كما إذا مال إلى غير محبة الله لم يبق فيه ميل إلى محبته .

فإذا نطق القلب بغير ذكره لم يبق فيه محل للنطق بذكره كاللسان .

ولهذا في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً([31]) حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعراً" ، فبين أن الجوف يمتلئ بالشعر، فكذلك يمتلئ بالشبه والشكوك والخيالات والتقديرات التي لا وجود لها والعلوم التي لا تنفع والمفاكهات والحكايات ونحوها.

وإذا امتلأ القلب بذلك جاءته حقائق القرآن والعلم الذي به كماله وسعادته فلم تجد فيه فراغا ولا قبولا فتعدته وجاوزته إلى محل سواه ... " ([32]).

وليس تعليل هذا مما يشكل، بل هو واضح لمن تأمله، وبه يظهر خطر البدع - التي هي وضع غير إلهي لطريق العبودية - أي صرف للحرث والهم عما شرعه الله إلى ما شرعه غيره .

على أن الذي يهمنا هو أن وقوع البدع الذي لم يخل منه دين قط هو في ذاته دليل على عدم انفكاك العبودية عن الإنسان ؛ فإنه إن لم يتعبد متبعاً تعبد مبتدعاً .

ومما يبين ذلك أن " الشرائع هي غذاء القلوب وقوتها كما قال ابن مسعود رضي الله عنه ويروي مرفوعا : " إن كل آدب يجب أن تؤتى مأدبته ، وإن مأدبة الله هي القرآن " .

ومن شأن الجسد إذا كان جائعا فأخذ من طعام حاجته استغنى عن طعام آخر حتى لا يأكله - إن أكل منه - إلا بكراهة وتجشم ، وربما ضره أكله أو لم ينتفع به ، ولم يكن هو المغذي الذي يقيم بدنه .

فالعبد إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته، قلت رغبته في المشروع وانتفاعه به بقدر ما اعتاض من غيره. بخلاف من صرف نهمته وهمته إلى المشروع فإنه تعظيم محبته له ومنفعته به ويتم دينه ويكمل إسلامه.

ولهذا تجد مَنْ أكثر من سماع القصائد لطلب صلاح قلبه تنقص رغبته في سماع القرآن حتى ربما يكرهه، ومن أكثر السفر إلى زيارة المشاهد ونحوها لا يبقى لحج البيت المحرم في قلبه من المحبة والتعظيم ما يكون في قلب من وسعته السنة، ومن أدمن على أخذ الحكمة والآداب من كلام حكماء فارس والروم لا يبقى لحكمة الإسلام وآدابه في قلبه ذاك الموقع، ومن أدمن على قصص الملوك وسيرهم لا يبقى لقصص الأنبياء وسيرهم في قلبه ذاك الاهتمام. ونظائر هذه كثيرة.

ولهذا جاء في الحديث عن النبي: "ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع الله عنهم من السنة مثلها" ([33]).

وهذا أمر يجده في نفسه من نظر في حاله من العلماء والعباد والأمراء والعامة وغيرهم .

ولهذا عظمت الشريعة النكير على من أحدث البدع وحذرت منها ؛ لأن البدع لو خرج الرجل منها كفافاً - لا عليه ولا له - لكان الأمر خفيفا ، بل لابد أن توجب له فساداً في قلبه ودينه من نقص منفعة الشريعة في حقه ؛ إذا القلب لا يتسع للعوض والمعوض عنه ... " ([34]).

وعند مثل هذا الموضوع يلتقي مفهوم العبادة الشامل مع مفهوم زيادة الإيمان ونقصانه ، وهنا أصلان من أصول التصور السلفي المنسجم تماماً مع حقيقة النفس الإنسانية كما تقرر .

ونستطيع الآن - مع وضوح هذه الحقائق - أن نضيف إلى القضية السابقة - وهي :

كل إنسان مفكر , وكل مفكر عامل - عنصرا ثالثا تكتمل به القضية وهو : " وكل عامل عابد " .

لنخلص إلى المفهوم السلفي الواضح عن ارتباط الحقيقة البشرية المتمثلة في طبيعة النفس الإنسانية كما خلقها الله ، بالحقيقة الشرعية المتمثلة في خضوع الإنسان بكل جوانبه النفسية والعملية لعبودية الله وحده .

وكون كل عامل عابداً - أي كل إنسان عابد - مع بداهتها - ليست موضع تسليم من التصور الإرجائي الذي لا يخلو من جهل بالحق أو إعراض عنه ...

بل هي قضية غريبة، وأكثر ما تبدو غرابتها في عصرنا الحاضر - عصر الإلحاد والتمرد على الأديان بالجملة والتفلت من العبوديات كلها - كما يتوهمه أكثر أهله! - فهناك دول كثيرة تنص دساتيرها بصراحة أنها "دول لا دينية", وبعضها ألغى خانة "الدين" من البطاقة الشخصية لمواطنيها. وأكثر هؤلاء المواطنين- لا سيما في أوربا وأمريكا فضلا عن الدول الشيوعية- لو سألت أيا منهم ماذا تعبد؟ لأجابك بداهة أنه لا يعبد شيئا لأنه إنسان "لا ديني" !

هذا التيار العالمي الكبير أضاف إلى التصور الإرجائي الشائع أصلا بين المسلمين قوة وتعميما حتى غدا وكأنما هو من المسلمات الواضحة .

وهو التصور الذي يفترض أن الناس قسمان : عابد ، وغير عابد .

والأول : " العابد " , يشمل المنتمين إلى الأديان ولا سيما الإسلام .

والآخر : يشمل الدول - أو الأفراد - اللادينية .

ثم إن " العابدين " - حسب هذا التصور - ينقسمون قسمين :

1-      مؤمن بقلبه عامل بجوارحه .

2-      مؤمن بقلبه غير عامل بجوارحه .

وهذا التقسيم منطقي مع حقيقة الإيمان - كما يتخيلونها - وهي أنه مادة جامدة معزولة في ضمير صاحبها لا تزيد ولا تنقص ولا تقتضي أثرا ولا تستدعي متعلقا .

فهذا الإيمان مفقود عند كثير من الناس وهم الصنف غير العابد ، و موجود عند الصنف العابد في الحالتين : حالة العمل وحالة عدمه .

واستكمالا للحقيقة الكلية السابقة, وردا على هذا الزعم الخطأ - أعني زعم وجود إنسان غير عابد- نلقي مزيدا من الضوء على حقيقة النفس الإنسانية من جهة "الدوافع" التي تحركها للعمل والتي لا تخلو منها نفس قط، وكيف أن لهذه الحركة بالضرورة غاية تسعى إليها، وأن الطريق إلى هذه الغاية لا يكون إلى على قنطرة أعمال القلوب من الخوف والرجاء والحب والكره ونحوها مما يجعله في محصلته النهائية والحقيقية "عبادة" مهما كابر بعض بني آدم فيها, فهم عابدون حقيقة وجوهراً وإن أنكروا العبودية لفظا ومصطلحا .

ثم نبين - بإذن الله - علاقة العمل الخارجي بما في النفس من الدوافع والغايات مما يظهر به استحالة الشطر الثاني من الفرض الذهني الذي تخيله المرجئة ؛ وهو وجود مؤمن غير عامل .

إن قضية "الدوافع" - ولازمها الفطري وهو "الضوابط" - لتعود إلى خاصية أخرى من خصائص النفس البشرية - عدا ما سبق تقريره من خاصية: "الحركة الدائمة حرثا وهماً" - وهذه الخاصية الأخرى هي: "الافتقار الذاتي إلى تحصيل النافع والملائم ودفع الضار والمنافر" .

وبيان ذلك أن كل إنسان - بل كل كائن حي - إنما يصرف عمله وإرادته " حرثه وهمه " من أجل الحصول على ما يراه نافعا لذيذا ، والابتعاد عما يراه ضارا مؤلما ، وليس في تصرفات العقلاء ما يصح أن يخرج عن هذا , بل ليس في الكائنات ما يقصد إلى خلاف ذلك ([35]).

فالنبات - مع دنو درجته في سلم الأحياء - يضرب بجذوره في الأرض متجها إلى الجهة التي فيها الماء ، ويضرب بفروعه صاعدا إلى الزاوية التي يكون فيها الضوء .

والحيوان السارح في الغابة يختار من الغذاء- بهداية الله عز وجل له- ما ينفعه ويلائمه ويتجنب ما يضره و ينافره . نعم قد يخطئ فيقتات ما يضر , ولكنه بأكله مضرة نفسه ، وإنما آثره للذة وجدها فيه مع جهله بعاقبته .

والإنسان الذي اختصه الله تعالى بالتكريم والتفضيل على سائر الأحياء في الأرض تظهر فيه هذه النزعة بما يتناسب مع خصائصه الفذة ؛ فهو يبني الحضارات المتعاقبة ويتطور في ألوان الاستمتاع ومظاهر الانتفاع ، كل ذلك والدافع لا يفتر والمحرك لا يتوقف والتشوق إلى المزيد لا يضعف . وهو حتى حين يرتكب أكثر الأفعال إيلاما لنفسه - وهو أن يقتلها عامداً - إنما يبتغي بذلك راحتها وخلاصها بزعمه .

والحاصل أن "مقصود الحياة (عند الحيوان عامة) هو حصول ما ينفع به الحي ويستلذ به، والحي لابد له من لذة أو ألم، فإذا لم تحصل له اللذة لم يحصل له مقصود الحياة" ([36]) .

فالسعي لتحقيق اللذة والمنفعة هو وقود الكدح الإنساني على الأرض , ولما كان ذلك فطريا في كل نفس , لم يكن من شأن المنهج الرباني الذي نزل متسقاً مع الفطرة أن يقتلعه ويخمده ، وإنما شأنه أن يوجهه ويقومه . فالطاقة المحركة لا يعيبها أنها طاقة وإنما العيب أن يساء استعمالها فتتخذ طاقة للشر والخسران .

إذا تقرر هذا أمكن الوصول إلى النتيجة من خلال الإجابة عن سؤال لابد منه وهو : هل يستطيع الإنسان - مستقلا منفرداً - معرفة النافع المستلذ وتمييزه عن الضار المكروه في الحال والعاقبة ؟

وإذا عرف شيئا من ذلك ، فهل يستطيع الحصول عليه ودفع العوارض الحائلة دونه بمجرد تشوفه إليه وإرادته الحصول عليه ؟

إن تركيب الإنسان النفسي والعضوي, و واقعه المشهود على مدار التاريخ, وطبيعة الحياة كما خلقها الله تعالى، و "الكبد" الذي خلق الإنسان فيه. و "الكدح" الذي لا ينفك عن بشر لتجيب جميعها بلا .

فالإنسان مع حرصه الفطري العنيد ومع السعي الدائم والحركة اللاهثة المستمرة يشتمل في تركيبه الذاتي على موانع كثيرة تحول بينه وبين استقلاله بذلك، ومنها على سبيل التمثيل "الضعف, الجهل، الظلم، العجلة، النسيان"

{إنه كان ظلموما جهولا} [ الأحزاب : 72 ] .

{وخلق الإنسان ضعيفا} [ الأحزاب : 28 ] .

{خلق الإنسان من عجل} [ الأنبياء : 37 ] .

{ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي} ([37])[ طه : 115 ] .

والله تعالى هو وحده الذي يريد الشئ فيكون. {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} [ يس : 82 ] .

أما الإنسان فالمسألة بين إرادته الشئ وتحققه له قد تكون من الطول بحيث تستنفذ كل العمر وتستهلك كل الكدح وتبلغ به الغاية من الكبد ، بل قد لا يتحقق له مراده أصلاً مهما كدح وكابد .

وهذه المسافة هي معترك الخواطر والإرادات والانفعالات كما هي معترك العمل والنصب والجهد.

فالبواعث لا تفتر والمطامع لا تقف عند حد, ومع ذلك فالعوارض الباغتة والحوائل المانعة كالسهام المشرعة, حتى إن حصول المراد ليس إلا بداية لمخاوف كثيرة من احتمال فواته أو فوات العمر قبل الاستمتاع به, فالكبد والهم لاستدامته لا يقل عنهما للحصول عليه.

وهكذا يكون القلب البشري كجناح الطائر لا يكاد يقف حتى يرف، ويظل- العمر كله - ميدانا لمتعارضات تتعاوده ومتضادات تنتابه من خوف ورجاء, وحب وكره, واستكبار وانكسار, وغفلة وتذكر, وشك ويقين, وفرح وترح .

وهذه هي أعمال القلوب التي لا ينفك منها قلب بشري قط .

ومنشأ عدم الانفكاك أن الافتقار الذاتي ملازم للوجود الإنساني شامل للحياة كلها ؛ طولا : من لحظة الميلاد - بل من قبله - إلى لحظة الممات , وعرضاً : مهما اتسعت الإرادات والمطامع والأعمال .

ولما كانت أعمال القلوب هي الأصل في حركة الإنسان وسعيه ، كانت موضع التعبد الأصلي , ومحط نظر المعبود من العباد : " التقوى هاهنا - وأشار إلى صدره ثلاث مرات " ([38]). " إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم "([39]) .

فإذا تذكرنا ما سبق تقريره من أن الله عز وجل - بلطفه وحكمته - أنزل الدين متسقا مع حقيقة النفس الإنسانية مساويا لفطرتها السوية علمنا أنه لا شيء من أعمال القلوب يقع خارج مجال التعبد بحال من الأحوال .

ومن ثم انقسم الناس من حيث الأصل فريقين :

1-      مؤمن يعبد الله وحده .

2-      مشرك يعبد غير الله معه أو من دونه .

وهذا - كذلك - هو السر في كون الإيمان درجات متفاوتة في قلوب الفريق الأول .

وهذا الإجمال يتضح بالفقرة التالية التي نريد بها العبور من الحقيقة النفسية إلى الحقيقة الشرعية .

إن ما سبق تقريره بشأن الافتقار الذاتي وتفرع أعمال القلوب عنه , هو وصف للحقيقة الإنسانية من حيث هي- مؤمنة أو كافرة - ولهذا نجده مشتركا بين فريقي البشر يحسه كل إنساني في نفسه سواء أعرب عنه لسانه أم عجز .

ولكن نقطة الالتقاء هذه يتفرع عنها طريقان مختلفان تمام الاختلاف - طريق الإيمان وطريق الكفر !

وهذا مثله كمثل عربتين تزودتا بوقود واحد وقادهما قائدان متماثلان في الخبرة والدراية . ولكن إحداهما انطلقت ذات اليمين والأخرى ذات الشمال .

ومن أبرز مظاهر الاختلاف بين المؤمن والكافر بالنظر إلى أن كلا منهما حارث وهمام كادح ومكابد مفتقر إلى غيره :

1-      اختلاف غاية كل منهما ومراده ومحبوبه ([40]).

2-      اختلاف الأسباب الوسائط التي يتعلق بها القلب لتحقيق غاياته ومراداته .

3-      الاختلاف في الإقرار بحقيقة الافتقار بين حال وحال .

وكل هذا جاء تفصيله في القرآن والسنة على أكمل الوجوه , وقد جمعتها سورة الفاتحة من كل أطرافها واستوعبت كل معانيها .

فلنشرح ذلك تفصيلا . 

فأما اختلاف الإرادات و الغايات :

فإن مراد المؤمن الأعلى و محبوبه بالقصد الأول هو الله تعالى، و أما الكافر فمراده و غايته و محبوبه بالقصد الأول هو ما يتخذه من ند معبود و هوى مألوه.

فهذا يريد الله والدار الآخرة همًّا وحرثاً، و ذاك يريد حظ النفس و متاع العاجلة.

وهذا كاف في تفسير التناقض الواضح بين واقع كل منهما في هذه الأرض أمما و أفراداً، حتى مع اشتراكهما في بعض مظاهر السعي الصورية.

يقول الله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله} [البقرة: 165]

ويقول جل ذكره: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً} [الكهف: 28]

ويقول على لسان إمام الموحدين إبراهيم عليه السلام في إنكاره لقومه: {أئفكاً آلهةً دون الله تريدون} [الصافات: 86]

و يقول: {فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا، ذلك مبلغهم من العلم} [النجم: 29-30]

ويقول: {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً، ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً} [الإسراء: 18-19]

والآيات في ذلك كثيرة معروفة.

كما أن من أعظم أخطاء الأمم الشركية أنها جعلت الوسائط والأسباب المخلوقة غايات ومرادات معبودة - وهذا الذي كثر الحديث عنه في القرآن - سواء اعتقدوا أن هذا السبب يوصل إلى الله تعالى تقرباً و تألهاً أو يوصل إلى شيء من الرزق و الفضل الذي هو بيد الله وحده (2).

ولهذا قالوا: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3]

وقالوا: {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18]

وأبطل الله عز وجل - في مواضع كثيرة من كتابه - الشرك كله، سواء أكان في الغاية أو الواسطة، فحقيقة الشرك - على اختلاف صوره و مذاهبه - هي الوقوف بالإرادات عند غاية دون الله عز و جل ، أو الإنقطاع إلى أسباب من خلق الله عز و جل و صنعه.

وبيّن أن ذلك من المشركين تخبط في الوهم و تعلق بالسراب.

{ما تعبدون من دونه إلا أسماءً سميتموها أنتم و آباؤكم} [يوسف: 40]

{إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء} [العنكبوت: 42]

{و ما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن} [يونس: 66]

وهذه قضية من أوضح قضايا التصور السلفي وأجلاها، وأصلها أن الناس لو عقلوا عن الله عز وجل كلامه و قاموا لله مثنى وفرادى، ثم تفكروا، لوجدوا أنه ما من شيء يتوهمونه مراداً وغاية لذاته، أو سبباً في حصول المرادات و تحقق الغايات، إلا هو مستلزم لسبب آخر وراءه، وما تزال الغايات والأسباب تتسلسل حتى تنتهي إلى الغاية التي ليس وراءها مطلب، والمصدر الذي ليس وراءه سبب وهو الله تعالى.

وهذا من كنوز التوحيد ودقائقه التي كان يقين السلف الصالح بها يفوق المزاعم النظرية المثالية عند المتصوفة(3)

و يبطل التصورات الوهمية الساذجة التي ابتدعها المرجئة، ولهذا ملكوا نواصي الأمم واستذلوا مناكب الأرض جهاداً في سبيل الله.

يقول ابن القيم رحمه الله:

" قول الله تعالى: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} متضمن لكنز من الكنوز، وهو أن كل شيء لا يطلب إلا ممن عنده خزائنه ومفاتيح تلك الخزائن بيده، وأن طلبه من غيره طلب ممن ليس عنده ولا يقدر عليه.

وقوله: {وأن إلى ربك المنتهى} متضمن لكنز عظيم وهو أن كل مراد إن لم يرد لأجله و يتصل به وإلا فهو مضمحل منقطع، فأنه ليس إليه المنتهى، وليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها، فانتهت إلى خلقه و مشيئته وحكمته وعلمه، فهو غاية كل مطلوب، وكل محبوب لا يحب لأجله فمحبته عناء وعذاب، وكل عمل لا يراد لأجله فهو ضائع وباطل، وكل قلب لا يصل إليه فهو شقي محجوب عن سعادته وفلاحه، فاجتمع ما يراد منه كله في قوله {و أن إلى ربك المنتهى} فليس وراء الله سبحانه غاية تطلب وليس دونه غاية إليها المنتهى.

وتحت هذا سر عظيم من أسرار التوحيد، وهو أن القلب لا يستقر ولا يطمئن ويسكن إلا بالوصول إليه، وكل ما سواه مما يحب ويراد فمراد لغيره، وليس المراد المحبوب لذاته إلا واحد إليه المنتهى، ويستحيل أن يكون المنتهى إلى اثنين، كما يستحيل أن يكون ابتداء المخلوقات من اثنين، فمن كان انتهاء محبته ورغبته وإراداته وطاعته إلى غيره بطل عليه ذلك وزال عنه وفارقه أحوج ما يكون إليه ، ومن كان انتهاء محبته ورغبته ورهبته وطلبه هو سبحانه ظفر بنعيمه ولذته وبهجته وسعادته أبد الآباد" (1).

"ولا يزال العبد منقطعاً عن الله حتى تتصل إراداته ومحبته بوجهه الأعلى، والمراد بهذا الاتصال أن تفضي المحبة إليه وتتعلق به وحده، فلا يحجبها شيء دونه، وأن تتصل المعرفة بأسمائه وصفاته وأفعاله فلا يطمس نورها ظلمة التعطيل كما لا يطمس نور المحبة ظلمة الشرك، وأن يتصل ذكره به سبحانه، فيزول بين الذاكر و المذكور حجاب الغفلة، والتفاته في حال الذكر إلى غير مذكوره، فحينئذ يتصل الذكر به ويتصل العمل بأوامره و نواهيه، فيفعل الطاعة لأنه أمر بها وأحبها ويترك المناهي لكونه نهى عنها وأبغضها.

فهذا معنى اتصال العمل بأمره ونهيه، وحقيقته زوال العلل الباعثة على الفعل والترك من الأغراض والحظوظ العاجلة.

و يتصل التوكل و الحب بحيث يصير واثقاً به سبحانه مطمئناً إليه راضياً بحسن تدبيره له غير متهم له في حال من الأحوال .  و يتصل فقره و فاقته به سبحانه دون من سواه .

ويتصل خوفه ورجاؤه وفرحه وسروره وابتهاجه به وحده، فلا يخاف غيره ولا يرجوه ولا يفرح به كل الفرح و لا يسر به غاية السرور، وإن ناله بالمخلوق بعض الفرح والسرور، فليس الفرح التام والسرور الكامل والابتهاج والنعيم وقرة العين وسكون القلب إلا به سبحانه، وما سواه إن أعان على هذا المطلوب فرح به وسر به، وإن حجب عنه فهو بالحزن والوحشة منه و اضطراب القلب بحصوله أحق منه بأن يفرح به، فلا فرحة ولا سرور إلا به أو بما أوصل إليه وأعان على مرضاته.

وقد أخبر سبحانه أنه لا يحب الفرحين بالدنيا و زينتها، وأمر بالفرح بفضله ورحمته وهو الإسلام والإيمان والقرآن كما فسره الصحابة والتابعون.

والمقصود أن من اتصلت له هذه الأمور بالله سبحانه فقد وصل، وإلا فهو مقطوع عن ربه متصل بحظه ونفسه وملبّس عليه في معرفته وإراداته وسلوكه" (2)

إن الكافر العصري (الأوربي خاصة) بظلمه وجهله ونسيانه يغفل عن أعظم غاية يفتقر إليها قلبه، وهي الإيمان بالله عز وجل، وينسى أن جوعة الإيمان لا يسد رمقها أي نوع من ملاذ الدنيا ومتاعها الزائل وغاياتها الدنيئة، و هو إذ يحس ذلك من نفسه ويرى أنها غير مستسلمة لله ولا منقادة لأمره، لا يرضى أن ينسب للعبودية بل ينكر أن يكون يعبد شيئاً بإطلاق.

وهو بهذا يفتقد الصراحة التي كان كفار الماضي يتمسكون بها مع أنفسهم، فقد كانوا مقرين بالعبودية لمعبوداتهم حتى إنهم ليسمون أنفسهم (عبداللات وعبدالعزى وعبد يغوث) ونحوها مما هو كثير في أسمائهم. وهو ما تزال تعترف به عوام الأمم الوثنية المعاصرة في آسية وإفريقية وغيرها. فمع اشتراك الفريقين في الضلال والعذاب الشديد بالعبودية لغير الله يزيد الكافر العصري عناداً وجحوداً بمكابرته في إنكار ما هو عليه من الرق لغير الله.

ولعل مرجع ذلك إلى أن الإنسان المعاصر قد صدق المزاعم الهدامة التي بثها دعاة الضلالة من الخارجين عن الكنيسة النصرانية الوثنية أمثال (جوليان هكسلي) و (سارتر) ونحوهما، تلك المزاعم التي تدعي أن الإنسان اختلق فكرة الألوهية لما كان محتاجاً إليها، أما الآن فقد أصبح هو نفسه الإله, تعالى الله عما يفترون علواً كبيراً.

وبغض النظر عن الغرض الهدام وراء هذه الأفكار، فإن مؤدى التبرير العقلي لها هو أن الإنسان الحديث بما حصل عليه من المعرفة - التي لا تتجاوز نسبة ضئيلة من أسرار خلق الله - قد أصبح شيئاً آخر وخلقاً جديداً غير الإنسان القديم الذي كان من خصائصه الحاجة إلى الإيمان.

وكأنما يريدون أن يقولوا إن الطبيعة البشرية أو الفطرة الإنسانية لم تعد على الحال الذي كانت عليه في الماضي، بل تحولت إلى شيء آخر وهذا من أعظم أنواع المكابرات، وهذه المزاعم أثر من آثار لوثة (التطور السائب) الذي آمن به الفكر الأوروبي أثناء ثورته الجامحة على طغيان الكنيسة وجمودها.

والتصور السلفي يرد على هذه الفكرة منذ القدم مبيناً أن الافتقار ذاتي في كل إنسان ما ظل يطلق عليه اسم (إنسان) وما ظل حياً حساساً حارثاً هماماً، وأن الاستكبار عن عبادة الله كالإقرار بالعبودية لغير الله سواء بسواء.

و هذه حقيقة قائمة لا يضيرها من تملص منها أو كابر فيها، فما مثله إلا كمثل رجل كليل كسيح تظهر عليه كل آثار المرض والفقر والعجز، ومع ذلك يصر بلسانه على أنه أغنى الناس وأصحهم وأقدرهم، ومن أراد الوصول إلى الحقيقة فليضم ما كتبه أدباء أوربا ومفكروها عن شقاء الإنسان الحديث وضياعه وتمزقه وذعره, إلى قول شيخ الاسلام ابن تيمية:

"القلب فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة وهي العلة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل وهي العلة الفاعلة (1) .

ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن و لم يسكن، إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه من حيث هو معبوده و محبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة.

و هذا لا يحصل له إلا بإعانة الله له فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله، فهو دائماً مفتقر إلى حقيقة: {إياك نعبد وإياك نستعين} .

فإنه لو أعين على حصول كل ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده، ولم يحصل له عبادة الله فلن يحصل إلا على الألم والحسرة والعذاب، ولن يخلص من آلام الدنيا ونكد عيشها إلا بإخلاص الحب لله بحيث يكون الله هو غاية مراده ونهاية مقصوده وهو المحبوب له بالقصد الأول، وكل ما سواه إنما يحبه لأجله لا يحب شيئاً لذاته إلا الله.

ومتى لم يحصل له هذا لم يكن قد حقق حقيقة (لا إله إلا الله) ولا حقق التوحيد والعبودية والمحبة لله، وكان فيه من نقص التوحيد والإيمان، بل من الألم والحسرة والعذاب بحسب ذلك.

ولو سعى في هذا المطلوب ولم يكن مستعيناً بالله متوكلاً عليه مفتقراً إليه في حصوله لم يحصل له، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فهو مفتقر إلى الله من حيث هو المطلوب والمحبوب والمراد المعبود, ومن حيث هو المسؤول المستعان به المتوكل عليه.

فهو إلهه الذي لا إله له غيره و هو ربه الذي لا رب له سواه .

ولا تتم عبوديته لله إلا بهذين، فمتى كان يحب غير الله لذاته أو يلتفت إلى غير الله أنه يعينه، كان عبداً لما أحبه و عبداً لما رجاه بحسب حبه له ورجائه إياه. وإذا لم يحب أحداً لذاته إلا الله، وأي شيء أحبه فإنما أحبه له، ولم يرج قط شيئاً إلا الله، وإذا فعل ما فعل من الأسباب وحصل ما حصل منها كان مشاهداً أن الله هو الذي خلقها وقدرها وسخرها له، وأن كل ما في السماوات والأرض فالله ربه ومليكه وخالقه ومسخره وهو مفتقر إليه, كان قد حصل له من تمام عبوديته بحسب ما قسم له من ذلك.

فأكمل الخلق وأفضلهم وأعلاهم وأقربهم إلى الله وأقواهم وأهداهم أتمهم عبودية لله من هذا الوجه. وهذا هو حقيقة دين الإسلام الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه وهو أن يستسلم لله لا لغيره، فالمستسلم له و لغيره مشرك و الممتنع عن الاسستلام مستكبر..

" وكل من استكبر عن عبادة الله لا بد أن يعبد غيره فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة .. " (2)

ثم قال بعد هذا الكلام المنقول سابقاً: "بل الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكباراً عن عبادة الله كان أعظم إشراكا بالله، لأنه كلما استكبر عن عبادة الله ازداد فقراً وحاجة إلى المراد المحبوب الذي هو المقصود: مقصود القلب بالقصد الأول فيكون مشركاً بما استعبده من ذلك.

ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه ولا يستعين إلا به ولا يتوكل إلا عليه، ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه، ولا يوالي إلا من والاه الله ، ولا يعادي إلا من عاداه الله، ولا يحب إلا لله ولا يبغض شيئاً إلا لله، ولا يعطي إلا لله ولا يمنع إلا لله، فكلما قوي إخلاص دينه لله كملت عبوديته واستغناؤه عن المخلوقات، وبكمال عبوديته لله تكمل تبرئته من الكبر والشرك" .(1)

وبعد أن تحدث عن الإسلام الاختياري تحدث عن الإسلام الإجباري، حيث تكون حقيقة الافتقار التي لا مراء فيها لأحد:

قال تعالى :{أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً}

فذكر إسلام الكائنات طوعاً وكرهاً، لأن المخلوقات جميعها متعبدة له التعبد العام، سواء أقر بذلك أو أنكره وهم مدينون له مدبرون فهم مسلمون له طوعاً وكرهاً، ليس لأحد من المخلوقات خروج عما شاءه وقدره وقضاه ولا حول ولا قوة إلا به، وهو رب العالمين ومليكهم يصرفهم كيف يشاء وهو خالقهم كلهم وبارئهم ومصورهم، وكل ما سواه فهو مربوب مصنوع مفطور فقير محتاج مقهور، وهو سبحانه الواحد القهار الخالق البارئ المصور.

وهو وإن كان قد خلق ما خلقه بأسباب فهو خالق السبب والمقدر له وهو مفتقر إليه كافتقار هذا، وليس في المخلوقات سبب مستقل بفعل خير ولا دفع ضر، بل كل ما هو سبب فهو محتاج إلى سبب آخر يعاونه وإلى ما يدفع عنه الضد الذي يعارضه ويمانعه.

وهو سبحانه وحده الغني عن كل ما سواه، ليس له شريك يعاونه ولا ضد يناوئه ويعارضه" (2)

إن كثيراً من المسلمين - ولله الحمد - يدركون حقيقة إسلام الكون القهري لله تعالى، فلا يتطرق إليهم الشك في أن الكفار في أوروبا وأمريكا مربوبون لله تعالى من حيث هو خالقهم ورازقهم ومدبر أمورهم…

ولكنهم - مع ذلك - لا يدركون الجانب الآخر من الحقيقة، وهو أن هؤلاء الكفار عبيد أرقاء مغرقون في العبودية والرق لغير الله.

ولا غرابة في خفاء ذلك على أكثر المسلمين، لأنهم واقعون في شرك الإرادة وهم لا يشعرون.

حتى البلاد التي عافاها الله فتخلصت من شرك التقرب والتنسك لغير الله غزاها الشيطان بشرك الإرادة الخفي، و فتنها ما فتح الله عليها من كنوز الأرض، فانكب أهلها على الدنيا انكباب الغافلين وعبدوا الدراهم والدينار - بل التراب والعقار - وتحولت العقيدة الصحيحة إلى نظرية ذهنية موروثة، وحتى شكلها النظري لم يبق منه لدى العامة إلا معان شاحبة (3) إلا من سلم الله وحفظ.

ورحم الله الشيخ محمد بن عبدالوهاب فقد عقد باباً خاصاً في كتابه المبارك "كتاب التوحيد" بعنوان:

"باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا" . أورد فيه قوله تعالى:

{من كان يريد حرث الدنيا و زينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها و هم فيها لا يبخسون} [هود: 15]

والحديث الصحيح: "تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط …" الحديث.

ومراده أوسع وأعمق مما ذكره حفيده العلامة سليمان بن عبدالله في قوله: إن المراد بهذا الباب "أن يعمل الإنسان عملاً صالحاً يريد به الدنيا، كالذي يجاهد للقطيفة والخميلة ونحو ذلك" (4) .

فهذا وإن كان داخلاً في المراد، لكن تقييده به تضييق لمغزى واسع أحسب أن الشيخ المؤلف أراد إيضاحه، وهو أن أكثر الناس المسلمين وغيرهم جعلوا همهم وحرثهم وكدحهم وتعبهم للدنيا وحدها، فلا تتحرك قلوبهم ولا تنفعل إلا لها وبها، حتى أنهم لو دعوا الله وعبدوه فإنما يريدون بذلك زيادة الخير والبركة في الصحة والرزق، و هذا باب أوسع من باب فساد النية مع عمل صالح يفعله العبد المؤمن، فهذا الباب - الأخير - يصيب الصالحين و يعرض للمخلصين.

كما أن ظاهر الحديث لا يؤيد كلامه رحمه الله، فالمقصود من الحديث هو عبودية القلب وإرادته غير الله، وليس مجرد فساد النية مع عمل صالح، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم ربط بين العبودية للدنيا وعمل القلب بقوله: "إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط" وهو مطابق لمنطوق ما ذكر الله عن المنافقين في قوله:

{ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} [التوبة: 58] وهي ضمن سياق كله في النفاق الأكبر.

فعبودية القلب للدنيا التي لحظها شيخ الإسلام المؤلف، هي ذلك الداء العضال الذي ابتليت به الأمة الإسلامية، فنزع الله مهابتها من قلوب أعدائها وقذف في قلوبها (الوهن) حب الدنيا وكراهية الموت، فأصبح حرثها وهمها للدنيا وحدها.

وهذه بلوى أوسع وأخطر من الجهاد من أجل القطيفة والخميلة الذي قد لا يزيد عن كونه ذنباً عارضاً يتاب منه، وليس المرض العارض كالعاهة المزمنة، والرجل قد يعمل أو يجاهد لأجل القطيفة والخميلة حتى إذا ملكها كانت في يده ولم تكن في قلبه، بخلاف الذي استعبد حبها قلبه وملك عليه لبه، فهذا الحقيق بأن يسميه النبي صلى الله عليه و سلم عبداً لها، وينطبق عليه قوله تعالى: {فأعرض عن مّن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى}[النجم: 29-30]

وإرادة القلب للدنيا إفساد لعمل القلب من اليقين والتوكل والرضا ونحوها, بخلاف صرف شيء من العمل للدنيا ففيه إفساد لعمل الجارحة من جهاد وصدقة يريد بها نماء ماله ونحوها, ومع تلازمهما(1) فالأول أعظم من الأخير.

ومما يوضح ذلك أن الرياء إنما كان شركاً أصغر لطروء الفساد على عمل القلب، بخلاف سائر المعاصي التي يكون الفساد فيها مقتصراً على عمل الجوارح فلم يطلق عليها الشارع لفظ الشرك مثله.

وإرادة غير الله بالهم والحرث بحيث تنصرف أعمال القلوب لمراد غيره يستهلكها أو أكثرها أمكن في باب الشرك من مجرد الرياء بطاعة من الطاعات أو طلب الدنيا بها ، لكن ها هنا مجال التفاوت، فمن صرف إرادته لغير الله بالكلية كان عبداً خالصاً لغير الله، ومن جرد إرادته لله وحده بلغ الذروة من الإيمان وبين ذلك درجات كثيرة وحالات مختلفة.

والحالة التي نريد علاجها هنا هي عبودية القلب لغير الله دون أن يشعر، لأن غفلة الناس عنها وراء وقوعهم في الوهم الأكبر: (وهم أنهم محققون للإيمان مع كونهم غير عابدين لله)

و الحال أنهم بضد ذلك حتى لو سلموا من الشرك الجليّ - وما أقل السالمين منه- .

يقول شيخ الإسلام: "كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله، وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته، ومن توهم أن المخلوق يخرج من العبودية بوجه من الوجوه أو أن الخروج عنها أكمل، فهو من أجهل الخلق بل من أضلهم" .

ثم ذكر النصوص في ذلك، وقال: "إذا تبين ذلك فمعلوم أن الناس يتفاضلون في هذا الباب تفاضلاً عظيماً وهو تفاضلهم في حقيقة الإيمان، وهم ينقسمون فيه إلى عام وخاص، ولهذا كانت إلاهية الرب لهم فيها عموم وخصوص .

و لهذا كان الشرك في هذا الأمة أخفى من دبيب النمل .

وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، إن أعطي رضي وإن منع سخط" (2)

فسماه النبي صلى الله عليه و سلم عبد الدرهم وعبد الدينار وعبد القطيفة وعبد الخميصة وذكر ما فيه دعاء و خبراً، وهو قوله "تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش" .

والنقش إخراج الشوكة من الرجل، والمنقاش: ما يخرج به الشوكة، وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه و لا خلص من المكروه، وهذا حال من عبد المال.

وقد وصف ذلك بأنه إذا أعطي رضي وإذا منع سخط كما قال تعالى:

{ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} [التوبة: 58]

فرضاهم لغير الله و سخطهم لغير الله .

وهكذا حال من كان متعلقاً برئاسة أو بصورة ونحو ذلك من أهواء نفسه، إن حصل له رضي وإن لم يحصل له سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك وهو رقيق له، إذ الرق والعبودية في الحقيقة: هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده فهو عبده ..

و هذا أمر يجده الإنسان من نفسه، فإن الأمر الذي ييأس منه لا يطلبه ولا يطمع فيه ولا يبقى فقيراً إليه ولا إلى من يفعله، وأما إذا طمع في أمر من الأمور ورجاه فإن قلبه يتعلق به فيصير فقيراً إلى حصوله، وإلى من يظن أن سبب في حصوله، وهذا في الحال والجاه والصور وغير ذلك.

قال الخليل: {فابتغوا عند الله الرزق و اعبدوه واشكروا له إليه ترجعون} [العنكبوت: 17]

فالعبد لا بد له من رزق و هو يحتاج إلى ذلك ، فإذا طلب رزقه من الله صار عبداً لله فقيراً إليه و إذا طلبه من مخلوق صار عبداً لذلك المخلوق فقيراً إليه . ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل وإنما أبيحت للضرورة، وفي النهي عنها أحاديث كثيرة في الصحاح و السنن و المسانيد" .

وبعد أن نقل طائفة من الأحاديث في ذلك قال: " والإنسان لا بد له من حصول ما يحتاج إليه من الرزق ونحوه و دفع ما يضره، وكلا الأمرين شرع له أن يكون دعاؤه لله، فلا يسأل رزقه إلا من الله ولا يشتكي إلا إليه - كما قال يعقوب عليه السلام {إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله} ..."

"وكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته لقضاء حاجته ودفع ضرورته قويت عبوديته له وحريته مما سواه ، فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له، فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه كما قيل: "استغن عمن شئت تكن نظيره، وافضل على من شئت تكن أميره، واحتج لمن شئت تكن أسيره" .

فكذلك طمع العبد في ربه ورجاؤه له يوجب عبوديته له، وإعراض قلبه عن الطلب من الله والرجاء له يوجب انصراف قلبه عن العبودية لله، لا سيما من كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق بحيث يكون قلبه معتمداً إما على رئاسته وجنوده وأتباعه ومماليكه، وإما على أهله وأصدقائه، وإما على أمواله وذخائره، وإما على ساداته و كبرائه، كمالكه وملكه وشيخه ومخدومه وغيرهم ممن هو قد مات أو يموت، قال تعالى:

{وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيراً} [الفرقان: 58]

وكل من علق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه أو يرزقوه أو أن يهدوه خضع لهم وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميراً لهم مديراً لأمورهم متصرفاً بهم.

فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة - ولو كانت مباحة له - يبقى أسيراً لها تحكم فيه وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها لأنه زوجها أو مالكها، ولكنه في الحقيقة هو أسيرها ومملوكها، لا سيما إذا علمت بفقره إليها وعشقه لها و أنه لا يعتاض عنها بغيرها، فإنها حينئذ تتحكم فيه تحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور الذي لا يستطيع الخلاص منه، بل أعظم، فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استعبد بدنه واسترق وأسر لا يبالي إذ كان قلبه مستريحاً من ذلك مطمئناً بل يمكنه الاحتيال في الخلاص.

وأما إذا كان القلب الذي هو ملك الجسم رقيقاً مستعبداً متيّماً لغير الله، فهذا هو الذل والأسر المحض والعبودية الذليلة لما استعبد القلب. وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب، فإن المسلم لو أسره كافر أو استرقه فاجر بغير حق لم يضره ذلك إذا كان قائماً بما يقدر عليه من الواجبات. ومن استعبد بحق إذا أدى حق الله وحق مواليه فله أجران ، ولو أكره على التكلم بالكفر فتكلم به وقلبه مطمئن بالإيمان لم يضره ذلك.

وأما من استعبد قلبه فصار عبداً لغير الله فهذا يضره ذلك ولو كان في الظاهر ملك الناس.

فالحرية حرية القلب والعبودية عبودية القلب كما أن الغنى غنى النفس، قال النبي صلى الله عليه وسلم:

"ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس" و هذا لعمر الله إذا كان قد استعبد قلبه بصورة مباحة ، فأما من استعبد قلبه صورة محرمة - امرأة أو صبي - فهذا هو العذاب الذي لا يدانيه عذاب ([41]).

وهؤلاء عشاق الصور من أعظم الناس عذاباً وأقلهم ثواباً، فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلقاً بها مستعبداً لها اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد.

وكذلك طالب الرئاسة والعلو في الأرض قلبه رقيق لمن يعينه عليها، ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم فهو في الحقيقة يرجوهم ويخافهم، فيبذل لهم الأموال والولايات ويعفو عما يجترحونه ليطيعوه ويعينوه، فهو في الظاهر رئيس مطاع وفي الحقيقة عبد مطيع لهم ([42]).

و التحقيق أن كلاهما(1) فيه عبودية للآخر وكلاهما تارك لحقيقة عبادة الله، وإذا كان تعاونهما على العلو في الأرض بغير الحق كانا بمنزلة المتعاونين على الفاحشة أو قطع الطريق، فكل واحد من الشخصين لهواه الذي استعبده و استرقه مستعبد للآخر.

و هكذا أيضاً طالب المال، فإن ذلك المال يستعبده و يسترقه.

ثم يقول رحمه الله: وهذه الأمور نوعان:

1- منها ما يحتاج العبد إليه من طعامه وشرابه ومسكنه ومنكحه ونحو ذلك، فهذا يطلبه من الله ويرغب إليه فيه، فيكون المال عنده - يستعمله في حاجته- بمنزلة حماره الذي يركبه ويساطه الذي يجلس عليه، بل بمنزلة الكنيف الذي يقضي فيها حاجته من غير أن يستعبده(2)، فيكون هلوعاً، إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً.

2- ومنها ما لا يحتاج العبد إليه، فهذا لا ينبغي له أن يعلق قلبه به إذا علق قلبه به صار مستعبداً له، وربما صار معتمداً على غير الله فلا يبقى معه حقيقة العبادة لله ولا حقيقة التوكل عليه، بل فيه شعبة من العبادة لغير الله وشعبة من التوكل على غير الله وهذا من أحق الناس بقوله صلى الله عليه وسلم "تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة". وهذا هو عبد هذه الأمور فإنه لو طلبها من الله، فإن الله إذا أعطاه إياها رضي وإذا منعه إياها سخط، وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله ويسخطه ما يسخط الله، ويحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، ويوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله تعالى، وهذا هو الذي استكمل الإيمان كما في الحديث: "من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان" وقال: "أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله".(3)

وشرح الإمام ابن القيم رحمه الله في مواضع متفرقة كيف أن أعظم أصول المعاصي كلها هو تعلق القلب بغير الله ، وأن سبب انحراف الناس عن الإيمان انحرافهم عن صحة المعرفة وصحة الإرادة.

ويقول: "إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمل الله سبحانه حوائجه كلها، وحمل عنه كل ما أهمه، وفرغ قلبه لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته، وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمّله الله همومها وغمومها وأنكادها، ووكله إلى نفسه فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم.

فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره. فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بلي بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته. قال تعالى:

{ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين}(4)

ويقول: "الإنابة هي عكوف القلب على الله عز وجل كاعتكاف البدن في المسجد لا يفارقه، وحقيقة ذلك عكوف القلب على محبته وذكره بالإجلال والتعظيم وعكوف الجوارح على طاعته بالإخلاص له والمتابعة لرسوله.

ومن لم يعكف قلبه على الله وحده عكف على التماثيل المتنوعة، كما قال إمام الحنفاء {ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} فاقتسم هو وقومه حقيقة العكوف، فكان حظ قومه العكوف على التماثيل وكان حظه العكوف على الرب الجليل.

والتماثيل جمع تمثال وهو الصورة الممثلة، فتعلق القلب بغير الله واشتغاله به والركون إليه عكوف منه على التماثيل التي قامت بقلبه، وهو نظير العكوف على تماثيل الأصنام.

ولهذا كان شرك عبّاد الأصنام بالعكوف بقلوبهم وهممهم وإرادتهم على تماثيلهم، فإذا كان في القلب تماثيل قد ملكته واستعبدته بحيث يكون عاكفاً عليها فهو نظير عكوف (عباد)(5) الأصنام عليها، ولهذا سماه النبي صلى الله عليه و سلم عبداً لها ودعا عليه التعس والنكس فقال: "تعس عبد الدينار تعس عبدالدرهم تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش"(6) .

ويقول: "ومن هنا يتبين انحراف أكثر الناس عن الإيمان لانحرافهم عن صحة المعرفة و صحة الإرادة .

ولا يتم الإيمان إلا بتلقي المعرفة من مشكاة النبوة وتجريد الإرادة عن شوائب الهوى وإرادة الخلق. فيكون علمه مقتبساً من مشكاة الوحي وإرادته لله والدار الآخرة" .(1).

إن صحة الإرادة - حسب المنهج السلفي - هي النقطة التي لا يمكن تجاوزها في السير على طريق الإيمان، بل هي مما يجب استصحابه حتى موافاة اليقين، وبهذا يتم جمع شتات أعمال القلوب والجوارح لتتجه كلها نحو الغاية التي ليس وراءها غاية.

وإن من أعظم الأدلة على صحة المنهج السلفي وحده أنك تراه كالنسيج المحكم والحلقة المتماسكة، فكل عنصر من عناصره وقضية من قضاياه تؤدي إلى هذه الحقائق البدهية الواضحة وترتبط بها بأقوى الروابط .

فإن تحدثوا عن جانب العقيدة والمعرفة فمحور حديثهم هو ما سبق، وإن تحدثوا عن التزكية والمراقبة آل بهم الحديث إلى هذا الموضوع نفسه.. ولنتخذ على هذا مثالين:

المثال الأول : " في التزكية و المراقبة " من جهة اندراج كل عمل الجوارح و الحياة بامتدادها الطولي و العرضي في نطاق العبودية الشامل :

وذلك أن مما يؤمن به من سار على منهج السلف الصالح أنه "لله على العبد في كل عضو من أعضائه أمر، وله عليه نهي، وله فيه نعمة، وله به منفعة ولذة، فإن قام لله في ذلك العضو بأمره واجتنب فيه نهيه فقد أدّى شكر نعمته عليه فيه وسعى في تكميل انتفاعه ولذته به، وإن عطّل أمر الله و نهيه فيه عطله الله من الانتفاع بذلك العضو، وجعله من أكبر أسباب ألمه ومضرته" .

هذه واحدة .

والأخرى أن لله "عليه في كل وقت من أوقاته عبودية تقدمه إليه و تقربه منه ، فإن شغل وقته بعبودية الوقت تقدم إلى ربه، وإن شغله بهوى أو راحة أو بطالة تأخر.

فالعبد لا يزال في تقدم أو تأخر ولا وقوف في الطريق البتة، قالى تعالى: {لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر}(2)

فإذا عرف العبد أن الحياة ما هي إلا أنفاس تتلاحق ودقائق تتسابق، وأنه لو أحصى حظه منها لوجده ينقص كثيراً عن عمر بعض الطيور والزواحف والأشجار، فضلاً عن أعمار الكواكب والنجوم، فضلاً عن عمر الكون كله فضلاً عن مدى عالمي الغيب والشهادة مجتمعين . . .

وعلم مع هذا أنه مخلوق لحكمة واضحة وغاية محددة هي عبادة ربه سبحانه وحده لا شريك له، فلا بد أن يحرص أشد الحرص على حفظ الوقت وإشغاله بالعبودية وإعمال البدن في الطاعة، وإلا اعتراه النقص في إيمانه بقدر ما يعتريه من نقص في ذلك.

وهذا ليس نقصاً فحسب بل هو تأخر وانقطاع، لأنه "إن لم يكن في تقدم فهو في تأخر ولا بد، فالعبد سائر لا واقف، فإما إلى فوق وإما إلى أسفل وإما إلى أمام وإما إلى وراء، وليس في الطبيعة ولا في الشريعة وقوف البتة ، ما هو إلا مراحل تطوى أسرع طي إلى الجنة أو إلى النار، فمسرع ومبطئ ومتقدم ومتأخر وليس في الطريق واقف البتة، وإنما يتخالفون في جهة المسير وفي  السرعة والبطء {إنها لإحدى الكبر، نذيراً للبشر، لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر}، ولم يذكر واقفاً، إذا لا منزل بين الجنة والنار ولا طريق لسالك إلى غير الدارين البتة، فمن لم يتقدم إلى هذه بالأعمال الصالحة فهو متأخر إلى تلك بالأعمال السيئة".(3)

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه الإمام أحمد بسند صحيح: "ما جلس قوم مجلساً فلم يذكروا الله فيه إلا كان عليهم ترة(4)، وما من رجل مشى طريقاً فلم يذكر الله عز و جل إلا كان عليه ترة، وما من رجل آوى إلى فراشه فلم يذكر الله إلا كان عليه ترة".

وهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحققون المثل الأعلى في حفظ الوقت بل في إحيائه(5) وتزكيته - تصحيحاً للإرادة وتوحيداً للهمة - فكان كله طاعة وكله رفعاً للدرجة، دع عنك ما أمضوه من أعمارهم في الدعوة والجهاد والذكر والصيام والتلاوة، ولكن انظر إلى الجانب الآخر الذي أهمل المتأخرون شأنه تبعاً لانحسار مفهوم العبادة عن بعض أعمال القلوب و الجوارح – أعني الجانب الذي يدخل في حظ النفس الجبلي – فهذا معاذ رضي الله عنه يقول: "أما أنا فأنام وأقوم، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي" . (1)

وهذا أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: "يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف يغبنون به قيام الحمقى وصومهم" (2)

قال ابن القيم رحمه الله تعليقاً على هذا: "وهذا من جواهر الكلام وأدله على كمال فقه الصحابة وتقدمهم على من بعدهم في كل خير رضي الله عنهم".

فاعلم أن العبد إنما يقطع منازل السير إلى الله بقلبه وهمته لا ببدنه، والتقوى في الحقيقة تقوى القلوب لا تقوى الجوارح(3)، قال تعالى: {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}

وقال النبي صلى الله عليه و سلم: "التقوى هاهنا" وأشار إلى صدره.

فالكيّس يقطع من المسافة بصحة العزيمة وعلو الهمة وتجريد القصد وصحة النية مع العمل القليل، أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك مع التعب الكثير والسفر الشاق، فإن العزيمة والمحبة تذهب المشقة وتطيب السير، والتقدم والسبق إلى الله سبحانه إنما هو بالهمم وصدق الرغبة والعزيمة، فيتقدم صاحب الهمة مع سكونه صاحب العمل الكثير بمراحل، فإن ساواه في همته تقدم عليه بعمله. . ." أهـ .

وهذا مما يفسر لنا كيف أن الصحابة رضي الله عنهم أعظم الناس إيماناً ويقيناً مع أن فيمن جاء بعدهم من هو أكثر عبادة وسهراً ومرابطة من كثير منهم، بل ربما كان في الصحابة من هو أكثر قياماً وصياماً من الصديق الذي "لو وزن إيمانه بإيمان أهل الأرض لرجح بهم" (4) .

وحسب الصحابة من علو الهمة أن الأنصار لما بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة فاشترط واشترطوا، قالوا: فما لنا يا رسول الله قال: "الجنة" قالوا: ذلك لك" .(5)

فانظر إلى هذه الهمة العالية والقوم في أول الطريق، وقارنها بهمة الأحلاس الجفاة من زعماء القبائل الأخرى الذين اشترطوا أن يكون لهم الأمر من بعده.

 

المثال الثاني: "في المعرفة والإرادة" من جهة صفاء التوحيد وشفافيته المستوجب تنبه العبد وحذره الدائم، وما أكثر من هلك في أودية الغفلة والاغترار:

فإن التوحيد ألطف شيء وأنزهه وأنظفه وأصفاه، فأدنى شيء يخدشه ويدنسه ويؤثر فيه، فهو كأبيض ثوب يكون فيه أدنى أثر، وكالمرآة الصافية جداً أدنى شيء يؤثر فيها، ولهذا تشوشه اللحظة واللفظة والشهوة الخفية، فإن بادر صاحبه وقلع ذلك الأثر بضده وإلا استحكم وصار طبعاً يتعسر عليه قلعه.

وهذه الآثار والطبوع التي تحصل فيه، منها ما يكون سريع الحصول سريع الزوال، ومنها ما يكون سريع الحصول بطيء الزوال .

ولكن من الناس من يكون توحيده كبيراً عظيماً ينغمر فيه كثير من تلك الآثار ويستحيل فيه، بمنزلة الماء الكثير الذي يخالطه أدنى نجاسة أو وسخ. فيغتر به صاحب التوحيد الذي هو دونه فيخلط توحيده الضعيف بما خلط به صاحب التوحيد العظيم الكثير توحيده فيظهر تأثيره فيه ما لم يظهر في التوحيد الكثير.

وأيضاً فإن المحل الصافي جداً يظهر فيه لصاحبه ما يدنسه في المحل الذي لم يبلغ في الصفاء مبلغه، فيتداركه بالإزالة دون هذا فإنه لا يشعر به.

وأيضاً فإن قوة الإيمان والتوحيد إذا كانت قوية جداً أحالت المواد الرديئة وقهرتها بخلاف القوة الضعيفة.

وأيضاً فإن صاحب المحاسن الكثيرة والغامرة للسيئات ليسامح بما لا يسامح به من أتى مثل تلك السيئات وليس له تلك الحسنات، كما قيل:

وإذا الحبيب أتى بذنب واحد         جاءت محاسنه بألف شفيع

وأيضاً فإن صدق الطلب وقوة الإرادة وكمال الإنقياد يحيل تلك العوارض والغواشي الغريبة إلى مقتضاه و موجبه، كما أن الكذب وفساد القصد وضعف الإنقياد يحيل الأقوال والأفعال الممدوحة إلى مقتضاه وموجبه " (6)

ومن الشواهد الدالة على حقيقة ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم - مع كمال تحقيقهم للتوحيد - كانوا يخشون أن يفسده عليهم أدنى عارض ويحترزون من ذلك غاية الاحتراز، سواء أكانت الشائبة من جهة المعرفة والانقياد أو من جهة الإرادة والقصد.

ورحم الله من قال: "إن القوم قلت ذنوبهم فعرفوا من أين أتوا" (1)

ومن ذلك ما حدث للفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم الحديبية، حيث خفي عليه وجه الحكمة و المصلحة في شروط الصلح، فأظهر امتعاضه من قبولها ورادّ النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك - على ما هو مفصل في السيرة -، فعدّ صنيعه هذا شائبة تشوب صفاء معرفة حق النبوة والانقياد لحكم الله، فما لبث رضي الله عنه أن استدرك واستعظم ما صنع حتى إنه كان يقول: "ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به" (2)

فهذا حاله وهو أكمل الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم وصديقها، وهو إنما قال ما قال حمية لدينه وغضباً لله و رسوله واجتهاداً في الاستدلال بالرؤيا النبوية.

وكذلك ما حصل للثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك لما اعتراهم بعض خلل في الهمة والإرادة، ولم يستدركوه كما استدركه أبو خيثمة - حين فارق الظل والزوجة وطوى القفار حتى أدرك القوم - فما أن استيقنوا فوات ركب الجهاد حتى استوحشوا واستعظموا ما صنعوا ثم كان من أمرهم وعقوبتهم ما هو معروف، فهذا حالهم مع أن اثنين منهم شهدا بدراً - مرارة و هلال - والثالث كعب شهد العقبة، ولم يقع بتبوك قتال.

وبمناسبة الحديث عن الصحابة رضي الله عنهم في موضع الاقتداء والتأسي نقول: لعله ليس من الاستطراد(3) التنبيه إلى أن من أركان الانهيار الذي تردت فيه الأمة الإسلامية فساد الإرادة والمقصد المستوجب فساد المعرفة والسلوك.

دع من فسدت معرفته وسلوكه بالابتداع والتلقي عن غير منبع الوحي كسائر فرق الضلال. ولكن انظر إلى الأجيال المتأخرة التي ورثت عن الصحابة وصح تلقيها منهم، غير أن هذا الداء قد اعتراها ففسدت المعرفة نفسها تبعاً لفساد الإرادة والمقصد، فخرجت من التمسك بالسنة إلى البدعة، ومن إرشاد السائرين إلى قطع الطريق عليهم.

وفي عصرنا نماذج حية من هؤلاء، ترى الواحد منهم في الأصل وارثاً لعلم السلف معتقداً لعقيدتهم نظرياً، لكن انصراف همته وإرادته للدنيا أخرجه - في واقع حياته - إلى ضلال في التصورات وانحراف في السلوك، شعر أو لم يشعر, فبينا هو يعجب من حال أهل العقائد البدعية إذا الشيطان ينسج حوله شباك بدع من جنس آخر، فأصبح فتنة لأهل البدع ومنديلاً لذوي السلطان ومرقاة لأصحاب الأهواء والشهوات.

وهذه عقبة كبرى وباب خطر قل من يجتازه وينجو من بلاءه، وإنما يبدأ به الشيطان من باب التوسع في المباحات والترفع عن المساكين وإن كانوا من المتقين. ثم يفضي به إلى الإنغماس في الشهوات ومجاراة الكبراء في دنياهم، ثم يجوز به من باب التبرير لما هو فيه إلى الإفتاء بصحته ومشروعيته ومعاداة مخالفه، وعندئذ يتكدر عليه صفاء معرفته وينقلب عليه سلاح علمه فلا يزال يقول على الله بغير علم، ويكتم ظاهر الحجج، و يتعلل بفنون التأويلات، حتى ينسلخ من نور العلم و يصبح مثله - كمثل الذي ضرب الله في سورة الأعراف - كالكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث.

وعن هذا يقول الإمام الحافظ ابن القيم: "كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها، فلابد أن يقول على  الله غير الحق في فتواه وحكمه في خبره وإلزامه، لأن أحكام الرب سبحانه كثيراً ما تأتي على خلاف أغراض الناس - و لا سيما أهل الرياسة والذين يتبعون الشبهات، فإنهم لا تتم لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحق ودفعه كثيراً .

فإذا كان العالم والحاكم محبيّن للرياسة متبعين للشهوات لم يتم لهما ذلك إلا بدفع ما يضاده من الحق، ولا سيما إذا قامت له شبهة، فتتفق الشبهة والشهوة ويثور الهوى فيخفى الصواب وينطمس وجه الحق، وإن كان الحق ظاهراً لا خفاء به ولا شبهة فيه أقدم على مخالفته، وقال: لي مخرج بالتوبة .

وفي هؤلاء وأشباههم قال تعالى:

{فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات}

و قال تعالى فيهم أيضا:

{فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون} .

فأخبر سبحانه أنهم أخذوا العرض الأدنى مع علمهم بتحريمه عليهم، وقالوا: سيغفر لنا، وإن عرض لهم عرض آخر أخذوه، فهم مصرون على ذلك، وذلك هو الحامل لهم على أن يقولوا على الله غير الحق، فيقولون هذا حكمه وشرعه ودينه وهم يعلمون أن دينه وشرعه وحكمه خلاف ذلك، أو لا يعلمون أن ذلك دينه وشرعه وحكمه، فتارة يقولون على الله ما لا يعلمون، وتارة يقولون عليه ما يعلمون بطلانه . . .

و هؤلاء لا بد أن يبتدعوا في الدين مع الفجور في العمل، فيجتمع لهم الأمران، فإن اتباع الهوى يعمي عين القلب فلا يميز بين السنة و البدعة، أو ينكسه فيرى البدعة سنة والسنة بدعة.

"فهذه آفة العلماء إذا آثروا الدنيا و اتبعوا الرياسات والشهوات، وهذه الآيات فيهم إلى قوله:

{واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ، ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث}"([43])

وأما اختلاف الأسباب والوسائط فمع ما سبق له من إيضاح، نقول: إنه قد تقرر فيما مضى أن العبد (كل عبد) من حيث هو مفتقر ذاتياً إلى الله تعالى لا يستطيع أن يحقق مراداته ومطالبه التي لا تنتهي إلا بوسائط وأسباب إما حقيقية وإما متوهمة ..

والقصد هنا بيان اختلاف شطري الجماعة الإنسانية "المؤمنون والكافرون" بالنسبة لهذا الأمر، وكيف يصرف كل منهما عبادته وخوفه ورجاءه وسائر أعمال قلبه له وفي سبيله .(2)

فأما المؤمن فمن بدهيات إيمانه تجريد الاستعانة بالله وحده - كتجريد العبادة له وحده - سواءً الاستعانة به في الهداية والاستقامة وصلاح القلب، أو في إدراك المطالب وقضاء الحوائج التي يفتقر إليها المخلوق في معاشه و مصالحه.

فهو يعلم أن الله تعالى هو وحده الذي بيده خزائن كل شيء {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} - كما سبق عنها - وهو يناجي ربه تعالى في حين وآخر: "اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد" (3)

وهو يردد هذا الكنز من كنوز الجنة" لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" (4)

بل إن كان عاقل في الوجود لو تأمل و تدبر لوجد أنه "ليس في الوجود الممكن سبب واحد مستقل بالتأثير، بل لا يؤثر سبب البتة إلا بانضمام سبب آخر إليه وانتفاء مانع يمنع تأثيره، هذا في الأسباب المشهودة بالعيان وفي الأسباب الغالية والأسباب المعنوية، فكل ما يخاف ويرجى من المخلوقات فأعلى غاياته أن يكون جزء سبب غير مستقل بالتأثير، ولا يستقل بالتأثير وحده دون توقف تأثيره على غيره إلا الله الواحد القهار" .

فلا ينبغي أن يرجى ولا يخاف غيره، وهذا برهان قطعي على أن تعلق الرجاء والخوف بغيره باطل، فإنه لو فرض أن ذلك سبب مستقل وحده بالتأثير لكانت سببيته من غيره لا منه، فليس له من نفسه قوة يفعل بها، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، فهو الذي بيده الحول والقوة كلها، فالحول والقوة التي يرجى لأجلها المخلوق ويخاف إنما هما لله وبيده في الحقيقة، فكيف يخاف ويرى من لا حول له ولا قوة ؟ .

بل خوف المخلوق ورجاؤه أحد أسباب الحرمان ونزول المكروه بمن يرجوه ويخافه، فإنه على قدر خوفك من غير الله يسلط عليك، وعلى قدر رجائك لغيره يكون الحرمان، وهذا حال الخلق أجمعه وإن ذهب عن أكثرهم علماً وحالاً. فما شاء الله كان ولا بد، وما لم يشأ لم يكن ولو اتفقت عليه الخليقة " (5)

والمتأمل لكتاب الله تعالى ولحال الخليقة يجد أن من أكبر أسباب الشرك ودواعيه توهم المشركين أن غير الله مصدر خير لهم، وأن عبادته سبب لحصول ما ينفعهم ودفع ما يضرهم، وأقل من ذلك من يتخذ من دون الله إلهاً بمعنى أن يجعله قرة عينه وغاية قلبه ومتعلق إرادته.

أي إن شرك الدعاء أكثر من شرك المحبة، وذلك لأن حقيقة الافتقار في الأول أظهر وأعم، ولهذا جاء الخطاب به في القرآن أكثر، وأبطل عز وجل أن يكون لغيره نفع أو ضر أو ولاية أو شفاعة أو ملك أو شرك في ملك، أو يكون بيد غيره رحمة أو رزق أو فضل أو شفاء أو موت أو حياة أو نصر أو إغاثة أو كشف كرب . . . إلى آخر ما يفتقر إليه كل مخلوق وتصرف فيه أعمال القلوب, إلا من جعله الله تعالى سبباً لحصول شيء من ذلك .

وهذه من أكبر الحقائق التي فصلها القرآن المكي وسد الله بها كل منافذ الشرك وذرائعه ودواعيه.

قال تعالى:

{قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} [سبأ: 22-23]

وقال تعالى:

{قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتاباً فهم على بيّنة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضاً إلا غروراً} [فاطر: 40]

وقال تعالى:

{ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير، إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير} [فاطر: 13-14]

وقال على لسان خليله ابراهيم  :

{إنما تعبدون من دون الله أوثاناً وتخلقون إفكاً إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له وإليه ترجعون} [العنكبوت: 17]

3- الإقرار بالافتقار من حال إلى حال

وأما الإقرار بالافتقار فمن أجلى الأدلة على التوحيد وحقيقة الإيمان، والخلاف فيه بين الكافر والمؤمن من أعظم ما يميز كلا منهما عن الآخر، ثم هو مما يميز الذاكرين الصابرين عن الغافلين الهلعين من المؤمنين.

فالمؤمن مقر بافتقاره إلى الله في كل لحظة عين، ومن كان شاكرا لأنعمه ذاكرا لآلائه في حال الرخاء والشدة معا ، يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها، ولا يمل دعاءه ولو لأدنى حاجاته.

وبالجملة هو مشاهد لحقيقة افتقاره إلى مولاه يدعوه صباحاً ومساء بما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة رضي الله عنها: "يا حي يا قيوم برحمتك استغثت, أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين"([44])

بل إن المؤمن ليستشعر ذلك في أعز ساعات الانتظار والتمكين .

وقد قص الله تعالى من حال أنبيائه في القرآن ما فيه بيان وقدوة؛ فهذا يوسف عليه السلام ( في اللحظة التي تم فيها كل شيء تحققت رؤياه: 

{ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزع الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم} .

في هذه اللحظة نزع يوسف عليه السلام نفسه من اللقاء والعناق والفرحة والابتهاج ليتجه إلى ربه في تسبيح الشاكر الذاكر، كل دعوته وهو في أبهة السلطان وفي فرحة تحقيق الأحلام:

{رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين}

وكذلك نبي الله سليمان عليه السلام وقد رأى عرش ملكة سبأ حاضراً بين يديه (من وراء آلاف الأميال) من قبل أن يرتد إليه طرفه: {فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر} ([45])

وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة فاتحا منصورا؛ فإنه دخلها وهو يقرأ سورة الفتح يرجع ([46])، ونزل بيت أم هانئ فصلى فيه ثماني ركعات([47]) ، وظل مكثرا من التسبيح والاستغفار إلى أن توفاه الله تأويلا لقوله تعالى :

{إذا جاء نصر الله والفتح,  ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا, فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا} [النصر: 1–3] .

ولهذا قال أشياخ بدر لعمر رضي الله عنه: "أمرنا أن نحمد ربنا ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا"([48]) ، وهكذا فعل سعد بي أبي وقاص يوم فتح المدائن، وجعلها بعض العلماء سنة فقالوا: يستحب لأمير الجيش إذا فتح بلدا أن يصلي فيه أول ما يدخله ثماني ركعات ([49]).

فهذا حال المؤمنين في حال النعمة وذروة الطمأنينة.

وأما الكافر فإنه مستكبر على ربه متمرد عليه حال الرخاء والنعمة، يكفره ولا يشكره، يستخدم آلاءه في معاصيه ، يطغى إذا استغنى ويفسق إذا أترف. حتى إذا ما نزلت به نازلة وأحدقت به كربة وأحاطت به مصيبة سقط من عرش كبريائه الوهمي، وانهار الزيف أمام الواقع، وانكشف الغيم عن الفطرة المكبوتة، فأيقن حينئذ أنه لا يملك حولا ولا طولا، وضلت عنه الأرباب المزعومة التي كان يتعلق بها من قبل، وأخلص لله الدعاء وأظهر له من الافتقار والضراعة مالم يكن ليخطر له ببال حال الأمن والعافية.

{وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض} [فصلت:51]

{وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون} [يونس:12]

{فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون} [الزمر:49]

ومن أشد المواقف التي يظهر فيها ذلك جليا موقف الرعب الحاصل لراكب البحر حين يكون الهلاك قاب قوسين أو أدنى.

{هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين , فلما أنجاهم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون} [يونس:22،23]

{قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين , قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون} [الأنعام:63،64] .

{ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمت الله ليريكم من ءايته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور , وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجَّاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور} [لقمان:31،32] .

وهذا أعظم ما ألزم به القرآن المشركين ، فإنه أقبح ما يكون الإنكار بعد الإقرار، وأقبح ما يكون الاستكبار بعد التذلل والتضرع .

وبين سبحانه أن كل نعمة هي منه؛ فالافتقار إليه ذاتي وغناه تعالى مطلق.

{يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد} [فاطر:15] .

{وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون , ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون} [النحل:53،54]

{يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون } [فاطر:3] .

{أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور} [الملك:21] .

{قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين} [الملك:30]

وحتى هذه الحالة بخصوصها -  حالة ركوب البحر - بيّن الله لهم ضلال نظرتهم القاصرة حين يجعلون حاجتهم إليه محصورة في زمن اشتداد العاصفة، وكأنما خلوصهم إلى البر استغناء عنه ومأمنة من عقابه.

{وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا , أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا , أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعاً} [الإسراء:67- 69] .

ومن أعجب ما قصه الله تعالى في ذلك ما وقع لفرعون وملئه؛ فقد سلط الله تعالى عليهم صنوفا من العذاب؛ " الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم "، وكلما اشتد عليهم وطأة عذاب {قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل} [الأعراف:134] ، ولكن ما يكاد العذاب ينكشف حتى يعودوا للكفر والجحود فتأتي الآية الآخرى من العذاب وهكذا حتى لهم تسع آيات انتهت بإغراقهم أبدا !! .

الخاتمة 

 

 

 تقرر مما سبق عن حقيقة النفس الإنسانية أن كل إنسان همام- أي مريد ومفكر- وأن كل همام حارث - أي عامل كادح - ، وأن كل عامل له غاية ومراد ينتهي إليها همه وإرادته ويقصدها بكدحه وعمله، فهو عامل لها أي عابد ولا بد !

وتقرر قبله ومعه أن الإسلام هو دين الفطرة القويمة أنزله الله متسقا مع حقيقة الإنسان مستوعبا كل نشاطه وحركته- هما وحرثا وفكرا وعملا - ومن ثم جاء منهجا متكاملا لإصلاح النشاط الإنساني كله؛ إصلاح الخواطر والأفكار بالاعتقادات الحقة والإرادات الصحيحة والنية الخالصة، وإصلاح الأعمال بأنواع الطاعات والبر والمعروف.

وتكفل ببيان ضد ذلك من الاعتقادات الباطلة والإرادات الفاسدة والأعمال السيئة والتحذير منها.

وكما أن الإنسان لا يمكن أن يكون هماما ولا يكون حارثا؛ فإن الإيمان لا يمكن أن يكون اعتقادا ولا يكون عملا.

ومن هنا نستطيع أن نتبين أي المذهبين في الإيمان هو الحق؛ مذهب أهل السنة والجماعة أم مذهب المرجئة ؟

ومعيار الحكم في هذا يبدأ من أصل الخلاف, وهو اختلاف مصدري التلقي والاستمداد عند الفريقين؛ فمن يستقي من مصدر الوحي المعصوم فضروري أن يكون مذهبه هو الحق المتفق مع حقيقة الإنسان تبعا لما تقرر من اتفاق دين الله ووحيه مع خلقه وفطرته، ومن استقى من مصدر آخر- أياًّ كان - فلا بد أن يقع في التناقض، وأن يصادم حقيقة الإنسان تبعا لمخالفته لصريح القرآن!

وبنظرة عامة لما سبق نستطيع أن نستخرج بسهولة هذه النتيجة: أن أهل السنة والجماعة في اعتقادهم الجازم أن الإيمان عمل، والعمل إيمان- على ما سيأتي إيضاحه- إنما يستقون من معين الوحي المعصوم- كتابا وسنة- ما هو منسجم قطعا مع حقيقة النفس الإنسانية.

أما ما تعتقده المرجئة من التفريق بين الإيمان والعمل، وإثبات الإيمان كاملا في القلب مع وقوع عمل الجوارح على خلافه([50])، فهو فصل اعتباطي للحقيقة النفسية الواحدة، يجعل أحد شقيها ذاهبا ذات اليمين والآخر ذاهبا ذات الشمال في وقت واحد، وهو ما لا يقع أبدا، بل هذا الفصل يشبه من الناحية العضوية فصل القلب عن الجسد وفصل الطاقة عن الحركة.

حقيقة الأمر أن المرجئة تعتبر الإيمان قضية ذهنية مجردة - تسمها تصديقا أو معرفة- تعلق هذه القضية بالقلب كمادة جامدة ومعزولة لا تزيد ولا تنقص، توجد كاملة أو تذهب كاملة، ولا تستلزم أي أثر في الوجدان والشعور أو الحركة والكدح، بل هي مثـل أي معلومة رياضية أو مقولة فلسفية!!

وهي حين تعتقد ذلك يغيب عنها حقيقة بالغة الأهمية، وهي كيف إذن يفسر العمل الإنساني الدائب الذي لا يتوقف إلا لحظة الموت؟ ما مصدره؟ ما طاقته؟ ما دوافعه إن لم يكن الإيمان؟ أياً كان هذا الإيمان!!

حقا لقد جهدت كثيرا لكي أعثر على وجهة نظر القوم في هذه القضية الكبرى بلسان مقالهم لا بلسان حالهم، وتساءلت أيستطيع هؤلاء أن يلتزموا القول بأن المؤمن - على زعمهم - مصاب بانفصام الشخصية؛ فهو يعتقد غير ما يعمل، ويعمل غير ما يعتقد([51]) ؟!

وكيف يجيبون على كثير من الأسئلة البدهية التي يفجؤهم بها مناظرهم قبل الدخول في تفصيلات النقاش العلمي والخوض الجدلي مثل:

كيف يمتلئ القلب بالحب وتعمل الجوارح أعمالا كلها عداء وانتقام ؟!

وكيف يمتلئ القلب بالرحمة وتعمل الجوارح أعمالا كلها غلط وفظاظة ؟!

وكيف يمتلئ القلب بالتصديق وتعمل الجوارح أعمالا كلها تكذيب وإعراض ؟!

وكيف يمتلئ القلب بالتقوى وتعمل الجوارح أعمالا كلها فجور وآثام ([52])؟ .

ولما لم أجد لهذا ذكراً عندهم خرجت بنتيجة وضعتها أول الأمر على أنها افتراض ثم صدقها البحث التاريخي المستقصي؛ وهي أن عقيدة المرجئة لم تكن على الإطلاق ثمرة نظر في النصوص الشرعية ولا وليدة اجتهاد عقلي سوي، وإنما هي وليدة مواقف انفعالية جدلية أفرزتها المعارك الكلامية الطاحنة بين الفرق البدعية, تلك الفرق التي كان جهلها بالشرع وإعراضها عنه سببا في تعلقها لدفع خصومها بأوهام ذاتية أو تصورات غريبة منقولة عن مصادر وثنية ([53])، ولهذا جاءت أصولها الاعتقادية- لا سيما المرجئة- مجافية تماما للدين والفطرة والعقل والحقيقة الإنسانية .

ولست أدري أي الخيالين كان أسبق إلى عقول المرجئة وهي تؤسس هذه النظرية الهلامية: أهو تخيل أن الإنسان تمثال شاخص لا علم له ولا إرادة ولا إحساس, أم تخيل أن الإيمان قطعة جامدة هامدة لا تنتج إحساسا ولا إرادة ولا عملا ؟

فعلى الخيال الأول يريدون إرغام العقول السوية على أن تتصور قلبا بشريا مزروعا في جسد تمثال! وعلى الخيال الآخر يريدون إرغامها على أن تتصور إنسانا حيا يعيش بقلب من الخشب أو الفخار الصامت!

والمهم أنه على كلا الحالين لا نجد خارج أذهان المرجئة إنسانا- أي لا نجد إيمانا- هذه صفته.

أما الإنسان ذاك الذي خلقه الله تعالى بطبيعته حارثا همّاماً حيا حساسا مريدا عاملا، فإنه لا يمكن - في الحالة السوية - أن يؤمن بشيء ولا يعمله، أو يعمل شيئا وهو لا يؤمن به .

فالصلة بين الإيمان - أيا كان- وبين العمل كالصلة بين العمل والحياة.

ولا مخرج للمرجئة من هذه الإلزامات جميعها إلا أن تقر بأن ما تتحدث عنه مسمية إياه إيمانا ليس هو الإيمان الشرعي ، ولتسميه بعد ذلك ما شاءت !!

* حقيقية الإيمان الشرعية *

مضى الحديث عن الجيل الأول الذي رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك الجيل الذي كانت حياته الواقعية حقيقة حية للإيمان كما فهموه وتربوا عليه، وهذا ما جعلهم أبعد شيء عن النظريات المجردة في أي مجال، فما بالك ببعدهم عنها في دينهم وإيمانهم الذي يعيشون حقيقته ويتحركون به وله.

حتى العلم الشرعي نفسه لم يكونوا يتلقونه معلومات تراكمية كما صنعت الأجيال من بعد، بل كانوا كما قال بعضهم: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن غلمان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن فازددنا به إيمانا" ([54]).

هذا الإيمان الذي تلقوه لم يكن- على الإطلاق- درسا يسمى "درس العقيدة" يقال فيه: "إن الإيمان قول وعمل، وإن الطاعات كلها داخلة في الإيمان" - كما يصنع أكثر متأخري أهل السنة الذين أهملوا كثيرا من حقائق الإيمان واحتفظوا برسمه ولفظه- فضلا عن أن يكون درساً كلامياً أو فلسفياً يقال فيه: "الإيمان هو التصديق، والتصديق اعتقاد نسبة الصدق إلى المخبر بدلالة المعجزة، والمعجزة أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي ... إلخ" كما هو الحال في دروس العقيدة في أكثر العالم الإسلامي اليوم وفي القرون الأخيرة الماضية.

إن معايشة الجيل الأول للوحي وصاحبه صلى الله عليه وسلم مع ما آتاهم الله من سلامة الفطرة وصحة الفهم وحضور البديهة, جعلتهم أصدق الناس نظرا وأقلهم تكلفا وأحسنهم هديا.

فإن سئلوا عن أمر كان جوابهم أوجز بيان وأشفاه وأبينه, إن لم يكن من ذات نور الوحي فهـو قبس من مشكاته.

وإن في مسألة الإيمان- تلك المسألة التي تشعبت فيها الآراء وتنافرت فيها الفرق وتـقاتـلت عليها الأمة- لأصدق دليل على هذا.

فقد ذهبت الفرق الضالة كل مذهب لتأتي بتعريف للإيمان كما تريد, فمنهم من صرف نظره عن نصوص الوحي كلها, ومنهم من أخذ بعضها وغلا فيه وتعسف في تأويل الباقي أو إنكاره, ومنهم من ظل حائرا متناقضا لا يستـقـر له قرار.

أما الجماعة- الذين هم الصحابة والتابعون لهم بإحسان- فما حادوا عن منهجهم المأمون قط, فكانوا إذا سئلوا عن الإيمان أجابوا بالوحي لا بالهوى, جوابا يراعى فيه حال السائل ومقام السؤال كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل.

فمرة يجيبون السائل بآية جامعة من كتاب الله تعالى, مثل جواب بعضهم بقوله تعالى:

{ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون} الآية ([55]).

ومرة يجيـبون بحديث كما أجاب النبي صلى الله عليه وسلم جبريل أو وفد عبدالقيس ([56]).

ومرة يعرفونه بفهم فهموه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, كما قال بعضهم: (الصبر نصف الإيمان, واليقين الإيمان كله) ([57]) ونحو ذلك.

ومن الواضح أنه ليس في شيء من هذا تحديد مجرد للإيمان على المنهج المنطقي المتكلف.

وعندما اتسع الخلاف بين الفرق وانتقلت الأمة من البحث في أعمال الإيمان وفرائضه ليحققوه بكماله إلى البحث في ماهيته المجردة وحده المنطقي- ليتجادلوا فيها- ظهرت الحاجة إلى قول فصل وأصل جامع يعرف به الناس هذا المفهوم في كتاب ربهم وسنة نبيهم, فتواردت أذهان علماء الجماعة وتواطأت أقوالهم وتواترت أخبارهم-  الحجازي منهم والعراقي والشامي والخراساني والمصري والمغربي, ومن كان وراء النهر أو بالأندلس - على معنى موجز شاف كاف ليس في التعريفات أوضح ولا أيسر منه؛ مقتبس من الكتاب والسنة, وموافق للعقل والفطرة, ومترجم لواقع الجيل الأول, وهو: "أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص" .

وأكثرهم لم يزد عن هذه العبارة ولم ينقص, ومنهم من اختلفت عبارته قليلا أو أضاف إليها قيدا إيضاحيا, لكن المعنى الذي أرادوه جميعا واحد؛ فلم يكن اختلافهم في بعض الألفاظ إلا كما يختلف الصادقون عادة في التعبير عن أمر واحد محسوس ظاهر.

وهذا وحده دليل كاف لمن كانت له بصيرة على أن هؤلاء هم الجماعة حقا, وأن من عداهم فرق زيغ وضلالة, من اقتفاها فقد اتبع غير سبيل المؤمنين, فولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا.

وهذا الإجماع نقله كثير من المؤلفين الثقات؛ وها هي ذي نماذج منهم:

1- يقول الإمام الحجة أمير المؤمنين في الحديث أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى: "لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم؛ أهل الحجاز ومكة والمدينة والكوفة والبصرة وواسط وبغداد والشام ومصر, لقيتهم كرات قرنا بعد قرن ثم قرن بعد قرن([58]) أدركتهم وهم متوافرون أكثر من ست وأربعين سنة, أهل الشام ومصر والجزيرة مرتين, والبصرة أربع مرات في سنين ذوي عدد, وبالحجاز ستة أعوام, ولا أحصي كم دخلت الكوفة وبغداد, مع محدثي أهل خراسان, منهم: المكي بن إبراهيم, ويحيى بن يحيى, وعلي بن الحسن بن شقيق, وقتيبة بن سعيد, وشهاب بن معمر.

وبالشام: محمد بن يوسف الفريابي, وأبا مسهر عبدالأعلى بن مسهر, وأبا المغيرة عبدالقدوس بن الحجاج, وأبا اليمان الحكم بن نافع. ومن بعدهم عدة كثيرة.

وبمصر: يحيى بن كثير, وأبا صالح - كاتب الليث بن سعد - وسعيد بن أبي مريم, وأصبغ بن الفرح , ونعيم بن حماد.

وبمكة: عبدالله بن يزيد المقري, والحميدي, وسليمان بن حرب - قاضي مكة - وأحمد بن محمد الأزرقي.

وبالمدينة: إسماعيل بن أبي أويس, ومطرف بن عبدالله , وعبدالله بن نافع الزبيري, وأحمد بن أبي بكر أبا مصعب الزهري, وإبراهيم بن حمزة الزبيري, وإبراهيم بن المنذر الحزامي.

وبالبصرة: أبا عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني, وأبا الوليد هشام بن عبدالملك, والحجاج بن المنهال, وعلي بن عبدالله بن جعفر المديني.

وبالكوفة: أبا نعيم الفضل بن دكين, وعبيد بن موسى, وأحمد بن يونس, وقبـيصة بن عقبة, وابن نمير, وعبدالله وعثمان ابني أبي شيبة.

وببغداد: أحمد بن حنبل, ويحيى بن معين, وأبا معمر, وأبا خيثمة, وأبا عبيد القاسم بن سلام.

ومن أهل الجزيرة: عمرو بن خالد الحراني .

وبواسط: عمرو بن عون, وعاصم بن علي بن عاصم.

وبمرو: صدقة بن الفضل, وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي.

واكتفينا بتسمية هؤلاء كي يكون مختصرا ([59]) , وأن لا يطول ذلك, فما رأيت واحدا منهم يختلف في هذه الأشياء:

أن الدين قول وعمل, وذلك لقول الله ([60]) :

{وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} .... " ([61]).

ثم ذكر عقيدة قيمة جاء فيها – أيضا – مما يتعلق بموضوعنا: "لم يكونوا يكفرون أحدا من أهل القبلة بالذنب لقوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} " ([62]).

2- وقال الإمامان الجليلان الثـقـتان أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان, فيما رواه عنهما الإمام عبدالرحمن بن أبي حاتم قال: "سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين, وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار, وما يعتقدان من ذلك؟ فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار – حجازا وعراقا وشاما ويمنا – فكان من مذهبهم: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص".

ثم ذكر عقيدة عظيمة أيضا جاء فيها: "وأهل الكبائر في مشيئة الله عز وجل. ولا نكفر أهل القبلة بذنوبهم, ونكل أسرارهم إلى الله عز وجل". "والناس مؤمنون في أحكامهم ومواريثهم ولا ندري ما هم عند الله عز وجل, فمن قال: إنه مؤمن حقا فهو مبتدع, ومن قال: هو مؤمن عند الله فهو من الكاذبين, ومن قال: هو مؤمن بالله حقا فهو مصيب([63]) , والمرجئة المبتدعة ضلال".

"وعلامة المرجئة: تسميتهم أهل السنة مخالفة ونقصانية" ([64]).

3- وروى أبو عمرو الطلمنكي بإسناده المعروف عن موسى بن هارون الحمال قال: أملى علينا إسحاق بن راهويه أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص, لا شك أن ذلك كما وصفنا.

وإنما عقلنا هذا بالروايات الصحيحة والآثار العامة المحكمة, وآحاد ([65]) أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين وهلم جرا على ذلك. وكذلك بعد التابعين من أهل العلم على شيء واحد لا يختلفون فيه, وكذلك في عهد الأوزاعي بالشام وسفيان الثوري بالعراق ومالك بن أنس بالحجاز, ومعمر باليمن على ما فسرنا وبينا أن الإيمان قول وعمل, يزيد وينقص ... ([66]).

قال إسحاق: واتبعهم على ما وصفنا من بعدهم من عصرنا هذا أهل العلم إلا من باين الجماعة واتبع الأهواء المختلفة, فأولئك قوم لا يعبأ الله بهم لما باينوا الجماعة" ([67]).

4- و "قال أبو عبيد القاسم بن سلام الإمام, وله كتاب مصنف في الإيمان, قال: هذه تسمية من كان يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص:

من أهل مكة: عبيد بن عمير الليثي, عطاء بن أبي رباح, مجاهد بن جبر, ابن أبي مليكة, عمرو بن دينار, ابن أبي نجيح, عبيد الله بن عمر, عبدالله بن عمرو بن عثمان, عبدالملك بن جريج, نافع بن جبير, داود بن عبدالرحمن العطار, عبدالله بن رجاء.

ومن أهل المدينة: محمد بن شهاب الزهري, وربيعة بن أبي عبدالرحمن, أبو حازم الأعرج, سعد بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف, يحيى بن سعيد الأنصاري, هشام بن عروة بن الزبير, عبدالله بن عمر العمري, مالك بن أنس, محمد بن أبي ذئب, سليمان بن بلال, عبدالعزيز بن عبدالله - يعني الماجشون-, عبدالعزيز بن أبي حازم.

ومن أهل اليمن: طاوس اليماني, وهب بن منبه, معمر بن راشد, عبدالرزاق بن همام.

ومن أهل مصر والشام: مكحول, الأوزاعي, سعيد بن عبدالعزيز, الوليد بن مسلم, يونس بن يزيد الأيلي, يزيد بن أبي حبيب, يزيد بن شريح, سعيد بن أبي أيوب, الليث بن سعد, عبدالله بن أبي جعفر, معاوية بن أبي صالح, حيوة بن شريح, عبدالله بن وهب.

وممن سكن العواصم وغيرها من الجزيرة: ميمون بن مهران, يحيى بن عبدالكريم, معقل بن عبيدالله, عبيدالله بن عمرو الرقي, عبدالملك ([68]) بن مالك, المعافى بن عمران, محمد بن سلمة الحراني, أبو إسحاق الفزاري, مخلد بن الحسين, علي بن بكار, يوسف بن أسباط, عطاء بن مسلم, محمد بن كثير, الهيثم بن جميل.

ومن أهل الكوفة: علقمة, الأسود بن يزيد, أبو وائل, سعيد بن جبير, والربيع بن خثيم, عامر الشعبي, إبراهيم النخعي, الحكم بن عتيبة, طلحة بن مصرف, منصور بن المعتمر, سلمة بن كهيل, مغيرة الضبي, عطاء بن السائب, إسماعيل بن أبي خالد, أبو حيان, يحيى بن سعيد, سليمان بن مهران الأعمش, يزيد بن أبي زياد, سفيان بن سعيد الثوري, سفيان بن عيينة, الفضيل بن عياض, أبو المقدام, ثابت بن العجلان, ابن شبرمة, ابن أبى ليلى, زهير, شريك بن عبدالله, الحسن بن صالح, حفص بن غياث, أبو بكر بن عياش, أبو الأحوص, وكيع بن الجراح, عبدالله بن نمير, أبو أسامة, عبدالله بن إدريس,زيد بن الحباب, الحسين بن علي الجعفي, محمد بن بشر العبدي, يحيى بن آدم, ومحمد ويعلى وعمرو بنو عبيد.

ومن أهل البصرة: الحسن بن أبي الحسن, محمد بن سيرين, قتادة بن دعامة, بكر بن عبدالله المزني, أيوب السختياني, يونس بن عبيد, عبدالله بن عون, سليمان التيمي, هشام بن حسان الدستوائي, شعبة بن الحجاج, حماد بن سلمة, حماد بن زيد, أبو الأشهب, يزيد بن إبراهيم, أبو عوانة, وهيب بن خالد, عبدالوارث بن سعيد, معتمر بن سليمان التيمي, يحيى بن سعيد القطان, عبدالرحمن بن مهدي, بشر بن المفضل, يزيد بن زريع, المؤمل بن إسماعيل, خالد بن الحارث, معاذ بن معاذ, أبو عبدالرحمن المقري.

ومن أهل واسط: هشيم بن بشير, خالد بن عبدالله, علي بن عاصم, يزيد ابن هارون, صالح بن عمر, عاصم بن علي.

ومن أهل المشرق: الضحاك بن مزاحم, أبو جمرة, نصر بن عمران, عبدالله ابن المبارك, النضر بن شميل, جرير بن عبدالحميد الضبي.

قال أبو عبيد : هؤلاء جميعا يقولون : الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ؛ وهو قول أهل السنة المعمول به عندنا " ([69]).

5- ويقول الإمام البغوي في شرح السنة: "اتـفـقت الصحابة والتابعون فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان؛ لقوله سبحانه وتعالى:

{إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} . إلى قوله: {الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} .

فجعل الأعمال كلها إيمانا, وكما نطق به حديث أبي هريرة (يعني حديث الإيمان بضع وسبعون شعبة).

ثم قال: وقالوا: إن الإيمان قول وعمل وعقيدة, يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية على ما نطق به القرآن في الزيادة, وجاء في الحديث بالنقصان في وصف النساء (يعني ناقصات عقل ودين) . . .

ثم قال: واتفقوا على تفاضل أهل الإيمان وتباينهم في درجاته" ([70]).

6- ويقول الإمام الحافظ أبو عمر بن عبدالبر: "أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل, ولا عمل إلا بنية, والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية, والطاعات كلها عندهم إيمان".

ثم ذكر خلاف أبي حنيفة وأصحابه في هذا, وقال: "وأما سائر الفقهاء من أهل الرأي والآثار بالحجاز والعراق والشام ومصر, منهم: مالك بن أنس, والليث بن سعد, وسفيان الثوري, والأوزاعي, والشافعي, وأحمد بن حنبل, وإسحاق بن راهويه, وأبو عبيد القاسم بن سلام, وداود بن علي (الظاهري), وأبو جعفر البصري, ومن سلك سبيلهم فقالوا: الإيمان قول وعمل؛ قول باللسان وهو الإقرار, واعتقاد بالقلب, وعمل بالجوارح مع الإخلاص بالنية الصادقة, قالوا: وكل ما يطاع الله عز وجل به من فريضة ونافلة فهو من الإيمان, والإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي, وأهل الذنوب عندهم مؤمنون غير مستكملي الإيمان من أجل ذنوبهم . . . " ([71]).

7- ويذكر الإمام الحافظ ابن كثير: إن الإيمان "إذا استعمل مطلقا فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقادا وقولا وعملا, وهكذا ذهب أكثر الأئمة بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيد وغير واحد إجماعا أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص" ([72]).

8- ويقول الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي: "والمشهور عن السلف وأهل الحديث أن الإيمان قول وعمل ونية, وأن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان, وحكى الشافعي على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم, وأنكر السلف على من أخرج الأعمال عن الإيمان إنكارا شديدا.

وممن أنكر ذلك على قائله وجعله قولا محدثا: سعيد بن جبير, وميمون بن مهران, وقتادة, وأيوب السختياني, والنخعي, والزهري, وإبراهيم, ويحيى بن أبي كثير, وغيرهم.

وقال الثوري: هو رأي محدث أدركنا الناس على غيره.

وقال الأوزاعي: وكان من مضى من السلف لا يفرقون بين العمل والإيمان... " ([73]).

9- وما ذكره الحافظان ابن كثير وابن رجب عن الشافعي رحمه الله أن الإجماع على ذلك نقله شيخ الإسلام ابن تيمية, فقال: (وقد ذكرنا عن الشافعي رضي الله عنه ما ذكره من الإجماع على ذلك قوله في "الأم":

"وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم يقولون: إن الإيمان قول وعمل ونية, ولا يجزيء واحد من الثلاثة إلا بالآخر" ) ([74]).

10- ويقول الإمام محمد بن جرير الطبري شيخ المفسرين: "والصواب لدينا من القول أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص, وبه الخبر عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وعليه مضى أهل الدين والفضل" ([75]).

11- وقد روى الإمام أحمد في الإيمان, وابنه عبدالله بن أحمد في السنة, عن جماعة كثيرة من أهل العلم الذين ذهبوا لما ذكر وذموا الإرجاء وعابوه, نذكر منهم:

"مجاهد, سعيد بن جبير , الحسن البصري, أبو وائل, إبراهيم النخعي, علقمة, عطاء ابن أبي رباح, قتادة, ابن أبي مليكة, هشام بن عروة, عمر بن عبدالعزيز, سفيان الثوري, سفيان بن عيينة, وكيع, الفضيل بن عياض, مالك, الشافعي, حماد بن زيد, حماد بن سلمة, الأوزاعي, شريك, أبو بكر بن عياش, أبو البختري, ميسرة, أبو صالح, ضحاك المشرقي, بكير الطائي, يحيى بن سعيد, عبدالعزيز بن أبي سلمة, منصور بن المعتمر, عمير بن الحبيب, جرير بن عبدالحميد, عبدالملك بن جرير, يحيى بن سليم, أبو إسحاق الفزاري, عبدالله ابن المبارك, الخليل بن أحمد الفراهيدي, ميمون بن مهران, خالد بن الحارث, محمد بن مسلم الطائفي, معمر بن راشد, القاسم بن مخيمرة, صدقة المروزي, محمد بن عبدالله بن عمرو عثمان بن عفان, سعيد بن عبدالعزيز, عبدالكريم الجزري, خصيف بن عبدالرحمن" ([76]).

12- "وروى أبو بكر النقاش بإسناده عن عبدالرزاق قال: لقيت اثنين وسبعين شيخا (وذكر جملة من كبار الأئمة) كلهم يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص" ([77]).

وبعض هؤلاء الأعلام صرح بأن قول أهل الإرجاء بدعة محدثة, وأنهم يهود أهل القبلة أو صابئة هذه الأمة, وأن من أدركوه من أهل العم- صحابة وتابعين- كانوا على ما عليه أهل السنة, ونحو ذلك من النقول الدالة على الإجماع, تصريحا أو لزوما واقتضاء. ولولا خشية التطويل لنقلنا ذلك تفصيلا ([78]).

ومعلوم أن أي إجماع لا بد له من مستند نصي, وهذا الإجماع يستند إلى نصوص كثيرة جدا, بل ربما كانت هذه القضية أعظم مسائل الخلاف بين الأمة إجماعا من الصدر الأول, من حيث تواتر النصوص وتواتر نقل الأقوال فيها.

ونظرا للاختصار رأيت الاكتفاء بنصين مفصلين من كلام أئمة السنة مذكور فيهما مستند الإجماع:

1- كلام الإمام هشام بن عمار (مقرئ الشام ومحدثها في عصره) المتوفى 245 هـ ([79]):

قال رحمه الله: "ومما يبين لأهل العقل أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث:

أن الحياء شعبة من شعب الإيمان.

وأن حسن العهد من الإيمان.

وأن الإيمان عرى, وأوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله.

وأن للإيمان أركانا ودعائم وذروة وحقيقة ومحضا وصريحا وصدقا وبرا وحلاوة وزينة ولباسا وشطرا".

ثم فصل هذا فقال:

"فمن أركانه: التسليم لأمر الله (الشرعي), والرضا بقدر الله (الكوني), والتفويض إلى الله والتوكل على الله.

ومن دعائمه: الصبر واليقين والعدل والجهاد.

وصريح الإيمان: أن يصل من قطعه, ويعطي من حرمه, ويعفو عمن ظلمه, ويغفر لمن شتمه, ويحسن إلى من أساء إليه.

وذروته: أن يكون الفقر أحب إليه من الغنى, والتواضع أحب إليه من الشرف, وأن يكون ذامه وحامده في الحق عنده سواء.

وحقيقته: ما روي من: "ثلاث من كن فيه فقد استوجب حقيقة الإيمان: حب الرجل المرء في الله ..." (الحديث).

أما استكماله: فما روي: "لا يستكمل عبد الإيمان كله حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه, وحتى يقدم الصلاة في اليوم الدجن, وحتى يجتنب الكذب في مزاحه". وما روي: "لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتى يخزن لسانه".

وأما طعم الإيمان: فأن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه, ولا يقول: لولا, ولو أن, ويدع المراء وهو محق, ويدع الكذب في المزاح, روي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه.

وأما محض الإيمان: فما روي أنهم قالوا: يا رسول الله إن أحدنا ليحدث نفسه بالشيء ما يحب أن يتكلم به, قال: "ذلك محض الإيمان".

وأما صدق الإيمان وبره: فما روي عن عبيد بن عمير قال: من صدق الإيمان وبره إسباغ الوضوء في المكاره, ومن صدق الإيمان وبره أن يخلو الرجل بالمرأة الحسناء فيدعها لا يدعها إلا لله.

وأما لباسه: فالتقوى, روي ذلك عن وهب بن منبه.

وأما حلاوته: فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما, وأن يحب العبد لا يحبه إلا لله, وأن يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار".

وأما شطر الإيمان: فما روي عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الطهور شطر الإيمان - وفي رواية: إسباغ الوضوء شطر الإيمان - , والحمد لله تملأ الميزان, والتكبير والتسبيح يملأ السماوات والأرض, والصلاة نور, والصدقة برهان, والصبر ضياء, والقرآن حجة لك أو عليك, كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها".

وأما نصف الإيمان: فروي عن عبدالله (ابن مسعود) رضي الله عنه: الصبر نصف الإيمان, واليقين الإيمان كله ([80]). اهـ

أقول: ما ذكره من الأحاديث والآثار ليس على درجة واحدة من الصحة والقبول, لكن الشاهد من مجموعها – وهو الاستدلال على صحة مفهوم الإيمان عند أهل السنة والجماعة – متحقق, والمطلع على السنة وأقوال الصحابة والتابعين – رضي الله عنهم – يمكن أن يزيد على ما ذكر أشياء كثيرة.

وهذه التي ذكرها بعضها أعمال وبعضها أقوال, وبعضها أقوال القلب وأعماله وبعضها أقوال لسان وأعمال جوارح, وبعضها فرائض وواجبات, وبعضها نوافل وكمالات.

ومن تدبرها وتدبر أمثالها في النصوص الأخرى, ثم قابل ذلك بقول المرجئة – الذي عليه أكثر كتب العقيدة في العالم الإسلامي اليوم, وهو أن الإيمان هو التصديق القلبي المجرد من سائر أفعال القلوب والجوارح, على الخلاف في النطق بالشهادتين – عرف شذوذ هذا القول وسقوطه, وأنه بدعة لا يجوز اعتقادها .

2- كلام الفضيل بن عياض مع تعليق الإمام أحمد ([81]):

قال عبدالله ابن الإمام أحمد في كتاب السنة: "وجدت في كتاب أبي: أخبرت أن الفضيل بن عياض قرأ أول الأنفال حتى بلغ: {أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم}

قال حين فرغ: إن هذه الآية تخبرك أن الإيمان قول وعمل, وأن المؤمن إذا كان مؤمنا حقا فهو من أهل الجنة. فمن لم يشهد أن المؤمن حقا من أهل الجنة فهو شاك في كتاب الله مكذب, أو جاهل لا يعلم. فمن كان على هذه الصفة فهو مؤمن حقا مستكمل الإيمان, ولا يستكمل الإيمان إلا بالعمل, ولا يستكمل عبد الإيمان ولا يكون مؤمنا حقا حتى يؤثر دينه على شهوته, ولن يهلك عبد حتى يؤثر شهوته على دينه.

يا سفيه ما أجهلك لا ترضى أن تقول: أنا مؤمن حتى تقول: أنا مؤمن حقا مستكمل الإيمان, والله لا تكون مؤمنا حقا مستكمل الإيمان حتى تؤدي ما افترض الله عليك, وتجتـنب ما حرم الله عليك, وترضى بما قسم الله لك, ثم تخاف مع هذا ألا يقبل الله منك.

ووصف فضيل الإيمان بأنه قول وعمل. وقرأ:

{وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة}

فقد سمى الله دينا قيمة ([82]) بالقول والعمل. فالقول: الإقرار بالتوحيد والشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ. والعمل: أداء الفرائض واجتناب المحارم. وقرأ:

{واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا * وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا}

وقال:

{شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} .

فالدين: التصديق بالعمل كما وصفه الله, وكما أمر أنبياءه ورسله بإقامته, والتفرق فيه: ترك العمل والتفريق بين القول والعمل. قال الله عز وجل:

{فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} .

فالتوبة من الشرك جعلها الله قولا وعملا بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.

وقال أصحاب الرأي: ليس الصلاة ولا الزكاة ولا شيء من الفرائض من الإيمان, افتراء على الله وخلافا لكتابه وسنة نبيه, ولو كان القول كما يقولون لم يقاتل أبو بكر أهل الردة.

وقال فضيل: يقول أهل البدع: الإيمان الإقرار بلا عمل, والإيمان واحد وإنما يتفاضل الناس بالأعمال ولا يتفاضلون بالإيمان. فمن قال ذلك فقد خالف الأثر ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان بضع وسبعون شعبة, أفضلها لا إله إلا الله, وأدناها إماطة الأذى عن الطريق, والحياء شعبة من الإيمان".

وتفسير من يقول: الإيمان لا يتفاضل, يقول: إن فرائض الله ليست من الإيمان. فميز أهل البدع العمل من الإيمان, وقالوا: إن فرائض الله ليست من الإيمان, ومن قال ذلك فقد أعظم الفرية, أخاف أن يكون جاحدا للفرائض رادا على الله أمره.

ويقول أهل السنة: إن الله قرن العمل بالإيمان, وأن فرائض الله من الإيمان, قالوا: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات} موصول العمل بالإيمان. ويقول أهل الإرجاء: لا, ولكنه مقطوع غير موصول.

وقال أهل السنة: {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن} فهذا موصول, وأهل الإرجاء يقولون: بل هو مقطوع.

وقال أهل السنة: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن} فهذا موصول.

وكل شيء في القرآن من أشباه هذا فأهل السنة يقولون: هو موصول مجتمع ([83]), وأهل الإرجاء يقولون: بل هو مقطوع متفرق. ولو كان الأمر كما يقولون لكان من عصى وارتكب المعاصي والمحارم لم يكن عليه سبيل, فكان إقراره يكفيه من العمل, فما أسوأ هذا من قول وأقبحه فإنا لله وإنا إليه راجعون.

(فيه دليل على أن هذا لازم قولهم لا أنه قولهم, فليبحث عن دليل آخر).

وقال فضيل: أصل الإيمان عندنا وفرعه- بعد الشهادة والتوحيد, والشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ, وبعد أداء الفرائض – صدق الحديث, وحفظ الأمانة, وترك الخيانة, والوفاء بالعهد, وصلة الرحم, والنصيحة لجميع المسلمين, والرحمة للناس عامة.

قيل له – يعني فضيلا - : هذا من رأيك تقوله أو سمعته؟ قال: بل سمعناه وتعلمناه, ولو لم آخذه من أهل الفـقه والفضل لم أتكلم به.

وقال فضيل: يقول أهل الإرجاء: الإيمان قول بلا عمل, ويقول الجهمية: الإيمان المعرفة بلا قول ولا عمل, ويقول أهل السنة: الإيمان المعرفة والقول والعمل, فمن قال: الإيمان قول وعمل, فقد أخذ بالوثيقة, ومن قال: الإيمان قول بلا عمل؛ فقد خاطر, لأنه لا يدري أيقبل إقراره أو يرد عليه بذنوبه.

وقال – يعني فضيلا – قد بينت لك, إلا أن تكون أعمى.

وقال فضيل: لو قال رجل: مؤمن أنت؟ ما كلمته ما عشت! وقال: إذا قلت: آمنت بالله فهو يجزيك من أن تقول: أنا مؤمن, وإذا قلت : أنا مؤمن لا يجزيك من أن تقول: آمنت بالله؛ لأن آمنت بالله أمر, قال الله: {قولوا آمنا بالله} الآية, وقولك: أنا مؤمن تكلف لا يضرك ألا تقوله, ولا بأس إن قلته على وجه الإقرار, وأكرهه على وجه التزكية.

وقال فضيل: سمعت سفيان الثوري يقول: من صلى إلى هذه القبلة فهو عندنا مؤمن, والناس عندنا مؤمنون بالإقرار والمواريث والمناكحة والحدود والذبائح والنسك, ولهم ذنوب وخطايا, الله حسيبهم, إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم, ولا ندري ما لهم عند الله.

قال الفضيل: سمعت المغيرة الضبي يقول: من شك في دينه فهو كافر, وأنا مؤمن إن شاء الله. قال فضيل: الاستثناء ليس بشك.

وقال فضيل: المرجئة كلما سمعوا حديثا فيه تخويف قالوا: هذا تهديد, وإن المؤمن يخاف تهديد الله وتحذيره وتخويفه ووعيده, ويرجو وعده, وإن المنافق لا يخاف تهديد الله ولا تحذيره ولا تخويفه ولا وعيده ولا يرجو وعده.

وقال فضيل: الأعمال تحبط الأعمال, والأعمال تحول دون الأعمال" ([84]).

و يتعلق بهذا مباحث مهمة :

المبحث الأول

*ما في ظاهر ألفاظ بعض السلف

من اختلاف عما نقلنا وجوابه *

 

سبقت الإشارة إلى أن بعض السلف عبروا عن المعنى الواحد المجمع عليه بينهم بعبارات مختلفة، ولما كان ظاهر بعض هذه العبارات قد يفهم منه مخالفته للعبارة المختارة المنقولة عن الأكثر و هي: "قول وعمل يزيد وينقص"، فإنه يحسن بنا إيضاح المسألة ورفع هذا الاحتمال، فنقول:

قد نقلت كتب السنة - المذكور أكثرها قريباً- مثل كتاب الخلال والسنة لعبدالله بن الإمام أحمد واللالكائي والآجري وابن بطة والطبري - أقوالاً من هذا القبيل عن بعض السلف - كسفيان والأوزاعي ونحوهم، وبعضها عن المتقدمين من الصحابة والتابعين.

ومدار هذه الأقوال على وجوه:

1- من عرف الإيمان ببعض خصاله، كمن قال: الإيمان هو الصبر واليقين. أو الإيمان هو الصبر والشكر ونحوها، ومعلوم أن هؤلاء لم يقصدوا حقيقة التعريف الاصطلاحي، وإنما قصدوا بيان أهمية هذه الخصلة، وقد ورد نحو ذلك في أحاديث مرفوعة يأتي بعضها في مبحث أعمال القلوب.

2- من زاد في التعريف زيادة قد يحسبها الناظر ركناً أو قيداً لا يتم التعريف إلا به، وأكثر ما ورد من ذلك زيادة بعضهم لفظ (النية) فقالوا: "هو قول وعمل ونية" ومنهم من زاد عليها: "موافقة السنة". ومن الواضح أن هذه الزيادات لم يقصد بها أن الكلمة المتواتر نقلها: "قول وعمل" ناقصة فاستدركوا على قائليها بهذا الزيادة، وإنما قصدوا التنبيه على صحة النية وموافقة السنة، مع دخولها في أعمال القلب والجوارح التي تشملها جميعاً كلمة "قول وعمل" على ما سيأتي تفصيله في المبحث التالي. وإنما لم يذكرها الأكثرون لأنها شرط لصحة كل عمل شرعي بلا استثناء، فلا حاجة لذكرها في كل تعريف، وأيضاً فإن العبارة هي أشبه بالحد العقلي، والحدود لا تذكر فيها الشروط وإنما تذكر الأركان. ومما يوضح ذلك أن الإمام أحمد رحمه الله قال هو أيضاً: "الإيمان قول وعمل ونية صادقة" لكن لما سأله بعض تلاميذه: هل لا بد من النية؟ وهو سؤال يشعر بأن من لم يذكرها قد أخل بالمراد - قال الإمام: "النية متقدمة"(1)، أي فمن لم يذكرها فلبداهتها، ومن ذكرها فلأهميتها، ففي كلام الإمام هذا إشارة لسبب ترك أكثر السلف، وهو أيضاً في أكثر كلامه(2) .

3- من عبّر بألفاظ أخرى قد يفهم منها أنها تخالف تلك الكلمة أو استدراك عليها وأشهر هذه الألفاظ قول من قال منهم: "هو اعتقاد بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان" وهذه العبارة شاعت عند المتأخرين من أهل السنة، والظاهر أنهم اختاروها احترازاً من الفهم الخطأ الذي فهمه المبتدعة – وغيرهم - من قول السلف: "قول وعمل" حيث فهموا أن القول خاص باللسان، والعمل خاص بالجوارح، فكأن السلف غفلوا عن الإيمان القلبي. وهذا من أسوأ الفهم، ولهذا اقتضى الأمر تبيين معنى كلام  السلف على النحو الآتي في المبحث الثاني.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ". . . ومن هذا الباب أقوال السلف وأئمة السنة في تفسير الإيمان، فتارة يقولون: هو قول وعمل ونية، وتارة يقولون: هو قول وعمل ونية واتباع سنة، وتارة يقولون: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح.

قال : و كل هذا صحيح، فإذا قالوا: قول وعمل، فإنه يدخل في القول قول القلب واللسان، وهذا هو المفهوم من لفظ القول والكلام ونحو ذلك إذا أطلق ..."

وذكر اختلاف الأقوال في مسمى الكلام، ثم قال: "والمقصود هنا أن من قال من السلف: الإيمان قول وعمل، أراد قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح.

ومن أراد الاعتقاد، رأى أن لفظ القول لا يفهم منه إلا القول الظاهر، أو خاف ذلك فزاد الاعتقاد بالقلب.

ومن قال: قول وعمل ونية، قال: القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان وأمّا العمل فقد لا يفهم منه النيّة فزاد ذلك.

ومن زاد اتباع السنة، فلأن ذلك كله لا يكون محبوباً لله إلا باتباع السنة.

وأولئك لم يريدوا كل قول وعمل، إنما أرادوا ما كان مشروعاً من الأقوال والأعمال، ولكن كان مقصودهم الرد على المرجئة الذين جعلوه قولاً فقط ، فقالوا: بل هو قول وعمل.

"والذين جعلوه أربعة أقسام فسروا مراده، كما سئل سهل بن عبدالله التستري(1) عن الإيمان ما هو فقال: قول وعمل ونية وسنة، لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق، وإذا كان قولاً وعملاً ونية بلا سنة فهو بدعة"(2).

من وضع بدل كلمة: "قول" كلمة: "إقرار" أو "تصديق وعمل"، أو نحو ذلك، وهذا أيضاً مما أساء المرجئة فهمه وتأولوه على مذهبهم، مع أن  السلف لم يقصدوا المغايرة بين القول والإقرار، أو القول والتصديق، كما أن معنى الإقرار والتصديق عندهم يختلف عما قررته المرجئة وعلى ما يأتي تفصيله في المبحث الثاني، وما أكثر ما ضل المبتدعة بسبب عدم أخذ معاني اصطلاحات السلف من مصادرهم وكلامهم.

المبحث الثاني

* معنى قول السلف: الإيمان قول وعمل *

من الواضح لكل ذي عقل سليم أن معنى قول السلف: "الإيمان قول وعمل" هو أنه التزام وتـنفيذ وإقرار واعتقاد وطاعة - بالقلب واللسان والجوارح - ولكن المرجئة باستخدامهم المتكلف لمنطق اليونان والفلسفة الأعجمية العجماء - فهموا أن هذه العبارة حد منطقي غير جامع ولا مانع، إذ لم يفهموا إلا أن القول هو ألفاظ اللسان  والعمل حركات الجوارح، فاعترضوا على قول السلف - من هذا الوجه - بأنهم أهملوا إيمان القلب ! وتبعهم في هذا بعض المتأخرين ممن تأثر بمنطق هؤلاء ومنهجهم في التفكير.

وبعضهم ذهب به الخبث إلى التحايل على العبارة نفسها، فقالوا: صحيح أن الإيمان قول وعمل، ولكن من قال بلسانه: لا إله إلا الله - فقد عمل(1) ، أما عمل الجوارح فليس من الإيمان فأخرجوا عبارة السلف عن معناها البدهي الفطري إلى هذا المعنى السقيم الساقط .

ولهذا اقتضى الأمر إيضاح معنى كلام السلف بشيء من التفصيل، فنقول:

إن الإيمان عند السلف حقيقة شرعية في غاية الوضوح، فهي ترادف وتساوي كلمة "الدين" حتى إن كثيراً منهم كان نص عبارته: "الدين قول وعمل"، وليس في معنى الدين خفاء يحتاج معه أي مسلم إلى تكلفات منطقية و سفسطة كلامية، بل لم يكن هنالك حاجة إلى تعريفه أو بيان معناه أصلاً، وكيف يعرفون أمراً يعيشونه ويعملونه ويقرؤون حقائقه كل حين.

فلما ابتدعت المرجئة قولها: إن الإيمان "قول" فقط - متأثرة بالمنطق الغريب عن الإسلام والفطرة واللغة- أكذبَهم السلف وردوا دعواهم قائلين: بل هو قول وعمل، فمن ها هنا نشأت العبارة. فلا المرجئة الذين ابتدعوا ذلك - أول مرة - أرادوا ألفاظ اللسان المجردة عن إيمان القلب، ولا السلف الذين ردوا عليهم أرادوا ألفاظ اللسان وحركات الجوارح مجردة عن عمل إيمان القلب أيضا.

ولكن المعركة الجدلية المستمرة ودافع الهوى والشبهة وترك منطق الفطرة والبديهة إلى منطق اليونان ؛ كل ذلك جعل المرجئة يتحايلون على الألفاظ ويماحكون في المعاني لتصحيح نظريتهم.

والحاصل أن أعمال القلوب لم تكن موضع نزاع بين السلف وأصناف المرجئة المتقدمين، إلا فرقة شاذة هي فرقة الجهم بن صفوان ومن وافقه كالصالحي، وهي فرقة كفرها السلف بهذا وبمقالاتها الأخرى في الصفات والقدر , كما سنفصل الحديث عنها ضمن فرق المرجئة.

وإنما أصبحت أعمال القلوب محل نزاع كبير بعد أن تبنى الأشاعرة مذهب جهم في الإيمان، وحصروه في عمل قلبي واحد وهو التصديق، ومال إليهم الماتريدية الذين كان أصل مذهبهم على إرجاء المتقدمين (الحنفية)، فحينئذ بعدت الشقة وعظمت الظاهرة(2) حتى آل الأمر إلى أن تصبح عقيدة الإرجاء الجهمي هي عقيدة عامة الأمة في القرون الأخرى، وهذا ما سيأتي بسط الحديث عنه بإذن الله في الباب الخاص بالظاهرة وانتشارها.

وهذا ما استدعى علماء السنة في عصر انتشار الظاهرة إلى إيضاح معنى قول السلف وبسط القول في أعمال القلوب وأهميتها، وهذا ما نفعله هنا نقلاً عنهم وإيضاحاً لكلامهم:

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "أجمع السلف أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ومعنى ذلك أنه قول القلب وعمل القلب، ثم قول اللسان وعمل الجوارح .

فأما قول القلب فهو التصديق الجازم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويدخل فيه الإيمان بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم .

ثم الناس في هذا على أقسام:

أ - منهم من صدق به جملة ولم يعرف التفصيل .

ب- ومنهم من صدق جملةً و تفصيلاً .

ج- ثم منهم من يدوم استحضاره وذكره لهذا التصديق (مجملاً أو مفصلاً)، ومنهم من يغفل عنه ويذهل، ومنهم من استبصر فيه بما قذف الله في قلبه من النور والإيمان، ومنهم من جزم به لدليل قد تعترض فيه شبهة, أو تقليد جازم.

قال: وهذا التصديق يتبعه عمل القلب، وهو حب الله ورسوله وتعظيم الله ورسوله وتعزير الله ورسوله وتوقيره ، وخشية الله والإنابة إليه والإخلاص له والتوكل عليه، إلى غير ذلك من الأحوال.

فهذه الأعمال القلبية كلها من الإيمان، وهي مما يوجبها التصديق والاعتقاد إيجاب العلة المعلول.

ويتبع الاعتقاد قول اللسان، ويتبع عمل القلب (عمل) الجوارح من الصلاة والزكاة والصوم والحج ونحو ذلك" (1)

وقال بعد أن نقل عبارات السلف المذكورة في الفصل السابق: "وليس بين هذه العبارات اختلاف معنوي، ولكن القول المطلق والعمل المطلق في كلام السلف يتناول قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، فقول اللسان بدون اعتقاد القلب هو قول المنافقين، وهذا لا يسمى قولاً إلا بالتقييد كقوله تعالى: {يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم}. (2)

وكذلك عمل الجوارح بدون أعمال القلوب هي من أعمال المنافقين التي لا يتقبلها الله.

فقول السلف يتضمن القول والعمل الباطن والظاهر".

قال: "وكذلك قول من قال: اعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح، جعل القول والعمل اسماً لما يظهر، فاحتاج أن يضم إلى ذلك اعتقاد القلب. ولا بد أن يدخل في قوله: "اعتقاد القلب" أعمال القلب المقارنة لتصديقه، مثل: حب الله وخشية الله والتوكل على الله ونحو ذلك.

فإن دخول أعمال القلب في الإيمان أولى من دخول أعمال الجوارح بإتفاق الطوائف كلها" (3)

وقد سبق ضمن كلامه الشبيه بهذا - في الفصل السابق - قوله" إن من قال من السلف: الإيمان قول وعمل، أراد قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح" .

وقوله: "فإذا قالوا: قول وعمل، فإنه يدخل في القول قول القلب واللسان جميعاً" وعند هذه العبارة علق المحقق بقوله:"وعلى هامش النسخة الهندية: وقول القلب هو إقراره ومعرفته وتصديقه، وعمله هو انقياده لما صدق به"

ويقول الإمام ابن القيم: "إن الإيمان قول وعمل، والقول قول القلب واللسان, والعمل عمل القلب والجوارح، و بيان ذلك أن من عرف الله بقبله ولم يقر بلسانه لم يكن مؤمناً كما قال عن قوم فرعون:

{وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} (4) .

وكما قال عن قوم عاد وقوم صالح:

{وعاداً وثمودا وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين}.

وقال موسى لفرعون:

{قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر}

فهؤلاء حصلوا قول القلب - وهو المعرفة والعلم، ولم يكونوا بذلك مؤمنين، وكذلك من قال بلسانه ما ليس في قلبه لم يكن بذلك مؤمناً، بل كان من المنافقين.

وكذلك من عرف بقلبه وأقر بلسانه لم يكن بمجرد ذلك مؤمناً حتى يأتي بعمل القلب من الحب والبغض والموالاة والمعاداة، فيحب الله ورسوله صلى الله عليه و سلم ويوالي أولياء الله و يعادي أعداءه، ويستسلم بقلبه لله وحده و ينقاد لمتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم وطاعته والتزام شريعته ظاهراً وباطناً. وإذا فعل ذلك لم يكف في كمال إيمانه(5) حتى يفعل ما أمر به، فهذه الأركان الأربعة هي أركان الإيمان التي قام عليها بناؤه" (6) .

والحاصل أن السلف وعلماء أهل السنة والجماعة في كل عصر إنما يستخدمون في منهج التفكير المنطق الفطري البدهي الذي ينقسم عمل الإنسان بحسبه قسمين: "ظاهر وباطن".

فالباطن: قول القلب وعمله، والظاهر: قول اللسان وعمل الجوارح (7)

فعلى هذا قالوا: الإيمان قول وعمل، أي شامل للظاهر والباطن، لا سيما إذا ضممنا إلى ذلك ما هو معروف - بداهة وفطرة - من أن حقيقة الإنسان قسمان: "قلب وأعضاء"، وأعماله قسمان: "أقوال وأفعال"، فيكون أشمل عبارة أن يقال "قول وعمل بالقلب والأعضاء"، وهذا هو مراد السلف قطعاً، وإنما اكتفوا عن آخر القصد إلى المطلوب بإيجاز دون العروج على ما هو معلوم بداهة.

وبهذا يظهر أن عبارة "قول وعمل" على إيجازها جامعة مانعة، لا من جهة أنها حد منطقي - أي تعريف للماهية - ولكن من جهة أنها كشف عن الحقيقة وبيان لها.

ولذلك فإنني - بعد طول تأمل - أختار هذه العبارة وأفضلها على عبارة: "اعتقاد بالجنان وقول باللسان، وعمل بالأركان" ونحوها، على أن تشرح بما أوضحنا آنفاً. ومن أسباب الاختيار:

أنها المنقولة عن متقدمي السلف، مع إيجازها وشمولها.

أن العبارة الأخرى لا تسلم أيضاً من الفهم الخطأ.

فإن فهم بعض الناس - المرجئة وغيرهم - أن "قول وعمل" تعني قول اللسان وعمل الجوارح دون قول القلب و عمله أمر تنكره البديهة وترده، ولكن العبارة الأخرى توقع في لبس قل من يفطن له ولا يستطيع كل أحد رده، وهو أن هذه الثلاثة- أي الاعتقاد والقول والعمل- منفصلة بعضها عن بعض بمعنى أن الطاعات - التي هي فروع الإيمان وشعبه- على ثلاثة أقسام: قسم قلبي وقسم لساني وقسم عملي(1)، وعلى هذا قد يفهم أنه يمكن أن يتحقق في الإنسان ركنان من ثلاثة بأن يتحقق لديه الاعتقاد والقول مع عدم العمل بالكلية، وهذا الذي جزم السلف باستحالة وقوعه.

وبيان ذلك يتضح من خلال تأمل كلام أحد علماء السنة المحققين - وهو الحافظ ابن حجر رحمه الله، وهو من هو علماً وفهماً وإحاطة بأقوال السلف، فانظر إليه حين يقول- شرحاً لترجمة البخاري (وهو قول وفعل يزيد وينقص ): "فأما القول فالمراد به النطق بالشهادتين، وأما العمل فالمراد به ما هو أعم من عمل القلب والجوارح ليدخل الاعتقادات والعبادات. ومراد من أدخل ذلك في تعريف الإيمان ومن نفاه إنما هو بالنظر إلى ما عند الله تعالى.

فالسلف قالوا: هو اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان، وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله، ومن هنا نشأ لهم القول بالزيادة والنقص كما سيأتي.

والمرجئة قالوا: هو اعتقاد ونطق فقط.

والكرامية قالوا: هو نطق فقط.

والمعتزلة قالوا: هو العمل والنطق والاعتقاد. والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطاً في صحته، والسلف جعلوها شرطاً في كماله.

وهذا كله كما قلنا بالنظر إلى ما عند الله تعالى، أما بالنظر إلى ما عندنا فالإيمان هو الإقرار فقط، فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا ولم يحكم بكفره إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره كالسجود للصنم .. " الخ

فقارئ كلامه يفهم منه التناقض بين تعريفي السلف في موضوع العمل، فإنه في التعريف الأول: "قول وعمل" يعتبر ركناً، في حين أنه حسب التعريف الأخير: "اعتقاد وقول وعمل" ليس إلا شرط كمال فقط .

ويفهم منه – كذلك - أن الفرق بين المرجئة والسلف أن السلف زادوا على تعريف المرجئة "العمل" وجعلوه شرط كمال، وعليه فمن ترك العمل بالكلية فهو عند المرجئة مؤمن كامل الإيمان، وعند السلف مؤمن تارك لشرط الكمال فحسب.

ويمكن أن نفهم منه أيضاً أن تعريف المرجئة والمعتزلة أوجه من تعريف السلف، لأن المرجئة عرفوه بركنين و المعتزلة بثلاثة والسلف عرفوه - حسب فهمه - بركنين وشرط كمال، والتعريفات إنما تذكر الأركان لا الشروط , فضلا عن شروط الكمال.

والأهم من هذا ما سبقت الإشارة إليه من توهم انفصال هذه الأجزاء الثلاثة، بحيث يتحقق الركنان: القول و الاعتقاد مع انتفاء العمل بالكلية ولا يزيد صاحبه عن كونه ناقص الإيمان، مع أن السلف نصوا على أن تارك العمل بالكلية تارك لركن الإيمان، لأن انتفاء عمل الجوارح بالكلية لا يكون إلا مع انتفاء عمل القلب أيضاً، فلا يصح أن نقول إنه حقق اعتقاد القلب وترك عمل الجوارح .

وسيأتي إيضاح لهذا في باب: "الحقيقة المركبة" الآتي آخر الرسالة، والمقصود هنا تفضيل العبارة المذكورة وبيان ما في الأخرى من إيهام لم يقصده قائلوها من السلف قطعاً، ولكن وقوعه لبعض المتأخرين يجعل عبارة الأكثرين هي الأولى بالأخذ والاتباع .

 

معنى الإقرار والتصديق في كلام السلف:

ورد عن بعض السلف تفسير الإيمان بالتصديق، أو وصف الإيمان بأنه تصديق وعمل، أو إقرار وتصديق، ونحو ذلك(1) ، ولما كانت المرجئة- وخاصة الأشاعرة - يفسرون الإيمان بأنه التصديق القلبي- على ما سنوضحه في بابه- وهم يعنون به مجرد التصديق الخبري الذهني، الذي هو نسبة الصدق إلى المخبر أو الخبر من غير إذعان ولا قبول، كما تقول لمن أخبرك إن وراء البحر قارة تسمى أمريكا: صدقت، أو من قال: "إن مساحة المربع = طول الضلع x نفسه" : صدقت - لما كانوا يرون ذلك ويعتقدونه، سرهم أن وجدوا في ظواهر بعض كلام السلف مثل تلك الألفاظ وأنزلوها على مذهبهم .

ومن هنا وجب إيضاح معنى هذين اللفظين في استعمال السلف، فنقول: إن السلف الذين استعملوا هذين اللفظين لم يخرجوا عما ورد به الكتاب والسنة من معنى .

1- فإن التصديق في الكتاب والسنة- بل وفي لغة العرب - ليس محصوراً في التصديق الخبري، وإنما ورد كذلك في التصديق العملي، أي تصديق الخبر بالامتثال والدعوى بالعمل، فهو بمعنى "التحقيق" ومنه قوله تعالى:

{وناديناه أن يا إبراهيم، قد صدقت الرؤيا} [الصافات: 104-105]

أي قد امتثلت الأمر وحقيقته بإضجاعك ولدك وهمك بذبحه باستسلام وانقياد، فكأنه قد ذبحه فعلاً لأن المقصود هو عمل القلب وإسلام الوجه لله وإلا فالله غني عن ذلك، قال تعالى:

{لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} [الحج: 37]

 وقريب من ذلك قوله تعالى:

{فمن أظلم ممن كَذَبَ على الله وكَذَّبَ بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوىً للكافرين، والذي جاء بالصدق وصدّق به أولئك هم المتقون} [الزمر: 32-33]

فإن أحد معانيها- وهو الأظهـر- أن الصدق هو شهادة أن لا إله إلا الله - أي الإيمان - فهي التي كذب بها الكفار، ومن جاء بها من المؤمنين مصدقاً بها - أو مصدقاً بمحمد صلى الله عليه وسلم - فهـو المتقي(2) .

كما فسّر مجاهد الصدق بأنه: القرآن، والذي صدّق به: المؤمنون، قال: "أصحاب القرآن المؤمنون يجيئون يوم القيامة فيقولون: هذا ما أعطيتمونا فعملنا بما أمرتمونا" .

قال ابن كثير: "وهذا القول عن مجاهد يشمل كل المؤمنين، فإن المؤمن يقول الحق ويعمل به"(3) .

ومنه قوله تعالى: {إنما توعدون لصادق} [الذاريات: 5] أي متحقق لا محالة.

ومنه قوله تعالى: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} [الأحزاب: 23] أي وفوا به وحققوه عملاً .

ومن ذلك آية {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل ا لمشرق والمغرب} التي ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم فسّر الإيمان بها كما سبق، حيث قال تعالى في آخرها: {أولئك الذين صدقوا}

قال ابن جرير في تفسيرها: يعني تعالى ذكره بقوله {أولئك الذين صدقوا} من آمن بالله واليوم الآخر، ونعتهم النعت الذي نعتهم به في هذه الآية, يقول: فمن فعل هذه الأشياء، فهم الذين صدقوا الله في إيمانهم وحققوا قولهم بأفعالهم. ثم روى عن الربيع بن أنس أنه قال: "أولئك الذين صدقوا فتكلموا بكلام الإيمان، فكانت حقيقته: العمل، صدقوا الله" .

قال: وكان الحسن يقول: "هذا كلام الإيمان، وحقيقته: العمل، فإن لم يكن مع القول عمل فلا شيء" .(4)

وقال ابن كثير: "أي هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم، لأنهم حـقـقـوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال فهؤلاء هم الذين صدقوا" (5).

وأما السنة: فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والفرج يصدق ذلك أو يكذبه"(1) ودلالته على المراد ظاهرة.

وأما كلام العرب فكثير, ومنه قول كثير عزة- وهو ممن يحتج بكلامه- يمدح أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز:

 

وقلت فصدقت الذي قلت بالذي         عملت فأضحى راضياً كل مسلم

 

وبهذا يتضح أن من قال من السلف: إن الإيمان "تصديق وعمل" فإنه يقصد التصديق الخبري المستلزم للإذعان والانقياد، فهي كعبارة: "قول وعمل" سواء.

ومثل ذلك قول من قال: "إقرار وعمل".

ومن قال منهم: الإيمان هو التصديق، فمراده التصديق العملي المتضمن للتصديق الخبري العلمي، وهو احتراز ممن يكذب بعمله ما يدعيه بلسانه. (2)

فمن الخطأ أن يظن ظان أن مرادهم هو مجرد نسبة الصدق إلى المخبر أو ما أشبهه كالمعرفة المجردة أو العلم المجرد .

وأما الإقرار فكذلك، حيث ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى:

{وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمةٍ ثم جاءكم رسولٌ مصدقٌ لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين} [آل عمران: 81]

وقد سبق القول بأن من أسباب ضلال المرجئة - وسائر الفرق- أنهم يرجعون في تفسير الحقائق الشرعية إلى كلام الناس - المحتج بهم وغيرهم - كاستدلالهم على أن الإيمان هو التصديق بأن الناس يقولون: "فلان مؤمن بالبعث أي يصدق" (3).

وكذلك قولهم في الإقرار- حيث حسبوا أن المراد به في كلام المتقدمين- هو المعروف في كتب الفقه في أبواب "الإقرار والخصومات"، والذي يعني الاعتراف أو تصديق دعوى الخصم.

ولو أنهم رجعوا إلى الكتاب والسنة لوجدوا الأمر بخلاف ذلك، فإن لفظ الإقرار في هذه الآية يعني إنشاء الالتزام والإذعان، ولهذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية إن الإقرار على وجهين:

أحدهما: الإخبار: وهو من هذا الوجه كلفظ التصديق والشهادة ونحوها, وهذا معنى الإقرار الذي يذكره الفقهاء في كتاب الإقرار.

والثاني: إنشاء الالتـزام: كما في قوله تعالى: {ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين}، وليس هو هنا بمعنى الخبر المجرد فإنه سبحانه قال: {وإذ أخذ الله مثياق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري} فهذا الالتزام للإيمان والنصر للرسول صلى الله عليه و سلم.." (4) .

فالإقرار بالمعنى الأول يقابل الإنكار والجحود، وكفر إباء وامتناع ككفر إبليس.

وبهذا يظهر ضلال المرجئة في فهم ألفاظ النصوص ومصطلحات السلف، وإلا فلو رجعوا للكتاب والسنة وعرفوا معنى الإقرار والتصديق فيهما ثم فسروا الإيمان بهما على الوجه الصحيح لما كان الخلاف بينهم وبين أهل السنة إلا لفظيا واختلاف الألفاظ وقع بين السلف كما سبق، ولكن ألفاظ المرجئة في الحقيقة إنما هي نتيجة لمنهجهم البدعي في  التفكير والاستنباط والاستدلال.

الباب الثاني

 

نــــشــــأة الإرجـــــاء

   ويشتمل على :

براءة الصحابة رضي الله عنهم   من الإرجاء ذاتا وموضوعا *

الإرجاء خارج مذهب الخوارج *

الباب الثاني 

نـشـأة الإرجـاء

الــفــتــنــة الأولـى

روى الإمام مسلم في "صحيحه" عن حذيفة بن اليمان- رضي الله عنه- قال: (كنا عند عمر فقال: أيكم يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة كما قال؟

قال: فقلت :أنا!

قال: إنك لجريء، وكيف قال؟

قال: قلت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره، يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".

فقال عمر: ليس هذا أريد. إنما أريد التي تموج كموج البحر!

قال:  فقلت: مالك و لها يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها باباً مغلقاً!

قال: أفيكسر الباب أم يفتح؟

قال: لا. بل يكسر!

قال : ذلك أحرى ألا يغلق أبداً .

قال : فقلنا لحذيفة : هل كان عمر يعلم من الباب؟

قال : نعم, كما يعلم أن دون غد الليلة ، إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط . 

قال- أي الراوي عن حذيفة وهو شقيق - : فهبنا أن نسأل حذيفة من الباب، فقلنا لمسروق فسأله، فقال: عمر) ([85]).

أما كيف كسر الباب فقد استفاض في كتب التواريخ وروي بأسانيد متضافرة  أن "الهرمزان" الفارسي المجوسي وجفينة النصراني الصليبي قد تآمرا على حياة الفاروق ([86])، ونفذ أبو لؤلؤة- عليه من الله ما يستحق- تلك المؤامرة الدهياء. وانكسر الباب.

ولم يقف التآمر الصليبي المجوسي عند هذا الحد، فقد انضم إليهما شر الثلاثة "المكر اليهودي" ممثلاً في عبد الله بن سبأ وخلاياه السرية، فأضرمت نار فتنة هوجاء ذهب ضحيتها الخليفة المظلوم ذو النورين عثمان رضي الله عنه ثم تتابعت الفتن كقطع الليل المظلم وما تزال ([87]).

كان مقتل ذي النورين فاجعة كبرى، ليس لأن الأمة فقدت خليفتها وأفضلها بعد النبي صلى الله عليه وسلم  والصاحبين فحسب، ولكن - أيضاً- لأن هذه الأمة المباركة المصطفاة {خير أمة أخرجت للناس} بدأت تتزحزح عن قمتها الشاهقة  التي لم تبلغها قبلها أمة من الأمم.

لقد كان ذلك إيذانا بانقضاء عصر ما كان التاريخ ليحلم بمثله ولا في خيال الحكماء , عصر الجماعة الإنسانية الفذة التي تعيش كالملائكة المطمئنين في الأرض.

ولا شك أن لله تعالى حكماً بالغة جرت بها مقاديره - له الحمد عليها علمناها أم جهلناها- تحولت هذه الجماعة بمقتضاها من بركان إيماني يعصف بدول الكفر ذات اليمين وذات الشمال إلى أطراف في فتنة داخلية عمياء .

ومع أن الاصطفاء الرباني لهذه الأمة تجلى حتى في هذا الموقف الحالك فأثبتت أنها أفضل الأمم خصومة- كما هي أسماها وفاقاً - فقد كانت دسائس الحاقدين ومعاول الهدامين توسع الشقة وتنكأ الجراح وتتلاعب بمشاعر الدهماء مستغلة ما أحدثته الفاجعة من اضطراب وارتباك.

وانفض المأتم العظيم عن آراء متضاربة ووجهات متباينة:

1- فقد رأت طائفة أن أول واجب على الأمة هو الثأر لخليفتها الشهيد والقصاص من الخونة السفاحين!

2- ورأى آخرون أن أول ما ينبغي هو اجتماع الكلمة واستتباب الأمور والتجلد حتى تتكشف ذيول المؤامرة ثم يكون استئصال شأفتها وقطع دابر دواعيها.

3- ورأت طائفة ثالثة أن الخليفة المظلوم لم يتحمل ذلك الحصار الآثم وينه أتباعه المؤمنين عن فكه إلا حرصاً على ألاتراق قطرة دم أو تثور أدنى فتنة بين أمة الإسلام، فالأولى بمن بعده جميعاً ألا يحركوا ساكناً وألا يكونوا طرفاً في أي نزاع - مهما بدت وجاهته - بل إن بعض من يرى هذا الرأي قد خرج من المدينة منذ أن أطلت الفتنة برأسها ، وآثروا الابتعاد حتى تسكن العاصفة ([88]).

وكان في ثغور الجهاد وأطراف البلاد فئات لم تعلم عن سير الأمور شيئاً، فلما صدمتها الفاجعة أذهلها الألم عن التفكير، ووقاها بعد الشقة شر الخوض في الفتنة .

4- ونبتت فئة أخرى من أحداث الأسنان وضيقي الأفق الذين ترعرعوا في البداوة وولدوا من سلالة الأعراب ونشأوا على الجلافة فقالوا: إن نزول عثمان عن مرتبة الشيخين مبرر كاف لقتله، وإنه ما من إمام إلى قيام الساعة لا يسير سيرتهما إلا استوجب الخلع أو القتل ([89]).

أما الفئة الآثمة المتآمرة فقد عادت إلى أوكارها واندست في صفوف الأمة تستجمع قوتها وتخطط للمرحلة التالية مدفوعة بيقينها أن أي اجتماع للأمة فإنه سيتقاضى رؤوسها الفاجرة .([90])

وأدرك بعض من شارك في الفتنة وخدع بمطلب المتآمرين صدق ما روي في الحديث:" عليكم بالجماعة، فإن ما تكرهونه في الجماعة خير مما تحمدونه في الفرقة" ([91]).

فقد كان غاية ما نقموا على أمير المؤمنين عثمان أنه حمى الحمى, وأتم الصلاة في السفر بمكة, وآثر أقرباءه, وتوسع في الإنفاق من بيت المال والفيء ([92]).

فماذا كانت نتيجة  الفتنة ومآل الأمة بعدها في الآجل والعاجل؟

لقد ثلم حمى الإسلام نفسه، وهدمت مساجد وثغور، وتولى الأمور من لا يساوي بالنسبة لأولئك الأقرباء شيئاً، وأصبح بيت المال بيت مال الملوك والسلاطين.

وكان ما كان من أمور لا نملك معها إلا أن نقول : قدر الله وما شاء فعل.

ولما كان الجانب الذي يهمنا الآن من هذه الفتنة هو ما يتعلق بظهور فكر المرجئة، فسوف نستعرض موقف الفئات التي كان لها أثر في نشأة الإرجاء إما على الحقيقة وإما على الادعاء .

إن الإرجاء من حيث هو موقف نفسي يمكن أن يوجد في الفتنة العمياء وما تلاها، كما يمكن أن ينشأ في أي قضية مماثلة، فإن من سنن الاجتماع أن أي نزاع يشجر بين طائفتين قد يفرز فئة ثالثة محايدة - لأي سبب من أسباب الحياد- وهكذا وجد في عصر الفتنة الأولى وما تلاها أناس اتخذوا هذا الموقف "الحياد" في الجملة، ولكن شتان بين قوم وقوم ،وإن كان موقفهما في الظاهر سواء.

فقد كانت الفئة المحايدة حينئذ تنقسم في حقيقتها أقساماً، بعضها وافق عين الصواب، وبعضها حاد عن الجادة ووضع قدمه على طريق أوله الحياد وآخره الضلال، وذلك بحسب الدوافع الاعتقادية لموقف كل منهم.

وأصل هذا التفاوت أن الموقف العام نفسه يعد فريداً في التاريخ، فليس هناك ما يمكن أن يشبهه من الخلافات الدينية أو السياسية في غير هذا الجيل المصطفى المختار.

وذلك أن العادة في مثل هذه الخلافات أن الحياد ليس إلا موقفاً سلبياً يمليه توازن المصالح أو التردد والشك، ولكننا هنا أمام صورة فذة يكون فيها الحياد - إن أسميناه كذلك - هو الموقف الإيجابي الذي يحتل مركز "الأفضلية" بحكم النصوص، في حين  يتقاسم الطرفان المتنازعان مركزي " الفاضل والمفضول".

وإذا كان طرفا النزاع هما أهل الشام وأهل العراق- وكلاً آتاه الله فضلاً- فإن الطائفة "الفضلى" هي تلك المجموعة من كبار الصحابة رضي الله عنهم الذين أمسكوا عن الفتنة ولم يكونوا يرون السيف بين المسلمين أصلاً ([93]).

وليس إمساكهم مجرد حياد سلبي (وهو ما ينطبق على موقف المرجئة فيما بعد) بل هو موقف إيجابي شرعي يستند على النصوص الثابتة، كما سنفصل بإذن الله .

وهذه الحقيقة غابت عن أذهان بعض العلماء - لا سيما من فقهاء العراق ([94]) ومن تبعهم، وكذا بعض أصحاب الأهواء  قديماً- ثم تلاهم من تلاهم من الحاقدين وجهلة الباحثين المحدثين، الذين زادوا  بأن نسبوا الصحابة للإرجاء أو نسبوا المرجئة للصحابة.

ولكن- للإنصاف- لا بد أن نذكر سبب خطأ أولئك العلماء- وهو سبب كثيراً ما يقع فيه الباحثون ألا وهو "التعميم"، ولو استخدمنا الاصطلاحات المنطقية لقلنا إن هؤلاء جعلوا "المحمول موضوعاً والموضوع محمولاً" فانقلبت القضية وكذبت.

فإن قضية: إن "المرجئة ممسكون عن الفتنة" صادقة، فإذا أصبحت القضية "كل الممسكين عن الفتنة مرجئة" صارت كاذبة.

ولذلك كان لزاماً علينا أن نفصل أقسام المحايدين لنرى أن هذا الحكم إنما ينصب على بعضهم لا على الجميع:

1- الفئة الأولى:

بعض كبار الصحابة وأجلائهم رضي الله عنهم مثل: سعد بن أبي وقاص, وعبد الله بن عمر, وأبي هريرة, وزيد بن ثابت, وأسامة بن زيد, ومحمد بن مسلمة، وغيرهم.

وقد آثرنا- إجلالاً منا لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتساباً في الذب عنهم- أن نفردهم بمبحث مستقل تال.

2- الفئة الثانية:

بعض سكان الأطراف والمرابطين على ثغور الجهاد، وهؤلاء كانوا يجالدون الأعداء ويفتحون الأمصار فما شعروا إلا والنبأ ينزل عليهم بمقتل أمير المؤمنين عثمان كالصاعقة، ثم فوجئوا بما تلاه من أحداث فما استطاعوا أن يستبينوا رأياً فيتبعوه أو يرجحوا طرفاً فيوالوه، فآثروا مسالمة الفريقين المتقاتلين والركون إلى حياد لا حيلة  لهم في قبوله.

وعن هؤلاء يقول الحافظ ابن عساكر: إنهم هم الشكاك الذين شكوا، وكانوا في المغازي، فلما قدموا المدينة بعد مقتل عثمان- وكان عهدهم بالناس وأمرهم واحد ليس بينهم اختلاف، فقالوا: تركناكم وأمركم واحد ليس بينكم اختلاف، وقدمنا عليكم وأنتم مختلفون.

فبعضكم يقول: قتل عثمان مظلوماً وكان أولى بالعدل وأصحابه.

وبعضكم يقول: كان علي أولى بالحق وأصحابه.

كلهم ثقة وكلهم عندنا مصدق، فنحن لا نتبرأ منهما ولا نلعنهما ولا نشهد عليهما، ونرجئ أمرهما إلى الله حتى يكون هو الذي يحكم بينهما ([95]).

فهؤلاء إن صح إطلاق الإرجاء على موقفهم فهو إرجاء حيرة لا إرجاء فكرة، وهذه الحيرة خاصة بقضية الحكم على المختلفين بالخطأ أو الصواب، أما موالاتهم والإقرار بفضلهم وسابقتهم فلم يكن موضوع شك عندهم ([96]).

3- الفئة الثالثة :

وهي فئة من ذلك الصنف البشري المحدود الإدراك الذي يضيق أفقه أو علمه عن تفهم الخلاف فتثور نفسه ساخطة على طرفيه حانقة عليهما دون تبصر في الدوافع أو تريث في الحكم، فمنهم فرقة أعلنت نقمتها وسخطها على كل الأطراف، وربما كان أصل ضجرها وحنقها أن المختلفين هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلم تكن صحبتهم دافعاً لالتماس العذر بل كانت- حسب فهمهم- مبرراً للعداء والبراء، إذ قالوا: كيف يختلفون ويتـقاتـلون وهم أصحاب رسول الله وأعلم الناس بالدين، والأصل أن يكونوا أكثر الأمة تمسكاً ووفاقاً ودعوة وجهاداً ؟! إذن لقد انحرفوا عما كانوا عليه زمن النبي صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا ريب، ومن ثم فلا حرمة لمن نكص على عقبيه ولا اعتبار لسابقته في الإسلام ما دامت هذه خاتمته !!!

هذه الفكرة تبناها الفكر الخارجي الذي بلغ به حنقه على الأطراف جميعها إلى تدبير مؤامرة لاغتيال زعمائها "علي ومعاوية وعمر بن العاص" - رضي الله عن الجميع- على ما هو مشهور في التاريخ.

وعلى رأي الملطي ([97]) رحمه الله - هذه الفئة هي أصل المعتزلة ولا يخفى ما بين المعتزلة والخوارج من تشابه لا سيما في حكم مرتكب الكبيرة.

كما أن هذا هو أصل المذهب الذي يرى تخطئة وتفسيق أو تكفير كلا الطائفتين، وهو مذهب كثير من أهل الأهواء من المعتزلة والخوارج وبعض المتكلمين والمتفلسفين.

وكان من هذه الفئة فرقة أقل غلواً وشططاً، فقالوا: ما حدث من الصحابة ما حدث وهم على الدرجة العليا من الفضل والعلم- إلا وفي الأمر ما لا نستطيع إدراكه ولا نأمن مغبة الحكم عليه، وإذا كنا عاجزين عن تصور حقيقة القضية ولم يكن بالإمكان ترجيح أحد طرفيها، فلنقف موقفاً وسطاً بين القول بأنهم على الحق- الذي يتنافى مع ما بدر منهم من خلاف واقتتال وبين القول بأنهم على الباطل- وهو ما يتنافى مع فضلهم وسابقتهم.

وهذا الموقف- في رأيهم- هو أن نبرئ أنفسنا من الوقوف مع أحد منهم أو عليه، فنكل أمر الجميع إلى الله وهو الذي يتولى حسابهم أما نحن فلا نوالي أحداً منهم ولا نعاديه ولا نشهد له بحق ولا باطل.

ولم تستطع هذه الفرقة الأخيرة أن تتجرأ على تكفير الصحابة كحال نظيرتها الأولى، ورأوا أن الذي يتفق مع موقفهم، هو اعتقاد أن ما ارتكبوه - أي الصحابة - هو دون الشرك بالله تعالى، ومن ثم فهم داخلون تحت المشيئة.

وهذه هي الطائفة التي يصح أن توصف بأنها أصل الإرجاء، سواء منه ما نشأ في أحضان الخوارج وهو الأعم الأغلب، أو ما كان آراء فردية ومواقف نفسية، مثلما ينسب إلى الحسن بن محمد ونحوه على ما سيأتي تـفصيله في المباحث التالية .

*براءة الصحابة رضي الله عنهم من الإرجاء ذاتا وموضوعا* 

إن البحث في نشأة الفكـر الإرجائي يستلزم منا بالضرورة أن ندحض بالحجج الصريحة ما ذهب إليه بعض الناس، من القول بأن أصل المرجئة هو تلك الطائفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لم تخض فيما خاض فيه غيرها من الفتن، وفضلت الاعتزال والإمساك عن الدخول في تلك المأساة الكبرى.

وهذا الزعم تبناه قديماً بعض رؤوس الضلالة من المتكلمين وأعداء الصحابة, كالرافضة والخوارج، ولكنه ظل قولاً مهلهلاً مندثرا، حتى بعثه المستشرقون وأتباعهم من المستغربين، فدرج على ألسنة المؤرخين والدارسين للفرق وتداولوه حتى أصبح كأنه حقيقة مسلمة، وأرجعوا الفضل في اكتشافها إلى "المنهج العلمي" الذي انتهجه المستشرقون!!

والمسألة بالنسبة لنا بدهية معلومة من الدين بالضرورة؛ فالكلام في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم دين، والدين لا يؤخذ عن المسلم الفاسق، ولا اعتبار لرأيه فيه، فضلاً عن المبتدع الضال؛ كالكعبي ([98])، والجاحظ ([99])، فضلاً عن الكافر الحاقد كعامة المستشرقين.

والله تعالى قد قال في الفاسقين: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً}، والحكم على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من مجرد الشهادة، لأنه دين واعتقاد، وإذا كان من شريعتنا رد شهادة المسلم الفاسق في دعاوى الحقوق الدنيوية, فما بالك بمن يتجرأ على خيار الأمة وأفضل البشر بعد الأنبياء من الصليبيين واليهود ! 

لقد مقت سلف الأمة عمرو بن عبيد، وضللوه وبدعوه من أجل طعنه في المقتتلين من الصحابة، هذا مع ما هو مشهور عنه من الزهد والتعبد ومجانبة السلاطين، فكيف يلتفت المسلم إلى آراء أهل الكتاب الذين تغلي مراجل قلوبهم بالحقد على الإسلام، وتنفث ألسنتهم السم الزعاف عليه، وما تخفي صدورهم أعظم؟!

فماذا نتوقع من "جولد زيهر" اليهودي إلا مثلما ذهب إليه سلفه عبد الله بن سبأ أو أعظم، وماذا نظن بـ "فان فلوتن، وكريمر وويلهاوسن ([100])، ونيكلسون ..." وأضرابهم أن يقولوا، والحرب الصليبية لم تتوقف لحظة واحدة، ولن تتوقف حتى تكون الملحمة مع الروم بأرض الشام بين يدي الساعة كما صح عن الصادق المصدوق؟

وإن من يقبل كلام هؤلاء - بل يجله ويعظمه- يلزمه أن يقبل كلام عبدالله بن سبأ، وحمدان قرمط، وابن الراوندي، وميمون القداح، وابن النغريلة، وإلا فإنه متناقض، أو مخدوع بالمسحة العلمية الحيادية التي يزعمها هؤلاء المستشرقون.

وما كان لنا أن نأبه بآراء المستشرقين ونشغل بردها لا في هذه القضية ولا في ما هو دونها، فنحن لا نتوقع منهم إلا هذا ومثله، فقد تبين لي من قراءة كافية في كتبهم أنهم قوم بهت- كما وصف عبد الله بن سلام رضي الله عنه أجدادهم اليهود- وأنهم لو كان الافتراء على الإسلام في السماء لاتخذوا إليه سلما، ولو كان في الأرض لابتغوا إليه نفقاً.

ولكن اقتداء كثير من الكتاب المنتسبين إلى الإسلام بهم ومتابعتهم لرأيهم، واستناد هؤلاء وأولئك إلى آراء مخطئة أو أقاويل بدعية جعل تبيان هذه القضية أمراً ضرورياً.

فقد نقل عنهم واقتدى بهم علماء شريعة مشهورون، ومتخصصون في العقيدة بارزون، ومؤرخون وأدباء لهم مكانتهم، وذلك مثل الشيخ محمد أبو زهرة، والدكتور على سامي النشار، والدكتور مصطفى حلمي، والدكتور نعمان القاضي ...فضلا عن أحمد أمين وطه حسين وسهير القلماوي وشاكر مصطفى وأمثالهم وأتباعهم ([101]).

ويعجب الباحث أيما عجب حين يجد علماء وأساتذة ومؤرخين عرباً مسلمين يعتمدون اعتماداً كلياً على الكتيّب -بل المقال- الضحل السقيم الذي كتبه فان فلوتن بعنوان "السيطرة العربية" أو "الاستعمار العربي"، والذي ترجموه مخففاً باسم "السيادة  العربية"!!

وإنني لأجزم يقيناً- ولو حلف غيري ما عددته حانثاً- هؤلاء الأساتذة لو قدر لأحدهم أن يناقش ما كتبه فلوتن باعتباره رسالة  أو بحثاً لأحد الطلبة  الأزهريين، لما منحه أدنى درجة علمية، ولأوسعه نقداً وذماً كما هو الحال في كثير من الرسائل العلمية التي هي أعلى مستوى في ذلك.

فهل كون الكاتب مستشرقاً  يجعل ما كتبه مقبولاً، بل حجة ينقل عنها الأساتذة  المتخصصون؟! والأنكى من ذلك أن يعارض به كلام المؤرخين المسلمين، حتى في مسألة تاريخية بحتة، كتحديد وفاة الحارث بن سريج!!

ويبدو لي أن بعض المستشرقين العرب مثل أحمد أمين وزميله طه حسين وعبد الحميد العبادي قد تنبهوا لما قد يثار عن هذه المسألة، فما أن وجدوا نصاً للنووي يشعر بما يريدون حتى ألحقوه في هامش الكتاب ([102])، وكأنما هو أصل مستندهم أو بعضه.

وبصرف النظر عن الحقد والتعصب لدى المستشرقين، نقول: إن سبب انحراف منهجهم ومن اتبعهم في هذا الموضوع هو القياس الفاسد؛ فلما كانت الخلافة الإسلامية عندهم لا تختلف عن أية حكومة مذهبية، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مجرد أشخاص لا يختلفون عن سائر الناس في المطامع والكيد السياسي، فإن الخلاف الذي وقع بينهم لا يعدو في أنظار هؤلاء أن يكون "أزمة صراع على السلطة"، من ذلك النوع الذي تشهده الحكومات الأوربية منذ انقراض عصر الملكيات التقليدية!

أما التزكية الإيمانية والتربية النبوية فأثرها عند هؤلاء محدود أو معدوم، وإليك رأي مؤلفي فجر الإسلام حين يتساءلون: "إلى أي حد تأثر العرب بالإسلام؟" , "وهل انمحت تعاليم الجاهلية ونزعات الجاهلية بمجرد دخولهم في الإسلام؟ الحق أن ليس كذلك، وتاريخ الأديان والآراء يأبى ذلك كل الإباء، فالنزاع بين القديم والجديد، والدين الموروث والحديث يستمر طويلاً،  ويحل الجديد محل القديم تدريجياً، وقل أن يتلاشى بتاتاً" ([103]).

ولذلك تم تصنيف الفرق الإسلامية وفقاً لتصنيف الأحزاب السياسية والدينية الأوروبية، وابتدأوا ذلك منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل وفي حياته !!

فجعلوا في الأمة يميناً ويساراً ووسطاً، وفي كل من اليسار واليمين متطرفون ومعتدلون... إلخ، وكذلك قسموها إلى ديموقراطيين وثيوقراطيين ودكتاتوريين... إلخ .

ولسنا في مقام تفصيل المهازل الساخرة التي أدى إليها تطبيق هذا القياس الفاسد، والخلافات التي لا يقوم أي منها على أساس موضوعي؛ مثل أن يجعل أحدهم الشيعة من اليسار المتطرف، والآخر يجعلها من اليمين المعتدل، ويجعل الخوارج بالعكس ...وهكذا .

ولكن الذي يهمنا هنا هو أن هذا التصنيف أدى إلى اعتبار الطائفة الممسكة عن الفتنة- من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- هي مجرد طائفة سياسية محايدة، ومن ثم جرى طرد القياس على كل طائفة شابهتها في الموقف أو بعضه، ثم إنهم لما رأوا أن لبعض هذه الفرق- التي تنتمي في أصل تصنيفهم إلى الوسط المحايد، كالمعتزلة وثورة الحارث بن سريج- آثاراً إيجابية في عالمي السياسة والفكر، كان لابد لهم من التعسف والتكلف، فقالوا: إن المرجئة تحولت من تيار الوسط إلى تيار اليسار بفعل التناقضات السياسية .. أو ما أشبه هذا من التعليلات !

فليس مهمّاً لديهم أن تنقلب حقائق التاريخ، فتصبح المعتزلة مرجئة، وتصبح المرجئة حركة ثورية يسارية، وإنما المهم أن تظل معاييرهم الاعتباطية هي الأصل الذي لا ينقلب ولا ينتقض!!

وها هو ذا ما جاء في كتاب "فجر الإسلام" الذي يمثل خلاصة آراء المستشرقين، والذي نقل عنه أكثر من بعده، ومنهم أبو زهرة:

"إن الشيعة والخوارج كانا أول أمرهما حزبين سياسيين ([104]) تكونا حول الخلافة، وإن رأي الخوارج فيها رأي ديمقراطي، ورأي الشيعة رأي ثيوقراطي، أما المرجئة  فكانت.. حزباً سياسياً محايداً.

ونواة هذه  الطائفة كانت بين الصحابة في الصدر الأول، فإننا نرى أن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم امتنعوا أن يدخلوا في النزاع الذي كان في آخر عهد عثمان - مثل أبي بكرة، وعبدالله بن عمر، وعمران بن حصين".

ثم ساق حديث أبي بكرة الآتي، وقال: "هذه النزعة إلى عدم الدخول في الحروب بين المسلمين بعضهم وبعض هي الأساس الذي بني عليه مذهب الإرجاء، ولكنه لم يتكون كمذهب- كما رأينا إلا بعد ظهور الخوارج والشيعة.

وبعد أن كان مذهباً سياسياً أصبح- بعد- يبحث في أمور لاهوتية، وكانت نتيجة بحثهم تتفق ورأيهم السياسي "!!

وفي الحاشية يعلق على ذلك قائلاً : "يقول النووي على مسلم: إن القضايا كانت مشتبهة، حتى أن جماعة من الصحابة تحيروا فيها، فاعتزلوا  الطائفتين ولم يقاتلوا، ولم يتيقنوا الصواب" ([105]).

ونحن قد سبق أن بيّنّا أن الممسكين عن الفتنة أقسام مختلفة، وهنا لا بد من بيان حقيقة موقف الصحابة رضي الله عنهم، وخطأ من نسب إليهم الإرجاء، سواء أكان إرجاء شك وحيرة أم اعتقاد وبدعة، والأمر في حقيقته يرجع إلى مسألة فقهية، وهي حكم قتال الفتنة الذي جرى بين الصحابة، وحكم قتال الفتنة بين المسلمين عامة.

ومع إيماننا بأن الأولى هو الكف عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم، فإنه لا حرج في عرض مواقفهم على النصوص الشرعية التي أمر الله تعالى بالرد إليها في كل نزاع، لا سيما وهي- ولله الحمد- تدل على صحة ما يعتقده أهل السنة والجماعة فيهم، وخاصة أهل الحديث، كأحمد وسفيان، بخلاف ما ذهب إليه أهل الرأي وكثير من الفقهاء المتأخرين، مع ما في هذا من مصالح، كأخذ العبرة، ونفي التهمة تفصيلاً بعد نفيها إجمالاً فنقول:

إن النووي رحمه الله شافعي المذهب، وكثير من متأخري الشافعية يرون تصويب علي رضي الله عنه وتخطئة من حاربه أو توقف عن الحرب معه، ولكن النووي رجل محدث، وقد رأى من صحة أحاديث النهي عن القتال في الفتنة وكثرتها ما لم يستطيع معه الجزم بتخطئة من قعد عن نصرة عليّ - أعني الممسكين عن الخوض في الفتنة- فأراد التوفيق والتأويل، فاعتذر عن هؤلاء بأنهم لم يتبين لهم الصواب مع علي أم مقاتليه؟ ووضع في اعتباره أن القول بترك قتال المسلمين مطلقاً يؤدي إلى جرأة المفسدين وتطاول المجرمين- وهي العلة التي يذكرها الفقهاء المتأخرون كثيراً ([106])- فجعل الإمساك عن ذلك مخصوصاً بهذه  الحالة وحدها.

واعتذر عن العمل بالأحاديث بقوله: "تتأول الأحاديث على من لم يظهر له المحق، أو على طائفتين ظالمتين لا تأويل لواحدة منهما" ([107]).

وهذا الذي ذهب إليه هو وغيره من الفقهاء يتبين صوابه أو خطؤه باستعراض مواقف الممسكين عن الفتنة واحداً واحداً :

1- فهذا أسامة بن يزيد- على عظيم صلته بعلي رضي الله عنهما- يقول عنه مولاه حرملة: "أرسلني أسامة إلى علي، وقال: إنه سيسألك الآن فيقول: ما خلف صاحبك([108]) ؟ فقل له: يقول لك: لو كنت في شدق الأسد لأحببت أن أكون معك فيه،  ولكن هذا أمر لم أره" ([109]).

فأسامة يفرق بين العلاقة الحميمة وبين أمر لم يجد له في الشرع مخرجاً، ولو رآه جائزاً لما تردد عنه.

وينقل الحافظ عن ابن بطال : أن أصل موقف أسامة هذا هو ما نذره على نفسه يوم أن قتل الرجل الذي قال لا إله  إلا الله- أنه لا يقاتل مسلماً أبداً ([110]).

2- وهذا أبو موسى الأشعري، وصاحبه أبو مسعود الأنصاري، يعيبان على عمار مشاركته في القتال- وقد كان مع علي- قال شقيق بن سلمة: "كنت جالساً مع أبي مسعود وأبي موسى وعمار، فقال أبو مسعود: ما من أصحابك أحد إلا لو شئت لقلت فيه غيرك، وما رأينا منك شيئاً منذ صحبت النبي صلى الله عليه وسلم أعيب عندي من استسراعك في هذا الأمر.

قال عمار: يا أبا مسعود ما رأيت منك ولا من صاحبك هذا شيئاً منذ صحبتما النبي صلى الله عليه وسلم أعيب عندي من إبطائكما في هذا الأمر" ([111]).

قال الحافظ : " كان أبو مسعود على رأي موسى في الكف عن القتال؛ تمسكاً بالأحاديث الواردة في هذا الأمر" ([112])، فليس هناك اشتباه ، بل القضية من الوضوح بحيث يعيبان عماراً !!

3- وأما عبد الله بن عمر، فيتخذ هذا موقفاً مطرداً، فهـو لم يشترك في أي قتال بين المسلمين قط، لا زمن علي ولا فيما بعد، لأنه يراه كله قتال فتنة.

روى البخاري: "أن رجلاً جاءه، فقال: يا أبا عبدالرحمن، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} إلى آخر الآية، فما يمنعك ألا تقاتل كما ذكر الله في كتابه؟

فقال: يا ابن أخي، أعير بهذه الآية ولا أقاتل، أحب إليّ من أن أعيّر بهذه الآية التي يقول الله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً} إلى آخرها .

قال: فإن الله يقول:{وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة}.

قال ان عمر: قد فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم؛ إذ كان الإسلام قليلا, فكان الرجل يفتن في دينه, إما يقتلوه وإما يوثقوه حتى كثر الإسلام, فلم تكن فتنة" ([113]).

4- وأما أبو بكرة رضي الله عنه، فإنه لم يقتصر على كف اليد، بل نهى غيره وأنكر عليه المشاركة في القتال، فقد روى الشيخان عن الحسن البصري أن الأحنف ابن قيس أخبره أنه خرج بسلاحه يريد القتال في الفتنة- وكان ذلك يوم الجمل، وقصده القتال مع علي رضي الله عنه- فلقيه أبو بكرة رضي الله عنه فصده عن ذلك، وقال: يا أحنف ارجع، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" ([114]).

وليس هذا صنيع الحائر المتشكك, بل هو موقف الواثق المستيقن, وسيأتي حديثه الآخر قريبا.

5- وهناك من المعتزلين للفتنة من كان وضوح أمرها لديه بحيث إنه احتاط لنفسه من شرها بمجرد انفجارها، فهذا سلمة بن الأكوع رضي الله عنه لما قتل عثمان رضي الله عنه خرج إلى الربذة، وتزوج هناك امرأة وولدت له أولاداً، فلم يزل بها حتى قبل أن يموت بليال نزل المدينة ([115]).

فقد تغرب رضي الله عنه حوالي أربعين سنة (منذ مقتل عثمان سنة 35 إلى وفاته سنة 74)، ثم مات في دار الهجرة كرامة من الله له.

6- وممن أحجم عن الفتنة، وحدث الناس بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها أبو هريرة رضي الله عنه، فقد حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكرة أنه قال: "ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد منها ملجأ أو معاذاً فليعذ به" ([116]).

وهذا لفظ البخاري عن أبي هريرة، ولمسلم عن أبي بكرة زيادة أوضح: "ألا فإذا نزلت- أو: وقعت- فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه ..." ([117]) الحديث.

 

ويتضح من هذه النصوص:

أولاً: أن الصحابة الذين اعتزلوا الفتن يعتمدون على أصل شرعي ثابت بنصوص صريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضها أوامر عينية في حق  المخاطبين بها- وبعضها لم نذكره- .

ثانياً: أن من كمال فقه الصحابة رضي الله عنهم التفريق بين صحة إمامة علي وبين وجوب القتال معه، بل صحة قتاله، إذ لا يلزم من كونه إماماً حقاً أن يكون قتاله لأهل الجمل وصفين حقاً بإطلاق على ما سنبينه.

على أن هؤلاء ليسوا هم كل من اعتزل الفتنة، بل اعتزلها من هو أجل منهم مثل سعد بن أبي وقاص، فإنه لم يكن على ظهر الأرض يوم صفين أفضل منه سوى علي وسعيد بن زيد، أحد العشرة، وهنالك من هو مثلهم، كزيد بن ثابت، ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن مغفل رضي الله عنهم ([118]).

ومنهم أبو برزة الأسلمي رضي الله عنه، الذي صدع أيام الفتنة بين ابن الزبير والأمويين والخوارج : "إني احتسبت عند الله أني أصبحت ساخطاً على أحياء قريش" الحديث، وذلك لأنه "كان يرى الانعزال في الفتنة وترك الدخول في كل شيء من قتال المسلمين" ([119]).

وبالجملة، هذا هو مذهب أهل الحديث عامة، ومن تأمله ظهر له قوة دلائله النصية, وصدق نتائجه الواقعية، فقد صرح به إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل، وبنى عليه موقفه في رفض الخروج على الدولة العباسية ([120]).

روى عنه الخلال أنه قال: ابن عمر وسعد ومن كف عن تلك الفتنة، أليس هو عند بعض الناس أحمد! هذا عليّ لم يضبط الناس، فكيف اليوم والناس على هذا الحال... السيف لا يعجبني ([121]) .

وقال أبو بكر المروزي: سمعت أبا عبد الله - وقد ذكر عنده عبد الله بن مغفل- فقال: لم يتلبس بشيء من الفتن! وذكر رجل آخر فقال: رحمة الله مات مستورا  قبل أن يبتلى بشيء من الدماء ([122]).

وممن صح النقل عنه من أهل الحديث سفيان الثوري رحمه الله، وله كلمة عظيمة في هذا، قال: نأخذ بقول عمر رضي الله عنه في الجماعة، وبقول ابنه في الفرقة ([123]).

وكان - رحمه الله - يصرح قائلاً: لو أدركت علياً ما خرجت معه!!

قال يحيى بن آدم: فذكرت قوله للحسن بن صالح فقال: قل له: يحكى هذا عنك؟ فقال سفيان: ناد به عني على المنار ([124]).

وعلى هذا المذهب كذلك الإمام البخاري صاحب الصحيح، فإن تراجم أبواب كتاب الفتن من صحيحه تنطق بذلك، وعلى منواله كتب مسلم وغيره من المصنفين في هذا الموضوع .

وقد رجح هذا المذهب وانتصر له شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه، ومختصر أدلته على ذلك:

1- النصوص الكثيرة التي استند إليها الممسكون عن الفتنة، ومنها ما سبق إيراده.

2- ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على الحسن، لأن الله أصلح به ما بين المسلمين وحقنت الدماء، في حين أنه لم يثن على قتال أبيه لأهل الشام، بل غاية ما وصف به أنه أدنى منهم إلى الحق، بخلاف قتاله للخوارج، فقد أثنى عليه نصاً، كما أن علياً نفسه فرح واستبشر بقتال الخوارج، وتألم وتكدر بقتال أهل الشام.

3- أن الممسكين عن الفتنة هم من أكابر الصحابة رضوان الله عليهم وأفاضلهم، وقد ذكرنا بعضهم قريباً.

4- أن العبرة بالنتائج والعاقبة، ولا شك أن نتيجة الاقتتال كانت مؤلمة جداً في حين كانت السلامة في الإمساك،  ولهذا ندم بعض من شارك، كما في البخاري عن شقيق بن سلمة حين سئل هل شهدت صفين؟ قال: نعم، وبئست صفين ([125]).

بل نقل شيخ الإسلام عن علي نفسه أنه قال، لله در مقام قامه سعد بن مالك وعبد الله بن عمر، إن كان براً إن أجره لعظيم، وإن كان إثماً إن خطأه ليسير ([126]).

5- أنه لا حجة في استدلال المخالفين بقتال الفئة الباغية، وذلك أن الله تعالى إنما أمر بقتال الباغية، وسماها باغية إذا رفضت الصلح ولم يأمر بقتالها ابتداء، وللصلح أبواب كثيرة، ولو بالتنازل عن بعض الحق أو كثير منه.

6- أنه قد كان في الإمكان اتخاذ وسائل غير السيف لتهدئة الأحوال وجمع الكلمة، ومنها ما أشار به ابن عباس على علي بألا يعزل معاوية عن إمرة الشام، بل يبقيه في منصبه حتى يأخذ البيعة منه ومن أهل الشام، فإذا  فعل ذلك وكانت المصلحة عزله يعزل، فإن رفض الطاعة يكون حينئذ باغياً ناكثاً.

أما وهم لم يدخلوا في طاعة علي ابتداء، فإن هذا من أقوى استدلالات من  يرى  صواب موقفهم، لا سيما والثابت أن معاوية رضي الله عنه لم ينازع علياً الخلافة، وإنما اشترط لدخوله في طاعته تسليم قتلة عثمان ([127]).

* ولذلك تفصيل لا مجال له هنا، وحسبنا  الإشارة والتنبيه.

يبقى أن نرد قول من قال: إنه يلزم من هذا تشجيع المفسدين وقطاع الطرق، فنقول: إن قتال الفتنة- كما وقع بين الصحابة- شيء، وقتال الطرق والمفسدين شيء آخر، وقد قتل من الخوارج بالنهروان قرابة أربعة آلاف فما تألم لهم أحد، وقتل كعب بن سور يوم الجمل فتألمت لذلك الطائفتان جميعاً، فكيف بطلحة والزبير وعمار؟ فالمفسدون أقرب شيء إلى الخوارج، ولا يتحرج من قتالهم أحد، ولا يترتب عليه تمزيق صف المسلمين، بل فيه حفظ وحدتهم وأمنهم، وكذا دفع الصائل.

وأما أن يكون المرء عبد الله المقتول ولا يكون عبدالله القاتل فذلك مشروع في الفتنة بين المسلمين المختلفين اختلافاً اجتهادياً مصلحياً، والله اعلم.

والحاصل: أن هذا المذهب أقوى من مذهب من يرى أن الصواب مطلقاً هو القتال مع علي، وبالأولى هو أقوى ممن يرى أن الصواب هو القتال مع من حاربه وبذلك يتضح أنه أقوى المذاهب وأرجحها.

على أن الذي يهمنا هنا بخصوصه هو بيان خطأ أو ضلال من نسب هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم إلى الإرجاء، زاعماً أن الأمور اشتبهت عليهم فتبرءوا من الطائفتين كليهما، وأرجئوا الحكم عليهما بالإيمان- بالحق أو الباطل- إلى الله تعالى، فخلطوا بين هذا الموقف, وموقف بعض الخوارج, وموقف الشكاك الذين سبق الحديث عنهما.

وما أحسن ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في براءة الصحابة رضي الله عنهم من كل بدعة، قال: "إن الصحابة رضوان الله عليهم خير قرون هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس، وهم تلقوا الدين عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، ففهموا من مقاصده صلى الله عليه وسلم، وعاينوا من أفعاله، وسمعوا منه شفاهاً ما لم يحصل لمن بعدهم.

وهم قد فارقوا جميع أهل الأرض وعادوهم، وهجروا جميع الطوائف وأديانهم، وجاهدوهم بأموالهم وأنفسهم... ولهذا لم يطمع الشيطان أن ينال منهم من الإضلال والإغواء ممن بعدهم، ولم يكن منهم أحد من أهل البدع المشهورة، كالخوارج والروافض والقدرية والمرجئة والجهمية، بل كل هؤلاء إنما حدثوا فيمن بعدهم" ([128]).

 

* نماذج من آراء المستشرقين ومقلديهم في الموضوع :

نعرض هنا نماذج من آراء المستشرقين ومن اتبعهم من المحدثين والمعاصرين عن نشأة الإرجاء وفكره، آخذين في الاعتبار ما أشرنا إليه من أن المؤاخذ في الحقيقة هم هؤلاء المقلدون، فإنهم لو استخدموا عقولهم وحاولوا الاستنباط بأنفسهم لكان لهم العذر أو بعض العذر إذا أخطئوا, أما وهم ينقلون ويصرحون بالنقل عن المستشرقين، ويتجاهلون  تماماً كلام علماء الإسلام الثقات وأئمة السنة المشهورين- هذا إن لم يطعنوا في آرائهم-  فلا بد من بيان فساد منهجهم إحقاقاً للحق وعبرة لمن يدرس الفرق والعقيدة، كي لا يغتر بصنيعهم، ولهذا لم أر مناقشة كلام هؤلاء، مع أن بعضهم أساتذة متخصصون في علم الكلام، بل اقتصرت على عرض كلام المستشرقين لأنه الأصل!!

والمستشرقون الذين تعرضوا للموضوع كثير، وسنكتفي بأهمهم وطرف من مقلديهم:

1- "فان فلوتن" .

2- "يوليوس ويلهاوسن" .

وهما من أخبث المستشرقين وأكثرهم أثراً  في المقلدين، ونحن ننقل من كلامهما ما يغني بنفسه عن التعليق عليه:

فأما "فلوتن"، فإن كتيبه السقيم يقوم على فكرة واحدة، هي أن الفتوحات الإسلامية كانت بغرض الاستعمار- على الطريقة  الأوروبية- ومن هنا فسر نشأة  الفرق بأنها انتقام من الشعوب المستعمرة ضد مستعمريها!!

يقول: "لم يكن الغرض من الفتوحات الإسلامية هو إدماج شعب في شعب، أو العمل على نشر دعوة دينية معينة، وإنما هو احتلال بقوة السيف"([129]) !!

ويقول: "وهكذا يصور لنا الاحتلال العربي بوجه عام شعباً يعيش على حساب شعب آخر" ([130]).

ثم يقول- بعنوان نشأة الفرق الإسلامية- : "إن هذه الطوائف التي نشأت بين العرب في البلاد التي فتحوها، إنما كانت ترمي بادئ ذي بدء إلى غرض سياسي محض، رغم ظهورها بالمظهر الديني" ([131]).

وبعد أن ذكر- كعادة المستشرقين- أن الصراع على الخلافة هو الذي فرق المسلمين أحزاباً وشيعاً، أخذ في تفصيل هذه  الأحزاب تفصيلاً، فقسمها على أربعة أحزاب:

1- حزب بني أمية: ومقره بلاد الشام، كان يرى أن أمراء هذا البيت أحق الناس بالخلافة...

2- حزب أهل المدينة!! : وهم أنصار النبي الذين كانوا- لارتباطهم باليمانيين العرب- يعتبرون أن وصول بني أمية إلى الحكم إنما هو انتصار لأعدائهم القدامى من مشركي مكة !!

3- حزب الشيعة: هم أنصار أهل البيت المتحمسون للدفاع عن حقوقهم في الخلافة، ولا سيما حق علي.

4- حزب الخوارج: وهم الجمهوريون، وهم الذين كانوا يقولون باختيار الخلفاء من بين الأكفاء أياً كانت الطبقة التي ينتمون إليها ([132])!!.

وفي حديثه عن المرجئة خاصة يقول- ضمن حديثه عن الثورات التي قامت بها الشعوب المفتوحة على المستعمرين- : "على أن بعضهم -أي الثوار- قد ذهب إلى أبعد من هذا -أي المطالبة بالعدالة الاجتماعية بزعمه- فضمنوا عقيدة التوحيد معنى أخلاقياً ودينياً عميقاً".

فما هو هذا المعنى الأخلاقي الذي لا تتضمنه عقيدة التوحيد، حتى أدخله فيها ثوار العجم من المرجئة؟

يشرحه قائلاً: "وقد عزي إلى جهم بن صفوان -أحد رؤوس المرجئة وكاتم السر للحارث بن سريج- هذه الكلمات : إن الإيمان عقد بالقلب وإن أعلن الكفر بلسانه بلا تقية، وعبد الأوثان أو لزم اليهودية أو النصرانية في دار الإسلام، وعبد الصليب وأعلن التثليث في دار الإسلام ومات على ذلك، فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله عز وجل، ومن أهل الجنة" ([133]).

"وكان من الطبيعي أن تدفع مثل هذه العقيدة أصحابها إلى احتقار الفرائض العملية للإسلام، ووضعهم واجبات المرء نحو من يحيط به من الناس فوق آراء الفروض التي جاء بها القرآن"!! - يعني أن العدالة والمساواة بين الناس أهم من الالتزام بأحكام الدين- !!

ثم يقول: "ومن هذه الناحية كان الإرجاء في خراسان أشبه شيء بأثر عكسي أخلاقي لذلك الإسلام الشكلي؛ دين الحكومة العربية في ذلك الحين، تلك الحكومة التي أصرت على عدم المساواة بين جميع رعاياها في الدين، باتباعها النظام الجائر لجمع الضرائب وجباية المكوس ([134])" .

وأما "يوليوس ويلهاوسن" فيبدأ من النقطة نفسها، لكنه أكثر وقاحة ([135]) حين ينسب ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فيقول- أخزاه الله- : "كان محمد قد بدأ خطواته وهو مقتنع بأن دينه في جوهره نفس الدين اليهودي والنصراني، فكان يتوقع أن يلقاه اليهود في المدينة وقد فتحوا ذراعهم لاستقباله، غير أنه خاب فأله منهم خيبة مريرة، وبما أنهم لم يعتبروا اليهودية معادية للإسلام، بل عدوها مخالفة له، فإنه هو من جهته جعل الإسلام يخالف اليهودية، بل يخالف النصرانية!! فحدد الصيغ والشعائر التي يتميز بها دينه، بحيث انفكت عن التعبير عن النقاط التي تجمع بين الإسلام وإخوانه من الأديان، بل وسعت شقة الخلاف".

وبعد أن ذكر أمثلة لذلك من الشعائر؛ كالجمعة والأذان وصيام عاشوراء ورمضان، قال: "وبينما كان يؤسس الإسلام!! على أسلوب يقضي على الطقوس اليهودية والنصرانية، كان يقربه في الوقت نفسه من العروبة، فهو ما فتئ يعتبر نفسه الرسول المرسل للعرب خاصة!! فبدل القبلة، وأعلن أن مكة هي الحرم المقدس بدلاً من القدس، وشرع الحج إلى الكعبة، بل شرع تقبيل الحجر المقدس، وقبل مركز العبادة الوثنية  في الإسلام، وأدخل الأعياد الوثنية الشعبية ...".

إلى أن يقول: "وهكذا فصل الإسلام عن اليهودية، وبدل بحيث يصبح ديناً عربياً قومياً ([136])" ويذكر ما لا يطاق ذكره مما أسماه الإرهاب الذي أقامه النبي صلى الله عليه وسلم ضد اليهودية، وأنه تعلل بحجج واهية ليمحو اليهود من الجزيرة، ويورث أملاكهم ومزارعهم إلى المهاجرين- الذين كانوا بزعمه يعتمدون على الغزو - لأنهم حرسه الخاص.. في كلام يكشف عن حقد يهودي أسود.

ومن هذا المنطلق يتحدث عن الإرجاء والمرجئة، فيجعلها إنسانية تطالب بالعدالة والمساواة للشعوب التي استعمرها الفاتحون المسلمون.

ويذكر أن الإسلام انقسم بسبب هذه المسألة قسمين: محافظ، وهو الذي يحترم الجماعة ويؤيد الوضع القائم، وثائر، ومن الثائر: المرجئة والخوارج والشيعة.

ويقول: "والمرجئة هم بالحق أكبر أهمية، وكان لهم بقيادة الحارث بن سريج أثر ضخم في التاريخ" ([137])!!

ويقول: "لو كان الحارث في الأزمنة الأولى ثورياً تقياً لعد خارجياً، لكنه لم يلزم نفسه بالشروط القاسية التي يبني عليها الخوارج عقيدتهم، إنما ابتدأ مرجئاً، وكاتبه جهم بن صفوان أشهر عالم من علماء تلك الفرقة، واشترك هو بنفسه في الأحاديث والمناقشات المتصلة بالمذهب.

والإرجاء في الواقع سياسة في جمع الشمل، فالمسائل المختلف عليها استبعدت وتركت لحكم الله، لا سيما تلك المسألة الدائمة التي لا تحل، والتي تتصل بمن هو الإمام الحق الوحيد!! ومن ثم طرقت النقاط التي يمكن الوصول إلى اتفاق فيها على اختلاف نزعات المناوئين المتدينين، وكان ذلك احتجاجاً باسم حكم الدين على الطغيان الواقع، وباسم الشرع المقدس على سوء العدالة وعلى القوة" ([138]).

ويستمر في كلام خلاصته: أن المرجئة حركة ثورية ضد طغيان المستعمرين الفاتحين، ولهذا وسعت مفهوم الإيمان ليقبل جميع الشعوب المضطهدة، لكي تكون يداً واحدة على الشعب الفاتح.

وما قرره" فان فلوتن" و "ويلهاوسن" لخصه أحمد أمين وشريكاه، وهذبوه من الكلمات الصريحة، وقدموه على أنه فكرة سليمة محايدة، وقد نقلنا بعض كلامهم.

وعن أحمد أمين نقل الشيخ أبو زهرة ([139])، ونعمان القاضي ([140])، وألبير نصري نادر ([141])، وعن أبي زهرة نقل كثير من الباحثين ثقة منهم في الشيخ .

بل قل من كتب عن الحارث بن سريج إلا وينقل عن فلوتن، حتى أساتذة التاريخ ([142])!!

 

3- ومنهم المستشرق اليهودي الحاقد "جولد زيهر" :

الذي يتميز بمهارة فائقة في الدس والتزوير والافتراء، وهو يذهب إلى أن المرجئة من أهل السنة والجماعة، وتبعه على ذلك مقلدون كثير، ورأيه هذا يبدو فيه العمق وبعد الهدف الخبيث أكثر من صاحبيه.

وعلى هذا سار "فاروق عمر"؛ الذي ينقل عنه - مقراً مؤيداً- : "لم يكن مذهب أهل السنة والجماعة في بدايته إلا فكرة غامضة مرنة تتسع لكثير من الجماعات، وبعد المحنة التي عركت الأمة الإسلامية أثناء الحرب الأهلية الأولى وما جرى في أعقابها، بانت الخصائص الأولى لمذهب أهل السنة، حيث انقسم المسلمون إلى فئتين تمثل الأولى" دين عثمان"،  وتمثل الثانية" دين مروان"..." ([143]).

والعجيب أن هذا المؤرخ العربي- مع إقراره بهذه الفكرة وبالقسمة المضحكة التي قسمها "جولد زيهر"- ينقل  أيضاً وجهة نظر "فلوتن" في موضع آخر مؤيداً لها، ناسياً اختلاف نظرة كل من المستشرقين ومرماه البعيد، فيقول: "ولعل أبيات ثابت قطنة تشير إلى أن المرجئة ستظهر رأيها بوضوح في أعمال الجور والتعسف والفساد، ويؤكد "فان فلوتن" أن المرجئة كانوا لا يتحرجون عن قتال أية حكومة تقر مثل تلك المظالم" ([144]).

وعلى هذا الرأي سار المؤرخ البعثي "شاكر مصطفى"، فهو أيضاً يعتبر المرجئة ضمن الاتجاهات التي تشكل ما يسمى: "السنة والجماعة"، ويسميهم المرجئة أهل الاعتزال الأول، ويصف هذه الاتجاهات قائلاً:

"والصفة التي تجمع هؤلاء جميعاً بعضهم إلى بعض هي الوقوف بجانب الخلفاء الأمويين سياسياً في الأزمات، أو المهادنة لهم، والاحتفاظ بالرأي الديني في حيز الفكر، وعدم نقله إلى العمل الثوري" ([145]).

ولا يخفى تناقض هذا مع ما قرره الآخرون من أن المرجئة حركة ثورية  لها أثر ضخم في التاريخ.

وعليه أيضاً سار الدكتور نعمان القاضي، حيث قال: "والمرجئة يشكلون كتلة المسلمين التي رضيت حكم بني أمية، مخالفين في ذلك الشيعة والخوارج، متـفقين إلى حد ما مع طائفة المحافظين من أهل السنة، وإن كانوا كما يرى" فون كريمر" قد ألانوا من شدة عقائد هؤلاء السنيين باعتقادهم أنه لا يخلد مسلم في النار" ([146]).

وتطبيقاً لذلك ذكر الدكتور في الصفحة نفسها اسم سعيد بن جبير رضي الله عنه مع الحارث بن سريج، أي ضمن المرجئة الذين ثاروا على بني أمية، هذا مع غض النظر عن أن الثورة تتنافى مع الرضا الذي ذكر آنفاً فهو تخليط مركب.

ومن أهم النتائج المترتبة على هذا: قول هؤلاء بأن المرجئة انتهت بظهور دولة بني العباس، سواء أكان السبب هو أن العباسيين يعتبرونها موالية للأمويين، كما يرى أحمد أمين ونعمان القاضي ([147])، ولذلك دمروها، أم على الرأي الأخبث الذي ذهب إليه شاكر مصطفي وفاروق عمر وهو أن الدولة العباسية تبنت رسمياً مذهب "أهل الحديث" فانمحت هذه الفرقة فيهم، ويستدل أصحاب هذا الرأي بأن كتب الحديث إنما ألفت في العصر العباسي ([148]).

4- ومنهم المستشرق "فون كريمر" :

وعنه نقل الدكتور القاضي- كما سبق آنفاً- أن المرجئة ألانت من شدة عقيدة أهل السنة والجماعة، باعتقادهم أنه لا يخلد مسلم في النار، ونحن نسأل الدكتور: وما هو مذهب أهل السنة والجماعة في ذلك؟!

على أن لكريمر رأياً يدعو للسخرية، نقلته عن الكاتبة البعثية "زاهية قدرورة"، وهو أن الثورات التي قامت في العراق ضد بني أمية- ومنها ثورة المرجئة- لم تكن ثورات دينية، بل لذلك علة أخرى لم يفطن لها من المؤرخين إلا هذا المستشرق العبقري!!

تقول: "ونحن نؤيد قول "فون كريمر" في أن هذه الثورات كانت ثورات العراقيين ضد السوريين، وذلك للعداء الموروث منذ الجاهلية بين العراق والشام، حيث كانت كل من دولة منهما حليفة لدولة معادية" ([149]).

5- ومنهم المستشرق "نيكلسون":

صاحب كتاب "محاضرات في تاريخ العرب"، الذي يعتمد عليه الكثيرون، ونظرته للموضوع مماثلة لـ "فان فلوتن"، حيث يعلل لنشأة المرجئة وثورتها "ثورة الحارث بن سريج" بقاعدة عامة هي: "أن شعوب البلاد المفتوحة لم تدخل في الأخوة الإسلامية إلا نظرياً وظلت مضطهدة محتقرة بالنسبة للسلالة العربية" ([150]).

 

6- ومنهم المستشرق "بروكلمان":

الذي كان أكثر دهاء وخبثاً حين تستر بالعمل العلمي البحت "فهرسة المخطوطات"  لينسب الإرجاء إلى عقيدة أهل السنة والجماعة، فهو يقول: "في أوائل الإسلام كان محور الجدل يدور أساساً حول المعصية أتبطل الإيمان أم - كما يقول المرجئة- لا تبطله؟

وفي تاريخ دمشق لابن عساكر .. ذكر عقيدة للمرجئة كان يدرسها محمد بن عقاشة الكرماني .. في البصرة عن سيفان بن عيينة .. عن وكيع بن الجراح .. عن عبد الرازق بن همام .. عن أمية بن عثمان" ([151]).

لقد خان بروكلمان الأمانة العلمية حين أقحم كلمة المرجئة في نص مأثور من مصدر متداول مشهور، وخرج عن مهمته التي هي الوراقة والفهرسة، لينصب من نفسه حكماً عقائدياً ([152]) في الخلاف بين فرق لا تنتمي إلى دينه، ولكن الحقيقة أنه متى سنحت فرصة للدس على الإسلام فكل مستشرق- أياً كان فنه - هو أستاذ متخصص!!

على أن المؤلم - كما أشرنا- هو متابعة المقلدين من المنتسبين للإسلام، كما فعل المستشرق التركي"فؤاد سيزكين" الذي تابع بروكلمان على الخطأ نفسه ([153]).

وبالرجوع لتاريخ دمشق ([154]) لن يجد القارئ هذه الكلمة، بل لا يحتاج الأمر لمراجعة، فهؤلاء المذكورون من جلة علماء السلف، ولو أن ابن عساكر نفسه نسبهم للإرجاء لكان هذا تهمة له هو.

ويقع بروكلمان في خطأ آخر فادح حين يقرر أن الإرجاء إنما نشأ في الشام، في حين بقيت العراق متمسكة بتعاليم القرآن الأصلية، ويرجع ذلك إلى أثر النصارى الذين كان لهم مكانة عظيمة عند حكام بني أمية ([155])!!

والحقيقة أنه لم ينفرد بذلك بل شاركه آخرون منهم "جولد زيهر"، وتبعهم مقلدون عرب في نسبة الإرجاء إلى بني أمية، وأصل هذا هو كتب الرافضة وبعض المعتزلة، وهو مخالف لما تواتر في أخبار المرجئة وأعلام رجالها من أنهم عراقيون ([156])- وسيأتي تفصيل ذلك- حتى لقد صرح بذلك الإمام الأوزاعي رحمه الله قائلا: "وقد كان أهل الشام في غفلة عن هذه البدعة حتى قذفها إليهم بعض أهل العراق ممن دخل في تلك البدعة" ([157]).

على أنه لا يفوتنا أن نشير إلى أن بعض أتباع الأمويين كان لديهم إرجاء خاص بالملوك والخلفاء، وهو أن الله إذا ولى أحداً خلافة المسلمين كفر سيئاته بحسناته ([158])، والظاهر أن هذا رد فعل لغلو الشيعة ضدهم.

 

7- وهناك مستشرق آخر هو " نلِّينو":

التقط نصاً من الملطي في أصل تسمية المعتزلة، فخلط بين فرقة الاعتزال المعروفة، وبين الممسكين عن الفتنة المعتزلين لها من الصحابة وغيرهم، واعتبر كل من وقف على الحياد في الفتن معتزلياً فدخلت المرجئة فيهم بهذا الاعتبار، وقد سبق تفصيل القول في أقسام الممسكين عن الفتنة.

وهذا القول تابعه عبد الرحمن بدوي ([159]) وعلي سامي النشار ([160]).

والحديث عن المتأثرين بالمستشرقين وإيراد اسم الدكتور النشار يقتضي منا أن نقول فيه خلاصة ما انتهى إليه الاطلاع الكثير على آرائه :

وهو أن على كثرة كتاباته وسعتها وجودة عباراته هو أكثر الباحثين المحدثين اضطراباً وتناقصاً وتخليطاً، وليس في إمكان الباحث أن يجد له رأياً  مستقراً أو منهجاً مطرداً.

وإنما ذكرته لأهمية كتبه عند كثير من الناس، ولأنه أستاذ لكثير من المتخصصين في الدراسات الكلامية في مصر وغيرها، ومن أجلى شنائعه أنه يكفر معاوية رضي الله عنه وأباه، ويعتمد على كتب الرافضة في النقل عن الراشدين وغيرهم، ويجعل أصل السلف في الصفات هو اليهود والصابئة!!

وسيأتي بعض آرائه في مواضعها.

الـفـتـنـة الـثـانـيـة ([161]) 

ليست الفتنة الثانية إلا امتداداً طبيعياً للفتنة الأولى، وإنما تتميز بأن وجهات النظر المختلفة التي أنتجتها الفتنة الأولى أصبحت منذ هذه الفتنة عقائد متميزة ومناهج متفرقة .

ويمكن اعتبار واقعة "صفين" المنطلق التاريخي لهذه الفتنة، بل إن حادثة التحكيم خاصة هي الشرارة التي فجرت بركانها .

لقد أنتجت هذه الحادثة وذيولها فرقتين كبيرتين، أو بتعبير أصح منهجين كبيرين يحوي كل منهما فرقاً كثيرة، كانت- وما تزال- لها وجودها الملموس وخطها المتميز وانحرافها البعيد.

هذان المنهجان هما "التشيع والخروج" وكلاهما ناشئ عن علة واحدة هي "الغلو", ولكنه غلو متضاد.

ولسنا بالطبع بصدد الحديث عن هذين المنهجين تفصيلاً، ولكن لا بد من الحديث عنهما فيما له أثر في نشأة الإرجاء وتطوره.

وذلك أن نمو الأفكار والعقائد أشبه شيء بنمو الكائنات الحية ذات الأطوار المتعددة، بل هي أعقد من ذلك بما يعتريها من التداخل والتركيب والامتزاج، ويقارنها من ردود الفعل والتأثرات النفسية والتقلبات الفكرية، فالتفاعل الفكري أعظم- في كثير من الأحيان- من التفاعل المادي.

وإذ كانت الفتنة الأولى هي المستنقع الذي وجدت فيه جرثومة الإرجاء الأولى، فإن الأحداث التالية قد ولدت جراثيم أخرى, ومع الزمن ظهرت كائنات جديدة تنتمي لتلك الأصول ولكنها تختلف عنها كثيرا في الشكل والحقيقة.

وخفاء العلاقة بين أصول هذه الكائنات الفكرية وبين مراحلها المكتملة يبين أحد أسباب الخلاف بين المؤرخين والباحثين في تصنيفها ونشوئها وتطورها، وهو ما يستدعي تحقيق الأمر وتمحيصه.

وإن من أعظم المطالب العقدية ومن أهم أصول المنهج التاريخي السليم - معاً- أن نعرف الأسباب الحقيقية لتفرق الأمة الإسلامية وخط السير الواقعي لنمو هذه الفرق وتشعبها وهو ما سوف نحاول إيضاحه بقدر ما يسمح المقام.

إن معركة صفين نشبت والأمة على منهج اعتقادي واحد يدين به كلاً المعسكرين المتحاربين وهو منهج أهل السنة والجماعة، أي ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين ثبتوا جميعاً على الهدى وما بدلوا  تبديلاً "وإنما كانت النخالة فيمن بعدهم".

ولكنها انتهت بظهور معسكر ثالث ذي بدعة اعتقادية ضالة، وهو معسكر المارقة الخوارج، وفي الوقت نفسه كان مثيرو الفتنة الأولى قد أحكموا الخطة لتأسيس دين جديد يكون بمثابة "حصان طروادة" لهدم الإسلام، وهو دين التشيع الذي أسهم ظهور الخوارج في تبرير خروجه وانتشاره، حيث كان غلو إحدى الطائفتين مبرراً لغلو الأخرى في الاتجاه المعاكس.

وإذ أصبحت المعسكرات المتحاربة ثلاثة: "أهل العراق-أهل الشام-الخوارج"؛ فقد أصبحت المناهج الاعتقادية ثلاثة: "السنة - وعليها المعسكران المتحاربان- الخروج، التشيع".

وهذا التفرق وما صحبه من صراع أدى إلى نمو بذرة الإرجاء، التي تكونت في الفتنة الأولى لتصبح منهجاً رابعاً فيما بعد ([162]).

وقبل الحديث عن هذين المنهجين "الخروج والتشيع" وأثرهما في نشأة الإرجاء وتطوره لا بد من التنبيه إلى قضيتين كبريين:

الأولى: أن بعض كتب الفرق وما اقتفاها من كتب المستشرقين والمحدَثين قد وقعت في خطأ بالغ حين جعلت ما جرى يوم السقيفة هو أصل الانشقاقات والتفرق، وهولت من هذه الواقعة العادية العابرة، واستجازت تبعاً لذلك أن تـنسب التشيع والإرجاء والخروج إلى الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين، وهذا عين الافتراء ومحض الاختلاف، وإن قال به من قد يكون حسن النية- كما سبق بعض الحديث عن هذا - .

إن تصوير المسألة على هذا النحو لا يهدر المنزلة السامية للصحابة فحسب، بل ينسف غاية الدين ومهمة الإسلام من أساسها، إذ يتفق مع الرأي الاستشراقي القائل بأن محمدا صلى الله عليه وسلم ما هو إلا زعيم عبقري وحد قبائل العرب المتناحرة، فلما توفي سرعان ما عاد الخلاف القبلي بين أحياء قريش وغيرها متستراً بالصبغة الدينية!!

وإذا كان هذا الرسول لم يستطع تزكية نفوس الخاصة من أصحابه ويرفعها عن مستوى الإحن والأحقاد الشخصية والصراع السياسي فما فعل إذن ومن ربى؟!!

كما أنه يغفل أصلاً عظيماً من أصول الشريعة وهو الفقه السياسي الإسلامي وأصول الحكم والشورى، التي تـتبوأ مركزاً مهماً في الشريعة الكاملة الخالدة.

فإذا كانت هذه الشريعة لم تأت من ذلك بما تسير عليه، وتعرفه الصفوة من الصحابة وارثوا منصب القيادة بعد رسول الأمة صلى الله عليه وسلم، فما الذي جاءت به إذن في هذا المجال؟!

وإليك- من بين عشرات الأمثلة- هذا المثال مما كتبه أحد أساتذة التاريخ في عصرنا، الذي يشغل أستاذ التاريخ ونائب رئيس جامعة القاهرة ([163]):

فهذا الأستاذ يتحدث عما جرى يوم السقيفة وكأنه سلسلة ضخمة من الصراع السياسي، على النمط الذي تشهده الحكومات المعاصرة بل هو أعمق وأعظم، لأنه حسب تصوره أنتج فرقاً تمتد على طول التاريخ الإسلامي!!

وهو لا يكتفي بأن يعتبر تلك الحادثة "المشكلة الخطيرة الكبرى التي واجهت الأمة الإسلامية الفتية" ([164])، بل يرجع إليها أصل نشأة الفرق حين يقول: "ويبدأ التاريخ السياسي للشيعة بذلك النفر من كبار الصحابة، الذي رأى عند اجتماع سقيفة بني ساعدة وبعدها  أن علي بن أبي طالب أحق الناس بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقرابته من بيت النبوة... واشتهر من هذا النفر أبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي والعباس وبنوه. وإذ رأوا أن علياً يفضل كلاً من أبي بكر وعمر في تولي منصب الخلافة" ([165]).

وهذا الكلام يتعارض وبدهيات التاريخ وحقائقه الثابتة سواء في بيعة الصديق ([166]) أوفي نشأة التشيع، اللهم إلا أن يكون مستقى من مصادر الشيعة وكفى بها كذباً وبهتاً.

ومع ذلك فقد ورد في كتب بعض الباحثين!! وعلى رأسهم الأستاذ الكبير المتخصص علي سامي النشار ([167]).

الثانية: أن انقسام الأمة حينئذ إلى سنة وشيعة وخوارج- كما أسلفنا- لا يعني أبداً تكافؤ هذه المناهج والفرق، سواء من جهة الكم أو الكيف كما يريد المستشرقون وأشياعهم أن يصوروا.

فهذه القسمة النظرية شيء والواقع شيء آخر، وذلك أن الخارجين عن السنة والجماعة لم يكونوا إلا شراذم شاذة  وأفراداً معدودين، لا سيما في أول الأمر ولم يكن فيهم ذو فضل أو سابقة قط، بل كانوا كلهم من الأعراب وحديثي العهد بالإسلام، أو المنافقين من أبناء الأمم المفتوحة وأشباههم.

وعلى امتداد الثلاثة القرون المفضلة لم يكن أصحاب البدع إلا مستنقعات جانبية على ضفتي تيار الإسلام الضخم، ولم يكن فيها أحد من أئمة الإسلام المتبوعين ورجاله المعدودين قط.

بل إن البدع مهما نمت أو طفرت تظل كالشجرة الخبيثة، لا تكاد تهب عليها ريح السنة حتى تجتثها إلى قرار سحيق، ومن أعظم الأدلة على ذلك ما جري في فتنة الإمام أحمد وبعدها، من تبديل تام في موقف الدولة والعلماء حتى ذل المبتدعة واندحروا بعد الظهور والتمكين.

ومهما يكن من ظهور البدع في بعض العصور،  فإن الحقيقة الثابتة هي أن نقاء المنهج السلفي في ذاته لم يتكدر قط، وأن الطائفة المنصورة  القائمة عليه لم تزل وستظل إلى أن يأتي أمر الله.

والمقصود من هذا هو بيان ضلال المستشرقين ومن اتبعهم أو سبقهم من الحاقدين على الإسلام حين يحسبون أن الإسلام مرت به الحال نفسها التي مرت باليهودية والنصرانية في عصورها الأولى، حيث صدعتها الانشقاقات واستعلت البدع والمحدثات حتى طغت وسادت إلى أن لم يبق للحق الخاص من يمثله إلا أفراد، لا يكاد يحس بهم أحد، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في إخباره أن الله نظر إلى أهل الأرض عربهم وعجمهم، فمقتهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وكما تشهد به التجربة الحية التي خاضها سلمان الفارسي رضي الله عنه بحثا عن الحق([168]).

 

1- الخوارج "الظاهرة المضادة":

كلمة الخوارج علم مشهور على تلك الفرقة المعروفة التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالمروق من الدين وتميزت عن سائر الفرق بالغلو والإفراط والشطط والتنطع، كما تميزت في منهجها الحركي بالاندفاع والتهور والثورية العمياء، والقابلية السريعة للتمزق والاشتعال.

فالجلافة طبعهم، وضيق الأفق سمتهم، ما خيروا بين أمرين إلا اختاروا أعسرهما، وما رأوا طريقين إلا سلكوا أشقهما، وما صادفوا احتمالين إلا انحازوا  لأبعدهما.

وقد امتلأت صفحات تاريخهم بنماذج غريبة لعقيدتهم ومنهجهم، فهم يقيمون الدنيا ويقعدونها، ويثورون ويحجمون من أجل إثبات قضية، قد لا تكون ذات شأن، لكنهم يرون أن عدم إثباتها كفر وضلال، فإذا ما تحقق لهم ذلك نكصوا ونكسوا على رؤوسهم وقالوا: قد كنا مخطئين - بل كافرين- حين فعلنا ذلك، فيثورون ويشتطون أشد من الأول من أجل إبطال ما أثبتوه، والتراجع عما قرروه ويرون ضد ذلك كفراً !!

وليس هذا فحسب، بل جرى شأنهم أنه خلال هاتين الثورتين الجامحتين ينشق عنهم بعضهم ويشتطون في التهجم على الطائفة الأصل، ويكفرونها بسبب التردد والتقلب، أو بسبب أحد الرأيين - إما السابق - وإما الآخر، ويحدث عندئذ أن ترد عليهم تلك الطائفة بلا تورع ناسبة الكفر إليهم، بسبب مفارقة الجماعة أو بأي سبب تراه.

ثم إنه غالباً ما ينشأ من حدة هذا الخلاف فرقة ثالثة تتوسط بين الطائفتين، وتتوقف عن كلا الرأيين، فما تلبث أن تعنف منهما، وتوصم بالكفر، لأن كلاً منهما يوجب عليها أن تكون معه وإلا فهي كافرة .. وهكذا دواليك، سلسلة من تضخيم المواقف أو الاجتهادات والتكفير بها، يصاحبها سلسلة من الانشقاقات الجذرية والمفاصلات الكاملة.

فقد ابتدأ أمرهم يوم صفين، حين قالوا لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه عليك أن تقبل تحكيم كتاب الله وإلا فأنت كافر.

فلما وافقهم على التحكيم كارهاً مرغماً، قالوا: حكمت الرجال في دين الله، فأنت كافر، لأنه لا حكم إلا لله!!

فلما قال لهم : ما حكمت مخلوقاً، إنما حكمت كتاب الله، والكتاب خط مسطور، وإنما ينطق به الرجال، وما فعلت ذلك إلا برأيكم، قالوا: قد كنا لما رضينا بالتحكيم كافرين، والآن نتوب من الكفر، فإن شهدت على نفسك بالكفر وتبت عدنا إلى طاعتك، فقال: أبعد إيماني بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وهجرتي وجهادي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أشهد على نفسي بالكفر؛ قد ضللت إذن وما أنا من المهتدين ([169]).

وعندما كتبت وثيقة الصلح، وطلب أهل الشام منه أن يمحو كلمة أمير المؤمنين، محاها رضي الله عنه رغبة في الصلح وتصديقاً لما أخبره به النبي صلى الله عليه وسلم من قبل ([170]).

فقال الخوارج: قد محوت عن نفسك إمرة المؤمنين فأنت إذن أمير الكافرين! وعندما قيل لهم: عودوا إلى طاعة أمير المؤمنين ولا تشقوا العصا، قالوا: إذا جئتمونا بمثل عمر فعلنا ([171]),ولما لم يأتهم أحد بمثل عمر اختاروا لإمرة المؤمنين عبد الله بن وهب الراسبي!! وهو أعرابي بوال على عقبيه، لا سابقة له ولا صحبة ولا فقه. ولا شهد الله له بخير قط ([172]). وتجرأ أشقاهم واغتال أمير المؤمنين، وهو أفضل من على وجه الأرض يومئذ، فما ندم ولا جزع ولما قطع لسانه جزع لفوات ذكر الله عنه كما قال ([173]).

ومر عليهم عبدالله بن خباب، فقالوا له: أنت ابن خباب صاحب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قالوا: فحدثنا عن أبيك، فحدثهم بحديث: "يكون فتنة فإن استطعت أن تكون عبدالله المقتول فكن". فقدموه فضربوا عنقه، ثم دعوا سريته وهي حبلى فبقروا عما في بطنها، وكانوا قد مروا على ساقية فأخذ واحد منهم تمرة فوضعها في فيه فقالوا له: تمرة معاهد فيم استحللتها؟ فقال لهم عبدالله بن خباب: أنا أعظم حرمة من التمرة، فلم يبالوا بأن يقتلوه كما بالوا بحرمة تمرة النصراني ([174])!!

ومن النماذج الكثيرة لذلك قصة طويلة، أصلها فتوى فقهية فرعية، لكن تشعب عنها من الآراء والفرق ما يدعو إلى العجب.

وذلك أنه "كان رجل من الإباضية([175]) يقال له "إبراهيم" أفتى بأن بيع الإماء من مخالفيهم جائز، فبرئ منه رجل يقال له: "ميمون" وممن استحل ذلك.

ووقف قوم منهم فلم يقولوا بتحليل ولا بتحريم، وكتبوا يستفتون العلماء منهم في ذلك فأفتوا:

أ- بأن بيعهن حلال وهبتهن حلال في دار التقية.

ب- ويستتاب أهل الوقف من وقفتهم في ولاية إبراهيم ومن أجاز ذلك.

ج- وأن يستتاب ميمون من قوله.

د- وأن يبرأوا من امرأة كانت معهم وقفت فماتت قبل ورود الفتوى ([176]).

هـ- وأن يستتاب إبراهيم من عذره لأهل الوقف في جحدهم الولاية عنه، وهو مسلم يظهر إسلامه.

و- وأن يستتاب أهل الوقف من جحدهم البراءة عن ميمون، وهو كافر يظهر كفره" ([177]).

قال صاحب المقالات: "فأما الذين وقفوا ولم يتوبوا من الوقف وثبتوا عليه، فسموا (الواقفة)، وبرئت الخوارج منهم وثبت إبراهيم على رأيه في التحليل لبيع الإماء من المخالفين، وتاب ميمون" ([178]).

لكن الأمر لم يقف عند هذا، بل تشعب الخلاف وتطور "فافترقت فرقة من الواقفة وهم (الضحاكية) فأجازوا أن يزوجوا المرأة المسلمة عندهم من كفار قومهم في دار التقية، كما يسع الرجل منهم أن يتزوج المرأة الكافرة من قومه في دار التقية، فأما في دار العلانية- وقد جاز حكمهم فيها- فإنهم لا يستحلون ذلك فيها".

ومن الضحاكية هذه انشقت أيضاً "فرقة وقفت فلم تبرأ ممن فعله- أي التزوج والتزويج- وقالوا: لا نعطي هذه المرأة المتزوجة من كفار قومنا شيئاً من حقوق المسلمين، ولا نصلي عليها إن ماتت ونقف فيها، ومنهم من برئ منها" ([179]).

وهكذا "صارت الواقفة من (الضحاكية) فرقتين: فرقة تولوا الناكحة، وفرقة ينسبون إلى عبد الجبار بن سليمان، وهم الذين يتبرأون من المرأة الناكحة من كفار قومهم" ([180]).

ولم يقف الأمر أيضاً عند هذا، بل حدث داخل فرقة عبد الجبار انشقاق آخر جعلها تتفرق فرقاً, وأشعل قضية  مشكلة تفرقت الخوارج فيها, وطال خلافهم وهي قضية (حكم الأطفال) "أطفال المسلمين وأطفال المشركين في الدنيا وفي الآخرة؛ في دار التقية ودار العلانية!!"

وذلك أن عبد الجبار خطب إلى أحد أصحابه - ويدعى ثعلبة - ابنته, فسأله ثعلبة أن يمهرها أربعة آلاف درهم, فأرسل - أي عبد الجبار- الخاطب إلى أم الجارية مع امرأة يقال لها أم سعيد, يسأل هل بلغت ابنتهم أم لا؟ وقال: إن كانت بلغت وأقرت بالإسلام لم أبال ما أمهرتها.

فلما بلغتها أم سعيد ذلك قالت: ابنتي مسلمة بلغت أم لم تبلغ ولا تحتاج أن تدعى إذا بلغت . فرد مرة أخرى ذلك عليها, ودخل ثعلبة على تلك الحال, فسمع بتنازعهما فنهاهما عنه, ثم دخل عبد الكريم بن عجرد وهما على تلك الحال فأخبره ثعلبة الخبر, فزعم عبد الكريم أنه يجب دعاؤها إذا بلغت, وتجب البراءة منها حتى تدعى إلى الإسلام, فرد عليه ثعلبة ذلك وقال:لا بل نثبت على ولايتها .... فبرئ بعضهم من بعض على ذلك ([181]).

ومع انشقاق الضحاكية في مسألة المرأة , وما بني عليها من الفتوى انشقت أيضا فرقة تدعى (البيهسية)([182]) وقد كان رأيها:

أ- أن ميمونا كفر حين حرم بيع المملوكة في دار كفار قومنا, وحين برئ ممن استحل ذلك.

ب- وكفر أهل الثبت حين لم يعرفوا كفر ميمون وصواب إبراهيم - وأهل الثبت الواقفة- .

ج- وكفر إبراهيم حين لم يتبرأ من أهل الوقف لوقفهم في أمرهم, وجحدهم الولاية عنه, وجحدهم الولاية من ميمون" ([183]).

هكذا آل أمرهم في هذه المسألة, والمسائل مثلها كثير, وهو ما يعطي الحقيقة الواضحة عن منهج القوم الفكري وجبلتهم النفسية.

وهو المطلوب هنا ولنا عودة إلى هذا التشقق ونتائجه.

 

* الخروج بين الحدث التاريخي والظاهرة العقدية:

إن القضية المهمة في دراسة مذهب الخوارج وتحليله, هي معرفة الحقيقة في كون الخوارج فرقة تاريخية ظهرت في عصر من العصور, متأثرة بعوامل بيئية وخارجية, أم ظاهرة عقدية وفكرية تتجدد - أو يمكن أن تتجدد - على مر العصور, وهي تحمل دائما سمات معينة وملامح محددة.

والبحث في هذه الحقيقة يقودنا إلى أصل نشأة الخوارج؛ لأنه يفسر لنا الواقعة التاريخية الأولى من جهة, ويعين على تحديد السمات والملامح من جهة أخرى.

والباحثون العصريون والمحدثون, هم الذين أفاضوا في تحليل قضية الخروج, ولكن بمعايير عصرية وبمنهج مستورد - غالبا- فجاءوا بآراء لا بد من مناقشتها, وأهم هذه الآراء شيوعا - حسبما رأيت - هو الرأي القائل بأن أصل الخروج هو موضوع "الخلافة" وأن التعصب القبلي ومنافسة قريش على هذا المنصب, هو السبب الذي يفسر خروج الخوارج, ومن توابع هذا الرأي القول بأن ظلم بني أمية والعباس وجورهم هو السبب.

والحق أن القائلين بهذا الرأي - رغم اعتمادهم على بعض المأثورات التاريخية- متأثرون بواقع العصر وروحه أكثر من تأثرهم بالحقائق التاريخية المجردة.

فإن موضوع "الخلافة" لا يبدو للباحث المنصف المتعمق إلا مسألة جزئية أو تطبيقية عند أكثر الفرق, وليس هو أصل نشأة جميع الفرق كما يصور هؤلاء؛ بل إن الشيعة وهي الفرقة التي تجعل الخلافة ركنا من أركان الدين, لم يكن أصل نشأتها هي قضية الخلافة نفسها كما سنرى .

وكون التعصب القبلي سبب ذلك مردود بالحقيقة التاريخية, التي تبين أن أغلب الخوارج هم من بني تميم؛ أي من مضر لا من ربيعة ولا من اليمن, وهذا يستلزم أن يكون تعصبهم لقريش لا لمناوئيها؛ فإن قريشا مضرية كما هو متواتر عند أهل النسب, بل ثابت بالأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ([184]).

وأما اعتماد مؤلفي "ضحى الإسلام" ومن تابعهم كالشيخ أبي زهرة, على قول المأمون : "وأما ربيعة فساخطة على الله منذ بعث نبيه من مضر, وما خرج اثنان إلا كان أحدهما شاريا" ([185]) فليس في محله؛ لأن العبارة إن صحت فهي تتحدث عن خصوص قبيلة ربيعة, لا عن الخوارج عامة, وقد نظرت في أسماء قادة الخوارج وزعمائهم بالنهروان فلم أجد فيها ربيعا ([186]).

أما قبيلة بني تميم في الجملة فالمشهور عنها الفخر بكون النبوة والخلافة في مضر, وقد كان الفرزدق وجرير, وهما أشهر شعراء ذلك العصر, يفتخران بذلك وكلاهما من تميم - ويعيران الأخطل كل منهما من جهته- بأن قبيلته ربيعة محرومة من هذا الشرف.

وفي نونية جرير المشهورة : 

إن الذي حرم المكارم تغلبا       جعل النبوة والخلافة فينا([187])

وهذا ما يتفق وعبارة المأمون.

ولا يضير هذه الحقيقة أن يكون دافع الردة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم هو التعصب القبلي - أومن دوافعها - وأن يشترك المرتدون والخوارج أحيانا في النسب؛ فإن أي باحث منصف لا يمكن أن يصنف القراء المتعمقين([188]) والمرتدين في صنف واحد , بجامع العصبية القبلية ضد قريش .

إذ يستحيل تصور اللقاء بين فكر متشدد في الدين متعمق فيه إلى حد اعتبار الخطأ أو المعصية كفرا, وبين دعوة تجاهر بادعاء النبوة وإسقاط بعض الفرائض.

والحق أن الذي جعل دافع الفريقين وغرضهما واحدا, مستدلا باشتراكهما في النسب, قد جازف مجازفة يمنعها العدل والإنصاف, حتى لو كان حرقوص بن زهير هو حرقوص بن مسيلمة, ولكن أنى لهؤلاء الباحثين أن ينصفوا وهم مقلدون للمستشرقين بلا بصيرة.

ومن الآراء العصرية غير ذلك ما ذهب إليه نفر من الماركسيين والبعثيين, والمتأثرين عموما بالنظرة المادية   الغربية, أو الناقلين نصا عن المستشرقين, من أن علة ظهور الخوارج هي بيئتهم الصحراوية المجدبة, وواقعهم المادي المسحوق بالمميزات الطبقية التي كان الخلفاء ومن لف لفهم يتنعمون بها. وليس الرد على هذا بأن الخوارج كانوا أزهد الناس في دنيا معروضة عليهم مبذولة لهم فحسب؛ بل إن الحديث الصحيح في نشأة فكرهم ينقضه ويرده.

فقد روى الإمام البخاري عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يقسم, جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول الله. فقال: "ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل؟ قال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه, قال: دعه؛ فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاته, وصيامه مع صيامه, يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية, ينظر في قذذه فلا يوجد فيه  شيء, ثم ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء, ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء, ثم إلى نضيه فلا يوجد فيه شيء, قد سبق الفرث الدم. آيتهم رجل إحدى يديه- أو قال: ثدييه- مثل ثدي المرأة - أو قال- : مثل البضعة تدردر, يخرجون على حين فرقة من الناس".

قال أبو سعيد: أشهد أني سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم وأشهد أن عليا قتلهم وأنا معه, جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي صلى الله عليه وسلم ([189]).

فهذا ما وقع قبل أن يوجد الظلم وجور الحكام بالفعل, فليس الجور هو أصل النشأة, وإن كان مما يعزز الفكرة ويسوغها, ولكنها المثالية المجنحة التي لا تقيم للمصالح والملابسات أي اعتبار, وإنما تنطلق محلقة في الفضاء, لكن سرعان ما يهوي بها الواقع في قرار سحيق ([190]).

مثالية تنتقد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فما ظنها بما حدث زمن عثمان, فما ظنها بما جرى  زمن حكام أمية والعباس؟؟!!

صحيح أن رفض انحصار الخلافة في قريش, ورفض جور بني أمية والعباس أصبحا من مميزات الخوارج فكرا وحركة, ولكن هذا ناشئ عن التطور الطبيعي للفكرة والحركة؛ وذلك أن أول أمرهم كان المطالبة بمثل عمر في سيرته وعدله, ولم يكن المطالبة بأن الخليفة منهم, ولكنهم لما رأوا إنكار الأمة عليهم ما فعلوه من اختيار أمير للمؤمنين من أعراب بني تميم, دافعوا عما صنعوا دفاعا قادهم إلى القول بأن الخلافة جائزة لكل مسلم صالح لها قرشيا أو غير قرشي.

فالفكرة فلسفة تبريرية لما وقع, وليست أساسا اعتقاديا بني عليه الواقع .

والعلة الحقيقية لظهور الخوارج هي علة نفسية جبلية, وهي أن النفوس البشرية لا تنضبط دائما على المنهج العدل الوسط, بل تجنح عنه ذات اليمين أو ذات الشمال؛ إما الإيغال المهلك, وإما التفريط المسرف, وقد وقعت الخوارج في الأول كما وقعت المرجئة في الآخر.

وإنما تنضبط النفوس بالتزكية المستمرة والتقويم الدائب كما حصل للجيل الأول([191]), ولهذا تمثلت فيه حقيقة الأمة الوسط في كل شيء .

 

* وقد تجلت فطرية هذا الدين وكماله وتوازنه في معالجة كلا الانحرافين :

فإنه لما كان الغلو بطبيعته لا تطيقه إلا نفوس قلائل تنطلق من تصور فاسد, وكثيرا ما تحظى بالإعجاب والإكبار لما تلزم به أنفسها فيظن الرائي أنها تمثل حقيقة الدين وسموه, جاءت الأحاديث الصحيحة تبين صفات هذه النفوس وشبهات ذلك التصور, فكان التحذير من الخوارج واضحا باعتبارها فرقة مارقة ذات منهج عقدي متميز.

ولما كان التفريط بطبعه غالبا على أكثر النفوس؛ جاء التحذير منه متمثلا في الأوامر والنواهي عامة, والتذكير بها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وضرورة التـناصح بين الأمة, والوعيد للمفرطين.

والمقصود بيان خطأ النظرة إلى الخوارج باعتبارها حدثا تاريخيا له تفسيراته المحلية المحدودة, وضرورة النظر إليها على أنها فكرة عقائدية يمكن أن تتكرر في كل زمان ومكان؛ أي أنها "ظاهرة تدين" توجد في كل دين وفي كل عصر, وهذا الذي يستشفه المرء من النصوص الواردة فيهم, ومن تبويب كتب السنة والفقه لأحكامهم استقلالا.

فالغلو في دائرته الواسعة ظاهرة كبرى في تاريخ الديانات قبلنا, حتى لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين" ([192]).

وما تأليه المسيح - أو عزير - ورهبانية النصارى إلا مثال لذلك.

أما هذه الملة فقد ظهر الخوارج في أولها ووسطها وآخرها, وما يزال خروجهم في المستقبل واردا.

ومن هنا كان لا بد من معرفتهم ودراسة فكرهم ومنهجهم؛ ليحذر ويجتنب أولا, ولضمان عدم نشوء رد الفعل المقابل وهو الإرجاء ثانيا.

وهذه الحقائق النصية والمصالح الشرعية, تضيع منا إذا استسلمنا لمنهج أكثر الباحثين المعاصرين والمحدثين, في دراسة الفرق الإسلامية ونشأتها .

وإذا أحسنا الظن بهؤلاء وغضضنا الطرف عما لديهم من التقليد الأعمى أو التحريف المتعمد, فإننا نقول: إن مصدر الخطأ في منهجهم هو تطبيق واقع العصر الحاضر ومفاهيمه على العصور السابقة مع أن لكل عصر مميزاته الواضحة التي يسمونها "روح العصر" !

فلأننا في عصر تغلب عليه الصراعات السياسية والتكتلات الحزبية المجردة, والأغراض النفعية الخالصة؛ قام هؤلاء بتطبيق هذا الواقع على ذلك العصر, الذي كانت العقيدة والمبدأ هي المنطلق والأساس لتصرفات الطوائف والفرق, وإن ما قدمته الفرق المنحرفة من تضحيات ضخمة, وجهود هائلة تتجرد عن أي غرض مصلحي؛ لهـو أحد الأدلة على ذلك.

ومن هنا اصطبغت الكتابة التاريخية المعاصرة – إلا ما قل - بالمنهج الغربي, الذي هو بطبيعة الحال ابن بيئته التي تتمرغ في أوحال المادة, وتعاني مرارة الصراع النفعي, ولا تؤمن بما يسمى "القيم المجردة", ثم هي بعد ذلك وقبله غارقة حتى الثمالة في النظرة العصبية الحاقدة على الإسلام.

ويستوي في ذلك من تبنى المنهج الاستشراقي بصراحة؛ مثل أحمد أمين وزميليه ([193]), ومن سلك مسلك اليساريين مثل شاكر مصطفى وزاهية قدورة , ومن نقل بلا روية وتفكر مثل أبي زهرة والنشار.

وإذا كان أكثر الكتاب المعاصرين يعتبرون ما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم, خلافا دنيويا سياسيا؛ فلا عجب أن يجعلوا علة ظهور الخوارج والمرجئة دوافع عصبية أو نفعية.

وحسبنا أن نورد مصطلحا واحدا من مصطلحات العصر, لنرى كيف كانت نتيجة تطبيقه على تاريخ الفرق ونشأتها؛ ألا وهو مصطلح "السياسة"؛ وذلك لارتباطه الواضح بالعلمانية الفكرية التي يعتقدها هؤلاء.

فالناظر في كتابات هؤلاء, لا يكتم عجبه من التضاد المفتعل بين مفهومي الدين والسياسة، ذلك التضاد الذي أربك آرائهم, وذبذب نظراتهم حول نشأة الفرق الإسلامية, حين يتجادلون ويتساءلون: أكان الخوارج حزبا دينيا أو سياسيا, وكذلك المرجئة والشيعة؟

فالذين اعتبروا الخوارج فرقة سياسية؛ جعلوا التعصب القبلي وما أسموه "الديكتاتورية" في الخلافة هو السبب في وجودها والدافع لحركتها, وحاولوا دحض كل ما يخالف ذلك من الآراء.

أما الذين عدوها فرقة دينية؛ فقد جعلوا الحماس الديني والزهد المتطرف هو العلة الحقيقية وتنكروا لما عدا ذلك.

ونسي هؤلاء وهؤلاء أن السياسة باعتبارها جانبا أساسيا مهما من جوانب الإسلام, لا يمكن فصلها كلية عن أي اتجاه عقائدي داخل الحياة الإسلامية, وغاية ما في الأمر أن بعض الطوائف يبرز لديها هذا الجانب أو ذاك وأكثر ما يظهر ذلك من المسار الحركي والتطبيقي, لا في الأصول النظرية التي الأصل فيها هو العقيدة والمبدأ ([194]).

ومع أنه لا مانع من استخدام هذه المصطلحات للتقسيم الفني, أو الوصف التغليبي؛ فإنه يجب أن يحذر من اتخاذ ذلك ذريعة إلى الفصل الاعتباطي بين الدين والسياسة, وأن ينبه إلى خلط التطبيق التعسفي لمعايير العصر ومقاييسه على الإسلام وتاريخه المتميز ([195]).

وبخصوص موضوع الخوارج يستطيع الإنسان أن ينقض كلا طرفي الرأي بسهولة, بأن يقال:

إن المصادر التاريخية مطبقة على أن الخوارج منذ خروجهم يوم صفين, قد اعتقدوا كفر علي رضي الله عنه, لأنه حكم الرجال في دين الله - بزعمهم - ثم تجمعوا وأمروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي, وسموه "أمير المؤمنين" .

فعلى الذين يرونها فرقة سياسية مجردة؛ أن يفسروا: كيف قامت هذه الفرقة على مبدأ التكفير بالمعصية ؟

وتحت أي فصل من فصول السياسة - كما يفهمونها عصريا - نجعل قضية التكفير بالمعصية ؟

وعلى الذين يرونها فرقة دينية أن يفسروا: لماذا اجتمع هؤلاء في "ثورة مسلحة", وبايعوا رجلا منهم أميرا للمؤمنين, في حين أنها فرقة "دينية" حسب مفهومهم العصري للدين ؟

وتحت أي طقس من طقوس الدين - حسب تصورهم - نضع هذا التصرف الذي نشأ مع الحركة منذ ولادتها ؟

* الخوارج و نشأة الإرجاء :

بعد اتضاح أن الخروج "ظاهرة" وليس "حادثة"، وبمعرفة السبب الحقيقي لها، نستطيع أن نصل إلى معرفة الظاهرة المضادة التي سلكت منهج الغلو في التفريط ، مقابل غلو تلك في الإفراط.

وعقدة القضية- أن الظاهرة المضادة إنما انبثـقت في الأصل من الظاهرة الأولى نفسها، أي أنهما لم يكونا منذ النشأة منهجين متعاديين، اشتط أحدهما ذات اليمين والآخر ذات الشمال، وإنما هما منهج واحد في الأصل: " الخروج"، لكن بعضه أشد غلواً من بعض، وتطور الخلاف بين أصحابه في الجانب التطبيقي، ليصبح موضوعه مرتكب الكبيرة الحقيقي من الأمة، بعد أن كان عثمان وعلياً وسائر الصحابة زمن الفتنة.

وبهذا التطور الذي لم يدرك أبعاده أكثر الباحثين، آل الأمر إلى منهجين متضادين على الحقيقة، وتجاوز الخلاف بينهما حدود الوقائع التاريخية حين النشأة، ليصبح خلافاً نظرياً عاماً مؤصلاً.

وقد استوقفتني هذه الحقيقة كثيراً - أعني حقيقة أن أصل المرجئة هم الخوارج لا بطريق التضاد في الغلو بل ذاتاً و حقيقة - و ليس سبب ذلك عدم ثبوتها، ولكنه عدم وضوح تعليلها الذي تبين بعد بالتتبع الدقيق لفرق الخوارج.

ومن هنا ظهرت ضرورة التوسع في دراسة إحدى الظاهرتين، لمعرفة حقيقة الأخرى .

وإذا ما أردنا الوصول إلى الحقيقة، فإن علينا أن نعرف تلك الظاهرة البارزة في تاريخ الخوارج، وهي الاختلاف والتشقق إلى أكثر من رأي عادة وفي كل قضية تقريباً، وهو ما أنتج بمجموعه ثلاثة اتجاهات كبرى في مواقف فرق الخوارج، منذ حادثة التحكيم إلى بروز منهج الإرجاء قائماً بنفسه وهي:

1- الاتجاه الغالي المطرد في غلوه.

2- الاتجاه المتراجع إلى حد التساهل (نسبياً)

3- الاتجاه التوسطي، أو المحايد "التوقف والتبين".

والقصة التي سبق إيرادها شاهد على هذه الاتجاهات الثلاثة في المواقف، وفي تاريخ الخوارج أمثلة أخرى، يهمنا منها بالأساس قضية حكم مرتكب الكبيرة عندهم، والدار التي يعيش فيها!!

لقد اشتطت الخوارج، وغلت في النظرة لمرتكب الكبيرة(1)، وتشعب بها الخلاف في أحكامه، حتى كثر بعض فرقها بعضاً.

لكن ليس هذا فحسب وإنما الرزية كل الرزية أن مرتكب الكبيرة عندهم ليس هو الزاني أو السارق أو الكاذب ونحوهم من عصاة الأمة، وإنما هو على وعثمان وطلحة والزبير وعائشة وأبو موسى وعمرو بن العاص ومعاوية، وأمثالهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فالحكم على هؤلاء بالكفر هو أصل عقيدة الخوارج، وحادثة التحكيم هي التي أثارت ذلك كما سبق.

وهذه هي البداية المهمة في تاريخهم، وفي تاريخ نشأة الإرجاء وانبثاقه من أصولهم، كما ألمحنا.

فمنذ أن خرجت "المحكمة الأولى" على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وهي تجاهر بتكفيره، وظل الإجماع بينهم منعقداً على ذلك، وانطلاقاً منه تم الاتفاق على اغتيال رؤساء المختلفين في الفتنة، وهو ما فعله ابن ملجم و أخفق فيه صاحباه.

لكن هذه البدعة الشنيعة، ترعرعت وتطورت واتخذت فيما بعد مجالاً تطبيقياً وتفصيلياً أوسع من مجرد اعتقاد كفر الصحابة المختلفين، ومن هنا كان طبيعياً أن يظهر الخلاف بينهم تبعاً لمنهجهم السابق إيضاحه.

وكان من أعظم أسباب تطور الفكرة واتساع مجالها، نجاحهم في حكم بعض الأقاليم في زمن الخلاف بين ابن الزبير والأمويين، حيث أسسوا لهم "دار إسلام وهجرة" - بزعمهم - ومن هنا ظهرت دواعي الأحكام الفرعية والتطبيقية التي تتخذ عندهم - كما أسلفنا - منزلة الأصول والعقائد.

ولهذا فسوف نتتبع تطور العقائد والخلافات، من خلال العرض التاريخي للأحداث المسببة لها، وبذلك نصل إلى معرفة أشمل وأعمق، لا سيما عن الاتجاهات الثلاثة، وخاصة "الاتجاه التوسطي" .

و يبدأ تاريخ الخلاف بينهم بما أحدثه "نافع بن الأزرق الحنفي"، زعيم الخوارج الأزارقة حول الحكم على "الدار" وعلى معاملات أهلها، وهي القضية التي أصبحت أصلاً من أصول الخوارج المنهجية قديماً وحديثاً، إذ سائر الأحكام عندهم مترتبة عليها.

وكان سبب الخلاف الذي أحدثه نافع، أن امرأة من الخوارج عربية تزوجت أحد الخوارج من الموالي، فأنكر أهلها عليها ذلك، فأخبرت زوجها، وخيرته بين اللحاق بمعسكر نافع للدخول في دار الإسلام، أو الاختفاء، أو الطلاق، فخلى سبيلها، وأخذها أهلها فزوجوها ابن عم لها لم يكن على رأيها.

فاختلف الخوارج في حكمها، فعذرها بعضهم بأنها مجبرة و أن الدار بالنسبة لها دار تقية، إذ لا تستطيع إظهار دينها، وترفض الزواج بالمشرك!!

و لكن نافعاً وحزبه لم يعذروها هي و زوجها، وقالوا: "كان ينبغي لهما أن يلحقا بنا، لأنا اليوم بمنزلة المهاجرين بالمدينة، ولا يسع أحداً من المسلمين التخلف عنا، كما لم يسع التخلف عنهم، وبرئوا من القائلين بالتقية" .

ثم تطورت المسألة حتى كفروا كل من لم يهاجر إليهم، وإن كان على رأيهم، ولم يعذروه، وإن كانت إقامته تقية، وقالوا: إن كلم من لم يظهر موافقتهم كافر، لا تحل ذبيحته ولا مناكحته، بل لم يقتصروا على الكبار البالغين و إنما صرحوا بأن حكم الأطفال حكم آبائهم.

وقالوا: لا بد من امتحان من قصد دارنا، حتى نعلم صحة إسلامه.

وهكذا برزت قضية "الدار"، وأصبح من أصول الأزارقة المميزة لهم "أن كل كبيرة كفر، وأن الدار دار كفر - يعنون دار مخالفيهم - وأن كل مرتكب كبيرة ففي النار خالداً مخلداً"، و"أن من أقام في دار الكفر فكافر لا يسعه الخروج".

ولم يقفوا عند هذا، بل طبقوا ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فجعلوا من أصولهم تكفير علي بسبب التحكيم، وتكفير الحكمين أبي موسى وعمرو(1) .

وبالأولى يكفرون معاوية وأهل الشام - رضي الله عن الصحابة أجمعين - .

وهذه الآراء جعلت "نجدة بن عامر الحنفي" يستقل عن نافع، وينشئ دار إسلام خاصة به وأصحابه، ومال إلى التخفيف من حدة هذا الغلو، فقرر أن الجاهل في غير الأصول معذور، حتى تقوم عليه الحجة، وأن المجتهد المخطئ معذور، وأن من خاف العذاب على المجتهد قبل قيام الحجة عليه فهو كافر!!

وأطلق على من لم يهاجر إلى دارهم اسم النفاق - ولم يقل الكفر كنافع - وقال: إن أصحاب الحدود والجنايات - ممن هو على دينهم - لا يستوجب البراءة بل نتولاه، وأن الله يخلده في النار.

ومما أحدثه "نجدة" وأصّله مسألة "الإصرار"، فقال: إن المصر على أي ذنب صغيرة أو كبيرة كافر(2)، وقد تحولت هذه المسألة إلى أصل منهجي من أصول أكثر الخوارج قديماً وحديثاً.

وكالعادة تفجر الخلاف داخل أصحاب نجدة، فانقسموا ثلاث فرق: "النجدية، والعطوية، والفديكية" .

والعطوية: منسوبة إلى "عطية بن الأسود الحنفي"، الذي فارق نافعاً ونجدة، منتقلاً إلى سجستان بأرض فارس، وهناك انتشر الخوارج وحكموا فترات متقطعة، وتفرقوا أيضاً فرقاً شتى، حيث خرج من العطوية رجل يدعى "عبدالكريم بن عجرد" ، فانبثقت من آرائه خمس عشرة فرقة، يطلق عليها جميعاً اسم "العجاردة".

- فمنهم فرقة قالوا: "إنه يجب أن يدعى الطفل إذا بلغ، وتجب البراءة منه قبل ذلك حتى يدعى إلى الإسلام ويصفه هو" وتميزت بذلك.

- وفرقة أخرى أعادت النظر في مسألة الدار وأهلها، فقالوا: إن الواجب هو "قتال السلطان خاصة، ومن رضي بحكمه، فأما من أنكره فلا يرون قتله إلا إذا أعان عليهم، أو طعن في دينهم أو صار عوناً للسلطان أو دليلاً له" !

- وفرقة ثالثة تفردت بالقول بالتوقف في الأطفال عامة فقالوا: "ليس لأطفال الكافرين ولا لأطفال المؤمنين ولاية ولا عدواة ولا براءة، حتى يبلغوا فيدعوا إلى الإسلام، فيقروا به أو ينكروه".

- وفرقة أخرى عممت التوقف فهم "يتوقفون عن جميع من في دار التقية، من منتحلي الإسلام وأهل القبلة، إلا من قد عرفوا منه إيماناً فيتولونه عليه، أو كفراً فيتبرأون منه" (3) .

وإذا تركنا سجستان وخوارجها، وعدنا إلى اليمامة والعراق، فسنجد أن رجلين من مخالفي نجدة ونافع أسسا فرقتين كبيرتين من الخوارج، وكل فرقة منهما تشعبت كالعادة إلى فرق أخرى .

- هاتان الفرقتان هما: "الصفرية" أتباع زياد بن الأصفر، و "الإباضية" أتباع عبدالله بن إباض.

- وفي الوقت نفسه - على ما يبدو - خرجت طائفة لم يسمها الأشعري، لكن قولها مهم وهو أن "ما كان من الأعمال عليه حد واقع، فلا يتعدى بأهله الاسم الذي لزمهم به الحد، وليس يكفر بشيء ليس أهله به كافراً، كالزنا والقذف وهم قذفة زناة (1) .

وما كان من الأعمال ليس عليه حد كترك الصلاة والصيام فهو كافر, وأزالوا اسم الإيمان في الوجهين جميعاً"(2)

وهذه الفرقة ينطبق عليها اسم الإرجاء، من حيث أنها لا تقول بإسلام ولا كفر، فيما كان دون الشرك والكفر، فهي إحدى فرق ما يسمى "مرجئة الخوارج" والله أعلم.

 

أما الإباضية: فقد مالت إلى مذهب قريب من هذا التوقف أو الإرجاء، وابتعدت عن غلو نافع أكثر مما ابتعد نجدة، وذلك أن جمهور الإباضية يزعمون أن مخالفيهم من أهل الصلاة كفار وليسوا بمشركين(3)، حلال مناكحتهم، وموارثتهم حلال، وغنيمة أموالهم من السلاح والكراع عند الحرب، وحرام ما وراء ذلك، وحرام قتلهم وسبيهم في السر إلا من دعا إلى الشرك في دار التقية ودان به.

"و زعموا أن الدار - يعنون دار مخالفيهم - دار توحيد، إلا عسكر السلطان فإنه دار كفر ..".

وقالوا: "إن مرتكبي الكبائر موحدون وليسوا بمؤمنين"(4).

وقالوا: "إن جميع ما افترض الله سبحانه على خلقه إيمان، وإن كل كبيرة فهي كفر نعمة لا كفر شرك، وإن مرتكبي الكبائر في النار خالدون مخلدون فيها"(5).

وأما مسألة "الأطفال" فقد توقفت الإباضية - أو أكثرهم - فيها، وقالوا: يجوز أن يعذبهم الله، ويجوز ألا يعذبهم على تفصيل فيه (6) .

وتطورت فكرة التوقف والإرجاء عند الإباضية، بعد حدوث الواقعة التي سبق ذكرها بشأن الإماء والنساء من مخالفيهم، حيث ظهر فيهم فرقة سميت: "الواقفة" - كما سبق - .

وهؤلاء الواقفة - إضافة إلى ما نقلناه من افتراق الضحاكية عنهم، ثم انشقاق الضحاكية- لم يتفقوا على رأي محدد بل "اختلفوا في أصحاب الحدود، فمنهم من برئ منهم، ومنهم من تولاهم، ومنهم من توقف" .

كما اختلفوا "في أهل دار الكفر عندهم، فمنهم من قال: هم عندنا كفار إلا من عرفنا إيمانه بعينه، ومنهم من قال: هم أهل دار خلط فلا نتولى إلى من عرفنا فيه إسلاماً، ونقف فيمن لم نعرف إسلامه".(7)

وقد ظهر للواقفة عدو منافس هم فرقة "البيهسية" أصحاب أبي بيهس، الذي كفر الواقفة بسبب المسألة المذكورة كما سبق، وعلل ذلك بالتفريق بين التوقف في الحكم نفسه، والتوقف في حق من ارتكبه قائلاً: "إن الوقف لا يسع (8) على الأبدان، ولكن يسع على الحكم بعينه ما لم يواقعه أحد من المسلمين، فإذا واقعه أحد من المسلمين، لم يسع من حضر ذلك ألا يعرف من أظهر الحق ودان به، ومن أظهر الباطل ودان به.(9)

أي أن الإنسان قد يتوقف عن حكم ما لا يدري أهو كفر أم إيمان، فإذا فعله فاعل وحضر ذلك، فلا بد أن يعرف أهو محق أو مبطل في فعله، ويحكم عليه بالكفر أو الإيمان، بحسب الاجتهاد والعذر ونحو ذلك.

وعابت البيهسية مخالفيهم في ذلك وأسمتهم "الواقفة" (10) .

ثم إنه انشقت عن البيهسية فرقة يقال لها "العوفية" وهي في الحقيقة فرقتان: فرقة تقول: "من رجع من دار هجرتهم، ومن الجهاد إلى حال القعود، نبرأ منهم". وفرقة تقول: " لا نبرأ منهم، لأنهم رجعوا إلى أمر كان حلالاً لهم" (11) . وكلا الفريقين من العوفية يقولون: "إذا كفر الإمام فقد كفرت الرعية، الغائب منهم والشاهد"(12) .

وهم بهذا الرأي الأخير يعودون إلى ما قالته المحكمة ونافع من قبل، وإن كان الكفر عندهم يختلف عن الكفر عند أولئك، ولكن غلو هذه الفكرة واضح، حتى في حق من ارتكب الكفر الحقيقي.

ولا أدري ما الفرق بين هذه الفرقة وبين الفرقة الأخرى من البيهسية، التي قال عنها أبو الحسن: "وقالت طائفة من البيهسية: إذا كفر الإمام كفرت الرعية، وقالت: الدار دار شرك وأهلها جميعاً مشركون، وتركت الصلاة إلا خلف من تعرف، وذهبت إلى قتل أهل القبلة وأخذ الأموال واستحلت القتل والسبي على كل حال"(1) , إلا أن يكون ما زاده في هذه لم تذهب إليه تلك، فالله أعلم .

ثم ينقل عن فرقة أخرى من البيهسية أنهم قالوا: "من ارتكب كبيرة لم نشهد عيه بالكفر، حتى يرفع إلى الإمام أو الوالي ويحد، فوافقهم على ذلك طائفة من الصفرية إلا أنهم قالوا: نقف فيهم ولا نسميهم مؤمنين ولا كافرين" .(2)

وإذا انتقلنا للحديث عن الصفرية نجد هذا الاتجاه - أعني التوقف والإرجاء - لدى فرقة أخرى منهم غير هذه، وهي الفرقة المسماة "الحسينية".

وهم "يرون الدار دار حرب وأنه لا يجوز الإقدام على من فيها إلا بعد المحنة، ويقولون بالإرجاء في موافقيهم خاصة(3) كما حكي عن نجدة"(4)

وما عداه فليس للصفرية قول متميز ذو شأن، إلا إذا صحت نسبة "صالح بن مسرج" إليهم .

وصالح هذا كان من زعمائهم، حكم ببعض أحكام في الغنائم وغيرها، فاختلف عليه الخوارج في ذلك، فبرئت منه فرقة فسميت "الراجعة"، وصوب أكثر الخوارج رأي صالح، ووقف "شبيب" في صالح والراجعة وقال: لا ندري ما حكم به صالح حقاً كان أو باطلاً.

"ويقال: إن أكثر الراجعة عادوا إلى قول صالح .. فأما بعض الإباضية فيذهب إلى أن الذين برئوا من صالح كفروا، وأن من وقف في كفرهم كفر" .

وأما شبيب فقد انتسب إليه فرقة تسمى "الشبيبية"، وذلك أن شبيباً وقف في صالح وفي الراجعة فقالوا: "لا ندري أحق ما حكم به صالح أم جور؟ وحق ما شهدت به الراجعة أم جور؟ فبرئت الخوارج منهم وسموهم مرجئة الخوارج"(5).

 

* الخلاصة و النتيجة :

نخلص من هذا العرض لفرق الخوارج واختلافاتها واتجاهاتها الثلاثة في الخلاف- كما أشرنا- إلى أن الحكم على مرتكب الكبيرة هو أساس أصولهم، ومجمع زمامها، سواء المجمع عليه منها، أو المختلف فيه، وبحسب الحكم عليه يكون الحكم على الدار التي ينتمي إليها.

فإذا ما عدنا إلى منبع الفكرة وسببها، وهو حادثة التحكيم، وعرفنا أن مرتكب الكبيرة عندهم إنما هو بالقصد الأول علي وعثمان ومعاوية وعمرو وأبو موسى وطلحة والزبير .. إلخ، وأن كل من ارتكب كبيرة بعدهم، فالحكم عليه في نظر أي فرقة من الخوارج، إنما هو بحسب حكمها على أولئك الأصحاب السابقين.

إذا علمنا ذلك، برزت لنا حقيقة مهمة، وهي أن طائفة من الخوارج "تشمل فرقاً أو بعض فرق" تقف من الحكم على الأصحاب المختلفين في الفتنة موقفاً وسطاً، بين قول المحكمة والأزارقة، الذين يكفرونهم رأساً، وبين قول الإباضية ونحوهم، ممن يقول: هم كفار نعمة.

وهذا الموقف هو التوقف والإرجاء، أي إرجاء حكمهم في الآخرة إلى الله تعالى، مع إثبات اسم الإيمان لهم في الدنيا، بناء على الأصل الذي اتخذته أكثر فرق التوقف، وهو أن كل معصية دون الكفر لا يطلق على صاحبها اسم الكفر، ولا ينفى عنه اسم الإيمان.

فتكون خلاصة عقيدة هذه الطائفة: "أن كل من ارتكب كبيرة، دون الشرك بالله تعالى، فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، أما في الدنيا فنحن نجزم بكفر من أشرك بالله فقط، وما عداه نثبت له اسم الإيمان".

وبغض النظر عن مفهومهم لمصطلحي "الكفر والإيمان"، ومدى موافقته لأهل السنة والجماعة من عدمها، المهم هو أنهم لا يحكمون على مرتكب الكبيرة، كالزنا والقذف والسرقة بالكفر والخلود في النار، كعامة الخوارج, بل يرجئون أمره إلى الله تعالى، فإذا ما أرادوا تطبيق هذا الأصل على ما تقرر لديهم، من كون الصحابة المختلفين في الفتنة مرتكبين للكبائر، كانت النتيجة: أن عثمان وعلياً وطلحة والزبير ومعاوية .. إلخ مؤمنون(1)، لأنهم لم يشركوا بالله، فلا ننفي عنهم اسم الإيمان، ولكن لا ولاية لهم ولا محبة، نظراً لما ارتكبوه، ومقتضى ذلك - كما رأينا من واقع انشقاقاتهم - أن يقولوا: إن الخوارج مخطئون في تكفيرهم لهم!!.

وإذا أضفنا إلى هذا ما لاحظناه من براءة الخوارج من مخالفيهم ومنابذتهم لهم، وتصورنا ما لا بد أن تتعرض له هذه الطائفة من مهاجمتهم وعداوتهم، وما سوف تقابلهم به هي بطبيعة الحال، أدركنا أن من الممكن المعقول أن يتعمق العداء بينهما، ليصبح عداء بين منهجين متفاصلين متضادين، لا سيما إذا وضعنا في الحسبان أن هذه العقيدة تتفق مع "الإرجاء"، الذي هو موقف نفسي يمكن أن يقع عند كل خلاف- كما أسلفنا وذكرنا- وجهة نظر أصحابه في الفتنة الأولى .

ويؤكد لنا صحة ما ذهبنا إليه منطوق قصيدة "ثابت قطنة"، المسمى "شاعر المرجئة" وهي ما يوصف بأنه الأثر الإرجائي الوحيد الباقي(2).

وهذا ما يقودنا تلقائياً إلى الحديث عما سمي تاريخياً "المرجئة الأولى", والاستقلال عن موضوع الخوارج ابتداءاً من هذه النقطة.

 

 

* المرجئة الأولى :

 

المرجئة الأولى علم على الطائفة التي فصلنا الحديث عن نشأتها في المبحث السابق "أي الاتجاه التوسطي أو التوقفي من الخوارج" ومن وافقها في نظرتها للصحابة خاصة.

وهذه التسمية صحيحة وثابتة، وما حفظه التاريخ عن هذه الطائفة - على قلته - يكفي لإعطاء تصور جيد عنها.

ولن نتبع منهج المؤرخين والباحثين في استقاء فكرتها من قصيدة ثابت قطنة ونحوها، بل نسلك مسلك المحدثين فنأخذ الحديث عنها من مصادره الصحيحة- إن وجدت - ثم نعرج على ما أثر في كتب التاريخ والفرق والأدب.

يقول الإمام الحجة محمد بن جرير الطبري في كتابه "تهذيب الآثار" : "فإن قال لنا قائل: ومن هم المرجئة؟ وما صفتهم؟

قيل: إن المرجئة هم قوم موصوفون بإرجاء أمر مختلف فيما ذلك الأمر؟ فأما إرجاؤه فتأخيره، وهو من قول العرب: أرجأ فلان هذا الأمر فهو يرجئه إرجاء، وهو مرجئه، بهمز. وأرجاه فلان يرجيه أرجا، بغير الهمز فهـو مرجيه، ومن قول الله تعالى ذكره: {وآخرون مرجون لأمر الله} .

يقرأ بالهمزة و غير الهمز بمعنى مؤخرون لأمر الله، وقوله مخبراً عن الملأ من قوم فرعون: {قالوا أرجه وأخاه} . بهمز أرجه وبغير الهمز(3) .

فأما الأمر الذي بتأخيره سميت المرجئة مرجئة، فإن ابن عيينة كان يقول فيما حدثني عبدالله بن عمير الرازي قال : سمعت إبراهيم بن موسى – يعني الفراء الرازي – قال : سئل ابن عيينة عن الإرجاء ؟ فقال : الإرجاء على وجهين : قوم أرجوا أمر علي و عثمان ، فقد مضى أولئك . فأما المرجئة اليوم فهم يقولون : الإيمان قول بلا عمل . فلا تجالسوهم و لا تؤاكلوهم و لا تشاربوهم و لاتصلوا معهم و لا تصلوا عليهم " .(4)

ثم قال الطبري - بعد نقل آثار عنهم-: "والصواب من القول في المعنى الذي من أجله سميت مرجئة أن يقال: إن الإرجاء معناه ما بيناه قبل من تأخير الشيء، فمؤخر أمر علي وعثمان رضي الله عنهما وتارك ولايتهما والبراءة منهما مرجئاً أمرهما فهو مرجئ، ومؤخر العمل والطاعة عن الإيمان مرجئهما عنه فهو مرجئ.

غير أن الأغلب من استعمال أهل المعرفة بمذاهب المختلفين في الديانات في دهرنا هذا الاسم فيمن كان من قوله: الإيمان قول بلا عمل، وفيمن كان مذهبه أن الشرائع ليست من الإيمان، وأن الإيمان إنما هو التصديق بالقول دون العمل المصدق بوجوبه" (5)

ففي كلام الإمام ابن عيينة وشرح الطبري له، ما يدل على أن المرجئة الأولى هي طائفة من الناس كانت ترجئ أمر عثمان وعلي إلى الله، فلا تتولاهما ولا تتبرأ منهما، فهي مضادة لمن يكفرهما أو يغلو فيهما- أو أحدهما- وكذا لمن يرى تقديمهما وفضلهما ووجوب موالاتهما.

والغاية أن الإرجاء عندها ليس في مسألة الكفر والإيمان عامة، وإنما هو في الموقف من الصحابة المختـلفين في الفتنة- رضي الله عنهم- خاصة. فهم مناقضون لما عليه عامة الخوارج من تكفيرهما، وما عليه عامة الشيعة من الغلو في علي والحط على عثمان أو تكفيره، وكذلك مخالفون لما عليه الجماعة في أمرهما.

ومن هنا كان طبيعياً أن تتعرض هذه الطائفة لنقد وعيب هذه الطوائف جميعاً، وكل طائفة تعيبها وتخالفها من الزاوية التي تراها مخالفة لها فيها، ومن هنا تشعب القول عن المرجئة الأولى واختلف.

فالجماعة يعدونهم من الخوارج - وهم كذلك لمن تأمله- كما قد سبق إيضاح ذلك وإثباته من واقع فرق الخوارج .

والشيعة تعدهم نواصب، ولهذا أدخلت أهل السنة عامة في مسماهم - كما سنرى- فهم يطلقون على كل من لم يغل في علي مرجئاً، إلا إذا كان يكفره فهو خارجي .

والخوارج يعدونهم مرجئة، لأنهم لم يجزموا بكفر علي وعثمان - في أول الأمر - و بالتالي لم يجزموا بتكفير مرتكب الكبيرة عامة بعد تطور النزاع على النحو الذي سبق .

وهذا ما يفسر السر في تضارب الأقوال عنهم، واختلافهم حتى أعيى الكثير من المصنفين و الباحثين الجمع بينها، في حين أن من اعتمد على المصادر السلفية وحدها لا يجد أي اختلاف, وعلى هذا نسوق الشواهد:

فمن المرجئة الأولى "محارب بن دثار" قاضي الكوفة، المتوفى حوالي سنة 116، يقول عنه ابن سعد: "كان من المرجئة الأولى، الذين كانوا يرجون علياً وعثمان، ولا يشهدون بإيمان ولا كفر"(1)

وينقل الذهبي النص مع زيادة: "قال ابن سعد: كان من المرجئة الأولى، الذين يرجون علياً وعثمان إلى أمر الله، ولا يشهدون عليهما بإيمان ولا كفر" .(2)

وإذا كان هذا يعد عند الجماعة بدعة وجرحاً، فإن الشيعة تعده كفراً بالنسبة لعلي، وقد نسب صاحب الأغاني، وصاحب كتاب الزينة- وكلاهما رافضي- هذه الأبيات إلى محارب:

يـعيب علي أقـوام سـفاها                             بأن أرجي أبا حسن عليا

وإرجائي أبا حسن صواب                  عن العمرين براً أو شقيا

فإن قدمت قوماً قال قوم                      أسأت وكنت كذاباً رديا

إذا أيـقـنـت أن الله ربـي                    وأرسل أحمداً حقاً نبيا

وأن الرسل قد بعثوا بحق                            وأن الله كان لهم وليا(3)

فليس علي في الإرجاء بأس                ولا لبس ولست أخاف شيّا

وعند الأخير زيادة بيتين :

وعثمان وماج الناس فيه                    فقالت فرقة قولاً بذيا

وقال الآخرون إمام صدق                  وقد قتلوه مظلوماً بريا(4)

فرد عليه أحد شعراء الشيعة سائراً على منهجهم في الغلو والفحش:

يود محارب لو قد رآها(5)                   وأبصرهم حواليها جثيا

وأن لسانه من ناب أفعى                  وما أرجى أبا حسن عليا

وأن عجوزه مصعت بكلب       وكان دماء ساقيها جريا(6)

متى ترجي أبا حسن عليا                 فقد أرجيت يا لكع نبيا(7)

 

ولشاعرهم الحميري الملقب بالسيد، قصيدة في المعنى نفسه قال:

خليلي لا ترجيا واعلما                      بأن الهدى غير ما تزعمان

وأن عمى الشك بعد اليقين                  وضعف البصيرة بعد العيان

ضلال فلا تلججا فيهما                      فبئست لعمركما الخصلتان

أيرجى علي إمام الهدى                     وعثمان ما اعتدل المرجيان(1)

ويرجى ابن حرب وأشياعه                وهوج الخوارج بالنهروان(2)

و يرجى الألى نصروا نعثلاً               بأعلى الخريبة والسامران(3)

   يكون أمامهم في المعاد                            خبيث الهوى مؤمن الشيصبان(4)

 

وهكذا تعرض محارب - ومن كان معه- لهجوم الشيعة في كلا جانبي رأيه وهما: إرجاء علي، إذ كيف يرجى وهو عندهم نبي، كما صرح الأول، أو إمام الهدى الوحيد!!

وإرجاء عثمان، إذ كيف يرجى وهو إمام ضلالة- وكذا معاوية- فالواجب تكفيرهما!!

وعن الشك الذي يظهر في أبيات محارب، وخوفه من لوم الطوائف المعارضة نقول:

إنه لم يسلم من اللوم، بل عرض الحميري ذلك واصفاً له بالضلال، وإن عمى الشك بعد اليقين لضلال حقاً، لكن ليس على ما يرى الحميري.

هذا ولا يصح أن يكون إرجاء محارب هو تأخيره علي إلى الدرجة الرابعة في ترتيب خلافة الراشدين، كما ظن ذلك بعضهم، لأن هذا هو مذهب الجماعة وإجماع الأمة، وإنما إرجاؤه ما سبق، أما مصادر الشيعة فهي تعتبره كذلك، لكن لا عبرة بقولها، فهو فرع عن عقيدتها ودينها.

هذا وقد ذكر صاحب الأغاني أيضاً أن أحد الشيعة أشرف على الموت، فأظهرت المرجئة الشماتة به، فقال السيد الحميري قصيدة في مدح الشيعة، وهذا مما يدل على تنافس وعداء(5) .

ولعل ما يؤيد معرفة سفيان بن عيينة لهذا الطائفة، أن أحد شيوخه عاصم بن كليب الجرمي هو تلميذ لمحارب بن دثار، وقد كان على الإرجاء نفسه، كما وصفه بذلك شريك بن عبدالله، ومما يدل عليه قوله لأحدهم: "إنك خشبي" ، والخشبية هم الرافضة أو طائفة منهم، فكأنه يدافع عن نفسه بأنه موقفه خير من الغلو في علي(6) .

ونجد إماماً فقيهاً آخر هو "ابراهيم النخعي"، وقد كان معاصراً لمحارب وأعدائه يتكلم عن هذه الطائفة.

فقد ذكر ابن سعد بسنده "أن رجلاً كان يأتي إبراهيم النخعي فيتعلم منه، فيسمع قوماً يذكرون أمر علي وعثمان، فقال: أنا أتعلم من هذا الرجل وأرى الناس مختلفين في أمر علي وعثمان؟ فسأل إبراهيم النخعي عن ذلك، فقال: ما أنا بسبئي ولا مرجئي" (7) .

أي لست من الشيعة- الذين أسس مذهبهم عبدالله بن سبأ كما هو معلوم- ولا من المرجئة الذين يقابلون غلو الشيعة بالإجحاف وعدم التولي له، يعني فهو من أتباع السلف أهل السنة، وأراد أن يعلم تلميذه أن يجتنب هاتين الفرقتين اللتين كانتا في الكوفة حينئذ.

وفي العصر نفسه نجد إماماً آخر مشهوراً هو "الشعبي" - الذي كان أول أمره خشبياً، ثم ترك ذلك و فضح كثيراً من أصول التشيع، لا سيما علاقته باليهود(8) - ينصح تلميذاً له قائلاً: "أحب صالح المؤمنين وصالح بني هاشم و لا تكن شيعياً، وأرج ما لم تعلم ولا تكن مرجياً، واعلم أن الحسنة من الله والسيئة من نفسك ولا تكن قدرياً، و أحبب من رأيته يعمل الخير وإن كان أخرم سندياً" (9).

فهو يحذره من الطوائف الأربع التي كانت معاصرة حينئذ: وهي الشيعة والمرجئة والقدرية والشعوبية، ويبين له أن الإنسان يكل علم ما لم يعلم إلى الله، لكن أمر عثمان وعلي رضي الله عنهما هو من المعلوم الثابت، وهو الشهادة لهما بالإيمان والجنة، وموالاتهما وعدم البراءة منهما، بخلاف ما تقوله المرجئة فيهما، كما سيأتي في أبيات شاعرهم ثابت قطنة.

وممن نسب إليه الإرجاء على هذا المعنى من رجال الحديث: "خالد بن سلمة الفأفاء"، وهو يروي عن الشعبي و يروي عن سفيان بن عيينة، قيل عنه: "كان مرجئاً يبغض علياً"، وعبارة الذهبي: "كان مرجئاً ينال من علي رضي الله عنه".(1)

ولا شك أن عدم تولي علي هو بغض له.

ولنأت الآن إلى قصيدة ثابت قطنة- شاعر المرجئة المشهور- التي وصفت بأنها الأثر الإرجائي الباقي، الذي يصور عقيدة هذه المرجئة وأفكارها(2) ، وهي:

يا هند إني أظن العيش قد نفدا                       ولا أرى الأمر إلا مدبراً نكدا

إني رهينة يوم لست سابقه                                    إلا يكن يومنا هذا فقد أفِدا

بايعت ربي بيعاً إن وفيت به                        جاورت قتلى كراماً جاوروا أحدا

يا هند فاستمعي لي إن سيرتنا                                          أن نعبد الله لا نشرك(3) به أحدا

نرجي الأمور إذا كانت مشبهةً                      ونصدق القول فيمن جار أو عندا

المسلمون على الإسلام كلهم                         والكافرون استووا(4) في دينهم قددا

  ولا أرى أن ذنباً بالغ أحداً                          م(5) الناس شركاً إذا ما وحدوا الصمدا

لا نسفك الدم إلا أن يراد بنا                          سفك الدماء طريقاً واحداً جددا

من يتق الله في الدنيا فإن له                          أجر الحساب إذا و في الحساب غدا

وما قضى الله من أمر فليس له                      رد وما يقضِ من أمر يكن رشدا

كل الخوارج مخطٍ في مقالته                        ولو تعبد فيما قال واجتهدا

أما علي وعثمان فإنهما                              عبدان لم يشركا بالله مذ عبدا

وكان بينهما شغب وقد شهدا                         شق العصا وبعين الله ما شهدا

يجزي علي وعثمان بسعيهما                        ولست أدري بحقٍ أيّـةً(6) وردا

الله يعلم ما يحضران به                              وكل عبد سيلقى الله منفردا(7)

 

هذه القصيدة التي رواها صاحب الأغاني "وجادة"(8)، ذكر معها سببها قال: "كان ثابت قطنة قد جالس قوماً من الشراة وقوماً من المرجئة، كانوا يجتمعون فيتجادلون بخراسان، فمال إلى قول المرجئة وأحبه، فلما اجتمعوا بعد ذلك أنشدهم قصيدة قالها في الإرجاء"(9)

والقصيدة من الناحية الشعرية جيدة وتعبر عن عقيدة صاحبها بوضوح ويمكن تلخيصها في الآتي:

1- إرجاء الأمور المشتبهة والمختلف فيها إلى الله، وهو تمهيد لما سيقرره عن الخليفتين الراشدين .

2- إثبات الإسلام لكل من أظهره (أي ما لم يشرك أو يرتد).

3- أن الذنوب والمعاصي لا تخرج من الملة، فلا يكفر مسلم موحد إلا إذا قارف ذنباً يبلغ به حد الشرك بالله تعالى (وهذا تمهيد لما سيحكم به على الخليفتين، اللذين هما عاصيان فقط في نظره).

4- الأصل الإمساك عن دماء المسلمين، إلا على سبيل الدفاع عن النفس.

5- أن المتقين ينالون جزاءهم كاملاً يوم القيامة.

6- الإيمان بالقضاء والقدر وحكمة الله فيه.

7- تخطئة الخوارج في تكفير المسلمين، (لا سيما عثمان وعلي)، ولا يشفع لهما تـنسكهم واجتهادهم في العبادة، (أي ولو كانوا يظنون أن هذا اجتهاد منهم وعبادة).

8- أن عثمان وعلياً لم يثبت عليهما الشرك منذ أسلما فلا نكفرهما، وإنما كان منهما وبينهما فتنة واختلاف، والله أعلم بسرائرهما، وسيجزيهما بسعيهما، وقد مضيا إلى ربهما، ولا ندري أهما من أهل الجنة أم من أهل النار، فالله يعلم ماذا يأتيان به يوم القيامة حين يحاسب كل إنسان على انفراد.

وأما فهم بعض الباحثين المعاصرين من القصيدة أن المرجئة "يرجئون الحكم على مرتكب الكبيرة، أي يؤخرونه ويجعلونه لله, ويرجئون العمل عن الإيمان، إذ إن الإيمان عندهم ألا يشرك الناس بالله الواحد الصمد, وهو في غنى عن العمل، خلافاً للخوارج الذين يرونهما- يعني العمل والإيمان- شيئاً واحداً لا وزن لأحدهما بدون الآخر، وعلى هذا فإن الخوارج مخطئون في هذا التصور، وعثمان وعلي وغيرهما مؤمنون، ولا يستطيعون الحكم على أحدهم بخطأ وكذلك جميع المسلمين لا يصح التعرض لهم بحكم، إذ يكفي أن يكونوا مسلمين, أما عملهم فذلك موكول إلى ربهم ولو لم يصوموا أو يصلوا أو يحجوا فهم مسلمون ولا يصح أن يطردوا من حظيرة الإسلام"(1).

فهو بلا شك مبالغ فيه، أراد صاحبه أن يدخل عقيدة المرجئة بمفهوم الإرجاء العام، ضمن مفهوم هذه الأبيات، التي قصد بها قائلها الإرجاء الخاص بالصحابة "إرجاء المرجئة الأولى" الذي هو في أصله شعبة من الفكر الخارجي كما أوضحنا، لكن المؤلف في كتابه كله لم يستطع الفصل بين المفهومين.

وأحسب أن من يقرأ القصيدة دون تصور سابق، لا يفهم منها الاستهانة بالعمل والتـفلت من الفرائض، بل العكس هو المنطوق، كيف وقد اعتبر ما وقع من عثمان وعلي من المعاصي- بزعمه- مبرراً لأن يخالف ما هو ثابت مشهور لدى الأمة قاطبة من فضلهما والشهادة لهما بالجنة؟

كما أن سيرة ثابت وحياته التي قضاها على الثغور ومجالدة الأعداء أقرب إلى سير الخوارج منها إلى غيرهم(2).

والواقع أن اللبس حاصل من منطوق الأبيات فهي في الحقيقة متناقضة, وتناقضها هذا يعطينا شاهداً آخر على تطور بدعة الإرجاء - كما سبق أن قررنا في المبحث السابق - وذلك أن الجدل بين غلاة الخوارج ومتساهليهم (واقفتهم) بشأن ما وقع من الصحابة من ذنوب ومعاصي أدى إلى ظهور مرجئة الخوارج، الذين يقولون بإرجاء عثمان وعلي رضي الله عنهما.

وانطلاقاً من القاعدة المتفق عليها عند ا لخوارج عامة وهي أنهما مرتكبي كبيرة، استمر الجدل بشأن مرتكب الكبيرة، مع تناسي الأشخاص تدريجياً، حتى أصبح موضوعه مرتكب الكبيرة عامة، حيث أصر غلاة الخوارج على تكفيره، وأصر هؤلاء على إرجائه, على ما سبق تفصيله.

فانتقل الأخيرون- ربما وهم لا يشعرون- إلى نقطة بعيدة جداً عن نقطة البداية، حيث تحولوا من الفكر الخارجي إلى نقيضه وبعضهم عادى الخوارج معاداة شديدة كالحال دائماً في الفئات المنشقة, مع أن فيه بذرة أو شعبة منه.

و هذا بدقة هو  الحال مع ثابت قطنة فهو يصرح بتخطئة الخوارج، ويقرر أن العاصي الموحد لا يحكم عليه بالكفر، ومع ذلك يصرح بإرجاء علي وعثمان، ويشك في دخولهما الجنة، وهذا عين ما قالته في حقهما مرجئة الخوارج الأولون(3).

وحال ثابت- مع ما سبق قبله- هو الذي يفسر التـناقض المستمر بين أصحاب الإرجاء الأول وبين الشيعة، بخلاف الإرجاء بمفهومه العام المتداول، فبعض الشيعة من الغلاة فيه كما سيأتي، إذ ليس ثمة شك في أن ثابتاً في نظر الشيعة خارجي سافر سواء سموه كذلك أم سموه مرجئاً.

فهو على أيه حال "ناصبي غال" عندهم، كما أنه خارجي واضح في نظر أهل السنة، إذا نظرنا لموقفه من الخليفتين، مجرداً عما قرره من مبدأ في صاحب الكبيرة عامة (البيتين السادس والسابع).

أما إذا نظرنا نظرة متكاملة- وهو الصواب- فلا شك أنه متناقض، وما كان أصحاب البدع إلا كذلك.

وعلى هذا المعنى للإرجاء نستطيع أن نفهم أبيات بشر بن المعتمر- رئيس معتزلة بغداد أيام الرشيد- فقد بلغ الرشيد عنه أنه رافضي، فسجنه فكتب في الحبس قصيدة رجزية طويلة تبلغ كما قيل أربعين ألف بيت, منها قوله:

لسنا من الرافضة الغلاة                    ولا من المرجئة الحفاة(4)

لا مفرطين بل نرى الصديقا               مقدماً والمرتضى الفاروقا

نبرأ من عمرو ومن معاوية (5)

فالمعتزلة- كما هو معلوم- هم أقرب شيء إلى الخوارج في حكم مرتكب الكبيرة، إذ قالوا: إنه لا مؤمن ولا فاسق من حيث إطلاق الاسم، بل هو في منزلة بين المنزلتين، وأما من حيث العاقبة والمآل، فهم يتـفقون مع الخوارج على أنه مخلد في النار أبداً كالكفار(1)!!

فخلافهم مع المرجئة في هذه المسألة خلاف تضاد، ولا موضع لتهمة المعتزلي بالإرجاء في الإيمان.

أما في مسألة الحكم على الصحابة المختلفين في الفتنة، فبعض المعتزلة الكبار كعمرو بن عبيد تبرأ من الطائفتين وقال: إحدى الطائفتين فاسقة لا بعينها(2)، وهذا قريب من قول الخوارج، بل هو في الأصل قول بعض طوائفهم- كما سبق- لكن بتعديل وتحوير، ومعلوم أنه قول الروافض- أو بعضهم- بالنسبة للشيخين، ولعمرو ومعاوية، و إجمالاً لغير علي وطائفته.

ومن هنا جازت التهمة على بشر بأنه رافضي يتبرأ من الصحابة (أو مرجئي يرجئ أمرهم إلى الله معتبراً إياهم أصحاب كبائر، غير مقر بالشهادة لهم بالجنة), وحبسه الرشيد، ودافع بشر عن نفسه بأنه ليس من الرافضة الغلاة - والغلاة هنا وصف لا مفهوم له- وأيضاً ليس من المرجئة الحفاة, المتنقصين لحق الصحابة، مقابل غلو أولئك منهم، بل هو وسط بزعمه غير مفرط، وفسر هذا التوسط بأن عقيدته ومن اتبعه تقديم الشيخين والإقرار بفضلهما  والبراءة من بني أمية وأهل الشام والمحاربين لعلي وسكت بشر عن رأيه في عثمان وعلي أو لم تبلغنا الأبيات(3).

لكن حصل مراده بنفي تهمة الرفض عنه بما قاله عن الشيخين، وإن كان هذا لا يخرجه عن كونه خارجياً، فالخوارج يقدمون الشيخين ويرضونهما، ثم يبرأون ممن بعدهما.

والمقصود أن مفهوم المرجئة في ذلك الزمن، كان يطلق على المرجئة الأولى إيضاً، أي الإرجاء المتعلق بالصحابة.

على أن هناك إشكالاً بين ما تقرر هنا عامة وما ذكره القاضي المعتزلي عبدالجبار وهو قوله: "إن طائفة يقولون: إن الله تعالى يجوز أن يعفو عن الفاسق، ويجوز أن يعاقب، ولا يعلم حقيقة ذلك، وهو الذي تقوله المرجئة الأولى"(4) . فهذا إرجاء عام لا إرجاء المرجئة الأولى.

لكن الإشكال يزول إذا عرفنا أن ما كان يقوله المرجئة الأولى في خصوص الصحابة، قال به المتأخرون- أو بعضهم- في مرتكب الكبيرة عامة، وجعلوهما سواء- كما سبق- فالقاضي نسب القول للأصل، أو أنه الذي عمم ما خصصته المرجئة الأولى، فوضع الفاسق مطلقاً مكان "علي وعثمان" الوارد حكمهما في قصيدة ثابت وهو عدم القطع لهما بالعفو أو العقوبة.

والحاصل أن المرجئة الأولى كانت مقابلة للتشيع من وجه، لا سيما وأهل الشام- كما هو معلوم- لم يكونوا يرون كفر علي، وإنما كانوا- إذا غلوا- يرون البراءة منه وجواز مقاتلته، وهذا في نظر الشيعة يماثل موقف المرجئة منه، ومن هنا أطلقوا عليهم وصف الإرجاء ولا غرابة، فقد أطلقوه على أهل السنة عامة، لمجرد أنهم لا يفضلونه على الشيخين!!

ومن الطبيعي أن تثور الخصومة ويقوم الجدل بين الشيعة وبين حزب بني أمية من أهل الشام وغيرهم، وبهذا يفسر ما يوجد في كتب الأدب، من ذكر وقائع بين الشيعة والمرجئة، مثل كتاب الأغاني(5)، وكتاب البيان والتبيين(6)، لا سيما وصاحباهما رافضي ومعتـزلي، والرافضة والمعتزلة اتحدتا منذ القرن الثالث تقريباً(7).

وعلى ذلك نفهم أيضاً ما أورده الجاحظ من شعـر لأحد الشيعة:

إذا المرجيّ سرك أن تراه                     يموت بدائه من قبل موته

فجدد عنده ذكرى علي                 وصل على النبي و آل بيته(8)

فالمقصود في هذه كلها هو الإرجاء الخاص .

وإذا رجعنا إلى المصادر الشيعية فسنجد ذلك وأجلى منه. يقول صاحب كتاب الزينة في شرح معنى الإرجاء و المرجئة: "وأما المرجئة فقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: "المرجئة يهود هذه الأمة"(1)، وروي عن محمد بن علي عليه السلام أنه قال: "المرجئة بدلوا سنة الله، ظاهرها وباطنها، وهم يهود هذه الأمة، وهم أشد لنا عداوة من اليهود والنصارى".

وقد تأول الناس في هذا اللقب تأويلات كثيرة، فكل فريق يتنصل منه ويلزمه غيره, ويتأول فيه تأويلاً ينتفي به عنه (2) .

ثم ذكر قول أهل السنة والجماعة فيهم- نقلاً عن ابن قتيبة- وقول المرجئة الفقهاء وردهما وقال: "والمرجئة هو لقب قد لزم كل من فضّل أبابكر وعمر على علي بن أبي طالب، كما أن التشيع هو لقب لزم كل من فضل علي على أبي بكر وعمر، هذا ما يتعارفه الناس بينهم ظاهراً واتفقت الأمة عليه" (3)

واستدل على ذلك بإطلاق الاسم: "قيل: فلان مرجئي قدري، وفلان شيعي قدري .. ولم نر أحداً يقال له: هذا مرجئي شيعي، أو مرجئي رافضي، هذا محال جداً، كما أنه محال أن يقال: هذا ثوب أبيض أسود، وهذا شيء حلو مر، لا تجتمع صفتان متضادتان في شيء واحد، وهذا حكم بيّن عند الإمامية أن المرجئ لا يكون شيعياً، و الشيعي لا يكون مرجئاً.

فالإرجاء - على ما قلنا - هو نعت قد لزم كل من فضل أبا بكر وعمر على علي، كما أن التشيع قد لزم تفضيل علي على أبي بكر وعمر، وإنما سموا مرجئة، لأنهم أرجأوا علياً، أي أخروه وقدموا أبا بكر عليه، فهذا اللقب لازم لكل من ذهب هذا المذهب، من أي الفرق كان"(4).

ثم ذكر أبيات محارب بن دثار(5)، زاعماً أن إرجاءه هو تأخير علي وتقديم أبي بكر، ثم قال: "ومن ألقاب فرقهم، أنهم أهل السنة والجماعة، وهم على أصلين، يقال لهما: أصحاب الحديث، وأصحاب الرأي"(6)

ثم ذكر من فرقهم- بزعمه- الحشوية والمشبهة والشكاك والمالكية والشافعية والجهمية، في خلط يذكرك بخلط المستشرقين(7).

وما ذكره هذا الشيعي يصحح ما قلناه، من التفريق بين المرجئة الأولى وبين الإرجاء العام، الذي موضوعه الإيمان والكفر، لكنه لما لم يتضح له الفرق بينهما، جاء بهذا الخلط حتى أنه نفى أن يكون للإرجاء علاقة بقضية الإيمان والعمل، وحصره في تأخير علي عن الشيخين فقط، ولكن من عرف ملته لم يفجأه ذلك منه.

صحيح أنه لا يقال: مرجئي شيعي، أو مرجئي رافضي، ولكن على أي معنى من معاني الإرجاء؟!

أما على معنى إرجاء المرجئة الأولى فحق وهذا ما قررناه، وأما على الإرجاء العام فإنه يقال: شيعي مرجئي، و رافضي مرجئي، ولا مانع عقلاً من أن يكون الرجل غالياً في علي، معادياً للشيخين، وهو مع ذلك لا يرى أن العمل من الإيمان أو أن المعاصي تضر صاحبها. وهذا هو حال بعض فرق الشيعة.

يقول الملطي في كتابه، الذي هو منقول عن الإمام خشيش بن أصرم في باب ذكر الروافض وأجناسهم ومذهبهم: "ومنهم صنف يقال لهم: المغيرية، زعموا أنه من ظلم نفسه من عترة علي، فلا حساب عليه ولا عذاب ولا وقوف عليه ولا سؤال، وإن ترك الفرائض وركب العظائم وأشرك بالله، وزعموا أن أبا طالب في الجنة.."(8)

فهؤلاء لا شك يقال فيهم شيعة مرجئة.

والمؤمن عند الشيعة ليس من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وليس دخول الجنة عندهم مبنياً على فعل الواجبات وترك المحرمات، بل الإيمان عندهم من آمن بعلي إماماً معصوماً، تتلقى منه وحده أحكام الدين و تتبع أقواله وأعماله، وتكفير الخطايا عندهم هو اعتقاد أن علياً هو "باب حطة" تأويلاً لقوله تعالى: {وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم} .

هذه خلاصة ما في كتبهم، التي لا يتسع المجال للتفصيل فيها، وما تزال هذه عقيدتهم حتى في هذا العصر.

يقول أحد المصنفين في الإيمان منهم: ".. إن المؤمن الذي يدخل باب حطة على الكيفية التي أمره الله بها، وإن الذي يمتنع من الدخول، أو يدخل على خلاف ما أمره الله فهو كافر.

إذا عرفت هذا فاستمع لما يقوله النبي، استمع أيها المسلم، المصدق بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم لما يقوله لك نبيك، ويرويه عنه الثقات من العلماء .. " (1)

ثم ذكر حديثاً موضوعاً لفظه: "علي باب حطة، من دخل منه كان مؤمناً، ومن خرج منه كان كافراً"(2) وقال: "أيها المسلم، قد عرفت معنى باب حطة، وسمعت قول النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد من قوله: أن من اتخذ علياً إماماً بعد النبي، وعمل بأقواله، فهو كالداخل من باب حطة، يعد عند الله وعند الرسول مؤمناً ويغفر الله له ذنوبه، ومن لم يتخذ علياً إماماً، ولم يعمل بأقواله، ولم يتخذ أحكام دينه منه لم يكن من المؤمنين، كما ذكر النبي، فهو عند الله من الكافرين، ولم يغفر له ذنوبه ويعاقبه عليها"(3)

ويقول: "إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليأمر أمته أجمع بالرجوع إلى شخص، ويحثهم على أخذ أحكام دينهم منه، ويحكم بإيمان المتمسك، وكفر المبتعد عنه .. لم يحث على هذا إلا بالنسبة إلى شخص يكون مثله، باتصافه بجميع الأخلاق والصفات الحميدة، وجمعه لجميع العلوم"(4)

ولست في مجال الحديث عن الشيعة، وحقيقة الإيمان عندها، وإنما المقصود أن إطلاقهم وصف المرجئة على أهل السنة عامة- أو على بعضهم- تبع لهذا المبدأ لديهم، فلا بد من معرفة مصطلح كل فرقة، حتى لا يقع المرء فيما وقع فيه من اطلعت على كلامه من المؤرخين والباحثين المعاصرين.

العجب- وكل أمر الشيعة عجب- أن هذا الإرجاء المرفوض في حق علي، الذي يستحق صاحبه عليه الكفر عندهم، هو مشروع محمود في حق الشيخين أبي بكر وعمر، بل هو الدرجة الدنيا من الإيمان عندهم، ويتلوها درجات لا يرتقي إليها إلا من جاز ذلك!! .

وما أصدق ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية عنهم: "إن الذي ابتدع الرفض كان يهودياً أظهر الإسلام نفاقاً، ودس إلى الجهال دسائس يقدح بها في أصل الإيمان(5) .

ولهذا كان الرفض أعظم أبواب النفاق والزندقة، فإنه يكون الرجل واقفاً، ثم يصير مفضلاً، ثم يصير سباباً، ثم يصير غالياً، ثم يصير جاحداً معطلاً" (6)

فهذا السلم الزندقي يبتدئ سالكه بالتوقف في حق الشيخين، فلا يشهد لهما بأنهما أحق من علي بالخلافة، ولا أن علياً أحق منهما، بل يكل أمر الجميع إلى الله، فلا تزال به الرافضة حتى يصبح مفضلاً يفضل علياً عليهما، كما هو مذهب الزيدية- أو كان مذهبهم(7) - ثم يرتقي إلى سبهما وشتمهما متعبداً بذلك، ثم يصير غالياً يكفرهما، ويعتقد أنهما الجبت والطاغوت وصنما قريش، ثم يخرج من الإسلام كلية ويدخل في دين ابن نصير أو قرمط أو العبـيـديـين وأمثالهم، فيعتقد إنكار الشرائع جملة، ويدين بالفلسفة التي وضعتها كل فرقة.

هذا وسيأتي الحديث عن الحسن بن محمد بن الحنفية، ما يزيد أمر المرجئة الأولى والعلاقة بينها وبين الشيعة وغيرها إيضاحاً.

* الإرجاء خارج مذهب الخوارج *

من موقف نفسي إلى عقيدة و مبدأ:

سبق الحديث عن الطوائف والآراء التي ظهرت منذ الفتنة الأولى، وقلنا إن منها طائفة "الشكاك" الذين لم يستطيعوا أن يحددوا لأنفسهم موقفاً معيناً من الخلاف، وخاصة من كان على الثغور البعيدة منهم، وغاية ما كانت هذه الطائفة تشعر به هو الألم الفاجع لما حل بالمسلمين، والأسى البالغ لتفرقهم بعد الاجتماع، فكانت تحن إلى عهد الشيخين وأول عهد عثمان، وتكره أن تسمع أو تفكر في شيء مما حدث بعد.

ومن الطبيعي أن يوجد في الأمة مثل هذا الاتجاه، ومن الطبيعي أيضاً أن يستمر هذا الألم المكبوت متوارثاً لأجيال عديدة، ولهذا عرض لها ما يعرض لغيرها، من تطور وتداخل بفعل التقلبات السياسية والفكرية والمجادلات والخصومات، ولم يكن هؤلاء خوارج، ولا ممن يحب الخوارج، أو يواليهم، بل نجزم أنهم ممن يكرههم ويعاديهم، ولكن يجمعهم بالخوارج تعظيم الشيخين والسخط من الفتنة في الجملة.

غير أن انشقاق المرجئة الأولى عن الخوارج، واكتفائهم بالموقف السلبي من المشتركين في الفتنة دون القطع لهم بجنة ولا نار، قد أوجد بالفعل طائفة أو رأياً قريباً مما عليه هؤلاء، إلا أن هؤلاء لم يصلوا إليه نتيجة بحث عقائدي ولا حوار نظري، كما أنهم لم يدخلوا أنفسهم في مسألة الحكم على الناس أصلاً.

وقد كان طرف الرأي المشترك بينهما هو أنه إذا كان الأمر أمر الخلافة وشأنها، فما لنا لا نقول بإمامة الشيخين اللذين أجمعت عليهما الأمة، وندع شأن من بعدهما، فلا نتقاتل ولا نتخالف من أجلهم.

وإلى هنا تقف هذه الطائفة في حين يذهب أولئك في الحكم على عثمان إلى ما سبق، أما هم فيظلون على هذا الإرجاء السلبي، الذي هو إرجاء شك وحيرة ونفرة من الخوض في القضية، لا إرجاء عقيدة وفكر.

وبخلاف أفكار الخوارج التي لم يدونوها بأنفسهم، بل جمع مأثوراتهم مؤرخون متأخرون(1) - فقد قدر لهذا الإرجاء أن يكتب، والكتابة تحول الرأي إلى عقيدة، ولم يكن غريباً أن يكون الذي كتبه رجل من آل البيت، من ذرية علي رضي الله عنه.

ذلك أن آل البيت ابتلوا بطائفتين متقابلتين: طائفة تنقص قدرهم وتجحد حقهم ولا تقيم لهم حرمة ولا مكانة، و طائفة أخرى أدهى وأمر وهي التي غلت فيهم وألهتهم، حتى أنها أنشأت حركات ثورية ضالة تـنتسب إليهم، و تزعم الدعوة لإمامتهم, والثورة لقيام خلافتهم، كما حصل من ادعاء المختار الكذاب وأمثاله الدعوة لمحمد بن الحنفية(2).

و ظل أئمة آل البيت ينكرون تلك الادعاءات الهدامة علناً، ولكن الهدامين يزعمون للرعاع والأتباع أن ذلك منهم على سبيل "التقية"، وكان طبيعياً أن يتردد الناس إلى آل البيت، ويكاتبوهم سراً أو علناً يسألونهم عن حقيقة الأمر، وكان الجواب يؤكد ويكرر، لكن دون جدوى.

وفي هذا الجو المشحون بالفتن، لم يكن غريباً أن يميل بعض ذرية علي إلى رد فعل عنيف، يجعلهم يقولون علناً: إن إمامة علي نفسها كانت موضع شك، لأن الأمة لم تجتمع عليه، وهذا دفع بعيد للتهمة، وتخلص من  الأزمة التي يعانونها، حيث يخضعون لرقابة شديدة من ولاة بني أمية، في الوقت الذي تدعيهم فيه تلك الفئات الهدامة السري منها والعلني، حتى أن أثر ذلك ظهر في الجانب العلمي البحت، فقد تجنب بعض الرواة الأخذ عنهم، وتجنب بعضهم ذكر أسمائهم في الإسناد.

هذا الموقف النفسي الخانق، هو- في نظرنا- الذي دفع بالإمام العالم الفاضل الحسن بن محمد بن الحنفية إلى كتابة الإرجاء على النحو الذي ستذكره الروايات، وسوف نرى أنه لم يضعه ليؤسس به فرقة أو مذهباً، بل سرعان ما عاد عنه، وندم على أنه خرج ذلك الرأي منه.

قال الإمام أحمد في كتاب الإيمان: "حدثنا أبو عمر قال: حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن زاذان و ميسرة قالا: أتينا الحسن بن محمد، فقلنا: ما هذا الكتاب الذي وضعته؟- وكان هو الذي أخرج كتاب المرجئة- قال زاذان: فقال لي: يا أبا عمر , لوددت أني كنت مت قبل أن أخرج هذا الكتاب ، أو قال : قبل أن أضع هذا الكتاب" (1).

وروى الحافظ ابن عساكر والمزي (واللفظ له) بسنديهما عن عثمان بن إبراهيم ابن حاطب(2) قال: "أول من تكلم في الإرجاء الأول(3) الحسن بن محمد، كنت حاضراً يوم تكلم وكنت في حلقة مع عمي، وكان في الحلقة جحدب وقوم معه، فتكلموا في علي وعثمان وطلحة والزبير فأكثروا، والحسن ساكت ثم تكلم فقال: قد سمعت مقالتكم، ولم أر شيئاً أمثل من أن يرجأ علي وعثمان وطلحة والزبير، فلا يتولوا ولا نتبرأ منهم، ثم قام فقمنا.

فقال لي عمي: يا بني، ليتخذن هؤلاء هذا الكلام إماماً.

قال عثمان: فقال به(4) سبعة رجال رأسهم جحدب من تيم الرباب، ومنهم حرملة التيمي تيم الرباب.

قال: فبلغ أباه محمد بن الحنفية ما قال، فضربه بعصا فشجه، وقال: لا تتولى أباك علياً؟!

قال: وكتب الرسالة التي نبت فيها الإرجاء بعد ذلك"(5)

ويذكر ابن عساكر ما ذكره الإمام أحمد من توبته، وهو ما ذكره محمد بن سعد من قبل، حيث قال في ترجمته: "هو أول من تكلم في الإرجاء".

ثم روى "أن زاذان وميسرة دخلا عليه فلاماه على الكتاب .." وذكر مثل رواية الإمام(6).

على أن الحافظ ابن عساكر ينقل عن الدارقطني ما يؤيد ما ذكرناه عن الحسن، وهو أنه قال: "يا أهل الكوفة، اتقوا الله ولا تقولوا في أبي بكر وعمر ما ليسا له بأهل، إن أبا بكر كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثاني اثنين، وإن عمر أعز الله به الدين"(7).

والكوفة هي موطن التشيع، لا سيما في ذلك الوقت كما هو مشهور !

ويعقب الإمام الحافظ ابن حجر على كلام المزي بعد تهذيبه قائلاً: "قلت: المراد بالإرجاء الذي تكلم به الحسن بن محمد فيه، غير الإرجاء الذي يعيبه أهل السنة المتعلق بالإيمان، وذلك أنه وقفت على كتاب الحسن بن محمد المذكور، أخرجه ابن أبي عمر العدني في كتاب له في آخره قال:

حدثنا إبراهيم بن عيينة عن عبدالواحد بن أيمن قال: كان الحسن بن محمد يأمرني أن أقرأ هذا الكتاب على الناس: أما بعد: فإنا نوصيكم بتقوى الله - فذكر كلاماً كثيراً في الموعظة والوصية لكتاب الله واتباع ما فيه وذكر اعتقاده ثم قال في آخره - : ونوالي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ونجاهد فيهما، لأنهما لم تقتتل عليهما الأمة، ولم نشك في أمرهما، ونرجئ من بعدهما ممن دخل في الفتنة، فنكل أمرهم إلى الله .. إلى آخر الكلام.

فمعنى الذي تكلم فيه الحسن، أنه كان يرى عدم القطع على إحدى الطائفتين المقتـتلتين في الفتـنة بكونه مخطئاً أو مصيباً، وكان يرى أن يرجئ الأمر فيهما.

وأما الإرجاء الذي يتعلق بالإيمان فلم يعرج عليه أحد، فلا يلحقه بذلك عاب والله أعلم"(8)

وكلام الحافظ في معنى الإرجاء الذي كتبه الحسن صحيح، وتدل عليه عبارة المزي "أول من تكلم في الإرجاء الأول"، وعلى هذا القيد يحمل ما نقله ابن عساكر عن الإمام أحمد، وما نقله هو عن ابن سعد وعن أيوب، من أنه أول من وضع الإرجاء أو تكلم فيه عدا من نقل عنهم المزي ذلك.

لكن ينبغي أن نستدرك على الحافظ رحمه الله: "فمعنى الذي تكلم فيه الحسن .. إلى قوله " فلا يلحقه بذلك عاب !! " . فالحق أن العاب يلحق الحسن، من جهة أن كلامه أعم مما خصصه به الحافظ، بل الروايات غير رواية العدني مصرحة بقوله في عثمان وعلي "فلا يتولوا ولا نتبرأ منهم".

ونفي الولاية عن الخليفتين مما يعاب ويبدع به صاحبه بلا ريب، كيف وقد ضربه أبوه وقال: لا تتولى أباك علياً ؟ وندم هو على ذلك ، ولا يكون الندم إلى على خطأ أو خطيئة.

وقد نص الحافظ ابن كثير على ما يغاير مفهوم الحافظ ابن حجر فقال عن الحسن: "كان يتوقف في عثمان وعلي وطلحة والزبير، فلا يتولاهم ولا يذمهم"(9) .

نعم لا يلحقه عاب بعد أن ندم وتاب .

أما الذي يلحقه العاب فعلاً فهم بعض المحدثين أو المعاصرين، الذين ضربوا بهذه النصوص العلمية عرض الحائط، واختلقوا أن الحسن - بل أباه محمداً من قبل - كان فيلسوفاً أو متكلماً، تعمد أن يؤسس مذهباً كلامياً يقاوم به الخوارج .. الخ ، وعلى رأسهم الدكتور علي سامي النشار.

فقد عرض النشار تاريخ الفتنة ونشوء الفرق عرضاً لا يختلف عن عرض أي مؤلف رافضي أو معتزلي، وقد كانت مصادره فعلاً كذلك.

ويا ليته اقتصر على هذه المصادر، إذن لكانت كتابته شيعية واضحة، وسلم من التناقض العجيب الذي وقع فيه، حين يخلط كلام هؤلاء بكلام أهل السنة "بالمعنى العام للكلمة"، فيقرر في صفحة أو مبحث ما ينقضه فيما بعده، بل ربما تناقض في الصفحة الواحدة.

لقد أساء الدكتور النشار إلى التابعي الجليل محمد بن علي بن أبي طالب (محمد ابن الحنفية)، حين نسب إليه تأسيس مدرسة أو مذهب انبثق منه الاعتزال والإرجاء، وأنا أعجب من إساءة الدكتور إلى آل البيت رغم ما يظهره من تشيع شديد، فحين يصف أبا سفيان وابنه معاوية وبني أمية كلهم بالزندقة والجاهلية، والحقد الدفين على الإسلام كدين، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم(1), ويصف عثمان رضي الله عنه بأنه "شيخ متهاو متهالك، لا يحسن الأمر ولا يقيم العدل، يترك الأمر لبقايا قريش الضالة"(2).. إلى آخر هذه المفتريات فإن هذا يتمشى مع منهجه التشيعي الترفضي(3) !!

أما حين يقرر أن العامل الاقتصادي هو أحد أسباب نشأة الفرق ويقول: "فقد كان الاقتصاد إلى حد كبير، أو بمعنى أدق شعور الطبقات المحرومة في عهد عثمان، داعياً إلى قيام التشيع، والتفاف جماهير كبيرة من الفقراء حول علي بن أبي طالب، وتمثل هذا بصورة صادقة حين سوى علي بين أغنياء الصحابة وفقراء المسلمين، مما دعا الزبير بن ا لعوام وطلحة بن عبيدالله إلى الانتفاضة ضد علي، وإثارة الحرب الأليمة ضده"(4) . فلا أدري على أي منهج يسير إلا منهج ماركس ولينين !!

ولنتابع كلام الدكتور بخصوص قضية الإرجاء مقتصرين على فقرات منه:

قال بعد الحديث عن الفتنة ونشوء الفرق من الشيعة وخوارج ومعتزلين الفتنة:

"وفي وسط هؤلاء المعتزلة عن الناس، ظهرت أول مدرسة فكرية في تاريخ الإسلام، وهي مدرسة محمد بن الحنفية الابن الثالث لعلي بن أبي طالب وأكثر أولاده علماً وسمتاً وفضلاً (5)، وقد عبر عن هذه المدرسة باسم المكتب، ولم ينتبه الباحثون إلى أهمية هذه المدرسة الأولى، بالرغم من أهميتها، وبالرغم من أنها تفوق مدرسة الحسن البصري(6) في آثارها في أفكار المسلمين حينئذ، ولم ينتبه الباحثون أيضاً إلى أن نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام إنما كان في المدينة حيث ازدهرت تلك المدرسة ولم يكن في البصرة" (7) .

ولم يشر الدكتور إلى أي مصدر عن هذه المدرسة الموهومة.

ثم تحدث عما لمحمد من أثر فكري، حيث تدعيه كل فرقة حتى الكيسانية والقرامطة، وقال: "ويهمنا الآن أنه كان في مكتب محمد بن الحنفية أو في مدرسته في المدينة ابناه أبو هاشم عبدالله بن محمد .. والحسن بن محمد".

ثم يذكر أقوالاً شيعية واعتزالية في أن أباهاشم هو مؤسس الاعتزال، ويقول: "فمنشئ الاعتزال طبقاً لهذه الرواية هي المدينة لا البصرة".

وينتـقل للحديث عن الحسن وهو الذي يهمنا هنا، قال: "أما ثانيهما، فهو الإمام الحسن بن محمد بن الحنفية المتوفى سنة 101 هـ ، شخصية من أهم شخصيات الفكر الإسلامي الأول.

ويذكر عبدالجبار: لم يكن الحسن بن محمد بن الحنفية مخالفاً لأبيه وأخيه إلا في شيء من الإرجاء أظهره .

وقد كتب أول كتاب في العقائد في الإسلام(8) ، و هو كتاب في الإرجاء .

وكان أكبر تلامذته غيلان بن مسلم الدمشقي(1) ، فقد حمل عنه الإرجاء في الشام، كما أن الإمام أبا حنيفة النعمان قد تأثر به، وإن لم يكن قابله وتـتـلمذ عليه، فقد نفذ إرجاء الحسن إليه وردده أبو حنيفة كما هو.

وقد كان لكتاب: "في الإرجاء"(2) أثر كبير في ا لعالم الإسلامي.

تلك هي المدرسة الإسلامية الفكرية الأولى ، التي خرج أكبر رواد الفكر الإسلامي الأولين منها"(3)

وبعد استطراد لا ضرورة له، كرر فيه القول بوصف خلفاء بني أمية بالجاهلية، والعمل لهدم الإسلام وتحطيمه .. إلخ, عاد إلى موضوع المكتب فقال: "وفي هذا المكتب، وفي المدينة نفسها، تبلورت الفكرة التي عرفت باسم القدرية .. كان معاوية يعلن الجبر في الشام .. ورأى محمد بن الحنفية وابنه أبو هاشم، وهما أصحاب  البيت الذي سلب الحق، أن يعلنا في هدوء الفكرة المضادة: إنكار القدر وإنكار إضافته إلى الله"(4)

وهو يؤيد هذه التهمة الخطيرة بأن معبداً الجهني الذي يكتبه الدكتور (الجهمي): "إنما كان تلميذاً وأثراً لمحمد بن الحنفية".(5)

ويحاول الدكتور بمصدر وبدون مصدر أن ينسب كل الضلالات والبدع التي نشأت في القرن الأول - عدا الخوارج - إلى محمد بن الحنفية وابنيه، ظاناً أنه بذلك يرفع من قيمة آل البيت، حين يرجع إليهما فضل تأسيس ما أسماه الفكر الفلسفي الإسلامي!!

والواقع أن هذا بعينه هو ما تذهب إليه الشيعة، فهم لفرط جهلهم بما يعظم أهل البيت وما يشينهم، ولاعتقادهم تلك الضلالات ينسبونها جميعاً إلى علي من طريق نسبتها إلى ابنه محمد وابنيه، وهذا ما فعله صاحب منهج الكرامة من قبل.

وقد رد شيخ الإسلام على هذا الهراء بأنه من الممتنع أن يكون أبو هاشم واضع الاعتزال والحسن واضع الإرجاء, و كلاهما يأخذ ذلك عن أبيه, لأنهما مذهبان متناقضان، كما أن كلاً منهما قد نسب إليه الرجوع عن ذلك(6) .

وأعجب من ذلك أن النشار نفسه قال بعد حوالي عشر صفحات فقط: "نشأت القدرية إذن، واعتنقها كثيرون من المسلمين، خارجة عن مذهب أهل السنة والجماعة منذ القدم، وقاومها أهل السنة والجماعة منذ القدم أيضاً".(7)

فهل ابن الحنفية وابناه خارجان أيضاً عن أهل السنة والجماعة أم ماذا !!

إن هذه هي نتيجة الاستقاء من مصادر متناقضة دون تمييز .

والخوارج هي الفرقة الوحيدة التي سلمت من نسبتها إلى مكتب ابن الحنفية!! ولكن الحديث عنها جر إلى إلصاق الإرجاء الغالي الصريح بهذا المكتب, يقول النشار متابعاً حديثه: "لقد ضج المجتمع الإسلامي بالخوارج و بآرائهم ومع ذلك فقد كانت تلقى صدى في عقول الكثيرين فاستجابوا لها، ولم يعرف الخوارج "التقية" كما عرفها الشيعة فانقضوا على مخالفيهم يفشون فيهم القتل الذريع ووجدت دعوتهم في عدم إيمان المخالف أكبر صدى، ووجد الإمام الحسن بن الحنفية أن الذين قاتلوا جده مستندين إلى أصل ظاهره الصدق وباطنه الإفك "الحكم لله لا لعلي" ينشرون أصلاً آخر خطيراً لقتل المسلمين وهو أن لا عقد بدون عمل، فنفر لمجادلتهم وأعلن أنه لا يضر مع الإيمان معصية، وكان يكتب الكتب للأمصار ويعلنها للناس، وبينما كان منطق الخوارج أن مرتكب الكبيرة كافر يجب قتله كان الحسن يعلن أن االطاعات وترك المعاصي ليست من أصل الإسلام حتى يزول بزوالها"(8) .

ونلاحظ أنه مع هذا الظلم الفاحش للحسن، قد نسب إليه في آن واحد مذهب المرجئة الغلاة، والمرجئة الفقهاء "الحنفية" دون أن يفطن، فإن القائلين: إنه لا يضر مع الإيمان معصية هم الغلاة الذين كفرهم السلف، وأما من قال: إن الطاعات ليست من أصل الإسلام لكنها شرائعه، وأن ترك المعاصي مطلوب والعقوبة عليها ثابتة، فهم مرجئة الفقهاء وهم بريئون من الأول.

والنشار إنما ذكر ذلك تخلصاً، لينتـقل إلى الحديث عن أبي حنيفة، ومن ثم تابع كلامه قائلاً: "وهنا ظهرت أول فرقة من أهل السنة، ويمثلها بعد الحسن بن محمد، مجموعة من العلماء، على رأسهم أبو حنيفة النعمان، المتوفى 150 هـ ، لم يكفروا أصحاب الكبائر ولم يحكموا بتخليدهم في النار .. "(1)

وهنا سؤال لا بد منه وهو: كيف تكون هذه هي أول فرقة من أهل السنة لا تكفر صاحب الكبيرة ؟ أمعنى هذا أن الصحابة والتابعين كانوا يكفرونه، أم المقصود الأولية المطلقة، فلا يكون الصحابة والتابعين معدودين عنده من أهل السنة ؟ .

ثم إن هذا ليس هو الإرجاء، ولم يسمه أحد كذلك إلا الخوارج ، أما ما شرحه هو في الأسطر السابقة فليس هذا، فذلك إرجاء، وهذا جزء من عقيدة أهل السنة في الإيمان.

هذا فوق نسبته مذهب المرجئة الحنفية إلى الحسن وهو منه براء, وقد عاد فأكد ذلك قائلاً: "أما أن أبا حنيفة كان مرجئاً فهذا حق، ولكنه كان مرجئاً- كما سنرى بعد- إرجاء سنة، ولم يخرج بإرجائه عن الجماعة الإسلامية على الإطلاق . . . " (2)

ويقول: "وقد نادى أبو حنيفة بهذا المذهب، لكي يحمي المجتمع الإسلامي من عقيدة الخوارج التي كانت تنادي بأن الإيمان عقد وعمل(3)، فمن لم يعمل لم يكن مؤمناً .. فقام الحسن بن الحنفية بدعوته وتابعه عليها أبو حنيفة".

ثم يضيف مؤكداً: "إن مرجئة أهل السنة قد نشأوا على يد رجل من أهل البيت، وهو الحسن بن محمد بن الحنفية، وكان الحسن يرمي إلى حماية المسلمين- شيعة كانوا أو جماعة- من بطش الخوارج، وكانت حركة الأزارقة في أوجها إبان الوقت، ثم نادى بالفكرة نفسها أبو حنيفة . . . "(4)

ويقول: "وينبغي أن نلاحظ أن مرجئة أهل السنة يختلفون تماماً عن بقية المرجئة، وهؤلاء الآخرون يقولون: إن من شهد شهادة الحق دخل الجنة، وإن عمل أي عمل، وكما لا ينفع مع الشرك حسنة، كذلك لا يضر مع التوحيد معصية .. "(5) إلخ .

وهذا كما ترى يناقض تماماً ما قرره هو قبل قليل، من أن الحسن "أعلن أنه لا يضر مع الإيمان معصية". فيلزمه أن يجعل الحسن من المرجئة الأخيرين، أي غير مرجئة أهل السنة، أو أن ينفي عنه ما اتهمه به من القول.

والحق - كما أوضحنا سابقاً - أن الحسن بريء من هذا وذاك، وأن إرجاءه لا علاقة له بالإيمان أصلاً.

وأما أن أولئك النفر الذين سمعوا كلام الحسن وقرأوا كتابه قد اتخذوا ذلك ديناً، كما قال عم الراوي (6) فحق ومتوقع، وهذه هي الطائفة التي يلحقها الذم والعيب، والتي لا شك أن من السهل والطبيعي أن تندمج في فرق المرجئة، أي أن تخضع لسنة التطور نفسها التي عرضناها سابقاً.

وهنا يجدر أن نذكر عالماً آخر، ينطبق عليه ما ينطبق على الحسن من الوقوع في هذا الإرجاء، من غير اتباع لرأي الخوارج ولا تعمد تأسيس بدعة، وهو "عون بن عبدالله بن عتبة بن مسعود" .

والظاهر أن هذا الاعتقاد لم يدم طويلاً، حيث استدعاه أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز وكلمه في ذلك، فاستبان له الخطأ وعاد عن قوله، وقال في ذلك شعراً:

 

لأول ما نفارق غير شك                   نفارق ما يقول المرجئونا

وقالوا مؤمن من آل جور                            وليس المؤمنون بجائرينا

وقالوا مؤمن دمه حلال                وقد حرمت دماء المؤمنينا(7)

 

ومن أهمية إرجاء عون، أنه سطر لنا في هذه الأبيات شيئاً مما تعتقده المرجئة الأولى، وهي أبيات يصعب فهمها وتفسيرها على من لم يفهم حقيقة هذا الإرجاء من غيرها.

والتفسير الذي يتناسب مع عقيدة القوم، أنهم يعتقدون في عثمان وعلي الإيمان ولا يخرجونهما من الملة، لكنهم يطعنون في إمامة علي، ويصفونه بالجور في السيرة، حيث سفك من الدماء – بزعمهم – ما سفك .

وكذلك يرون مع إيمان عثمان أنه دمه كان حلالاً، لأنه عدل عن سيرة الشيخين وارتكب ما ارتكب بزعمهم!!

هذه هي عقيدتهم التي نقضها عون، والتي ربما لم يتبين له لوازمها البعيدة إلا بعد مقابلته لعمر، وقد ردها بقوله:

                   و قالوا مؤمن من آل جور                  و ليس المؤمنون بجائرينا

والمقصود هنا علي، أي أن الشهادة له بالإيمان تقتضي منكم ألا تصفوه بالجور، لا سيما والأصل الذي انشقوا عنه "الخوارج" يرى التكفير بالجور كأي معصية , فمن أثبت له الإيمان، لزمه أن ينفي عنه الجور.

وأما عثمان، فكيف تثبتون له الإيمان، ثم تقولون: إن دمه حلال، ودماء المؤمنين حرام معصومة ؟!

هذا ما ظهر لي و الله أعلم .

بقي أن نشير في ختام هذا الموضوع إلى بعض ما ورد عن الإرجاء مما لا يتضح تفسيره إلا على الإرجاء الأول. ومن ذلك ما رواه عبدالله بن أحمد عن أبيه بسنده إلى الأوزاعي: "كان أبو سعيد الخدري يقول: الشهادة بدعة، والبراءة بدعة، والإرجاء بدعة"(1).

وهو منقطع الإسناد، لكن رواه في موضع تال بسند صحيح متصل إلى جماعة من خيار التابعين، قال: "حدثني أبي حدثنا وكيع عن سفيان عن سلمة بن كهيل قال: اجتمعنا في الجماجم: أبو البختري وميسرة وأبو صالح و ضحاك المشرقي وبكير الطائي فأجمعوا على أن الإرجاء بدعة والولاية بدعة والبراءة بدعة والشهادة بدعة"(2) .

ورواه أبو عبيد عن بعضهم(3) .

وقد فسر الإمام أحمد نفسه ذلك، فيما رواه عنه الخلال في باب ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إسحاق قال: "سألت عبدالله قلت: الشراة(4) يأخذون رجلاً فيقولون له: تبرأ من علي وعثمان وإلا قتلناك، كيف ترى أن يفعل؟

قال أبو عبدلله: إذا عذب وضرب فليصر إلى ما أرادوا، والله يعلم منه خلافه.

أخبرنا أحمد بن محمد قال: حدثنا أبو طالب قال: سألت أبا عبدالله عن البراءة بدعة والولاية بدعة والشهادة بدعة؟

قال: البراءة: أن تبرأ من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. والولاية: أن تتولى بعضاً(5) وتترك بعضاً. والشهادة: أن تشهد على أحد أنه في النار"(6)

فقد فسر الإمام هذه الألفاظ عدا الإرجاء، فلم يسأله عنه أبو طالب، لكن الثلاثة كلها تتعلق بالصحابة، فهو أيضاً كذلك وتفسيره: "أن ترجئ أمر علي وعثمان فلا تتولاهما ولا تتبرأ منهما" على ما سبق.

وهذا ما كانت الخوارج - أو بعضها- تقبله ممن تظفر به، بخلاف من أظهر موالاتهما وأقر بفضلهما، فقد يكون مصيره القتل .

كما أورد للإمام أحمد عبارة قد يتعسر فهمها وهي قوله في كتاب "السنة" المطبوع مع كتاب "الرد على الزنادقة" : "إن الخوارج هم المرجئة"(7)

 وتفسيرها بإرجاء الصحابة هو ممكن، أما الإرجاء العام المتعلق بالإيمان فلا يمكن- اللهم إلا إذا كانت العبارة ناقصة أو محرفة- وذلك بأن يقال: إن الخوارج يتهمون السنة بأنهم مرجئة لأنهم لا يقطعون على صاحب الكبيرة المعين بأنه خالد مخلد في النار.

فرد عليهم الإمام بأنهم هم المرجئة، لأنهم لا يقطعون بدخول عثمان وعلي الجنة من ثبوت الخبر فيهما بدخولها، بل هم إما يكفرونهما - كحال غلاتهم - أو يرجئون أمرهما ولا يقطعون, كحال مرجئتهم.

فكانوا بذلك أحق بهذا الاسم من أهل السنة، لأن من يشك في أمر ثابت جلي هو أولى بهذا اللقب المذموم، ممن يتوقف في أمر لا علم له به.

هذا ما ظهر لي والله أعلم.

(1) من مقدمة الرد على الجهمية والزنادقة ، للإمام أحمد رحمه الله.

(1) انظر: حلية الأولياء (5/108-115) ، وتهذيب الكمال ، لوحة 1008

(1) منقول من الحلية الموضع السابق.

(1) هذا هو الراجح في تفسير آية: "كان الناس أمة واحدة" [البقرة: 213] ، انظر: الطبري (2/336-337) ، وابن كثير (1/314-365) ، وانظر إغاثة اللهفان (2/203) ، ويدل له ما في الحديث الآتي "وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم" الحديث.

(2) (البخاري) التفسير (8/667). (مع الفتح).

(1) أي أعطيته ورزقته.

(2) الحديث (2865) ، وهو حديث جامع عظيم له بقية ستأتي بإذن الله ، ووجه دلالته أنهم ظلوا على التوحيد قروناً – ورد في بعض الروايات أنها عشرة – حتى اجتالتهم الشياطين فأوقعتهم في الشرك ، فهذا الجنس البشري عامة، أما الفرد الواحد فإنه يولد على الفطرة لكن أبويه هما اللذان يصرفانه عنها.

(3) هو أول الحديث السابق في قصة نوح (8/667).

   (4) هو أول من أدخل الأصنام إلى بلاد العرب مغيراً بذلك ملة إبراهيم عليه السلام. أنظر خبره في البخاري (6/547) و (8/283) ، ولمزيد المعرفة عن الأصنام أنظر:    

      إغاثة اللهفان (2/203-222).

  (5) أنظر عن تفسير آية المائدة فيها ، (البخاري) (8/283) ، وأنظر الآيات في سورة الأنعام (136-145).

(1) هذا هو الحق الذي لا مرية فيه والذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة. أما الرد على مزاعم المتكلمين قديماً من أن أول واجب هو النظر أو القصد إلى النظر أو الشك. ومنهج بعض المعاصرين الذين يقتصرون على الدعوة إلى تشريعات الإسلام الاقتصادية والاجتماعية من غير بيان علاقتها بأصل التوحيد – فهذا ما ندعو الله أن ييسر لنا إخراجه قريباً.

(2) انظر: العبودية ، ص 170 ، المكتب الإسلامي ، ومواضع كثيرة من كتب شيخ الإسلام.

(3) مجموع الفتاوى (28/24).

(4) المصدر السابق (28/396). ومثله في بدائع الفوائد (2/15).

(5) طريق الدعوة في ظلال القرآن ، ص 39.

(1) رواه الإمام أحمد ، المسند (2/92) وشرحه الحافظ ابن رجب شرحاً قيماً ، وهو صحيح ، وروى البخاري بعضه تعليقاً. أنظر: الفتح (6/98).

(2) رواه البخاري الإيمان (1/75) "الفتح"

(3) الفتح (1/23) وسيأتي بتمامه.

(4) الفتح (1/20)

(5) كما هو لازم مذهب المرجئة الغلاة قديما ؛ الذين قالوا: إن الإيمان هو مجرد المعرفة أو مجرد التصديق. كما سيأتي تفصيله.

وهو مذهب بعض العصريين الذين لا يتعدى الإيمان عندهم النظرية الفلسفية المجردة.

(6) طريق الدعوة في ظلال القرآن (1/137).

(1) هو جزء من حديث عياض بن حمار الآتي تخريجه قريباً.

(2) أنظر نص الكتاب في صحيح البخاري (1/32).

(3) أنظر: البداية والنهاية (392) بل واجهه بها المغيرة بن شعبة كما في الصفحة نفسها.

         (4) كان مولد الرسول صلى الله عليه وسلم موافقا لعصر الإمبراطور ( جستنيان ) صاحب القوانين الرومية المشهورة باسمه , وهي الحقبة نفسها التي غيرت العقيدة والشريعة ابتداء  

             بمجمع نيقية (325م) انظر عنها محاضرات في النصرانية (146) فما بعدها, طبعة الرئاسة العامة للافتاء (1404) هـ

(1) وكذلك العالم الجني كما صورته سورة الجن.

(2) هؤلاء من أشهر حكماء الهند وأوربا والفرس على الترتيب.

(3) من هؤلاء ورقة بن نوفل ، وقد تنصر : البخاري (1/23) ، وعمرو بن زيد بن نفيل وقد بقي على ملة إبراهيم : البخاري (7/142) ، وممن أدركته رحمة الله سلمان الفارسي رضي الله عنه : انظر: الفتح (7/92).

(4) حديث: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها" : مسلم رقم (2889).

(1)  انظر: ابن كثير (4/255).

(2) كما في حديث: "عرضت على الأمم ، فرأيت النبي ومعه الرهط ، والنبي ومعه الرجل والرجلان ، والنبي ليس معه أحد.." مسلم رقم (374).

(3) رواه مسلم رقم (2865) ، وقد سبق أوله ، ص 25.

(1) الفتح (1/23).

(2) يقول تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً).

(3) الفتح (1/23).

(4) سبق تخريجه قريباً ، ص 31.

(5) مسلم رقم (746) ، المسند (6/53-54).

(6) هذه الروايات جمعها ابن كثير عند تفسير هذه السورة (8/280-288).

(7) البخاري (8/584)..

(1) البخاري (7/165) ، ونقل الحافظ عن غيره روايات فيها تفصيلات أكثر.

(2) الفتح (1/349).

(3) هذا الحديث يدل على نزول الملائكة في السحاب ، وقد ورد ذلك صريحاً في حديث عائشة رضي الله عنها؛ "أن الملائكة تنزل في العنان – وهو السحاب – فتذكر الأمر قضي في السماء ، فتسترق الشياطين السمع، فتسمعه ، فتوجه إلى الكهان ، فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم": (6/304). وهذا يبين أن استماع الشياطين لا يستلزم صعودها إلى جرم السماء نفسه. والله أعلم.

(4) العجيب أنه في لحظة إفاقته من هذا الموقف الكريب ترتقي نفسه الكريمة إلى أعلى درجات التسامح والعفو والأمل ، فلله من نفس ما أكرمها ، ومن خلق ما أعظمه. والحديث في الفتح (6/313).

(1) اختلف الشراح في سبب احمرار وجهه صلى الله عليه وسلم ، والظاهر أن سببه التأثر في استعجال الصحابة رضي الله عنهم للنصر المشعر باستيطائهم لوعد الله مع ما أمروا من الصبر واليقين.

(2) (7/165).

(3) أنظر: دلائل النبوة للبيهقي (2/80-85) ، والسيرة النبوية لابن كثير (2/43-72) ، والروض الأنف (2/101-129) ففيها تفصيل قصة الشعب وما تخللها من أحداث ، وأصل القصة في الصحيح في قوله صلى الله عليه وسلم: "حيث تقاسموا على الكفر" (7/83) ، (11/282) لكن ليس فيها ذكر الشعب ، بل ذكر أن ذلك في الغزو. والله أعلم.

(1) البخاري (7/173) ، ومسلم رقم (2474) ، وهو في مسلم برواية أخرى قبل هذه أتم ، وفيه زيادات مفيدة.

(1) أنظر: الإيمان لأبي عبيد ، ص 54 ، وأما استدلال المرجئة على أن الصلاة ونحوها ليست من الإيمان بدليل أنه وجد تاماً قبل فرضيتها فشبهة سيأتي تفصيل الرد عليها في موضعها بإذن الله.

(1) هذا مع العلم أن أصول الفرائض نفسها كانت مطلوبة ؛ فقيام الليل كان فرضاً ، وإنفاق شيء من المال كان فرضاً ، وهذا قبل أن تفرض الصلاة والزكاة المعروفتان ، وكذا أصل اجتناب المحرمات ، وأصل الأمر بالمعروف وغيرها.

وغرضنا ليس ترجيح هذا الوجه من وجوه الرد على المرجئة ، وإنما هو بيان خطأ المرجئة أو غيرهم في فهم كلام من رجحه أو قال به من السلف.

(2) الفتح (8/325) ، والمسند (1/4).

(3) الفتح0 (7/232).

(1) ومن التشابه بين المعركتين أن عدد المؤمنين فيهما بضعة عشر وثلاثمائة كما في صحيح البخاري (7/290).

(2) الظلال ، الأنفال ، ص 1431 ، طبعة الشروق.

(3) نزلت هذه الآية ضمن آيات الغزوة ، ونزل في أول السورة صفات المؤمنين الحقيقيين.

(4) الظلال ، الأنفال ، ص1432-1433 ، ويلاحظ أن المؤلف رحمه الله ذكر هذه السمات عقب نقله عن ابن القيم رحمه الله مراحل الجهاد.

(1) الظلال ، ص 1434 ، وقد ذكر الرابعة ، ص 1434 وهي: الضبط الاجتماعي للعلاقات بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات.." إلخ. وانظر عما سبق ، ص 1509 من الظلال.

(2) أنظر البخاري في كتاب المغازي (3/354 ، 361 ، 372 ، 373).

(3) من آية 121 إلى 179 ، وأنظر: الفتح ، المغازي (7/347).

(1) الظلال ، ص 457 ، 459.

(2) هذا بغض النظر عن الدوافع الأصلية للفلسفة والتصوف.

(1) انظر : الفتح ، المغازي (7/ 392 ، 399) ، ومسلم ، الجهاد ، رقم (1803 – 1805).

(2) الظلال ، الأحزاب ، ص 2831.

(3) الظلال ، الأحزاب ، ص 2832.

(4) أنظر : الفح (7/392 ، 204).

(1) انظر أسانيدها في الفتح (7/397) فهي صحيحة بمجموع الطرق.

(2) الحديث رواه مسلم ، الجهاد رقم (1788) ، وذكر له الحافظ طرفاً أخرى فيها زيادات (7/400-401).

(3) الظلال ، تفسير الأحزاب ، ص 2843.

(4) ولم يكن حينئذ قد بلغ هذه الغاية إلا قلب واحد هو قلب الصديق رضي الله عنه.

(1) الدنية: بمعنى الهوان.

(2) أنظر : البخاري الشروط 331. وأصل الكلام لعمر رضي الله عنه يحدث به المسور ومروان في حديث طويل.

(3) الرواية الأولى للإمام أحمد المسند (1/31) ، والأخرى في الصحيح (8/582) التفسير.

(4) طوينا الفتح وحنين لضيق المجال ولسبب منهجي مهم ؛ وهو أن هاتين الغزوتين أدخلتا في الإسلام جموعاً جديدة ، وليستا للتمحيص والتمييز كالحال في أحد والخندق ثم تبوك ، ونحن نهتم أساساً بمراحل البناء الإيماني في الجماعة المؤمنة نفسها.

(1) مما يدل على ذلك أنه لم يحصل قبلها مثلما حصل فيها من عقوبة للمتخلفين وفضح للمنافقين.

(3) هذا هو العدد الأقرب للصحة من جهة الرواية. أنظر: الفتح (8/17) ، ومن جهة النظر أيضاً.

(3) كما في حديث كعب نفسه ، الفتح (8/114)

(4) كما قال كعب رضي الله عنه في الحديث المشار إليه.

(5) هذه أسماء السورة: براءة أو التوبة ، وهي كلها مشتقة مما فعلته السورة بالمنافقين من الفضح والبحث والخزي.. إلخ. أنظر: مسلم رقم (2031) ، وفتح القدير ، الشوكاني (2/231-332).

(1) سيأتي تفصيل هذا في الباب الثالث.

(2) انظر : الطبري (10/171) ، وابن كثير (4/111) ، وفتح القدير (2/378).

(3) كما في الآية: ولكنه إيمان ضعيف متذبذب ، ولهذا تاب بعضهم وندم من ساعته ، كما ورد في بعض الروايات.

 (4) انظر : الجامع لأحكام القرآن (8/ 197) عند هذه الآية.

 (5) وأعني بهم طوائف الحلولية وغلاة الصوفية والفرق الباطنية وعباد الموتى ودعاة الشرك بكل ضروبه ، وسائر  الزنادقة والمنافقين الذين ظهر لهم في عصرنا أسماء وأشكال جديدة ؛ كالاشتراكيين والبعثيين والقوميين والعلمانيين وسائر المنضمين أو المؤمنين بالأحزاب المرتدة والنظريات الكفرية ، و كذلك دعاة الإباحية المطلقة المنتسبين إلى النظريات الإجتماعية والأدبية والنفسية والتربوية وأمثالها.

(1) ذلك أن تصحيح العقيدة أصل ضروري وواجب حتمي لا يحل السكوت عنه ، أما الحكم على الأعيان فأمر تطبيقي تبعي له شروطه وضوابطه ، ويجوز الخلاف فيه ما دام اجتهادياً.

(2) كما تمحلوا للحلاج وابن عربي وابن الفارض وأشباههم.

(3) وكيف يكفرونهم أو يعادونهم وذلك يخالف ما تنص عليه الدساتير من كون الوحدة الوطنية مبدأ مطلقاً ، وأن الاخلال بها خيانة عظمة !! ووسائل الإعلام تصنع من أبناء هذه الطوائف أبطالاً وتسميهم زعماء الاستقلال ورواد الإصلاح ، والمناهج الدراسية كذلك!!

(4) وأعظم أعيادهم الوطنية هو ما يحتفلون فيه بذكرى هذه الدساتير ، والقوانين ، وتأسيس الأحزاب ، وقيام الثورات !!

(5) وإذا وعظ الواعظ أو خطب الخطيب فذكر بعضاً من هذه الأمور ووصفها بالمعصية والفجور ثار عليه من يثور ، واتهموه بنقص الحكمة والتشهير بالناس وتهيج العامة على ولاة الأمور !!

(6) وأين استهزاء منافقي تبوك بالقرآن من استهزاء منافقي عصرنا، كصاحب كتاب:"أبو هريرة شبح المضيرة"؛ والمضيرة نوع من الطبيخ، زعم المؤلف أخزاه الله أن أبا هريرة رضي الله عنه كان مغرماً بأكله وأن معاوية رضي الله عنه استغل ذلك , فكان يضعه لأبي هريرة لكي يصنع أبو هريرة أحاديث في فضائل معاوية وينسبها إلى رسول صلى الله عليه وسلم ، ومع هذا فقد ظل مؤلفه "أبو رية" معدوداً في علماء العصر وكتابه المعتبرين ، وما صنع به علماء الأرجاء في الأزهر وغيره شيئاً ودافعت عنه جريدة الشرق الأوسط وغيرها !!.

(7) وهو الاتجاه المسمى "العصرية MODERNISM" وهي زندقة عصرية يروّج لها عصابة من الكتّاب يتسترون بالتجديد ، وفتح باب الاجتهاد لمن هب ودب وكتاباتهم صدى لما يدور في الدوائر الغربية المترصدة للإسلام وحركته ، وربما يكشف الزمن عن صلات أوضح بينهم وبينها – كلهم أو بعضهم – وأصول فكرهم ملفقة من مذاهب المعتزلة والروافض وبعض آراء الخوارج مع الاعتماد على كتب المستشرقين والمفكرين الأوربيين عامة ، وهم في كثير من الجوانب امتداد للحركة "الإصلاحية" التي ظهرت في تركيا والهند ومصر على يد الأفغاني ومدحت باشا وضياء كول آلب وأحمد بهادر خان وأضرابهم. وتتلخص أفكارهم في:

1- تطويع الإسلام بكل وسائل التحريف والتأويل والسفسطة لكي يساير الحضارة الغربية فكراً وتطبيقاً.

2- إنكار السنة إنكاراً كلياً أو شبه كلي.

3- التقريب بين الأديان والمذاهب ، بل بين الإسلام وشعارات الماسونية ‍‍

4- تبديل العلوم المعيارية "أصول الفقه ، وأصول التفسير ، وأصول الحديث" تبديلاً تاماً ، وفرّعوا على ذلك إنكار الإجماع والاعتماد على الاستصحاب الواسع والمصالح المرسلة الواسعة – كما يسمونها – في استنباط الأحكام واعتبار الحدود تعزيزات وقتية.

5- الإصرار على أن الإسلام ليس فيه فقه سياسي محدد وإنما ترك ذلك لرأي الأمة ، بل وسعوا هذا فأدخلوا فيه كل أحكام المعاملات فأخضعوها لتطور العصور وجعلوا مصدرها الاستحسان والمصالح الواسعة.

6- تتبع الآراء الشاذة والأقوال الضعيفة والرخص واتخاذها أصولاً كلية. وهم مع اتفاقهم على هذه الأصول في الجملة تختلف آراؤهم في التطبيقات، وبعضهم قد يحصر بحثه وهمه في بعضها، وهذا الاتجاه على أية حال لا ضابط له ولا منهج ، وهدفه هدم القديم أكثر من بناء أي شيء جديد، وإنتاجه الفكري نجده في مجلة المسلم المعاصر، ومجلة العربي، وكتابات حسن الترابي، ومحمد عمارة، ومحمد فتحي عثمان، وعبد الله العلايلي، وفهمي هويدي، وعبد الحميد متولي , وعبد العزيز كامل، وكمال أبو المجد، وحسن حنفي، وماهر حتحوت، ووحيد الدين خان. وإنما رأيت ضرورة التنبيه عنهم لخطورتهم واستتار أمرهم عن كثير من المخلصين.

(1) البخاري (7/386).

(2) البخاري (11/282) ، ومعنى يضع: يرعى ، أو معناه: ما يخرج منه حال التغوط ، هكذا ذكره الحافظ في الفتح (11/290).

(1) مسلم رقم (3011) والقسي جمع قوس ، كانوا يخبطون بها الشجر ليأكلوا ورقه ، والمراد أن أحد الصحابة أخطأته تمرته ولم يعطها إلا بعد أن أقام البينة أنه لم يأخذها.

(2) مسلم رقم (2967).

(3) البخاري (7/353).

(4) البخاري (7/354) ، ومعنى يهدبها: يجنيها ويقطفها.

(5) برد: ثبت واستقر.

(6) كذا ، والصواب: فقال أبوك – كما نبه عليه الحافظ.

(7) البخاري (7/254).

(8) البخاري (7/43 ، 52).

(9) البخاري (7/60).

(10) المسند: (5/173).

(1) الزهد للإمام أحمد 158 مطبعة أم القرى بمكة ، والحلية (1/133) ، وانظر: منهاج السنة (3/121).

(1) سبق تخريجه

(2) من أكثر الناس حديثاً عن هذه القضايا شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله. وستأتي النقول عنهما في الفصل الثاني.

(3) بعضها مني – وهو قليل - ، وبعضها من كلامه في صفحات أخرى مجاورة.

(1) طريق الدعوة في ظلال القرآن 153-162 ؛ مقتطفات.

(1)     رواه الإمام أحمد والشيخان , وهذا لفظ مسلم (2658)

(2)     هذا هو تفسير الإمام الطبري (30/115) ,وتبعه ابن كثير

([2] )   رواه الطبري , الموضع نفسه

([3] )   أي المشقة والكدح والعناء , وهو الذي اختاره الإمام أحمد رضي الله عنه وقال : هو أظهر – أي من القول بأن المعنى : " منتصبا " . انظر : بدائع الفوائد (3/113) .

([4] )  رواه مسلم رقم (223) الطهارة .

([5] )  رواه الإمام أحمد (4/345), وأبو داود (4950) , وصححه شيخ الإسلام ( كما سيأتي في كلامه )

([6] )   انظر  : الطبري  (15/154)  , وعنه نقل ابن كثير

([7] )   التي سنعقد لها مبحثا خاصا في الباب الأخير

([8] )   متفق عليه من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه , انظر : الفتح (1/126)

([9] )   انظر: مجموع الفتاوى ( 7/187) .

([10] )   حديث ابن مسعود : "إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة, فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق, فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم – ثم قرأ – النبي صلى الله عليه وسلم {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء} الآية" . رواه الترمذي حديث (2988) التفسير , وابن حبان : 40 من موارد الظمآن بسند ضعيف , وذكر السيوطي في الدر المنثور (1/348) من رواه غيرهما, وذكر  ابن كثير عند تفسير الآية سندا آخر ولم يحكم عليه . أما روايته عن ابن مسعود موقوفا عليه فذكر لها الطبري روايات بعضها حسن (3/88-89), وقال شيخ الإسلام : هو محفوظ عنه ربما رفعه بعضهم , الفتاوى (4/31) , والظاهر أن الحديث حسن لدلالة ظاهر الآية , وهو مما لا مجال للرأي فيه, والله أعلم.

([11] )   سيأتي تفصيل ذلك عند الحديث عن "الدوافع" .

([12] )   مجموع الفتاوى (4/31-32) وقد قرر في ص35 "أن المبدأ في شعور النفس وحركتها هم الملائكة أو الشياطين, فالملك يلقي التصديق بالحق والأمر بالخير, والشيطان يلقي التكذيب بالحق والأمر بالشر, والتصديق والتكذيب مقرونان بعمل الإنسان كما أن الأمر والنهي مقرونان بإرادته " , وفي هذا بيان لدور الإنسان في التلقي والامتثال ورد على الجبرية والقدرية. 

([13] )   إغاثة اللهفان (1/32) , وانظر لإيضاح هاتين القوتين " العلمية والعملية " : الفوائد 16 – 17 . طبعة زكريا علي يوسف .

([14] )   المصدر السابق (1/33-34) .

([15] )   فحمة

([16] )   ثم استطرد في بيان معنى الحديث فقال :" وفيه قولان : 1- أحدهما أن رده وكراهته صريح الإيمان.

                                                                 2- أن وجوده وإلقاء الشيطان له في النفس صريح الإيمان, فإنه إنما ألقاه في النفس طلبا لمعارضة الإيمان وإزالته به"والحديث رواه مسلم رقم(209)

 

([17] )   الفوائد , ص 173-176 , ط2

([18] )   في الأصل : "الزهد" , ولا يستقيم به المعنى , ولعله تصحيف .

([19] )   كلمة الصناعة تطلق قديما على الحرفة والمهنة التي تحتاج لحذاقة وفطنة ؛ كالكتابة والشعر والرسم وما يسمى في عصرنا الفنون .

([20] )   رحم الله ابن القيم , كم جد في هذه الدنيا بعده من ملهيات فكرية قاتلة يهون إزاءها ما قد ذكر, فلو تأمل عاقل كم تستهلك الأفلام الخليعة والألعاب الرياضية والملاهي المساة "الفنون" من أعمار الناس وأموالهم , وكم تبعدهم عن الله واليوم الآخر ؛ لصعق عقله , فالله المستعان .

([21] )   وأعظم منها في حياتنا المعاصرة تلك النظريات الهدامة التي استهلكت الأذهان والأموال وأنشئت لها الكليات والبعثات , مثل أكثر نظريات علم النفس وعلم الاجتماع وعلم السياسة والآداب والفلسفة ودراسة التاريخ الغابر والحضارة المنقرضة بعيدا عن هدى الله.

([22] )   ومنه ما شاع في المتأخرين من التشطير والتخميس والإلغاز, وكذا تكلف المقامات , ثم ما في عصرنا من مسرحيات والقصص والأعمال النقدية والصحفية إلا قليلا منها.

([23] ) وفي عصرنا من ذلك الغثاء أضعاف أضعاف ما كان, ويشبه ذلك إضاعة العمر في تتبع المواضع التي ذكرها الشعراء ومعرفة أنساب الحيوان وغيرها مما أفنى فيه بعض الناس عمره والله سائله عنه يوم القيامة.

([24] )   الفوائد , ص 198-199 .

([25] )   الفوائد , ص 176-177.

([26] )  هكذا قال هنا , وفي الإيمان ص 40 وغيره : " في الحديث الصحيح " وهو الصواب ؛ فإن الحديث ليس في أي من الصحيحين .

([27] )   أي مظاهر الجمال

([28] )  العبودية , ص 111-112 , تحقيق عبدالرحمن الباني .

([29] )   رواه الإمام أحمد .

([30] )   الإيمان , ص 161-165

([31] )   مضارع , من يرى يري .

([32] )   الفوائد , ص 29 - 30

([33] )   رواه الإمام أحمد

([34] )   اقتضاء الصراط المستقيم , ص 217

([35] )   من العجيب أن مع وضوح هذه الحقيقة وإحساس كل إنسان بها في نفسه, فإن ما يسمى "علم النفس" المعاصر لا يكاذ يتحدث عنها بل إنه ليتحدث عنها حديث المنكر لها .

وقد كانت هذه الحقيقة معروفة في الفكر الإغريقي, ثم تبنتها في القرن العشرين المدرسة النفسية المسماة "الغرضية" (Horm School) وقد كان لها رواج خصوصا على يد "مكدوجل 1871-1938" الذي قال: إن وراء كل سلوك إنساني نزعة أو غريزة فطرية دافعة, ولكن هذه المدرسة انطمرت واندثرت في غمرة رواج المدارس التجريبية التي تفسر السلوك الإنساني تفسيرا حيوانيا بل آليا, ومن أكثرها مناقضة لهذه النظرية المدرسة السلوكية "بافلوف" التي عكست؛ فجعلت الأفعال الخارجية هي مصدر هي مصدر المشاعر الداخلية, وعلى منوالها تسير المدارس التجريبية المعاصرة .

وهذا مما يلقي ظلال الشك والريب في هذا العلم والأيدي الهدامة من ورائه ...

انظر: علم النفس المعاصر, حسن المليجي ط2, 1972,بيروت. السلوك الإنساني, إبراهيم الغمري, 1979, مصر, ص47. الإنسان بين المادية والإسلام, محمد قطب, دار الشروق, فصل "التجريبيون" .

([36] )  مجموع الفتاوى (14/298). ولما كان هذا مما فطر الله عليه الإنسان – لحكم عظيمة لا يبلغها الوصف – وجعله وراء كل عمل وإرادة له, فإن التصور السلفي ينظر إلى "اللذة" نظرة خاصة تختلف عن النظرات المنحرفة –قديما وحديثا – تلك النظرات الدائرة بين طرفي"الأبيقورية" المقدسة للذة و "الصوفية" المندسة لها. والتصور السلفي بفطريته ووضوحه يعتبر "اللذة" – من حيث هي – مطلوبة للإنسان بل ولكل حي, فلا تذم من جهة كونها لذة وإنما تذم, ويكون تركها خيرا من نيلها وأنفع إذا تضمنت فوات لذة أعظم منها وأكمل, أو أعقبت ألما حصوله أعظم من ألم فواتها. فها هنا يظهر الفرق بين العاقل الفطن والأحمق الجاهل, فمتى عرف العقل التفاوت بين اللذتين والألمين وأنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر , هان عليه ترك أدنى اللذتينلتحصيل أعلاهما واحتمال أيسر الألمين لدفع أعلاهما" . الفوائد 193 .

وإن شئت التوسع أكثر فانظر الاستقامة لشيخ الإسلام (2/148-154). ولهذا كان الإنسان- بما كرمه الله به- هو الوحيد المختص بتقديم الآجل على العاجل والنظر في عاقبة اللذة قبل اقتناصها أخذا من الدرس القاسي الذي تلقاه أبواه في الجنة عندما قادهما الشيطان بدافع تحصيل لذة أعلى وهمية{أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين}[الأعراف:20] إلى المعصية فالمصيبة حيث فقدا اللذة الحاصلة والمتوهمة معا.

 

([37] ) جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد أن النبي عليه الصلاة والسلام علم زيد بن ثابت أن يدعو بدعاء طويل منه"وأشهد أنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضيعة وعورة وذنب وخطيئة" المسند(5/191)

ويقول ابن القيم شرحا لقول بعضهم: من عرف نفسه عرف ربه: "من عرف نفسه بالجهل والظلم والعيب والنقائص والحاجة والفاقة والذل والمسكنة والعدم, عرف ربه ببعض ما هو أهله, وانصرفت قوة حبه وخشيته ورجائه وإنابته وتوكله إليه وحده, وكان أحب شيء إليه وأخوف شيء عنده وأرجاه له, وهذا هو حقيقة العبودية" الفوائد , ص 123

([38] )  رواه مسلم , رقم (2564)

([39] )  المصدر نفسه , رواية أخرى

([40] )   تبعا لاختلاف معيار التمييز بين النافع الملائم والضار المنافر؛ فالمؤمن وفقه الله لمعرفة ذلك فعبد الله وحده , والكافر يتخبط في الضلالة وهو يحسب أنه على شيء.

(1) توحيدها مجموع كله في قوله تعالى: {إياك نعبد} [الفاتحة : 5] . وتوحيد الأسباب والوسائل مجموع في قوله: {وإياك نستعين} [الفاتحة : 5]

(2) و سيأتي إيضاح موضوع " الأسباب و الوسائط " مستقلاً 

(3) المتصوفة في نحو قول أحدهم لما سمع قوله تعلى {منكم من يريد الدنيا و منكم من يريد الآخرة} [آل عمران: 152] قال: فأين من يريد الله ؟

فكما أن المرجئة توهموا وجود إنسان لا يعبد شيئاً، جاء هؤلاء فتوهموا وجود إنسان يعبد الله مريداً الدار الآخرة و هو لا يريد الله. و أصل خطأ الصوفية ومن سايرهم أنهم ظنوا أن الجنة هي مجرد النعيم الحسي، فمن تعلقت إرادته بها فقد نسي الله بزعمهم، أما أهل السنة و الجماعة فيعتقدون أن أعظم نعيم في الجنة هو رؤية الله تعالى، كما صح في الحديث، وأعظم شقاء لأهل النار الحجاب بينهم و بينه تعالى.

و حصيلة دعوى عبادته سبحانه لا طمعاً في جنته و لا خوفاً من ناره أنها إنكار للافتقار الذاتي إلى الله ، و كفى بذلك بدعة و ضلالاً و لهذا قال من قال من السلف : (من عبدالله بالحب و حده فهو زنديق )

انظر الرد على الصوفية في هذا : الاستقامة (2/104-120) و مدارج السالكين (2/80-81)

(1) الفوائد ، ص 181-182

(2) المصدر السابق ، ص 182-183 . و أنصح القارئ الكريم بقراءة سير السلف الصالح ، ليرى كيف حققوا هذا الغنى عن الناس و استغنوا بالله عنهم و حفظوا أنفسهم من الذل لغيره و الافتقار لسواه ، و لولا الإطالة لنقلت أمثلة له هنا ، و من أنفع الكتب في ذلك و أيسرها تناولاً ( صفة الصفوة ) لابن الجوزي .

(1) أي أن الافتقار الذي هو سر العبودية و خصيصة البشرية نوعان :

1-      افتقار إلى مراد محبوب مألوه معبود ، تصرف له جوعة التأله و التقرب و المحبة المركبة في كل نفس إنسانية

2-      افتقار إلى مستعان مدعو مرجو يلتجئ إليه العبد لجلب النفع و دفع الضرر ، تسكن إليه لوعة العجز و الضعف و الجهل الماثلة في كل نفس

(2) العبودية ، ص 108-112

(1) المصدر السابق ، ص 113-114

(2) المصدر السابق ، ص 117-118

(3) و من أجلى مظاهر ذلك أن سحر الدنيا أذاب عقيدة الولاء للمؤمنين و البراء من المشركين ، فترى الشيخ الكبير الذي أفنى زهرة شبابه في جهاد المشركين و قد أصبح المشرك جليسه و أكيله و شريكه في تجارته و أمين سره و وكيل أعماله .. و المشركة مربية لأولاده و عشيرة لنسائه بل ربما أصبح بيته يجمع أدياناً كثيرة و طرائق قدداً و الله المستعان .

(1) لأن العمل لا ينفصل عن الإيمان

(1) الفتح (6/81) مع اختلاف الألفاظ

(1) ولهذا يسطر عباد الصور اعترافهم بأن "الحب عذاب" فوق الجدران وعلى السياراتوجسور الطرق وحتى مقاعد الدراسة !!

(2) ومن أعظم الأدلة من الواقع على ذلك ما نراه ونسمعه من المتنافسين على انتخابات الرئاسة في الدول المساة "ديمقراطية" مع الشعب والنقابات والهيئات والطوائف ... طمعا في الحصول على أصوات هؤلاء. فما ظنك بالزعامات " الديكتاتورية " المعرضة للسقوط بين عشية وضحاها؟!

(1) كذا ، و في الأصل كلاً منهما .

(2) من بلايا زماننا هذا أن الكنيف أصبح من وسائل استعباد القلوب ، كيف لا و عباد الدنيا يصنعونه من الذهب الخالص

(3) العبودية ، ص 80-103 مقتطفات

(4) ثم قال بعد الآية : " قال سفيان بن عيينة : لا تأتون بمثل مشهور من للعرب إلا جئتكم به من القرآن ، فقال له قائل : فأين في القرآن : أعط أخاك تمرة ، فإن لم يقبل فأعطه جمرة ؟ فقال : في قوله تعالى : و من يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين . الفوائد 73-74

(5) زيادة يقتضيها السياق

(6) المصدر السابق , ص 76

(1).المصدر السابق ، ص 76

(2) الفوائد , ص 173 – 174 .

(3) مدارج السالكين (1/267)

(4) الترة : النقيصة ، و الحديث في المسند (2/232)

(5) من التوافق العجيب استعمال كثير من الكتاب و الصحفيين و المربين لكلمة " قتل الوقت " في كتاباتهم المتكررة عن كيفية قضاء العطل و أوقات الفراغ ، فشتان بين من يغتنم اللحظة الواحدة لإحيائها بعبادة الله و بين من يحار كيف يقتل سنة أو صيفاً كاملاً .

(1) البخاري ، المغازي (8/62)

(2) حلية الأولياء (1/211)

(3) لأن تقوى القلب لابد أن تنتج تقوى الجوارح ، و التلازم بينهما لا شك فيه ، لكن أعمال القلوب هي الأصل كما سيأتي تفصيله .

(4) كما أخبر بذلك عمر رضي الله عنه ، أنظر : فضائل الصحابة للإمام أحمد ، تحقيق وصي الله بن محمد عباس ، ص 418-419

(5) انظر الروايات في ذلك في الفتح (7/220-223) و السيرة النبوية لابن كثير (2/155-208) .

(6) الفوائد ، ص 194-195

(1) قالها الإمام الرباني أبو سليمان الداراني تعليقاً على ما جرى لابن سيرين رحمهما الله ، انظر ترجمة ابن سيرين في صفة الصفوة (3/246)

(2) رواه ابن اسحاق (03/366) و سنده في قصة الحديبية هو سند البخاري ، ولكن اختلفا في بعض السياق و الذي في البخاري (5/322) : قال الزهري : قال عمر : فملت لذلك أعمالاً " .

(3) لا سيما و قد التزمنا أن يكون من أهداف هذا البحث أخذ العبرة و العظة في واقع الدعوة الإسلامية المعاصرة .

([43] )  الفوائد , ص 100 – 101 , وقد استمر في تفسير الآية الأخيرة بكلام لا نظير له في كتب التفسير , فهو جدير بأن يقرأ .

(1) توحيدها مجموع كله في قوله تعالى { و إياك نستعين}

(2)  أما مجرد اتخاذ الأسباب أو عدمه فليس داخلاً في موضوعنا هنا .

(3) هذا من أدعية الرفع من الركوع و عقب الصلاة ، رواه الإمام أحمد (4/93) ، و البخاري (2/325) و مسلم رقم (477)

(4) رواه الإمام أحمد (2/309) ، و البخاري (11/187) ، و مسلم رقم (2704)

(5) الفوائد، ص44، وانظر تفصيلاً أوسع في جامع العلوم والحكم لابن رجب شرح حديث ابن عباس: "يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك" وهو التاسع عشر من الأبعين النووية ص173-188

([44] )  صحيح الترغيب والترهيب رقم (654), قال: رواه النسائي والبزار بإسناد صحيح والحاكم , وقال: على شرطهما .

([45] )  الظلال , ص 3697

([46] )  البخاري (8/13)

([47] )  البخاري (8/19)

([48] )  البخاري (8/735), وذلك ضمن قصتهم معه بشأن تقديم ابن عباس, ولا خلاف في الحقيقة بين قولهم وقوله في تفسير السورة, فإنهم نظروا إلى ظاهر دلالتها ومنطوقها, وهو نظر إلى مضمونها وفحواها . وهو ما أراده عمر رضي الله عنه بالسؤال .

([49] )   انظر ابن كثير (8/532) .

([50] ) وهذا مما أجمعت عليه جميع المرجئة . انظر : الإيمان, ص 347 لشيخ الإسلام , وتفصيل أقوالهم يأتي في موضعه بإذن الله . والمراد هنا جنس العمل لا آحاده.

([51] )  والواقع أنه حتى انفصام الشخصية لا ينطبق في حقيقته على ما تعتقده المرجئة ؛ لأن السلوك المتناقض فيه نتيجة شخصيتين قائمتين فعلا في شخص واحد بالتعاقب .

([52] )  إذا كان هذا مذهب المرجئة – أو لازم قول بعضهم وإن لم يلتزمه – وهو عجيب , فيحق لنا أن نعجب أيضا لأقوام ينتسبون إلى العلم ولا يقرون الإرجاء نظريا, ولكنهم يجادلون عن أناس وقفوا أنفسهم على حرب الله ورسوله ومعاداة الدين وأهله , وطمس معالم الحق والهدى ومحاربة أحكام الشريعة وموالاة أعداء الله, وجعلوا ذلك شغلهم الشاغل وعملهم الدائب وهمهم الأكبر لا يشذ عنه إلا أعمال من التلبيس يذرون بها الرماد في العيون, وقد كان أهل الجاهلية الأولى يتنسكون بمثلها أو أكثر منها , وقد قال الله تعالى:{إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما , واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما , ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما} [النساء: 105-107]

([53] ) وأخيرا – بعد استقرار النظرية – يبحثون لها عن مستند من النصوص يتعسفونها تعسفا . بل وصل الأمر بهم إلى أن يضعوا الأحاديث في فضل الإرجاء وأهله وذم المخالفين لهم , ومن أشهر وضاعيهم : الجويباري . انظر : المجروحين (1/142) , درء تعارض العقل والنقل (7/92) .

([54] )  رواه ابن ماجه رقم (61) , عن جندب بن عبدالله , والحزور الغلام الناضج النمو , ورواه عبدالله بن أحمد, السنة (1/97) بسند صحيح .

([55] )  كما ورد عن أبي ذر والحسن بن علي رضي الله عنهما, وفي بعض الطرق رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم, وتفصيل الكلام في أسانيده يطول, لكن انظر: الطبري (2/94) , المصنف (11/128), الدر المنثور (1/169) , فتح القدير (1/173) , ابن كثير (1/296) ,فتح الباري (1/50) .

([56] )  حديث وفد عبدقيس متفق عليه. البخاري (1/129), مسلم رقم (18,17). وفيه: "أتدرون ما الإيمان ..... شهادة ألا إله إلا الله وأن محمد رسول الله, وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة.." الحديث

([57] )  علق البخاري الجملة الأخيرة, وذكر الحافظ تخريجه كاملا . الفتح (1/48) , وهو في السنة لعبدالله ابن أحمد(1/98) .

([58] )  المراد بالقرن: الطبقة من العلماء .

([59] )  يلاحظ أن هؤلاء هم أئمة العلم في عصرهم – كل في بلده - .

([60] )  معلوم أن الإجماع لا بد له من مستند, ومستند الإجماع في هذه المسألة نصوص كثيرة منها هذه الآية.

([61] )  هذا النص المنقول هو أول اعتقاد الإمام البخاري, رواه عنه اللالكائي بسنده. انظر: (1/172) , وعنه نقل الحافظ في الفتح وصحح سنده إلى البخاري (1/47) .

([62] )  المصدر السابق (1/175) .

([63] )  لأن قوله: أنا مؤمن بالله حقا معناه أنه مسلم, والإسلام لا يستثنى فيه إلا إذا أريد به الإيمان الخاص.

([64] )  المخالفة: لعلها من الخلاف, كأنهم خالفوا الحق بزعمهم, والنقصانية: لأنهم يقولون: إن الإيمان ينقص, ونقصه عند المرجئة كفر؛ لأنه شيء واحد لا يزيد ولا ينقص كما سيأتي تفصيله عنهم. وهذه العقيدة من اللالكائي أيضا (1/176-179) .

([65] )  ليس المراد بالآحاد هنا ما يقابل الإجماع أو التواتر, وإنما مراده أن كل واحد من الصحابة والتابعين كان على ذلك .

([66] )  ثم استطرد فذكر حكم تارك الصلاة وأنه يقتل كفرا.

([67] )  عن الإيمان لشيخ الإسلام, ص 292 – 293 .

([68] )  أو هو عبدالكريم بن مالك, انظر ص 328 .

([69] )  الإيمان لشيخ الإسلام, ص 293- 295, وهو ليس في كتاب الإيمان المطبوع لأبي عبيد, فإما أنه طبع على أنه نسخ غير كاملة أو أن عبيد هذا في مصنف غيره. قال شيخ الإسلام تعليقا على هذا النقل: (قلت: ذكر من الكوفيين من قال ذلك أكثر مما ذكر من غيرهم, لأن الإرجاء في أهل الكوفة كان أولا فيهم أكثر, وكان أول من قاله "حماد بن أبي سليمان" فاحتاج علماؤهم أن يظهروا إنكار ذلك فكثر منهم من قال ذلك) وشبه ذلك بكثرة من أنكر على الجهمية من أهل خراسان لأنه ظهر هناك, ص 295 .

([70] )  (1/38- 40) .

([71] )  التمهيد (9/238- 243) .

([72] )  التفسير (1/62-63) , وقد علق المحققون على قوله: "إجماعا" بقولهم: "لعله إجماع الفقهاء والمحدثين, وإلا فإن جمهور علماء الكلام يرون أنه الاعتقاد فقط" وهذا التعليق لا وجه له, لأن علماء السنة ومنهم الأئمة الأربعة مجمعون على ذم الكلام وأهله وتعزير أصحابه, فلا يعتد بخلافهم فيما لم يجمع عليه فضلا عما هو أعظم منه, وإنما تذكر أقوالهم على سبيل الذم والإنكار, وكل الكتب التي كتبت في عقيدة أهل السنة مثل كتاب اللالكائي والآجري وعبدالله بن أحمد وابن بطة ... إلخ, وكذا كتب تراجم الأئمة ومناقبهم تذكر هذا وتنقله عن أئمة الإسلام المجمع على فضلهم وإمامتهم.

(5) جامع العلوم والحكم , تحقيق: محمد أبو النور (1/57) .

([74] )  الإيمان , ص 292 , ولم أستطع العثور عليه في الأم المطبوع, لكن قرأت لابن القيم أنه في "المبسوط" . زاد المعاد (3/607) .

([75] )  اللالكائي (1/85) ضمن عقيدة الطبري .

([76] )  استخلصت هؤلاء الأعلام من كتاب: الإيمان, من لوحة 94 فصاعدا, ومن كتاب: السنة (1/72-106) .

([77] )  الإيمان لأبي يعلى, لوحة 73 , وهناك أسماء كثيرة جمعها الحليمي. انظر: المنهاج في شعب الإيمان (1/84) . وممن نقل الإجماع: الحافظ ابن عساكر, انظر: تهذيب تاريخ دمشق (3/134) .

([78] )  انظر الأبواب والفصول الخاصة بذم المرجئة في الإيمان للإمام أحمد, والسنة لابنه عبدالله, والشريعة للآجري, والإبانة لابن بطة, ونحوها مما ورد ويرد النقل التفصيلي عنه هنا. وانظر: الفتح (1/47) .

([79] )  وهو شيخ الإسلام البخاري, وقد تتلمذ على يد مالك, وكان معاصرا للإمام أحمد, انظر: سير أعلام النبلاء (11/420 - 435) .

([80] )  هذا النص منقول من كتاب: الحجة في بيان المحجة, لقوام السنة أبي قاسم الأصبهاني, لوحة: 160ب – 161 أ, نسخة مكتبة حكيم أوغلو المنسوخة سنة 559, ولعله منقول في الأصل عن أبي الشيخ الأصبهاني, وأبو الشيخ له كتاب في السنة, انظر: سير أعلام النبلاء (16/278) .

([81] )  من المتعذر تمييز كلام الفضيل من كلام الإمام , ولهذا أوردتهما معا بدون فصل.

([82] )  كذا بالأصل .

([83] )  أي حقيقة مركبة جامعة للأمرين  كما سيأتي في مبحث الحقيقة المركبة (الباب الخامس) .

([84] )  كتاب السنة ص 374 – 377 بتحقيق الأخ الدكتور محمد بن سعيد القحطاني.

(1) الخلال ، لوحة 98 ب .

(2) مثلما في لوحة 99 و غيرها .

(1) هذه الأقسام منقولة عمن هو أقدم من سهل وأفضل، كالأوزاعي انظر: الإيمان280، والشافعي الإيمان 197. وإنما ميزة كلام سهل أنه فسر، وسهل من قدماء المتصوفة الذين كانوا في الأسماء والصفات على مذهب السلف.

(2) الإيمان 162-163

(1) انظر الخلال لوحة 106 ، ذكره الإمام أحمد عن شبابة بن سوار ، و قال : إنه قول خبيث ما بلغه عن غيره ، و انظر ترجمة شبابة في تهذيب الكمال .

(2) انظر الإيمان الأوسط 543-550 ، و الفتاوى (7/582) ، و انظر هنا : مبحث ترك العمل في الطور النهائي للظاهرة .

(1) مجموع الفتاوى (7/672)

(2) لأن الأصل فيمن قال بلسانه شيئاً أنه يكون صادقاً في التعبير عما في قلبه، وفي هذا احتراز من مذهبي الجهمية والكرامية، فالأولى جعلت الإيمان في القلب وإن خالفه اللسان، والأخرى جعلته باللسان وإن خالفه القلب.

(3) الإيمان الأوسط (7/506)

(4) في التعبير بالنفس لفتة عجيبة ، فإن يقين النفس تصديق و معرفة ، أما يقين القلب فهو اليقين .

(5) أي الكمال الواجب الذي لا تكون حقيقة الإيمان إلا به و بدونه لا تكون للإيمان حقيقة، بدليل أنه جعله ركناً و الركن يلزم من عدمه عدم الماهية .

(6) عدة الصابرين ص 129

(7) يقول ابن القيم "الإيمان له ظاهر وباطن، وظاهره: قول اللسان وعمل الجوارح، وباطنه: تصديق القلب وانقياده ومحبته، فلا ينفع ظاهر لا باطن له، وإن حقن به الدماء وعصم به المال و الذرية، ولا يجزئ باطن عن ظاهر له إلا إذا تعذر بعجز أو إكراه وخوف هلاك، فتخلف العمل ظاهراً مع عدم المانع دليل على فساد الباطن وخلوه من الإيمان، ونقصه دليل نقصه وقوته دليل قوته". الفوائد ص 85

(1) أي : و ليس هناك تلازم حتمي بينها ، و سنوضح إن شاء الله أن الإيمان حقيقته مركبة من هذه جميعاً في مبحث مستقل آخر الرسالة ، وهذا الانفصال إنما قال به بعض المرجئة ، فزعموا أن الإيمان جزء و الفرائض جزء و النوافل جزء – كما نقل ذلك أبو عبيد – انظر الإيمان لابن تيمية ص 196

(1) منهم سعيد بن المسيب والإمام أحمد، وقد ورد مرفوعاً في إحدى روايات حديث أبي ذر الذي ذكر فيه آية {ليس البر أن تولوا وجوهكم } الآية، انظر الإيمان ص 279-281،380

(2) انظر : ابن كثير (7/89-90) و قد نقل تفسير الصدق بالشهادة عن ابن عباس .

(3) ثم قال : " و الرسول صلى الله عليه و سلم أولى الناس بالدخول في هذه الآية على هذا التفسير " أي : فلا منافاة بينه و بين قول من قال : إن الذي جاء بالصدق هو محمد صلى الله عليه و سلم و الذي صدق به هم المؤمنون ، لكن القول الأول أشمل و أظهر ، راجع المصدر السابق .

(4) تفسير الطبري (2/101-102)

(5) التفسير (1/299)

(1) البخاري (11/503,26)

(2) و لهذا ورد في مواضع من القرآن – كما في التوبة و العنكبوت و الأحزاب – تقسيم أهل الإيمان قسمين : منافقين و صادقين

(3) و هذا دليل الباقلاني إمام الأشعرية . انظر : الإنصاف ص23 . و سيأتي تفصيل كلامهم و الرد عليهم

(4) الفتاوى (7/530-531) . و مثله بتوسع : الإيمان (379-380) . و قد بين في الصارم المسلول حقيقة الإقرار و استلزامه للانقياد ، و لعلنا نذكره في مبحث التولي عن الطاعة في الباب الخامس ، و ليراجع هنا لأهميته من ص518-522 تحقيق : محمد محيي الدين عبدالحميد ، ط بيروت .

([85] )  كتاب الفتن وأشراط الساعة (2/17) النووي, المطبعة المصرية ومكتبتها.

([86] )  انظر ترجمة عبيدالله بن عمر ابن الخطاب في "الإصابة" و"الطبقات" , والسند متصل إلى سيد التابعين سعيد ابن المسيب , قال عنه الحافظ :"رواه الكرابيسي في أدب القضاء بإسناد جيد" أي عن سعيد.

([87] )  يجب التنبه هنا إلى عدم المبالغة في تقدير دور المؤامرة الشريرة على الإسلام, وإلقاء كل مصائب الأمة عليها, لكن بخصوص الصحابة رضي الله عنهم فمن تكريم الله لهم أن أصل الفتنة لم يكن منهم ولا بسببهم, وأنهم استطاعوا اجتياز أصعب وأحلك مواقفها دون أن يفقدوا شيئا من الخصائص الباهرة التي اكتسبوها من التربية النبوية, ثم ما كادت الجماعة تعود حتى استأنفوا مسيرتهم الضخمة في نشر الإسلام علما وجهادا, مما فرض على أفاعي المؤامرة الكمون في جحورهم حتى أتيحت لهم فرصة أخرى كان الصحابة رضي الله عنهم أو أغلبهم حينها قد لقوا ربهم, ومع ذلك استمرت مسيرة الإسلام الكبرى. نعم ظلت تتصدع ولكنها لم تسقط إلا بعد قرون, ولأسباب ليست خاصة بالمؤامرة ولا من صنعها وحدها, على أن وعد الله  سيتحقق وتعود من جديد ولو بعد حين.

([88] )   أصبحت هذه الآراء تمثل الأطراف الرئيسة فيما بعد وهي على الترتيب معاوية ومن معه وعلي ومن معه والممسكون عن الفتنة – رضي الله عن الجميع – وسيأتي تفصيل ذلك عما قليل.

([89] )   وكان هؤلاء هم نواة الخوارج الذين قالوا فيما بعد: " إن جئتمونا بمثل عمر وإلا فلا" كما سيأتي.

([90] )   وقد ظهرت آثار ذلك في احباط محاولة الصلح يوم الجمل, وتأسيس الفكر الشيعي السيء, ثم برزت بوضوح في فتنة كذاب ثقيف المختار ابن أبي عبيد.

([91] )  سنده ضعيف , لكن له شواهد ولا شك أن معناه صحيح. انظر: مجمع الزوائد (5/222) .

([92] )   وهذه الأمور: إما أن الحق فيها معه رضي الله عنه صراحا, وإما أنها مسائل اجتهادية فليس اجتهاد غيره بأولى من اجتهاده – لا سيما وهو خليفة الأمة وطاعته ترفع الخلاف- , وإما أن يكون حاصل منه - غفر الله له – بعض التجاوز في شيء من هذه الأمور الفرعية , فماذا يساوي ذلك إلى جانب سابقته وفضله وعظيم قدره عند الله, وقد ارتكب حاطب ابن أبي بلتعة رضي الله عنه ما هو أكبر من ذلك بكثير, ومع هذا ثبت النص في عذره وعدم مؤاخذته بل ودخوله الجنة رأسا لأنه من أصحاب بدر , وأين حاطب من عثمان ؟ انظر: العواصم من القواصم, ومنهاج السنة (3/173-207)

([93] )  إن ترجيحنا لموقف الممسكين عن الفتنة وتفضيلهم لا يعني أن كل فرد منهم هو أفضل من كل فرد في معسكر الطائفتين – لا سيما وعلي أفضل الأمة كلها حينئذ – ولكن موقفهم هو أفضل المواقف, وقد يتخذ المفضول في قضية معينة موقفا أفضل من موقف الفاضل, وليس في الأمة يومها بعد علي أفضل من سعد ابن أبي وقاص وقد كان من الممسكين. انظر المبحث التالي لهذا .

([94] )  يرى هؤلاء الفقهاء أن كون علي ومن معه هم الفئة العادلة يقتضي تخطئة وتأثيم الممسكين عن القتال معه, لأن الله أمر بقتال الباغية وهذا المذهب رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية, انظر: مجموع الفتاوى (4/449) , ضمن فتواه عن الصحابة في أول الجزء 35

وقد استغلت الشيعة هذا المذهب, ثم غلت فيه حتى كفرت كل من لم يقاتل مع علي, ولكن الشيعة ليسوا ممن يعتد بخلافهم؛ لا في هذه المسألة ولا في غيرها ولله الحمد.

([95] )  تاريخ دمشق, النسخة التيمورية (20/577), وقد تعذر علي الاطلاع على هذه النسخة, ولذا نقلت النص عن د. نعمان القاضي , الفرق الإسلامية في الشعر الأموي ص263 , كما ساقه أحمد أمين وغيره .

([96] )   وإلى هؤلاء يتوجه كلام النووي في شرح مسلم وليس كما ظن رحمه الله أنه موقف كبار الصحابة, انظر (18/10)

([97] )  انظر التنبيه والرد ص 36 , مع أنه يرى أن اعتزالهم إنما كان بعد مبايعة الحسن لمعاوية. ونحن نقول: إن بذرة الخوارج وضمنها الإرجاء وجدت منذ الاختلاف على عثمان رضي الله عنه ثم قتله, ولكنها برزت بعد صفين بوضوح  كما سيأتي في مبحث: (الفتنة الثانية) .

([98] )  انظر: التوحيد للماتريدي, ص 318 , تحقيق: فتح الله خليف .... حيث نسب بعضهم للإرجاء والجبر

([99] )  انظر رسالته في "النابتة", ضمن رسائله التي نشرها عبدالسلام هارون, وقد نشر الرسالة لأول مرة "فان فلوتن" الآتي ذكره, وعليها اعتمد, ثم تبعه المستغربون.

([100] )  ويُكتب "فلهوزن"

([101] )  ستأتي النقول عنهم في المبحث الثاني .

([102] ) فجر الإسلام (1/335) , والثلاثة مشتركون في السلسلة , كما ذكروه في المقدمة .

([103] )  ص 94 , وفي ص 98 يطعنون في إسلام كل من أسلم يوم الفتح, وفي إسلام سكان البوادي جملة, فإذا كان الأمر كذلك وكان تأثر الصفوة من أهل المدينة كما ذكروا ص 94 , فماذا صنع الإسلام ونبيه صلى الله عليه و سلم إذن ؟

([104] )  انظر "مبحث الخوارج الآتي" , ص 239 .

([105] )  فجر الإسلام , ص 233-235 , وأبو زهرة (1/133) .

([106] )  انظر: الفتح (13/31) , فقد نقل عن الطبري وجمهور الفقهاء ما يشبه كلام النووي.

([107] )  شرح النووي على مسلم (18/10) , ومعلوم أن الاحتمال الأخير لا ينطبق على الصحابة, وأن الذين قالوا: إن الطائفتين فاسقتان كلاهما , هم المبتدعة كعمرو ابن عبيد!!

([108] )  أي ما الذي جعله يتخلف عنا؟

([109] )  البخاري (13/61) .

([110] )  الفتح (13/68)

([111] )  الفتح (13/54)

([112] )  المصدر السابق (3/59)

([113] )  البخاري (8/309) .

([114] )  وهذا اللفظ لمسلم (13/31) .

([115] )  الفتح (13/40) .

([116] )  المصدر السابق (13/30) .

([117] )  رقم (2887) .

([118] ) جمعت أسماء هؤلاء وغيرهم من تتبعي لأحاديث الفتن, ولو أن أحدا استقصى ذلك لكان عملا مشكورا.

([119] )  البخاري (13/68) ,والكلام للحافظ ص 73

([120] )  وقد ظهر صدق هذا الموقف حين رجع المتوكل إلى السنة, وانقلبت الدولة على رؤوس المبتدعة تنكيلا, وهذا جزاء الصبر وبركة اتباع النصوص, فللسيف موضعه وللحجة موضعها, والنصوص هي الحكم, ويعطي الله البصيرة من يشاء من عباده, فينزل النصوص على الواقع, ويصيب مناط الحكم.

هذا ويلاحظ من كلام الإمام أن المسألة اجتهادية مصلحية؛ لا يترتب على الخلاف فيها تبديع وتضليل, وهكذا كان موقفه من أحمد بن نصر الخزاعي رحمه الله .

([121] )  الخلال , كتاب الإيمان للإمام أحمد, لوحة 12 من المسند الجامع .

([122] )  المرجع السابق نفسه .

([123] ) المصدر السابق, ولعل مراده بقول عمر: الشورى والاختيار, وبقول ابنه: الكف عن القتال, ومبايعة من استقرت له الأمور, ولو كان مفضولا.

([124] )  المصدر السابق .

([125] )  (13/282) .

([126] )  مجموع الفتاوى (4/440) .

([127] )  انظر: مجموع الفتاوى (35/55-56 , 77-78 ) , (4/439-442)  , ومواضع من منهاج السنة.

([128] )  الجواب الباهر , ص 56-57 , طبعة قصي محب الدين الخطيب .

([129] )  السيادة العربية, والشيعة, والإسرائيليات , (ثلاثة كتيبات أو مقالات) , ص 15 ترجمة حسن إبراهيم حسن وزميله.

([130] )  المصدر السابق , ص 18 .

([131] )  ص 69

([132] )  ص 69

([133] )  يلاحظ أن هذا الكلام الذي نسبه ابن حزم لجهم (وللأشعري) هو لازم قوله, وليس من قوله أن اليهود والنصارى يعتبرون مؤمنين من أهل الجنة, ولكنه هوى هذا المستشرق في الانتصار لبني دينه, وأنهم كانوا محرومين من هذه الروح الأخلاقية الجهمية !!

([134] )  ص 66 , ويلاحظ أنه لا ينسب الظلم لبعض ولاة بني أمية, بل يجعله هدف الفتوح كلها كما سبق .

([135] )  وأوقح منه من يعتمد على آرائه ممن ينتسب للإسلام, وقد جعلوا لكتابه من الأهمية أنهم ترجموه مرتين إحداهما سورية "يوسف العش" , والأخرى مصرية "أبو ريدة", حتى يستدرك كل منهما ما قد يكون فات الأخرى من هذا الكلام العلمي الموضوعي !!

([136] )  الدولة العربية وسقوطها, ص 23-24 ترجمة يوسف العش , دمشق, 1376 هـ

([137] )  ص 394 , وهذه المبالغة يعرف كذبها كل مطلع على التاريخ .

([138] )  ص 368

([139] )  انظر: المذاهب الإسلامية (1/133) , والنقل يكاد يكون حرفيا , لكن بدون إشارة للمصدر .

([140] )  انظر: ص 272 – 282 من كتابه : الفرق الإسلامية في الشعر الأموي, عدا ما صرح فيه بالنقل عن أحمد أمين .

([141] )  الفرق الكلامية , فصل " نشأة المرجئة " , الطبعة الكاثوليكية , بيروت .

([142] )  مثل الدكتور جمال الدين سرور في كتابه: الحياة السياسية في الدولة العربية الإسلامية, انظر: ص 166 , وفاروق عمر , وسيأتي كلامه أعلى.

([143] )  العباسيون الأوائل , ص 60 .

([144] )  المصدر السابق , ص 117 .

([145] )  دولة بني أمية (2/49) .

([146] )  الفرق الإسلامية في الشعر الأموي , ص 270 .

([147] )  المصدر السابق , ص 304 .

([148] )  انظر: العباسيون الأوائل , ص 117 .

([149] )  الشعوبية وأثرها الاجتماعي والسياسي, ص 60 , ولعل هذا الرأي يريح في تفسير الخلاف المزمن بين جناحي حزب البعث في القطرين!!

([150] )  نقلته عنه الكاتبة السابقة , ص 62

([151] )  تاريخ الأدب العربي (4/22) مع حذف مصادر تراجم المذكورين التي ذكر

([152] )  مثل قوله عن عقيدة عبدالله بن أباض إنها وهابية مع قوله: "إنه لم يظهر المذهب الوهابي قبل منتصف القرن السادس الهجري" !! (1/257) , (مع ملاحظة أن الصحيح وهبية لا وهابية ولعل الخطأ من المترجم).

([153] )  انظر: فصل العقائد من تاريخ التراث العربي .

([154] )  انظر: تهذيب تاريخ دمشق (3/134) ترجمة أمية بن عثمان .

([155] )  (1/256)

([156] )   كما سيتبين جليا من الفصول والمباحث التالية .

([157] )  الشريعة للآجري, ص 142 , واللالكائي (2/154), لكن في رواية الأخير سقطا لو تنبه له المحقق الأخ الدكتور أحمد بن سعد بن حمدان لجزم بما ذكرنا ولم يتردد .

([158] )  انظر: منهاج السنة (3/177). وهم يرون تبعا لذلك أن طاعة ولي الأمر مطلقة "أي رد فعل للخوارج والمعتزلة" لكن لم أجد أحدا نسب ذلك لأي من خلفاء بني أمية, فضلا عن معاوية رضي الله عنهالذي لا يجوز أن يظن به ذلك, إلا ما قيل من أن عبدالملك بن مروان سأل الزهري: أحق أن الله إذا ولى أحدا كتب حسناته ولم يكتب سيئاته؟ فأنكر الزهري ذلك مستدلا بآيات سورة (ص) :{يا داود إنا جعلناك خليفة ...} وقال: فالنبي الخليفة أفضل من الخليفة غير النبي !!

([159] )  مذاهب الإسلاميين (1/37) .

([160] )  انظر تحقيقه لكتاب: فرق وطبقات المعتزلة, ص 5-7 , وهو الجزء الأول من كتابه المنية والأمل .

([161] )  أي ما جرى بين علي ومعاوية رضي الله عنهما .

([162] )  وفي الوقت الذي ظهر فيه الإرجاء ظهر القول بالقدر, وذلك في أواخر عهد الصحابة, وبهذا ظهرت أصول فرق الضلالة الأربع وهي: "الشيعة, الخوارج, المرجئة, القدرية".

انظر: درء التعارض (5/224-302) , ومنهاج السنة (3/184) , ومجموع الفتاوى (13/27) فصاعدا .

([163] )  الدكتور إبراهيم أحمد العدوي في كتابه: تاريخ العالم الإسلامي, طبعة 1984م .

([164] )  ص 177 , وانظر: ص 178 .

([165] )  ص 186

([166] )  الثابت في الروايات الصحيحة والمعلوم لدى الأمة تواترا أنه لم يكن يوم السقيفة لا شيعة ولا خوارج, بل لم يكن هناك خلاف بالعمق والضخامة التي يصورها هؤلاء, وإنما كان تداولا للرأي ونقاشا بين المهاجرين والأنصار, سرعان ما انتهى في لقاء واحد ووقت وجيز  إلى الإجماع الذي لم يشهد تاريخ الحكومات في العالم مثله, تصديقا لقول النبي صلى الله عليه و سلم : (يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر)

([167] )  انظر: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام (1/228) .

([168] )  بل نقول: إن هذا الدين هو دين الفطرة السليمة لدى كل مخلوق فكيف بعامة المسلمين؟ أما ما نراه اليوم من كثرة البدع فيهم فإن من أعظم أسبابها الجهل وخفاء الحق وتلبيس علماء السوء , ومع ذلك فما تزال الطائفة المنصورة تجاهد في كل مكان ولن يكون النصر إلا لها بإذن الله .

([169] )  انظر: الطبري (5/83), تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم, والفتح (12/284) , ومقالات الإسلاميين, ص 4 , تحقيق ريتر .

([170] )  في قصة الحديبية .

([171] )  انظر : الطبري (5/84) , والفتح – المصدر السابق - .

([172] )  الفصل, ابن حزم (4/157) .

([173] )  تلبيس إبليس, ص 95 .

([174] )  انظر : الفتح (12/297) , والكامل (7/241) , مع شرحه رغبة الآمل .

([175] )  فرقة منهم منسوبة إلى عبدالله بن إباض, وهي على غلوها ومروقها تعد من أخف فرقهم, وما يزالون إلى اليوم في عمان وبلاد المغرب وزنجبار .

([176] )  لأنه لا يمكن استتابتها بعد الوفاة, فعملوا بالأحوط وهو البراءة منها؛ لأنها توقفت في هذه المسألة وذلك يعني تكفيرها . نعوذ بالله من الضلالة .

([177] )  مقالات الإسلاميين, ص 110 .

([178] )  المصدر نفسه .

([179] )  المصدر نفسه , ص 111 .

([180] )  المصدر نفسه , ص 113 .

([181] )  المقالات , ص 113 .

([182] )  نسبة إلى أبي بيهس هيصم بن جابر الصنبغي . انظر: رغبة الآمل شرح الكامل (7/241)

([183] )  المقالات, ص 113 , ثم ذكر كيف تشققت البيهسية فرقا يتبرأ بعضها من بعض !!

([184] )  من ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "ما زلت أحب بني تميم منذ ثلاث: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيهم, سمعته يقول: هم أشد أمتي على الدجال. قال: وجاءت صدقاتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذه صدقات قومنا. وكانت سبية منهم عند عائشة فقال: أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل" البخاري (5/172) .

([185] )  أي خارجيا وهذه العبارة التي نقلوها أوردها ابن طيفور في تاريخ بغداد المحقق باسم بغداد في تاريخ الخلافة العباسية, ص 146 .

([186] )  مع أن فيهم من غير بني تميم من هو خثعمي أو سلمي, انظر الطبري (5/85,76)

([187] )  ديوان جرير, تحقيق كرم البستاني , ص 476 , وتغلب المنسوب إليها الأخطل فرع من ربيعة كما هو معلوم.

([188] )  هذا هو أصل تسمية الخوارج قبل صفين, وبقي يطلق عليهم بعدها.

([189] )  الفتح (12/290) .

([190] )  وذلك أن هذا الرجل اعتبر إعطاء زعماء الأعراب, ومنع فقراء المهاجرين والأنصار خروجا عن العدل, دون نظر منه للمصالح والاعتبارات التي قسم النبي صلى الله عليه و سلم مراعيا إياها, ومن أدلة هذه المثالية ما تقدم من مطالبتهم بخليفة مثل عمر فلما اختاروا هم إماما لم يكن سوى الأعرابي السالف الذكر!!

([191] )  مثلما ضبط النبي صلى الله عليه و سلم غلو الثلاثة الذين قال أحدهم: أصوم الدهر فلا أفطر, وقال الآخر: لا أتزوج النساء, وقال الثالث: لا آكل اللحم!!

([192] )  صحيح , رواه الإمام أحمد (1/347,215) , والنسائي (5/268) .

([193] )  طه حسين والعبادي, وانظر عن اعترافه بتبني آراء المستشرقين: ضحى الإسلام, ص 3 . وقد تبعه ابنه حسين أحمد أمين في كتابه دليل المسلم الحزين , وهو أحد أصحاب الاتجاه العصري الذي سبق له إشارة.

([194] )  حتى نظرية الإمامة عند الشيعة لا تسوغ اعتبار الشيعة فرقة سياسية بمفهوم هؤلاء, بل هي مما يؤيد قولنا: إن العقيدة هي الأصل؛ ولهذا جعلتها الشيعة أصلا من أصول دينها .

([195] )  ومن أبرز هذه التطبيقات؛ القول بأن الحروب الصليبية ليست حروبا دينية, بل هي حروب اقتصادية, هذا مع إجماع التاريخ الأوروبي على أن العصور الوسطى هي: (عصور الإيمان) , وإطباقها على أن الكنيسة كانت تسيطر على كل شيء, حتى أن تتويج الأباطرة كانت من اختصاصات البابا, فضلا عن اسم الحروب نفسه؛ ولهذا عجز دعاة هذا الرأي عن الإتيان بؤرخ معاصر لتلك الحروب – مسلما أو صليبيا – لا يعتبرها حروبا دينية !!

(1) و هي الأصل الذي انبثقت منه القضايا المنهجية الأخرى ، و على رأسها قضية الدار كما سنرى .

(1) انظر عما سبق : مقالات الإسلاميين ، ص 86-87 ، 89 ، و رغبة الآمل (7/232)

(2) انظر : المقالات ، ص89-91 ، أي ليس مجرد الفعل كما تقول الأزارقة .

(3) انظر المصدر السابق ، ص92-98

(1) أي من ارتكب ما يوجب الحد و أقيم عليه ، فإنهم يسمونه بما ارتكب فقط ، فيقولون : زان و سارق و قاذف ، و لا يقولون مؤمن و كافر .

(2) المقالات ، ص101-102

(3) مسألة التفريق بين الشرك و الكفر اختلفت فيها فرق الخوارج كثيراً ، انظر المقالات ، ص102ـ103 ، 118

(4) المقالات ، ص104-105 ، و في النص سقط طفيف حاولت اصلاحه بإضافة واو العطف قبل كلمتي " غنيمة " و " حرام ما وراء ذلك " .

(5) المصدر السابق ص110.

(6) المصدر السابق ص 111 .

(7) المقالات ، ص111-112

(8) أي لا يصح و لا ينبغي .

(9) المقالات ، ص113

(10)  المقالات ص 114 .

(11) لأن الإباضية يجيزون الإقامة بدار التقية !!

(12) المقالات ، ص115

(1) المقالات ، ص116

(2) المقالات ، ص116

(3) أي من ارتكب كبيرة ممن هو على دينهم يرجئون أمره إلى الله .

(4) المقالات ، ص119

(5) المقالات ، ص122-123

(1) أي مسلمون .

(2) أنظر : الفرق الإسلامية في الشعر الأموي ، نعمان القاضي ، ص734 ، و هذا صحيح بالنسبة للإرجاء الخاص بالصحابة .

(3) هذا هو معنى الإرجاء لغة ، و الإمام الطبري حجة في اللغة و القراءات ، فلم أشأ التطويل بذكر ما أطالت فيه كتب اللغة ، و انظر تاج العروس (10/145)

(4) (2/181) ، تحقيق الدكتور ناصر بن سعد الرشيد و زميله .

(5) (2/185) و لعل في آخر جملة نقصاً ، و صحتها : " من المصدق بوجوبه " .

(1) الطبقات (6/307) طبعة الشعب ، و انظر تهذيب التهذيب (10/49-50)

(2) سير أعلام النبلاء (5/218) . و انظر تاريخ دمشق لابن عساكر (16/265،267) ، نشر مكتبة الدار بالمدينة النبوية.

و المقصود بالإيمان هنا : المرتبة التي هي فوق الإسلام ، لا أنه يخرجهما من الإسلام .

(3) الأغاني لأبي فرج الأصفهاني (7/275), طبعة دار الكتب, تحقيق أحمد زكي صفوت.

(4) الزينة, أبو حاتم الرافضي (ضمن كتاب: الغلو والفرق الغالية, ص 265) .

(5) أي جهنم .

(6) أن يتمنى أن ولدته أمه جروا .

(7) الأغاني (7/276)

(1) رواية الأغاني: "ما أعند" , وعليها يكون فيه لحن وما أثبتناه من الزينة

(2) رواية الزينة: "ابن هند" , والمقصود به معاوية رضي الله عنه.

(3) نعثل: لقب تلقب به الشيعة عثمان رضي الله عنه وقبحهم

(4) الظاهر أنه- أخزاه الله- يقصد عثمان رضي الله عنه , والأبيات في الأغاني (7/280) , والزينة, ص 265-266 .

(5) الأغاني (7/275)

(6) انظر ترجمته في : تهذيب الكمال للمزي ، و تهذيب التهذيب (5/55)

(7) الطبقات (6/192)

(8) انظر ما رواه عنه مالك بن مغول في ذلك : منهاج السنة (1/6-8)

(9) الطبقات (6/173)

(1) الميزان (1/631) ، و هو من رجال مسلم ، و السير (5/374)

(2) الدكتور نعمان القاضي – الفرق الإسلامية في الشعر الأموي ، ص 734

(3) في المحققة : " لم نشرك " و هو أبعد عن اللحن ، و الجزم للضرورة الشعرية

(4) في المحققة : " اشتووا " ، مع حذف حرف الجر .

(5) "من " حذف النون للضرورة ، و قال المحققون : " أي بالغ من أحد " ، و الصحيح " أي بالغ بأحد "

(6) أي أي من الدارين وردا ، الجنة أم النار ؟!

(7) الأغاني (13/50) (بولاق) ، و في الطبع المحققة (14/270) (دار الكتب)

(8) أي نقلها من كتاب لا بإسناد .

(9) (14/269)

(1) الدكتور نعمان القاضي ، ص736

(2) لثابت قطنة سيرة جهادية رائعة ، و البيت الثالث يدل على ذلك ، وقد قتل فعلاً في معركة مع الترك . انظر الطبري (7/58)

(3) فجمع بين التوسط في حكم مرتكب الكبيرة عامة وبين التشدد والشطط في الحكم على الخليفتين. أو فتوسطه في حكم مرتكب الكبيرة عامة مع اعتماد الخليفتين مرتكبي كبيرة أدى إلى الشطط في حكمه عليهما.

(4) كذا بالمهملة و يصح أن يكون الجفاة ، و هو أظهر في المراد .

(5) انظر الصفحة التالية .

(1) انظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي المعزلي عبدالجبار، ص711 ، 814 – تحقيق عبدالكريم عثمان

(2) انظر منهاج السنة (4/145)

(3) الأبيات أوردها ابن المرتضى اليماني، وهي في الجزء المحقق باسم (المنية والأمل)، ص153، تحقيق: محمد جواد مشكور، وانظر: الحيوان للجاحظ (4/455)، تحقيق: عبدالسلام هارون، حيث أورد طرفاً منها في هجاء الخوارج، ولبشر ترجمة في لسان الميزان (2/33)، وسير أعلام النبلاء (10/203)

(4) شرح الأصول الخمسة، ص650

(5) انظر: (4/63) الطبعة غير المحققة.

(6) انظر: (2/230) منه، والحكاية وسابقتها ساقطتان أخلاقياً، والشاهد مجرد وقوع خصومة بين الشيعة ومن يسمون مرجئة

(7) أدى الانتصار الكبير الذي حققه أهل السنة بقيادة الإمام أحمد، وانقلاب الدولة العباسية إلى التنكيل بالمعتزلة والمبتدعة وظهور حقيقة التشيع و انتساب القرامطة ونحوهم له، إلى تقارب أهل البدع وتمازجهم في مواجهة عودة السنة، والمتعزلة فرقة لها عقل ونظر لكن بلا جمهور, والشيعة لها جمهور ولا عقل لها ولا نظر, فكان أن اندمجت الفرقتان واتفقتا على العدو المشترك (أهل السنة)، ومن هنا تركت المعتزلة رأي مؤسسيها في علي، كما تركت الشيعة التشبيه الذي كان عقيدة معظم أسلافهم من الفرق، وأصبحت على مذهب المعتزلة في نفي الصفات، وما يزال هذا الاتحاد قائماً إلى اليوم، فالإمامية والزيدية كلاهما يدين بالإعتزال. وإن مما يفسر ذلك الاتحاد أن بعض رؤساء المؤسسين للمذهبين زنادقة، لا يؤمنون بدين وإنما غرضهم هدم الإسلام والثأر منه.

(8) البيان والتبيين

(1) كل حديث مرفوع ورد فيه اسم المرجئة لا يصح ، و من أهم المصادر في بيان ذلك المجروحين لابن حبان ، و العلل المتناهية لابن الجوزي

(2) ص262

(3) انظر إلى تناقضه ، حيث يدعي اتفاق ا لأمة عقيب نقله الخلاف ، إلا إذا كانت الأمة عنده هم الشيعة وحدهم !!

(4) ص264-265

(5) السابقة ص322-323

(6) ص266

(7) انظر : ص267-269

(8) ص160 من التنبيه و الرد .

(1) من كتاب "المؤمنون في القرآن" تأليف قاسم شبر (1/296) الطبعة الأولى : 1388هـ . النجف

(2) انظر: ضعيف الجامع الصغير (4/53)

(3) المؤمنون في القرآن، ص297

(4) المؤمنون في القرآن، ص298

(5) يعني عبدالله بن سبأ.

(6) مجموع الفتاوى (04/428-429)، وتتمة كلامه: "ولهذا انضمت إلى الرافضة أئمة الزنادقة من الإسماعيلية والنصيرية، وأنواعهم من القرامطة والباطنية والدروز، وأمثالهم من طوائف الزندقة والنفاق .. "

(7) ثم دخلهم الغلو

(1) أشهر من جمعهم المدائني و المبرد .

(2) انظر ترجمة ابن الحنفية في سير أعلام النبلاء (4/110-129)

(1) كتاب الإيمان (ضمن مسند الخلال ) لوحة 127 و هو في السنة لابنه عبدالله ، ص79 المطبوع .

(2) في تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر : ابن حاطب (4/249)  و في تهذيب التهذيب ممن روى عنه : عثمان بن إبراهيم الحاطبي .

(3) زيادة مهمة ليست في تهذيب ابن عساكر

(4) في المزي : له ، و التصحيح من التهذيب

(5) تهذيب الكمال (1/279) المصور عن المخطوط .

(6) الطبقات (5/241)

(7) تهذيب التهذيب (4/249)

(8) تهذيب التهذيب (2/321)

(9) البداية و النهاية (9/140) .

(1) انظر : نشأة الفكر الفلسفي (1/198،229)

(2) المصدر السابق .

(3) و يتمشى معها كذلك افتراءه على شيخ الإسلام ابن تيمية في كل مناسبة من كتابه ، بل يعمم ذلك على من يسميهم هو أتباع السلف ، فيصفهم بأنهم حشوية مجسمة كرامية .

(4) نشأة الفكر الفلسفي (1/225-226)

(5) هذه إحدى تخبطاته ، فكيف يكون أفضل من الحسن و الحسين .

(6) حتى الحسن رحمه الله لم يكن له مدرسة فكرية قط بل كان كابن الحنفية متبعاً لما عليه النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه ، و الصوفية هم الذين ينسبون للحسن تأسيس الفكر الصوفي آخذاً إياه بزعمهم عن علي و انظر منهاج السنة (4/155) .

(7) نشأة الفكر الفسلفي ، ص229 ، و الثابت تاريخياً أن المدينة أبعد المدن عن البدع ذلك الحين .

(8) أول كتاب في العقيدة في الإسلام هو كتاب الله تعالى ، و أما ما تزعمه كل فرقة من أن أول من كتب في العقيدة هو مؤسسها فضلالة ، و النشار هنا تبع بروكلمان مثلما تبعه سيزكين .

(1) انظر كيف يجعل هذا المبتدع الضال تلميذاً لذلك العالم الإمام ، و يقرنه بالإمام أبي حنيفة و سيجعله بعد أسطر من رواد الفكر  الإسلامي !!

(2) هكذا يسميه الدكتور (في الإرجاء) ويضعه بين هلالين مع أن المصادر تقول: وضع كتاباً في الإرجاء لكن قاس ذلك على كتب الفلاسفة اليونانية التي تبدأ عادة بحرف "في"، وكذلك بعض كتب عصر النهضة الأوروبية – كما يسمى !!

(3) المصدر نفسه ، ص 230

(4) المصدر نفسه ، ص232 , و نسبة الجبر إلى الصحابي كاتب الوحي ، أشد من نسبة القدر إلى ابن الحنفية ، لكن الدكتور نقل ذلك عن المعتزلة و الشيعة .

(5) المصدر نفسه و الصفحة نفسها .

(6) انظر منهاج السنة (4/145)

(7) نشأة الفكر (1/244)، وأعجب من ذلك أنه هنا يسمي مؤسسها معبد الجهني، وهو كذلك، و يجعله من أهل البصرة، في حين أنه هناك يسميه معبد الجهمي ويجعله من أهل المدينة، وهما في الحقيقة رجل واحد .

(8) المصدر نفسه ، ص233

(1) المصدر نفسه ، ص 233

(2) المصدر نفسه ص 241.

(3) هذه هي عقيدة أهل السنة ، وقد قرر النشار نفسه ص246 أنها عقيدة الشافعي و أهل السنة !!

(4) المصدر السابق ، ص242-243

(5) المصدر السابق ، ص244

(6) انظر ص 346

(7) انظر : تهذيب الكمال (2/1066) ، و تهذيب التهذيب (8/171-173) ، و سير أعلام النبلاء (5/103-105) ، و الأغاني (9/139)

(1) السنة ص 76

(2) السنة ، ص80

(3) الإيمان مع الرسائل الأربع ، التي حققها الشيخ ناصر الدين الألباني ، ص82

(4) أي الخوارج .

(5) في الأصل بعض .

(6) لوحة 78

(7) ص74 ، 78 ، طبعة رئاسة الإفتاء

 

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك