تغيير المنكر بين ضوابط الشريعة والواقع المعاصر
مع أن الإسلام جاء لينشر الفضيلة في المجتمع و لتسود الأخلاق بين المسلمين، إلا أن ذلك لا يعني أن تختفي المنكرات عن الكيان الاجتماعي الإسلامي، ولا أن تنمحي الأخطاء والمعاصي من الظهور في صفوف أفراده، فإنه من الطبيعي أن تكون هناك منكرات وذنوب وأخطاء، ولكن من غير الطبيعي أن تبقى هذه المنكرات دون إنكار أو تغيير، وهو ما أمر به الإسلام وحض عليه المؤمنين، أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ليبقى المجتمع الإسلامي محافظا على سبب بقائه واستمراره.
ولكن النهي عن المنكر وتغييره لا يكون اعتباطيا في الإسلام، من دون شروط تضمن فاعليته وإيجابيته، أو ضوابط تجعله لا يخرج عن مساره وغاياته الذي وجد من أجل تحقيقها، وإلا فلربما أدى إنكار المنكر وتغييره - بدون الالتزام بتلك الضوابط والشروط - إلى منكر أعظم من الذي كان سائدا وموجودا، وهكذا يكون الخروج عن ضوابط الشريعة في تغيير المنكر من أخطر الأسباب المؤدية إلى تضخم المنكرات وتوسعها.
يقول ابن القيم رحمه الله: (شرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله...... ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه.
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم عليه السلام، ومنعه من ذلك - مع قدرته عليه - خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه) (1)
وفي هذا المقال سأحاول ما استطعت بيان التكييف الفقهي لإنكار المنكر وتغييره، والضوابط والشروط لهذه القضية الخطيرة في الشريعة الإسلامية، ومدى تطبيق المسلمين العملي لهذه الضوابط والشروط، ومقياس التزام واقعنا المعاصر بما هو منصوص عليه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
تعريف المنكر وحقيقة تغييره
بداية لا بد من بيان وتعريف المنكر عند علماء الشريعة الإسلامية، وقد اختلفت عبارة أهل العلم حول حقيقة المنكر وتحديد معناه عموما وخصوصا، فمنهم من قصره على الكفر وعبادة الأوثان ومنهم من جعله شاملا لمحرّمات الشّرع ومنهم من استعمله في كلّ ما نهى عنه الشّرع. (2)
جاء في تاج العروس: المنكر: كل فعل تحكم العقول الصحيحة بقبحه، أو تتوقف في استقباحه واستحسانه العقول، فتحكم بقبحه الشريعة.
ومع هذا الاختلاف في التعريف إلا أن الجميع متفق على شمول المنكر جميع ما نهى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنه، وقد أكد ذلك الشيخ ابن عثيمين في تعليقاته على الأربعين النووية حيث قال: المنكر هو: ما أنكره الشرع و ما حرمه الله عز و جل أو رسوله صلى الله عليه وسلم، كما عممه المناوي في كتابه "فيض القدير" بكل ما قبحه الشرع الحنيف.
والملاحظ في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ) صحيح مسلم برقم/186، أنه عبر بلفظ "التغيير" للمنكر، وهو أقرب إلى معنى الإزالة إن كان المنكر موجودا قائما، وإلى المنع منه إن شارف على الوقوع.
والأصل في "التغيير" استبدال شيء مرغوب فيه بشيء مرغوب عنه، فالتغيير ليس تركا للمنكر وإزالته فحسب، بل يتبعه إقامة معروف غيره مقامه، وبذلك يكون التغيير أخص من الإزالة وأخص من النهي عن الشيء كما ذكر الراغب في المفردات.
وفي هذا المعنى يقول ابن القيم رحمه الله: فإنكار المنكر أربع درجات الأولى أن يزول ويخلفه ضده، والثانية أن يقل وإن لم يزل بجملته، والثالثة أن يخلفه ما هو مثله، والرابعة أن يخلفه ما هو شر منه، فالدرجتان الأوليان مشروعتان ؟, والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة. (3)
التكييف الفقهي للمنكر في الشريعة الإسلامية
الأصل في إنكار المنكر وتغييره أنه واجب وفرض على الكفاية، قال شيخ الإسلام ابن تيميه: "تغيير المنكر واجب على الكفاية بمعنى أنه إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه ولم يؤده بلا عذر ولا خوف". (4)
وقد بين شيخ الإسلام أن إنكار المنكر وتغييره قد يصبح فرض عين في بعض الحالات فقال: "ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره، والقدرة هي السلطان والولاية، فذوو السلطان أقدر من غيرهم، وعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم، فإن مناط الوجوب هو القدرة ؛ فيجب على كل إنسان بحسب قدرته، قال تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }. (5)
وقد ذكر النووي رحمه الله هذا التكييف الفقهي لإنكار المنكر وتغييره في شرحه لصحيح مسلم حيث قال: "ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ولا خوف، ثم إنه قد يتعين: كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو، أو لا يتمكن من إزالته إلا هو، وكمن يرى زوجته أو ولده أو غلامه على منكر أو تقصير في المعروف. قال العلماء رضي الله عنهم: ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله ؛ فإن الذكرى تنفع المؤمنين. (6)
شروط وضوابط إنكار المنكر وتغييره في الشريعة الإسلامية
مثله مثل سائر الواجبات والفروض الإسلامية فإن إنكار المنكر في الشريعة مضبوط بضوابط وشروط لا بد منها، وإذا كانت شروط العبادات العينية كالصلاة والصيام والحج من الأهمية أصل لصحة عبادة المسلم مع كون أثر الإخلال بها فردي على أي حال، فإن أهمية معرفة وفهم وتطبيق شروط إنكار المنكر وتغييره أخطر، نظرا لخطورة أثر الإخلال بها أو عدم التقيد بضوابطها، حيث تعم آثارها المجتمع بأسره وليس الأفراد.
ومن هنا كان لا بد من تناول شروط وضوابط إنكار المنكر بشيء من التفصيل، ليصبح المسلم على بينة من أمره في تطبيق هذه الفريضة، والتي تتضمن شروط الشيء المنكر الواجب إنكاره، إضافة لشروط في الشخص المُنكِر، ناهيك شروط وجوب إنكار المنكر، وطريقة الإنكار ودرجاتها.
أما شروط الشيء المراد إنكاره "المنكر"، فقد وضع العلماء له بعض الشروط هي:
1- أن يكون منكرا بمعنى أن يكون محظورا في الشّرع، فالمنكر أعمّ من المعصية، فمن رأى صبيّا أو مجنونا يشرب الخمر فعليه أن يريق خمره ويمنعه، مع أن هذا لا يسمّى معصية في حقّ المجنون، إذ معصية لا عاصي بها محال.
ولهذا قال صاحب الفروق: لا يشترط في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أن يكون المأمور والمنهيّ عاصيين، بل يشترط فيه أن يكون أحدهما ملابسا لمفسدة واجبة الدّفع، والآخر تاركا لمصلحة واجبة التّحصيل، وساق جملة أمثلة للمنكر الّذي يجب تغييره ممّن يملك ذلك: كقتال البغاة مع أنّه لا إثم عليهم في بغيهم لتأوّلهم، و كضرب الصّبيان على ملابسة الفواحش وترك الصّلاة والصّيام وغير ذلك من المصالح.
2- أن يكون الشيء المنكر المراد إنكاره وتغييره متفقا على إنكاره لثبوته بالكتاب أو السنة، بحيث لا يكون إنكاره محل خلاف بين أهل العلم الموثوق بهم من ذوي الاختصاص والتقوى، فإن كان محل اجتهاد واختلاف، فليس مما يجب على الأمة تغييره، بل يكون لمن ذهب إلى أنه منكر على الراجح عنده أن يدعو إلى تركه من باب النصيحة إلى ما هو الأعلى والأليق بالمسلم.
3- أن يكون المنكر موجوداً متيقناً في الحال، بأن يكون الفاعل مستمرّا على فعل المنكر، فإن علم من حاله ترك الاستمرار على الفعل لم يجز إنكار ما وقع على الفعل، ولا يستثى من هذا الشرط إلا الإصرار على فعل الحرام من غير إحداث توبة، فهذا يجب الإنكار عليه، وكذلك الإنكار على أرباب المذاهب الفاسدة والبدع المضلّة، حيث يرى ابن القيّم وجوب إتلاف الكتب المشتملة على البدعة، وأنّها أولى بذلك من إتلاف آنية الخمر وآلات اللّهو والمعازف، لأنّ الإنكار على أهل البدع أهمّ من الإنكار على كلّ المنكرات. (7)
ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم:(من رأى منكم منكرا فليغيره) فقوله (رأى) دال على وجوب العلم بوقوع المنكر، علماً محققاً، أو بإقدام صاحبه عليه لا محالة، كأن يتيقن أنه يدبّر لقتل آخر أو لشرب خمر... إلخ. وأن الشواهد والقرائن قاطعة بعزمه على إيقاعه، فإن من المنكر ما يكون تغييره بمنعه منه، قبل وقوعه، بأي سبيل من سبل المنع المشروعة، وهو في هذا يكون أقرب إلى النهي عن المنكر، منه إلى تغييره، فإن النهي أعم من التغيير.
4- أن يكون المنكر ظاهرا لا يحتاج اليقين بعلمه إلى تفتيش وتجسس، والتّجسّس معناه طلب الأمارات المعرّفة، فالأمارة المعرّفة إن حصلت وأورثت المعرفة جاز العمل بمقتضاها، أمّا طلبها فلا رخصة فيه، والحكمة من وراء ذلك أنّنا أُمرنا أن نجري أحكام النّاس على الظّواهر من غير استكشاف عن الأمور الباطنة. (8)
يقول القرطبيّ في قوله تعالى: {ولا تجسّسوا}: أي خذوا ما ظهر، ولا تتّبعوا عورات المسلمين، أي لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه حتّى يطّلع عليه بعد أن ستره اللّه فليس للمحتسب أن يتجسّس ولا أن يبحث أو يقتحم على النّاس دورهم بظنّ أنّ فيها منكرا، لأنّ ذلك من قبيل التّجسّس المنهيّ عنه وفي حكمه من ابتعد عن الأنظار واستتر في موضع لا يعلم به غالبا غير من حضره ويكتمه ولا يحدّث به. (9)
ويقول الماوردي: وَأَمَّا مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ فَلَيْسَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَجَسَّسَ عَنْهَا وَلَا أَنْ يَهْتِكَ الْأَسْتَارَ حَذَرًا مِنْ الِاسْتِتَارِ بِهَا فَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ اسْتِسْرَارُ قَوْمٍ بِهَا لِأَمَارَاتٍ دَلَّتْ، وَآثَارٍ ظَهَرَتْ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي انْتِهَاكِ حُرْمَةٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهَا، مِثْلُ أَنْ يُخْبِرَهُ مَنْ يَثِقُ بِصِدْقِهِ أَنَّ رَجُلًا خَلَا بِامْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا أَوْ بِرَجُلٍ لِيَقْتُلَهُ، فَيَجُوزُ لَهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يَتَجَسَّسَ وَيُقْدِمَ عَلَى الْكَشْفِ وَالْبَحْثِ حِذَارًا مِنْ فَوَاتِ مَا لَا يُسْتَدْرَكُ مِنْ انْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ وَارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ. مَا خَرَجَ عَنْ هَذَا الْحَدِّ وَقَصَّرَ عَنْ حَدِّ هَذِهِ الرُّتْبَةِ، فَلَا يَجُوزُ التَّجَسُّسُ عَلَيْهِ وَلَا كَشْفُ الْأَسْتَارِ عَنْهُ فَمَنْ سَمِعَ أَصْوَاتًا مِلْأَةً مُنْكَرَةً مِنْ دَارٍ تَظَاهَرَ أَهْلُهَا بِأَصْوَاتِهِمْ أَنْكَرَهَا خَارِجَ الدَّارِ وَلَمْ يَهْجُمْ عَلَيْهِ بِالدُّخُولِ؛ لِأَنَّ الْمُنْكَرَ ظَاهِرٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَكْشِفَ عَمَّا سِوَاهُ مِنْ الْبَاطِنِ. (10)
وأما شروط المُنكِر
فإذا ما اعتبرنا تغيير المنكر عبادة فينطبق عليها ما ينطبق على العبادات من شروط بالمكلف بها وهي:
أن يكون القائم بالتغيير مكلفا، وأساس التكليف: العقل والبلوغ، وكذلك أن يكون مسلما فإنَّ أي عبادة لا تقبل بغير إسلام، ولا يشترط مع الإسلام العدالة، فكل مسلم يجب عليه تغيير المنكر على الوجه الذي هو أهل له، وليس بلازم أن يكون غير مرتكب للمنكرات، فإن للفاسق أن يغير المنكر عند أهل العلم، إلا إذا كان لا يقيم الصلوات المكتوبات استهانة أو استهزاء أو إنكاراً لفرضيتها، فإنه يكون بذلك غير مسلم البتة، كما أن العلم بما ينهى عنه وينكره شرط من شروط المغير، بالإضافة إلى القدرة على الإنكار والتغيير.
وأما شروط وجوب إنكار المنكر وتغييره فهي:
1- العلم بالشيء الذي يُأمر به أو ينهى عنه، فجاهل الشيء كفاقده لا يمكن أن يعطيه للآخرين.
2- القدرة على ذلك بأن يكون ذا ولاية عامة أو خاصة على المتلبس بالمنكر إن كان التغيير باليد أو اللسان، كأن يكون أبا أو سلطانا، لأن العجز يرفع التكليف عن العاجز إلى حين تحقق القدرة على دفع ما تم العجز فيه، وبغض النظر عن رفض بعض العلماء حصر كل درجة من درجات التغيير بفئة محددة، كأن يختص السلطان وحده بتغيير اليد، بينما يختص العلماء بتغيير اللسان، ليبقى لعوام المسلمين إنكار القلب فحسب، إلا أن القدرة على التغيير دون حصرها بفئة محددة من المكلفين بها أمر متفق عليه بين جميع العلماء.
3- ألا يغلب على الظن نزول ضرر غير محتمل بمن يقوم بالإنكار، فقد جاء في شرح حديث: ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده...)، أن الواجب على كل من رأى منكرًا أن ينكره إذا لم يخف على نفسه عقوبة لا قبل له بها ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا ينبغى للمؤمن أن يذل نفسه. قالوا: وكيف يذل نفسه ؟ قال: يتعرض من البلاء ما لا يطيق ). (11)
4- أن لا يـؤدي تغيير المنكر إلى منكر أكبر وأشد أو مساوٍ له؛ لأن الغاية من النهي عن المنكر تقليل المفاسـد ودفعـها وليس تكثيرها وجلبها، فالإسلام جاء بجلب المصالح ودفع المفاسد، ودرء المفاسد مقدم علـى جلـب المصالح، فإن كان إنكار المنكر يؤدي إلى منكر أكبر منه فحينئذ لا يجب الإنكار، بل ولا يشرع.
أحكام إنكار المنكر وفق الضوابط والشروط الشرعية
إذا كان الأصل في إنكار المنكر ومحاولة تغييره فرض كفاية عند جمهور العلماء، ويصبح فرض عين على من شاهد المنكر وهو قادر على إزالته، بشرط ألا يخاف من الاعتداء على حرماته الخاصة، وألا يترتب على إنكاره للمنكر مفسدة أكبر من مفسدة المنكر الذي يقع أمامه. (12)
فإن حكم إنكار المنكر في بقية الحالات متوقف على ما يترتب عليها من مصالح أو مفاسد حسب التوضيح التالي:
1- إن ترتب على الإنكار وقوع مفسدة أكبر من مفسدة المنكر الواقع، حرم عند ذلك الإنكار كما سبق، تطبيقا للقاعدة الشرعية: "إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما". (13)
2- أما إذا لم يترتب على الإنكار وقوع مفاسد من منكرات أخرى، بل ترتب على الإنكار وقوع الأذى والضرر بأشخاص المنكرين دون أهليهم وأرحامهم والآخرين، كما هي عادة الفساق بالمصلحين، فإنكار المنكر حينها يكون مندوبا، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن قتل دون دينه فهو شهيد) سنن أبي داود برقم 4772 وصححه الألباني.
3- أما إن ترتب على الإنكار وقوع الأذى بالمنكرين وغيرهم من أرحام أو آخرين، فإن رضي هؤلاء بوقوع هذا الضرر مقدمين دينهم على أنفسهم فيبقى الإنكار مندوبا، وإن لم يرضوا فلا يندب الإنكار.
4- وأما إن تعلق الإنكار بصاحب السلطة في البلاد فلا بد أن يكون الإنكار بالوعظ والنصح باللين، ويحرم استخدام الخشونة في الكلام إذا ترتب على ذلك أذى يلحق بغير المنكر من أهله وأرحامه والآخرين، كما يحرم الخروج على الحاكم وإن انحرف بفسق أو ظلم ما دام مقيما للصلاة وضمن دائرة الإسلام، إذ لا يجوز الخروج على الحاكم إلا بالكفر البواح. (14)
وبالإضافة إلى جميع الشروط والضوابط والأحكام الشرعية السابقة، يبقى أن نشير إلى بعض آداب ولوازم إنكار المنكر وتغييره وأهمها:
أن يكون التغيير خالصا لوجه الله تعالى، وليس تغييرا لعصبية حزبية أو فئوية ولو كانت دينية – جماعة أو طائفة - أو تحقيقاً لهوى في النفس أو موافقة لما تحب، و كذلك أن يكون التغيير موافقاً هدي الكتاب والسنة وموافقة الشرع، لا من باب ضرورة العلم بحقيقة المنكر المراد تغييره، بل من باب معرفة كيفية التغيير وفقاً لهدي الشريعة، وهذا يستوجب معرفة أسباب المنكر المراد تغييره معرفة كاشفة، ومعرفة آثاره العاجلة والآجلة في الأمة.
وكذلك يتطلب معرفة ما يحيط بوجود المنكر، وانتشاره في الأمة من ملابسات، و معرفة ما يترتب على تغييره – باليد أو اللسان - من آثار إيجابية أو سلبية، والموازنة بين هذه الآثار، و اختيار الأحسن والأفضل منهجا وزمانا ومكانا.
كما يستوجب معرفة السبيل القويم، إلى تغيير هذا المنكر، تغييراً نافعاً، فيختار ما هو أكثر نفعاً، وأقل ضرراً على الأمة، وما هو أقدر على القيام به، وأصبر على إنفاذه، مراعيا منهج التدرج والحكمة والحلم والرفق، ليكون التغيير أنجح وأنجع، ولا يتحصل ذلك إلا بمعرفة منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تغيير المنكر.
الواقع المعاصر لإنكار المنكر وتغييره
الحقيقة أن إنكار المنكر في الواقع المعاصر غير منضبط بالضوابط السالفة الذكر، كما أنه غير ملتزم بالشروط التي لا بد منها لجني ثمرة هذه الفريضة العظيمة، فضلا عن أنه بعيد كل البعد عن التأسي بمنهج السلف الصالح في إنكار المنكر وتغييره.
1- فبداية يمكن ملاحظة الإخلال المعاصر بشرط كون المنكر المراد تغييره متفق على إنكاره وليس محل اجتهاد، فكثيرة هي الحوادث – التي لا يمكن حصرها – التي يكثر فيها الإنكار – وخاصة بين الجماعات الإسلامية – في المسائل الخلافية الاجتهادية، كتعبير عن إثبات الذات والتعصب للجماعة، مع أن الواجب هنا هو عدم الإنكار لعدم تحقق وجود المنكر أصلا، بالإضافة للإخلال بشرط كون المنكر المراد إنكاره ظاهرا لا يحتاج العلم به إلى تجسس وتتبع للعورات، الأمر الذي أدى إلى ظهور منكر أشد من المنكر الذي كان مستورا على أي حال.
2- وفيما يخص شروط المكلف بإنكار المنكر فإن ظهور عدم الالتزام بشرط العلم بما ينهى عنه وينكره ظاهر وواضح، فكم من أشخاص ذوي بضاعة قليلة في العلم والفقه يتصدرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا بهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف من حيث لا يعلمون، كما أن عدم التقيد بشرط "القدرة" على تغيير المنكر، سواء باليد أو اللسان، قد أوقع الكثيرين فيما لا تحمد عقباه.
3- وإذا تحدثنا عن عدم الالتزام المعاصر بأهم شرط لإنكار المنكر, ألا وهو شرط أن "لا يؤدي إنكار المنكر إلى منكر أشد منه" وهو شرط متفق عليه بين جميع العلماء والفقهاء، فإن ذلك ربما يعود لتفرق الأمة الإسلامية إلى جماعات وأحزاب، وعدم وجود هيئات علمية جامعة لكل تلك الفئات، يمكنها أن تقدر الموقف الشرعي الصحيح من خطر إنكار المنكر الذي قد يجر الأمة إلى منكر أشد منه.
4- وإذا لم نتحدث عن عدم التزام البعض بشرط "ألا يغلب على الظن نزول ضرر غير محتمل بمن يقوم بالإنكار" نظرا لكونه شرط مختلف عليه بين العلماء، حيث يرى البعض أن إنكار المنكر هنا مندوب، بينما يرى آخرون أنه لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، فإن وصول الأذى والضرر إلى الآخرين من غير رضى منهم أو موافقة يجعل إنكار المنكر غير جائز نظرا لأن المسلم ليس له أن يلحق الأذى بغيره دون رضاه بسبب إنكاره لمنكر ما، وهو ما لا يلتزم به البعض في الواقع المعاصر.
5- وإذا كان هذا حال الواقع المعاصر فيما يتعلق بالتقيد بشروط وضوابط إنكار المنكر، فما بالك بآداب ذلك وأسباب نجاحه، فالإخلاص عزيز، والإحاطة بأسباب وجود المنكر وانتشاره، وسبل وأساليب مواجهته وإزالته، بالحكمة والتدرج والصبر، مع مراعاة الموازنة بين إيجابيات الإنكار وسلبياته لاختيار الأصلح للأمة، نادر الوجود، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
6- وبالإضافة لكل ما سبق فهناك فهم خاطئ لحقيقة إنكار المنكر وتغييره لدى شريحة واسعة من المسلمين في الوقت الراهن، حيث يقع الكثير منهم بنوع من الإفراط أو التفريط في تطبيق هذه الفريضة الإسلامية الخطيرة، فبينما يجنح البعض من المسلمين إلى تركها نهائيا متمسكين بفهم مقلوب ومغلوط لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } المائدة/105، نجد بالمقابل من يسعى لإنكار المنكر وتغييره دون فقه أو تبصر أو عمل بشروط وضوابط تلك النصوص الموجودة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى هذا الأمر الخطير بقوله: يغلط فريقان من الناس – أي في مسألة إنكار المنكر والسعي لتغييره -: فريق يترك ما يجب من الأمر والنهي تأويلاً لهذه الآية ؛ كما قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - في خطبته: إنكم تقرؤون هذه الآية: { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ }، وإنكم تضعونها في غير موضعها، وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منها ).
بينما الفريق الثاني: يريد أن يأمر وينهى إما بلسانه وإما بيده مطلقاً، من غير فقه وحلم وصبر ونظر فيما يصلح من ذلك وما لا يصلح، وما يقدر عليه وما لا يقدر.... فيأتي بالأمر والنهي معتقداً أنه مطيع في ذلك لله ورسوله وهو معتد في حدوده، كما انتصب كثير من أهل البدع والأهواء ؛ كالخوارج والمعتزلة والرافضة ؛ وغيرهم ممن غلط فيما أتاه من الأمر والنهي والجهاد على ذلك، وكان فساده أعظم من صلاحه. (15)
وقد لخص شيخ الإسلام القواعد التي تحكم إنكار المنكر وتغييره، حيث جعل جماع ذلك داخل في " القاعدة العامة ": (فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها ) فإن الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأموراً به، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيراً بها وبدلالتها على الأحكام، ومن هذا الباب إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أُبي وأمثاله من أئمة النفاق والفجور لما لهم من أعوان، فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزم إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم، وبنفور الناس في قصة الإفك بما خاطبهم به واعتذر منه، وقال له سعد بن معاذ قوله الذي أحسن فيه: حمى له سعد بن عبادة مع حسن إيمانه. (16)
إن الحقيقة التي لا بد أن يعتقد بها كل مسلم، أن تطبيق هذه الفريضة العظيمة على الوجه الأمثل إنما يكون بالالتزام بضوابطها وشروطها وآدابها التي بينها الله تعالى في كتابه، وفصلها وطبقها رسوله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وسيرته، وفيما عدا ذلك فإن آثار التطبيق الخاطئ وغير المنضبط لهذه الفريضة قد يجر على الأمة ويلات من حيث كان يريد لها الخير والصلاح والإصلاح. (*)
-----------------
(1) إعلام الموقعين 3/3
(2) الموسوعة الفقهية الكويتية 18/277
(3) إعلام الموقعين 3/3
(4) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابن تيمية 1/2
(5) الحسبة لابن تيمية 1/280
(6) شرح النووي على صحيح مسلم 2/23
(7) الموسوعة الفقهية الكويتية 18/278- 279
(8) الموسوعة الفقهية الكويتية 18/282- 283
(9) الجامع لأحكام القرآن 16/333
(10) الأحكام السلطانية /334-335
(11) فتح الباري 9/86 و شرح صحيح البخاري لابن بطال 10/50 وما بعدها
(12) الآداب الشرعية لابن مفلح المقدسي1/174
(13) أصول الفقه الإسلامي محمد مصطفى الزحيلي ص98
(14) شرح النووي على صحيح مسلم 1/356 والآداب الشرعية لابن مفلح 1/197
(15) الفتاوى 28 / 127 – 128
(16) الفتاوى 28 / 129
(*) ينظر ايضا: فقه تغيير المنكر للدكتور: محمود توفيق محمد سعد، والجهاد والقتال في السياسة الشرعية للاستاذ الدكتور: محمد خير هيكل .
المصدر: http://www.taseel.com/display/pub/default.aspx?id=6187&mot=1