الحرب العلمانية على الوقف الإسلامي

 د. عامر الهوشان

لم تقتصر حرب الدول العلمانية على العالم الإسلامي على الجانب العسكري أو الثقافي، بل امتدت لتشمل جميع جوانب الحياة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولم ينج الوقف الإسلامي من هذه الحرب المعلنة، فكانت سهام الغرب المسمومة موجهة إلى قلب هذا النظام الإسلامي الفريد، بهدف القضاء على هذه العبادة المالية الاجتماعية الخطيرة، التي تعتبر من أنجح الوسائل والأساليب المبتكرة -التي لم يعرفها نظام بشري قبل الإسلام- لمواجهة الفقر وسد حاجات أفراد المجتمع، وعلامة فارقة من علامات السبق الحضاري الإسلامي.

لقد ظهر واضحا العداء العلني الغربي للإسلام، وخصوصا بعد القضاء على ما كان يسمى "الخطر الأحمر" الشيوعي، ليعلن الغرب عدائه للإسلام الذي أطلق عليه اسم "الخطر الأخضر"، وذلك من خلال ابتداع نظام العلمانية، الذي رفع شعارات العدالة والمساواة والحرية والديمقراطية، وأبطن القضاء على الحضارة الإسلامية من خلال نشر اللادينية والاستبداد والفوضى الأخلاقية.

ورغم زيف وكذب شعارات العلمانية الواضح، إلا أن التفوق التقني والمدني الغربي على الدول العربية والإسلامية قد أغشى أعين بعض المسلمين - المنبهرين بهذه الحضارة المزيفة- عن عوارها وكثرة عيوبها، لتبدأ الحرب العلمانية على كل مظاهر وسمات وأسس الحضارة الإسلامية، ولعل من أبرز هذه الأسس نظام الوقف الإسلامي.

تعريف الوقف الإسلامي

الوقف والتحبيس والتسبيل بمعنى واحد، وهو لغة: الحبس عن التصرف. يقال: وقفت كذا: أي حبسته، ولا يقال: أوقفته إلا في لغة تميمية، وهي رديئة وعليها العامة. (1) ولعل اسم "وزارة الأوقاف" الذي انتشر في العالم الإسلامي مؤخرا مأخوذة من معنى الوقف، وإن كانت الوزارة معنية بجميع الشؤون الدينية، و يكاد الوقف يكون الجزء الأقل أهمية فيها.

أما اصطلاحا: فقد اختلفت عبارات الفقهاء حول تعريف الوقف، فبينما عرفه أبو حنيفة بأنه: حبس العين على حكم ملك الواقف، والتصدُّق بالمنفعة على جهة الخير. وبناء عليه لا يلزم زوال الموقوف عن ملك الواقف ويصح له الرجوع عنه، ويجوز بيعه؛ لأن الأصح عند أبي حنيفة أن الوقف جائز غير لازم كالعارية. (2)

نجد أن جمهور الفقهاء وهم الصاحبان -وبرأيهما يفتى عند الحنفية- والشافعية والحنابلة يعرفون الوقف بأنه: حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع التصرف في رقبته من الواقف وغيره، على مصرف مباح موجود ـأو بصرف ريعه على جهة بر وخيرـ تقرباً إلى الله تعالى. وعليه يخرج المال عن ملك الواقف، ويصير حبيساً على حكم ملك الله تعالى، ويمتنع على الواقف تصرفه فيه، ويلزم التبرع بريعه على جهة الوقف. (3)

بينما انفرد المالكية بتعريف الوقف بأنه: جعل المالك منفعة مملوكة، ولو كان مملوكاً بأجرة، أو جعل غلته كدراهم، لمستحق، بصيغة، مدة ما يراه المحبِّس. أي إن المالك يحبس العين عن أي تصرف تمليكي، ويتبرع بريعها لجهة خيرية، تبرعاً لازماً، مع بقاء العين على ملك الواقف، مدة معينة من الزمان، فلا يشترط فيه التأبيد. الوقف عند المالكية لا يقطع حق الملكية في العين الموقوفة، وإنما يقطع حق التصرف فيها. (4)

وبغض النظر عن وجود بعض الاختلاف بين الفقهاء حول التكييف الفقهي للوقف وحقيقته، من حيث خروج المال من ملك الواقف من عدمه، والذي يستتبع إمكانية الرجوع فيه من عدمه، إضافة لاختلافهم حول كونه مباحا -كما قال الحنفية- أم مندوبا -كما قال الجمهور- فإن ماهية الوقف وجوهره متفق عليه بين جميع الفقهاء، فإن طبيعة الوقف تتمثل بحبس عين عن التداول وجعل منفعتها ونتاجها لمصلحة الموقوفة عليه، كما أن مشروعيته وحكمته وفوائده الكثيرة لا يختلف فيه اثنان.

ومن تعريفات بعض الفقهاء المعاصرين للوقف تعريف الشيخ محمد أبو زهرة، حيث عرفه بأنه: منع التصرف في رقبة العين التي يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها، وجعل المنفعة لجهة من جهات الخير ابتداء، أو انتهاء. (5)

أدلة مشروعية الوقف

مشروعية الوقف ثابتة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعمل الصحابة الكرام، ففي قوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون..}  آل عمران/92 وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض...} البقرة/267 بعمومه يفيد الإنفاق في وجوه الخير والبر، والوقف: إنفاق المال في جهات البر.

ولعل من أبرز أدلة مشروعية الوقف في الإسلام في السنة النبوية حديثان:

الأول: حديث ابن عمر رضي الله عنه: (أن عمر أصاب أرضاً من أرض خيبر، فقال: يا رسول الله ، أصبتُ أرضاً بخيبر، لم أُصب مالاً قط أنفسَ عندي منه ، فما تأمرني؟ فقال: {إن شئت حبَّست أصلها وتصدقت بها}، فتصدَّق بها عمر، على ألا تباع ولا توهب ولا تورث، في الفقراء وذوي القربى والرّقاب والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويُطْعِم غير متموِّل) أي غير متخذ منها مالاً أي ملكاً. رواه الجماعة (نيل الأوطار: 20/6)

قال ابن حجر في الفتح: وحديث عمر هذا أصل في مشروعية الوقف.

والثاني: حيدث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) أخرجه البخاري في الأدب المفرد /130، ومسلم بشرح النووي 11/85. فالوقف هو الصدقة الجارية.

ومن المعلوم أن أكثر أهل العلم من السلف ومن بعدهم على القول بصحة الوقف ومشروعيته، وقد كان وقف عمر رضي الله عنه مئة سهم من خيبر أول وقف في الإسلام على المشهور، بل إن جابر رضي الله عنه كان يقول: ما بقي أحد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم له مقدرة إلا وقف، لتنمو هذه المؤسسة الإسلامية وتزدهر مع توالي العقود والقرون، حتى يأتي الاستعمار الغربي العلماني إلى ديار المسلمين، فيعمل جاهدا في سبيل القضاء على هذا الرمز الحضاري الإسلامي.

الحرب العلمانية على الوقف الإسلامي

نظرا لأهمية نظام الوقف في الإسلام، وفوائده العديدة على المسلمين في شتى مجالات الحياة، حيث غطى الوقف الإسلامي منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم وحتى الاحتلال العلماني لبلاد المسلمين، آفاقاً واسعة من أعمال الخير وجهات النفع العام، شملت المساجد ودور القرآن الكريم والمدارس ومعاهد العلم والمستشفيات.... الأمر الذي شكل –من وجهة نظر الغرب العلماني– مصدر خطر حقيقي على نظامه العلماني الذي أراد فرضه على الدول الإسلامية كبديل عن الإسلام، فعمل على توجيه مكنون حقده وعدائه على هذه الشعيرة، معتبرا أنها مصدر استقلال ذاتي للأمة الإسلامية حتى بعد استعماره لها.

نعم... لقد كان ما وقفه المسلمون من وجوه البر والخير الذي يعود على المجتمع أفرادا وشعوبا يشكل أهم مصادر القوة والاستقلال لهذه الأمة، فقد شمل الوقف أدق الأمور وأعظمها وأضخمها، فكان هناك وقف للخبز المجاني، ووقف الثياب،  ووقف الحليب، ووقف وفاء الديون، ووقف تبديل الأواني المكسورة، ووقف النساء الغاضبات من أزوجهن، ووقف إيواء الغرباء، ووقف تزويج الفقراء، ووقف زيارة المريض، ووقف إصلاح ذات البين، ووقف تكفين الموتى، كما شمل الوقف مؤسسات ومشروعات كبرى مثل الملاجئ والتكايا والمستشفيات والمدارس.....الخ.

ومن أمثلة ما وقفه المسلمون: وقف الظاهر بيبرس المتوفى سنة 676 هجرية، لأيتام الأجناد ما يقوم بهم، وكذلك مظفر الدين كوكبوري المتوفى سنة 630 هجرية، بنى للقطاء ملجاً زوده بالمرضعات، كما وقف قانصوه الغوري بيمارستان في القاهرة، وقد كثرت الدور و الخانات لأبناء السبيل، وأوقاف الأسبلة (مواقع الشرب العامة)، إضافة لوقف على الأرامل وآخر على تكفين الموتى، وعلى إعارة الحلي في الأعراس، وعلى دور الضيافة...الخ. (6)

لقد شملت الحرب العلمانية على الوقف الإسلامي جميع الجوانب النظرية والعملية، وفيما يلي سأحاول تلخيص أبرز نقاط هذه الحرب:

1- بداية قام الغرب العلماني منذ احتلاله لبلاد المسلمين -عسكريا أو عبر تحكمه بقادته- بالسيطرة على وقف المسلمين وتحويله -عينا ومنفعة- إلى خزينة الدولة، والأمثلة في هذا المقام لا تكاد تنتهي:

· يقول الشيخ محمد عبده متحدثا عن سيطرة محمد علي على وقف المسلمين في مصر –ومحمد علي يعتبر أول حاكم يدخل العلمانية إلى بلاد المسلمين، من خلال محاولته تقليد الغرب عسكريا وإداريا-: " نعم: أخذ ما كان للمساجد من الرزق وأبدلها بشيء من النقد يسمى فائض رزنامة لا يساوي جزءاً من الألف من إيراده. وأخذ من أوقاف الجامع الأزهر ما لو بقي له اليوم (ربيع الأول 1320 = يونيو 1902)، لكانت غلته لا تقل عن نصف مليون جنيه في السنة، وقرر له بدل ذلك ما يساوي نحو أربعة آلاف جنيه في السنة" (7).

· ذكر الجبرتي في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" 3/344 أن محمد علي -والي مصر- استولى على ستمائة ألف فدان من الأرض الموقوفة، وهي تمثل ثلث الأرض المزروعة في مصر والبالغة في ذلك الوقت 2 مليون من الفدادين، ليتطور الأمر بعد ذلك إلى أن انقطع الوقف الأهلي والخيري في مصر، أما الأهلي فبحكم القانون الصادر عام 1953، وأما الخيري فبانقطاع ذرية الواقف والوقف، والتصرف المطلق لوزارة الأوقاف في إدارته. (8)

· وفي بلاد الشام –التي يقول البعض: "إن معظمها هو وقف" تعبيرا عن كثرة الوقف فيها– انحسر الوقف وآثاره فيها إلى حد التقزم على يد العلمانية المباشرة أو غير المباشرة، فقد حاربت بريطانيا الوقف الإسلامي والمحاكم الشرعية الإسلامية في فلسطين في الفترة ما بين 1917 و1948، فضمتها في دائرة باسم "العدل والقضاء" التي يرأسها مستشار قضائي "المستر بنتويش" وهو يهودي ومن رجال الحركة الصهيونية، وقد فعلت فرنسا في كل من سورية ولبنان ما فعلته بريطانيا في فلسطين، وكررت نفس الأمر في مستعمرتها الجزائر.

· وقد أكمل اليهود دور العلمانية البريطانية في فلسطين، معتبرين الأوقاف الإسلامية أملاك غائبين، وقد نقلوا وفقا لهذا القانون 75% من أراضي وعقارات الأوقاف الفلسطينية الإسلامية إلى مؤسسات يهودية.

2- تشويه صورة الوقف الإسلامي: وذلك من خلال إثارة الكثير من الشبهات حوله، بل وتحميله مسؤولية الإخفاقات والتدهور الاقتصادي والاجتماعي في المجتمع الإسلامي، بعد أن عملت الدول الغربية الاستعمارية على تسويق بضاعتها العلمانية في الدول العربية والإسلامية على حساب النظام والشريعة الإسلامية.

لقد عملت الآلة الإعلامية والدعائية الغربية القوية على تصوير الوقف الإسلامي بأنه من أهم عوامل تعويد الناس على البطالة والكسل والتسكع، كما روجوا للفكرة العلمانية الأساسية التي تقول أن السلطة لا بد أن تكون بيد الدولة وحدها، متهمين المؤسسات الوقفية بأنها تقوض تلك السيطرة الكاملة للدولة وتضعفها، حيث تعمل تلك المؤسسات بمعزل عن الدولة.

ومن خلال إشاعة بعض الاتهامات الباطلة على بعض المشرفين على بعض المؤسسات الوقفية والخيرية الإسلامية، تم تشويه صورة هذه المؤسسات في أعين بعض الناس، وإقناعهم أنها إن أضحت بيد الدولة وتحت إشرافها فإنها ستعطي ثمارا أفضل ونتائج أحسن، إلا أن الواقع أثبت أن الأمر لا يعدو أن يكون خطة لتقزيم هذه المؤسسات وإضعافها في الدول الإسلامية، ليقوم بتطبيقها ضمن وجهته العلمانية في بلاده، حيث أضحى قطاع الوقفي والخيري والتطوعي القطاع الثالث في الدولة الحديثة الأوربية المعاصرة.

3- جعل ما سمي "بوزارة الأوقاف" في البلاد الإسلامية وسيلة لمحاصرة وتحجيم دور الإسلام في المجتمع بشكل عام، وإضعاف وتقزيم دور الوقف الإسلامي في حياة المسلمين بشكل خاص.

فبدلا من أن تقوم وزارة الأوقاف بتنمية وتطوير الوقف الإسلامي حسب ما يناسب التطورات الحديثة، نراها تقوم بعكس ذلك تماما، وبينما كان من المفروض أن تكون "وزارة الأوقاف" في الدول العربية والإسلامية من أغنى الوزارات، نظرا لوجود عقارات وأموال طائلة موقوفة، وبالتالي تحقق الاستقلال المالي، الذي يعتبر الأهم في الاستقلال المعرفي والثقافي للعلماء والخطباء والمدرسيين الإسلاميين، نجد أن وزارات الأوقاف في الدول العربية والإسلامية هي الأكثر فقرا والأقل ميزانية.

ولقد كان انعكاس هذا الفقر للوزارة على الدعوة الإسلامية شديدا، فأصبح الإمام والخطيب والعالم والمدرس للعلوم الشرعية والإسلامية الأقل دخلا في المجتمع والأدنى مكانة ومنزلة فيه، كما أضحى التعليم الشرعي في أدنى مستوياته تبعا لذلك، ناهيك عن التبعية الكاملة والتامة للدولة العلمانية في توجهاتها وإملاءاتها.

إن المقارنة بين ما كان عليه الوقف الإسلامي -قبل الحرب العلمانية عليه- من تطور وازدهار مستمر، وصل إلى حد تخصيص وقف لتطبيب الحيوانات المريضة، ووقف في الشام للقطط الضالة يطعمها ويسقيها سمي "بمدرسة القطّاط"، ووقف للكلاب الشاردة يؤويها ويداويها سمي "محكمة الكلاب"، إضافة لوقف رعي خيول الجهاد المسنة العاجزة، وهو في أرض المرج الأخضر بدمشق، ترعى فيه حتى تموت بكرامة...الخ

وبين ما آل إليه في العصر الحديث من تدهور وتقهقر وتراجع، وصل إلى حد بلوغ عدد الجائعين في العالم إلى مليار شخص كثير منهم في بلاد العرب والمسلمين، فضلا عن المحتاجين لأمور أخرى غير الغذاء من أجل البقاء على قيد الحياة، يشير إلى مدى قسوة الضربات العلمانية التي انهالت عليه، وتأثيرها المباشر على فاعلية هذا النظام الإسلامي العظيم.

ولقد كشفت الأزمات المعاصرة الأخيرة في الدول العربية والإسلامية عن هذا الضعف المخزي والمهين للعمل الخيري والإغاثي والإنساني الإسلامي، بينما المؤسسات الإغاثية الغربية والأممية تصول وتجول في بلاد المسلمين، ناشرة ثقافتها وأفكارها الباطلة بين المسلمين المحتاجين.

فأين ما كان عليه المسلمون مما آلوا إليه؟؟!!

ـــــــــــــــــــ

الفهارس

(1) لسان العرب مادة "حبس"

(2) فتح القدير 5/37 ، الدر المختار 3/391

(3) مغني المحتاج 2/376 ، وكشاف القناع 4/267

(4) الشرح الكبير 4/76

(5) الوقف /أبو زهرة ص5

(6) بحث محمد المعصراني  بعنوان: ( اثر الوقف في التكافل الاجتماعي )

(7) الأعمال الكاملة للأستاذ الإمام تحقيق د. محمد عمارة، دار الشروق، الطبعة الأولى، 1414هـ = 1993م، 1/851. ، و آثار محمد علي في مصر، مجلة المنار 5/175 وما بعدها.

(8) محاضرات في الوقف للشيخ محمد أبو زهرة ص20 وما بعدها.

المصدر: http://www.taseel.com/display/pub/default.aspx?id=6212&mot=1

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك