حدود التعايش مع الأديان والفرق والمذاهب
وجود الحدود يعني: أن الامتياز ضرورة.
وعدمها: انتفاء الامتياز، وضياع الهوية ضرورة.
فدلالة الحدود على الامتياز، دلالة مطابقة، فحيثما قيل عن حدود الشيء، أريد به: امتيازه عن غيره.
فعندما يقال: حدود التعايش مع: الأديان،والفرق، والمذاهب. فالمعنى:
"ما الحدود التي ينبغي على المسلمين مراعاتها، مراعاة لدينهم الإسلام، في تعايشهم مع أتباع الديانات الأخرى والفرق، وفي تعايشهم فيما بينهم ؟."
ولم يرد هذا السؤال إلا وفيه الإقرار: أن دين الإسلام دين متميز عن غيره، فلا بد على أتباعه من التزام حدوده في التعايش مع الآخرين، حتى لا يبطلوا امتيازه.
فبماذا امتاز الإسلام عن سائر الأديان ؟.
امتاز بأنه الدين الحق، الذي لا يقبل الله غيره، وأن ما عداه فباطل، والأدلة في هذا قطعية الثبوت والدلالة من المصدرين، قال تعالى:
- {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}.
وعليه فأي تعايش مع أتباع الديانات، فيجب أن يكون في دائرة هذا الأصل، وأي تعايش يبطل الأصل، أو يغير معالمه، كأن يكون من أثره المساواة بين الإسلام وغيره في الأحقية، أو يقر لدين آخر بالصواب: فهو خروج عن الحدود.
لأنه إبطال وتكذيب لنصوص قطعية – كالنص الآنف – أجمع المسلمون على: أن الإسلام وحده الدين الحق، وما عداه فباطل.
وأي تعايش يدور في هذه الدائرة، ولا ينتهك منها: فهو داخل الحدود.
فإذا كان كذلك مع أتباع الديانات، فما موقع الفرق من هذه المعادلة والنتيجة، وهي الإسلامية، وأربابها وأتباعها مسلمون ؟.
كما امتاز الإسلام بكونه الدين الحق وحده، فكذلك امتاز المتبعون لسنة الصحابة رضوان الله عليهم في الدين، بكونهم وحدهم على الإسلام المنزل كما هو من الله تعالى، وعلى هذا دلت النصوص:
- دلت على وقوع الاختلاف بين الأمة.
- وعلى أن التي هي على الحق منها فرقة واحدة.
- ودلت على أن تلك الفرقة هي التي تكون على ما كان عليه الصحابة.
- كما دلت على أن ما عدا هذه الفرقة، فهي خارجة عن الحق.
- ثم إن مع خروجها ذلك، إلا أنها باقية في دائرة الإسلام، لكنها متوعدة.
فأي تعايش مع أتباع هذه الفرق، فلا بد أن يكون باستصحاب هذا الأصل. وأي تعايش يلتف على هذا الأصل بالإلغاء أو التأويل: فهو خروج عن الحدود. وذلك بتصحيح اجتهادات هذه الفرق، التي خالفت الأصول، أو تقليدهم.
فماذا عن المذاهب، وهي كلها على اتباع الصحابة، فكيف التعايش معها ؟.
من كان من إحدى هذه المذاهب، فتعايشه مع إحداها، أو كلها، لا إشكال فيه ألبتة، بل هو سؤال لامحل له، ولا معنى؛ فالأصول متفق عليها، والخلاف في الفروع لا يضر.
إذا عرفنا الخط العام والرئيس في التعايش مع أتباع الديانات والفرق؛ ألا يكون ذلك عائدا على الأصل (=أن الإسلام هو الحق، والسنة) بالنقض: يأتي بعده التفصيل، حيث إن النشاطات كثيرة، بقدر نشاط البشر، فوجب تفصيل الحدود.
للخلاف أربع مراتب:
1- خلاف بالحد الأقصى، وهذا مع المخالف في الدين.
2- خلاف بالحد الأدنى، وهذا مع المخالف في السنة.
3- خلاف قريب، وهذا في الخلاف الذي عليه أجر الاجتهاد، وليس عليه أجر الإصابة.
4- خلاف أقرب، وهذا في الراجح والمرجوح، واحتمال الدليل للقولين.
فالمرتبتان الأوليتان خروج عن الحق؛ الأول عن الإسلام، والثاني عن السنة، ولذا يسمى: ضلالة. فأقصى الضلالة، وأدنى الضلالة.
والمرتبتان الأخريتان مقبولتان، الأولى من جهة العذر، والثانية من جهة النظر.
وفق هذه المراتب ووصفها، يمكن تحديد قدر التعايش ونوعه، فلا إشكال في التعايش مع الذي الخلاف معه مقبول، أما التعايش مع الذي الخلاف معه يأخذه شكله الأقصى، فهو الذي جاءت النصوص فيه مبينة ومفصلة، وأشكال التعايش كثيرة، منها المشاركة والمخالطة بالسكنى؛ أي في بلاد غير المسلمين، الأصل فيه النهي والمنع، وآية النساء شاهدة صريحة، والأحاديث قطعية الدلالة.
قال الله تعالى: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا * إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا * فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا}.
هي آيات نزلت في قوم أسلموا، ولم يهاجروا، فلما كانت واقعة بدر، أخرجتهم قريش، وأكرهتهم على القتال مع المشركين.. فدلت على عدم جواز البقاء والسكنى في بلاد الكافرين، وهكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين) رواه أبو داود وصححه الألباني
والنصوص في المعنى كثيرة، ثم إن هذا هو الحكم من حيث الأصل؛ أي في حال تمكن المسلم من العيش آمنا مطمئنا على نفسه، ودينه، وأهله، وماله في بلاد المسلمين، فإن ناله الضرر في شيء منها، فلم يجد الأمن فيها إلا في أوربا أو أمريكا ونحوهما، فالحكم حينئذ يختلف، لاختلاف الحال، والضرورة تبيح المحظورة، فلا يلام من سكن تلك الديار والحالة هذه، وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة والإقامة فيها، لما بلغ من أذى المشركين لهم، وكان يحكمها النجاشي وهو نصراني.
فهذا إذن بالتعايش؛ إذ السكنى تستلزم جوارا، والجوار له أحكامه، من الإحسان والبر، وأما كون الجار على غير ملة الإسلام، فلا يمنع من فعل الخير به وله.
والزواج بالكتابية مباح، بشرط الإحصان وصحة التدين، وإذا حصل الزواج، فالتعايش محقق بكل تفاصيله، من حديث، وإحسان، وعون، وزيارة، وإطعام، وتهنئة بالخير، ومشاركة في عمل، إلى الحب والود بين الزوجين وغير ذلك.
فهذان مثالان ينبئان عن شيء من الحدود وأنواع التعايش، والشريعة بينت أحكامها تفصيلا.
وأما الخارجون عن السنة من الفرق، فينبغي التفريق بين رؤوسهم وعوامهم، وفي الجملة هم مسلمون ما داموا يصلون إلى القبلة، ويأكلون ذبيحة المسلم، ويشهدون للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، فلهم حقوق الإسلام العامة، وأما هجرهم فمن جنس هجر العاصي، مقصده وغرضه: كفّه وردعه. ولا يمنع ذلك من أداء حقوق الإسلام العامة إليه، مع التصريح له وإشهار مخالفته للسنة والحق، فإن كان هجره لا ينفع بشيء، فالمصلحة تقتضي اختيار طريق يدفع البدعة ويظهر السنة.
وفي المجمل، كل حال لم يرد فيه نص بشأنه في التعايش مع هؤلاء المخالفين، فالقواعد الشرعية العامة والمقاصد كفيلة ببيانها. كأن يقال:
- الأصل في المعاملات الدنيوية الإذن، وفي الدينية المنع، إلا لنص.
كذلك الضوابط الشرعية المستقاة من النصوص العامة، كأن يقال:
- كل ما فيه نفع الإسلام، فدائرة التعامل فيه مع المخالف مفتوح.
- وكل ما يضر الإسلام، فدائرة التعامل فيه مغلقة.
- وكل ما يعود بالنفع على الذات من غير جناية على الشريعة، فمأذون فيه.
فالمهم استصحاب الأصول الكبرى (= علو الإسلام)، ثم لا مانع بعد ذلك من أنواع التعامل، التي أذن بها الشارع، أو سكت عنها، أو ثبت عدم إضرارها بالدين.
وهكذا نجد المسلم في فسحة ومرونة وفقه، يمكّنه من التعايش مع التمسك بدينه بقوة، دون أن يكون الاختلاط بالمخالف داعيا للتهاون بالشريعة.
إن مما يفتح باب التعايش مع المخالف في الدين، برغم خلافه العقدي، أمور:
أولا: (العذر). فكثير منهم معذور فيما هو عليه، فقد يكون جاهلا، أو مكرها، أو اشتبه عليه الأمر، والله تعالى قال: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}.
ثانيا: (الدعوة). فالمسلم مأمور بدعوة المخالف، وذلك لا يكون إلا بإحسان التعايش، فإنه لايقبل مع الإساءة، قال تعالى: {أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}.
ثالثا: (الحاجة). فالمسلمون يحتاجون غيرهم في معايشهم، وقد أباح الله تعالى طعام الكتابي والزواج منهم، واستعمال آنية المشرك، واستعماله في الصناعة والحراسة وغير ذلك.
رابعا: (المصلحة). فإن إساءة التعايش قد يعود بالضرر على المسلمين، وقد قال تعالى: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم}.
خامسا: (الضرورة). فمن المسلمين من لم يجد العيش الكريم إلا في بلاد المخالفين، وهجرة الصحابة إلى الحبشة شاهد على الإذن.
السادس: (الإحسان). فقد أذن الله تعالى بالإحسان إليهم، وهو من آثار التعايش، فقال تعالى: {لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}.
وإذا كان الشارع يمنع من السكنى في بلاد الكافرين، فيمنع بذلك من التعايش معهم إلا في استثناءً، فكيف بالذين يسكنون بلاد المسلمين ؟..
إن التعايش معهم ضرب لازم، فلا بد إذن معرفة قوانينه، وأن الشارع – بالقطع - قد سنّ فيه أحكاما.
هذا ولا بد من التنبيه إلى أن التعايش مقصور على المخالف المسالم، أما الحربي المترصد للدين والعباد والبلاد بالأذى والعداوة والحرب والاحتلال: فلا تعايش معه.
يعلم ذلك فطرة، وعقلا، قبل أن يعلم شرعا.
فالفطرة تأبى مسالمة الذي يعمد إلى الإذلال والأذى ..
والعقل يشهد أن المعتدي يستحق الصد والتأديب ليس التعايش..
والدين يأمر بقتال المعتدين، ومبادلته بالمثل:
- {إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون}.
- {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حاد الله ورسوله...}.