مفهوم الحوار وأسسه ووسائله في الإسلام
* الحوار من أهم أدوات التواصل الفكري والثقافي والاجتماعي والاقتصادي التي تتطلبها الحياة
* الحوار عملية تواصلية متكافئة بين اثنين أو أكثر بهدف الوصول إلى الحقيقة واليقين بعيداً عن الجدل أو المفاوضة والخصومة والتعصب
* من طبيعة أي حوار هادف؛ أن يؤدي إلى التفاعل والمشاركة بين
المتحاورين
مقدمة
يؤكد الفلاسفة وأصحاب الفكر، على أن الحوار من أهم أدوات التواصل الفكري والثقافي
والاجتماعي والاقتصادي التي تتطلبها الحياة، ويتضمن الحوار: الانفتاح على الفكر
الآخر، وفهم ما لديه من معلومات أو اتجاهات وأفكار، ولعله وسيلة لتنمية التفكير
المشترك، وفي ذلك أيضاً إمكانية التغلب على قصور العقل البشري الواحد، وسبيل إلى
توليد الأفكار والبعد عن الانغلاق والانعزالية والجمود، ويكتسب الحوار أهمية من
كونه وسيلة للتآلف والتعاون وبديلاً عن سوء الفهم والتقوقع والتعسف·
والحوار عملية تواصلية متكافئة بين اثنين أو أكثر بهدف الوصول إلى الحقيقة واليقين؛ بعيداً
عن الجدل أو المفاوضة والخصومة والتعصب·
والحوار ذو دلالات سامية ومقاصد نبيلة؛ ذلك أنه عند علماء المسلمين ومفكريهم: ذو مرتبة
علمية واجتماعية ودينية بالغة، يتيمز بالاعتدال والإنصاف بعيداً عن الجدل
والمناظرة والمناقشة، وهي مصطلحات كثيراً ما نراها تستعمل مرادفة للحوار في
استعمالات غير مقصودة·
إعداد:
الدكتور بشير محمد عبدالله عربيات
الأستاذ بجامعة العلوم الإسلامية العالمية في عَمّان
ومن طبيعة أي حوار هادف؛ أن يؤدي إلى التفاعل والمشاركة بين المتحاورين، لذا لا يتحقق
معنى الحوار إلا بوجود هدف أو غاية يراد تحقيقها أولاً، كما لا يكون حواراً عندما
يكون هناك طرف يملي إرادته على الآخر·
وقد أصبح الاتصال علماً يُدرس ومهارة وسبيلاً إلى نقل الأفكار والآراء والتجارب
والقيم؛ على ما يحققه ذلك من تواصل وتفاعل اجتماعي أحوج ما نكون إليه وما ينجم عنه
من إثراء للتجارب الإنسانية والمعارف المختلفة· والحوار والتشاور من أهم مسالك
الدعوة إلى الله، وهو حديث يجري بين شخصين أو طرفين حول قضية معينة، والتشاور هو
تبادل الآراء ووجهات النظر حول موضوع معين، أمرنا الإسلام للتزام بهذا لإيجاد الحلول الناجعة لمشاكل الأمة، ولطرح
الخلاف والوصول إلى توافقات، حيث نجد الرسول صل الله عليه وسلم يوصي أصحابه
بالشورى فيما بينهم، حتى لا يسود الاستبداد بالرأي·
كما مدح الله تعالى عباده الآخذين بالشورى؛ لما لها من آثار إيجابية في وحدة المجتمعات
وتماسكها·
ولقد كان المسلمون يسألون الرسول صل الله عليه وسلم ويستفتونه فيما يواجههم من أمور،
وكان القرآن الكريم يجيب عنها، والرسول صل الله عليه وسلم يحاورهم فيها، ومن
الأمثلة على الحوار، قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ
فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ
الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ
فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ
الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258]·
فالحوار فن من فنون الكلام والمحادثة، وصيغة متقدمة من صيغ التواصل والتفاهم، وأسلوب من
أساليب العلم والمعرفة، ومنهج من مناهج الوعي والثقافة، ووسيلة من وسائل التبليغ
والدعوة، استعمله الفصحاء في صناعتهم، وعمدت إليه الشعوب في تواصلها وتفاعلها مع
غيرها، واختطه المفكرون والمربون أسلوباً ومنهجاً في تعليمهم، واعتمده الأنبياء
والرسل والمصلحون في دعوة الناس إلى الخير والفضيلة والرشاد· (عبدالستار
الهيتي 4002: الحوار: الذات والآخر·
الدوحة، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، ص83)·
إن تحديد جوهر علاقة الأنا بالآخر؛ لا ينفك عن رصد واقع المجتمع العربي الإسلامي،
الذي أدخل – ومنذ القرن التاسع عشر – في تاريخ غير تاريخه من خلال جريمة الاستعمار
الغربي، ومن خلال تجميد تاريخ شعوبه الإسلامية، وتشويه ثقافته وحضارته التي تعبر
عن روحه التاريخية من جهة، ومن جهة أخرى نتيجة معاناته من تحديدات تأكيد الذات،
وسط عالم تسارعت فيه الاكتشافات والاختراعات العلمية، وتنافست فيه المراكز الكبرى
للاقتصاد والمال والتكنولوجيا، لاكتساح أكبر مساحة من التأثير والإنزال
والهيمنة(مريم آية أحمد 7002م، العلاقة مع الآخر في ضوء الوسطية في الإسلام، عمان:
منتدى الوسطية للفكر والثقافة)·
لقد تناول العديد من التربويين مفهوم الحوار وأهميته في حياة الأفراد والشعوب، من خلال
دراسات علمية تربوية عديدة، مؤكدين على أنها حاجة من حاجات الحياة لا غنى عنها
للجميع، من آباء وأمهات وأبناء وبنات وأفراد ومجتمعات، وبخاصة بعد دخول العالم عصر
الاتصالات الإلكترونية ورواج المرئي والمسموع من فضائيات وإنترنت ووسائل الاتصال
الأخرى·
المبحث الأول: مفهوم الحوار
تمهيد:
تناول العديد من الباحثين والمهتمين موضوع الحوار، في محاولة للوصول إلى معنى دقيق
لمفهوم الحوار· ونظراً لدقة هذا المفهوم وإمكانية تطبيقه في الكثير من المجالات،
سيتم محاولة التعرف على مفهوم الحوار من خلال التطرق إلى المطالب الآتية:
المطلب الأول: الحوار لغة
الحوار لغة له معان متعددة تبعاً لتفعيلاتها الصرفية، فقد جاء أن (الحَورََ) هو الرجوع عن
الشيء وإلى الشيء، يقال حارَ إلى الشيء وعنه حَوراً أو حَارَه: رجع عنه وإليه، وكل
شيء يتغير من حال إلى حال، فقد حارَ يحُور حوراً
(ابن منوظر، لسان العرب، 4/712-والفيروزآبادي، القاموس المحيط، 2/32)·
المحاورة:
المجاوبة· والتحاور: التجاوب، تقول: أحرت له جواباً وما أحارَ بكلمة، والحور:
الجواب، يقال: كلَّمته فما رد إلي حوراً أو حويراً· (محمد مرتضى الحسيني الزبيدي
4991م، تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق علي شيري· بيروت، دار الفكر للطباعة
والنشر والتوزيع، ص:613-713)·
وتعود أصل كلمة الحوار إلى (الحَوْر) وهو الرجوع عن الشيء وإلى الشيء، يقال: (حار بعدما
كار)، والحوْر: النقصان بعد الزيادة؛ لأنه رجوع من حال إلى حال، وفي الحديث
الشريف: “نعوذ بالله من الحور بعد الكور” (صحيح الإمام مسلم، كتاب الحج،
باب57، الحديث: 0432)·
كما جاء في “مختار الصحاح” بأنها المحادثة والمجادلة، ومنه قوله تعالى:
{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن
تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} [الكهف: 37]، وكذلك قوله
تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا
وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1]· وقال تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن
يَحُورَ } [الانشقاق: 14]· أي: لن نرجع·
المطلب الثاني: الحوار اصطلاحاً
حاول العديد من المفكرين والباحثين والدارسين الوصول إلى المفهوم الاصطلاحي للحوار، حيث
يعرَّف على أنه: “أسلوب يجري بين طرفين، يسوق كل منهما من الحديث ما يراه
ويقتنع به، ويراجع الطرف الآخر في منطقه وفكره قاصداً بيان الحقائق وتقريرها من
وجهة نظره” (عبدالستار الهيتي 4002م، مرجع سابق، ص:04)·
كما تم تناول مفهوم الحوار من وجهة نظر الإسلام على أنه: “قيمة من قيم الحضارة
الإسلامية المستندة إلى مبادئ الدين الحنيف وتعاليمه، وهو موقف فكري وحالة وجدانية
وتعبير عن أبرز سمات الشخصية الإسلامية السوية، وهي سمة التسامح؛ لا بمعنى التخاذل
والضعف بوازع من الهزيمة النفسية، ولكن بمعنى الترفع عن الصغائر، والتسامي على
الضغائن، والتجافي عن الهوى والباطل” (عبدالعزيز عثمان التويجري 7991، الحوار
والتفاعل الحضاري من منظور إسلامي· نشر في وزارة الأوقاف المصرية في كتاب
“الإسلام ومستقبل الحوار الحضاري” ص:48)·
والحوار محادثة بين شخصين أو فريقين، حول موضوع محدد، لكل منهما وجهة نظر خاصة به، هدفها
الوصول إلى الحقيقة، أو إلى زكبر قدر ممكن من تطابق وجهات النظر، بعيداً عن
الخصومة أو التعصب، بطريق يعتمد على العلم والعقل، مع استعداد الطرفين لقبول
الحقيقة ولو ظهرت مع الآخر (بسام عجك 7991م الحوار الإسلامي المسيحي، دمشق: دار
قتيبة، ص:02)·
المبحث الثاني: أركان الحوار
تمهيد:
إن البحث في منهجية الحوار يتطلب منا الوقوف على أركان الحوار الواجب توفرها لصحة
الحوار· ومن هنا سنتناول هذا المبحث من خلال المطالب الآتية:
المطلب الأول: وجود طرفين متحاورين
لا بد للحوار من وجود أكثر من طرف في المحاورة، لأن الحوار لا يتحقق إلا عندما يتم
طرح أكثر من رأي وأكثر من فكرة في موضوع محدد (عبدالستار الهيتي 4002م، مرجع سابق،
ص:94)·
ولكي يتمكن كل طرف من طرفي الحوار إجراء المحاورة في مناخ طبيعي يتحقق من خلاله الوصول
إلى صيغة علمية في الآداء والطرح والتفكير، فإن ذلك يتطلب وجود جملة من الشروط،
أبرزها:
1- توفر الحرية الفكرية: إن عدم توفر الحرية الفكرية تجعل ثقة
المحاور بنفسه تتضاءل شيئاً فشيئاً حتى يفقد بعد ذلك ثقته بفكره وقابليته لأن يكون
طرفاً في الحوار والمناقشة، كما أن ذلك يعمل على إرباك المحاور وتشتيت أفكاره،
فإذا أردنا للحوار أن ينتهي بنتيجة منطقية يُسلِّم بها الطرفان، فلا بد من أن يملك
كل منهما حرية الحركة الفكرية التي تحقق له شخصيته المستقلة، بحيث لا يكون واقعاً
تحت هيمنة الإرهاب الفكري والنفسي الذي يشعر معه بالانسحاق أمام شخصية الطرف
الآخر، لما يحس به، من العظمة التي يملكها الآخر (محمد حسين فضل الله 5891، الحوار
في القرآن: قواعده وأساليبه ومعطياته· ط3، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات
والنشر والتوزيع، ص:63)·
2- الاستعداد النفسي للاقتناع بالنتائج: إن عدم استعداد طرفي
الحوار لقبول النتائج؛ يعني أن فكرة كل واحد منهما كانت معدة سلفاً ولا مجال عنده
للتراجع عنها مهما ظهر له من الأدلة والبراهين، فهو في هذه الحالة يكون تابعاً
لدوافعه الذاتية والاجتماعية التي لا علاقة لها بالقناعة الفكرية والعلمية
المرتكزة على البرهان والدليل، ولقد عاب القرآن الكريم على أولئك الذين يحاورون رسول
الله [ ولكنهم ليسوا مستعدين لتقبل نتيجة المحاورة، فقال تعالى: {وَمِنْهُم مَّن
يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ
وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا
حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا
إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنعام: 25]·
3- عدم التعصب لكفرة مسبقة: ويعني هذا أن يتخلى كل طرف عن التعصب
لوجهة نظر مسبقة، وعن التمسك بفكرة يرفض نقضها أو مخالفتها، لأن التمسك بوجهة
النظر السابقة يتباين مع منهجية الحوار في تبادل الأفكار وتداول الطروحات وسماع
الرأي الآخر؛ فعلى طالب الحوار أن يكون في طلب الحق كناشد ضالة لا يفرق بين أن
تظهر على يديه أو على يد غيره، بحيث يكون المحور رفيقاً ومعيناً له لا خصماً
(عبدالستار الهيتي 4002، مرجع سابق، ص:45)·
المطلب الثاني: وود قضية يجري الحوار بشأنها
فالحوار لا يتحقق من فراغ، وإنما يدور حول فكرة أو موضوع يستحق البحث والمناقشة وتبادل
الآراء مع الغير، لأن عدم وجود الفكرة أو القضية التي يجري الحوار بشأنها؛ يجعل
عملية لا طائل منها، بل تتحول إلى سفسطة (السفسطة في المعجم الوسيط تعني من أتى
بالحكمة المموهة، وهي أيضاً التلاعب بالألفاظ لطمس الحقائق والإجابات على السؤال
بسؤال)· كلامية توصل أطرافها إلى اللجاج الذي يقتصر الأمر فيه على النقاش لذاته،
ويكون هم المتنافسين إحراز غلبة على الخصم، ونيل الشهرة دون هدف علمي منشود·
يقول الدكتور يحيى الجمل: “كوننا لا نعرف كيف نتفق أصبح أمراً شائعاً، ولكن
المشكلة الحقيقية أننا لا نعرف كيف نختلف···” فالاختلاف في الرأي ظاهرة صحية
تعرفها كل المجتمعات المتحضرة، إلا أنها تنقلب إلي مأساة عندما يتحول الاختلاف إلى
درجة العداء والتحزب الضيق والخروج على مصالح الأمة (عبدالستار الهيتي 4002م، مرجع
سابق، ص:45)·
المبحث الثالث: أسس الحوار
الحوار بشكل عام وفي الإسلام بشكل خاص، يحتاج إلى عدد من الأسس التي يقوم ويرتكز عليها
لتحقيق الأهداف المرجوة منه، لذلك ارتأينا أن نتناول هذا المبحث من خلال المطلبين الآتيين:
المطلب الأول- أسس الحوار في الإسلام:
تعتمد الشريعة الإسلامية على مبدأ الوسطية، والذي ارتأيناه مدخلاً للتعرف على أسس الحوار
في الشريعة الإسلامية، حيث إن الوسطية مرتبة عزيزة المنال، غالية الثمن؛ كيف لا؛
وهي سمة هذه الأمة، ومحور تميزها بين الأمم، جعلها الله خاصية من خصائصها تكرماً
منه وفضلاً·
وتقوم هذه الوسطية على العديد من الأسس نجمل منها ما يأتي (عبدالمجيد الصلاحين 8002،
الوسطية وأسس الحوار مع الآخر، عميد كلية الشريعة، الجامعة الأردنية، عمان،
الأردن)·
1-المجادلة بالتي هي أحسن: فالإسلام دعا أتباعه إلى الحوار
بالحسنى، يقول الله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [النحل:
125]· وقال أيضاً: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46]· وقد قرر القرآن الكريم أن الخلاف بين الناس سنة ربانية
جبلوا عليها، فقال: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً
وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ(118) إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ
خَلَقَهُمْ } [هود: 118 - 119]·
2- الانطلاق من القضايا المشتركة: وذلك هو الأسلوب الذي أمر به
القرآن الكريم في دعوة أهل الكتاب؛ حيث قال عزَّ وجلَّ: {قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ
نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا
بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ
بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [آل عمران: 64]·
3 – تجنب استثارة مشاعر العداء لدى الآخر: والأصل في ذلك قول الله
عزَّ وجلَّ: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ
اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]·
4- الوضوح: فاللغة ناقل غير كفء في بعض الأحيان، والناس حين يسمعون
كلاماً؛ فإنهم قد لا يفهمونه إلا في ضوء ما لديهم من خلفيات معرفية؛ وكثير منهم
يقرؤون تلك الخلفيات ويبلورونها عِوضاً عن الاشتغال بفهم ما سمعوه·
5- التركيز على الكليات وعدم الإغراق في الجزئيات: إن المحاور
الناجح هو الذي لديه القدرة على إيجاد نقاط الاتفاق مع المخالف، من خلال تركيزه
على الكليات التي جاءت بها الديانات السماوية، كوحدة الأصول والقواسم المشتركة بين
هذه الديانات، كما أن المحاور الناجح هو ذاك القادر على تجنب التفاصيل والجزئيات
التي تؤدي في الغالب إلى الاختلاف والتنافر، وكما قيل: إن الشيطان يكمن في
التفاصيل (عبدالمجيد الصلاحين 8002، مرجع سابق، ص:41)·
المطلب الثاني: آداب الحوار وأخلاقيته
هذه الآداب لا بد من أن تكون ملازمة للحوار نفسه، فلعلها تكون ضماناً لاستمراريته كي
لا ينحرف عن الهدف الذي كان من أجله الحوار، وحتى بعد انتهائه؛ لا بد من توافر
آداب من أجل ضمان تنفيذ النتائج التي كان ثمرة الحوار· فمن آداب الحوار وأخلاقياته
ما يلي: (محمد الشيخ أبو عاقلة الترابي 1102، أخلاقيات الحوار في الإسلام· ورقة
عمل مقدمة في ندوة الأخلاق الإنسانية الرفيعة 41-51 فبراير 1102)·
1- حسن الاستماع وأدب الإنصات وتجنب المقاطعة:
فالمحاور ربما ينهي الحوار إن لم يستمع له الطرف الآخر ولم يعطه حقه في الكلام، وقد جاء في
كتاب “العقد الفريد” لابن عبدربه، قال أحد الحكماء لابنه: “يا بني
تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الحديث، وليعلم الناس أنك أحرص على أن تسمع منك
على أن تقول”
ويقول ابن المقفع: “تعلّم حسن الاستماع كما تتعلّم حسن الكلام، من حسن الاستماع:
إمهال المتكلم حتى ينقضي حديثه··· والإقبال بالوجه، والنظر إلى المتكلم والوعي لما
يقول”
2- التزام القول الحسن، وتجنب التحدي والإفحام:
إن من أهم ما يتوجه إليه المحاور: التزام الحُسنى في القول، ففي محكم التنزيل: {وَقُل
لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [الإسراء: 53]· فيجب على المحاور
أن ينأى بنفسه عن أسلوب الطعن والتجريح وكل ألوان الاحتقار والاستفزاز، ومن لطائف
التوجيهات الإلهية للنبي محمد صل الله عليه وسلم: “نهيه عن التعنيف في الرد
على أهل الباطل”، قال تعالى: {وَإِن
جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الحج: 69] ·
3- إخلاص النبية لله تعالى:
فالنية أصل في العبادات والمعاملات، وبها تتميز عن العادة، ولهذا يجب على كل متحاور أن
يخلص النية في جداله وحواره ويكون قصده في ذلك التقرب إلى الله تعالى وطلب مرضاته
في امتثال أمره، والنهي عن المنكر، فلا يقصد المباهاة وطلب الجاه والرياء، بل عليه
أن يدفع عن نفسه حب الظهور والتميز على الأقران، وإظهار البراعة وعمق الثقافة،
والتعالي على النظراء والأنداد·
4- تقدير الخصم واحترامه:
حيث ينبغي التأكيد على الاحترام المتبادل بين الأطراف، وإعطاء كل ذي حق حقه، والاعتراف
بمنزلته ومقامه، فيخاطب بالعبارات اللائقة، وهذا لا ينافي تصحيح الأخطاء بأساليب
رفيعة مهذبة·
5- الالتزام بوقت محدد في الكلام:
بعض المتحاورين يرغب في أن يستأثر بالكلام وحده، وفي ذلك تضييع للوقت، وظلم للطرف
الآخر· يقول ابن عقيل في كتابه فين الجدل: “وليتناوبا الكلام مناوبة لا
مناهبة، بحيث ينعت المعترض للمستدل حتى يفرغ من تقريره للدليل، ثم المستدل للمعترض
حتى يقرر اعتراضه، ولا يقطع أحدٌ منهما على الآخر كلامه وإن فهم مقصوده من
بعضه”
6- خفض الصوت وعدم الغضب أثناء المناظرة:
التعامل مع المخالف يقتضي نوعاً من ضبط الأعصاب، وهو ما عبَّر عنه الرسول بقوله: “ليس
الشديد بالصرعة وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب”، لأن الهدوء في
الحوار يستميل الطرف الآخر ويهيئه لقبول ما يُعرض عليه، ولذلك لما قال قوم عاد
لنبيهم هود: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ
الْكَاذِبِينَ } [الأعراف: 66]· لم يزد عن أن نفي السفاهة والكذب عن نفسه، وناداهم
متودداً إليهم: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن
رَّبِّ الْعَالَمِينَ(67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ
أَمِينٌ} [الأعراف: 67 - 68]·
7- ختم الحوار بهدوء مهما كانت النتائج:
إذا صار الحوار جاداً من قبل جميع الأطراف، فلا بد أن يصلوا جميعاً إلى ما التزموا به
في بداية الحوار من الرجوع إلى الحق وتأييد الصواب، فإذا رفض المحاور الحجج
العقلية كأن لم يقتنع بها؛ ففي هذه الحالة ينتهي الحوار بهدوء كما بدأ دون الحاجة
إلى التوتر والانفعال، يقول الله في محكم كتابه الكريم: {أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ
مِّمَّا تُجْرَمُونَ } [هود: 35]· ويقول تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ
أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ
عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55]·
وكذلك ينتهي الحوار عندما يصل إلى مرحلة العبث وتضييع الوقت، ويستحيل خلالها تحقيق
فائدة، وقد وصف القرآن الكريم حوار الرسول مع الكافرين؛ بقوله تعالى: {إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ
لاَ يُؤْمِنُونَ } [البقرة: 6]·
المبحث الرابع: أنواع الحوار في القرآن الكريم
استخدم القرآن الكريم العديد من الأساليب في الحوار لإيصال الأفكار والآيات للناس، ومنها:
الحوار التشريعي: وهو من طرف واحد، هو الله سبحانه وتعالى، للطرف الثاني وهم عباده·
الحوار الوصفي: ويعرض قصصاً ومشاهد حوارية واقعية، بهدف تبسيط الفكرة وتقريب المستمع من
الحوار، وحمله على تبني موقف صحيح·
والحوار القصصي، وهو حوار يدور حول قصة، ويصور المواقف تصويراً تاماً بتناول جميع أجزائها·
والحوار الحجاجي البرهاني، ويعتمد الحجة والبرهان لدحض ادعاءات المنكرين للتوحيد والبعث،
بأسئلة تزعزع تقاليدهم، الباطلة وتهدف إلى توجيههم للنظر والتفكير في آيات الله من
أجل بناء قناعات ومواقف صحيح (عبدالرحمن النحلاوي 0002، التربية بالحوار، دمشق:
دار الفكر، ص:62)·
ومن صور الحوار في القرآن الكريم حوار الله سبحانه وتعالى مع الملائكة، الأمر الذي
تبرز فيه الحكمة الإلهية، كما ورد في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]· وكذلك
تبرز حقيقة الهداية الإلهية في القرآن الكريم، من خلال حوار الله سبحانه وتعالى مع
نبي الله آدم عليه السلام، بقوله تعالى: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ
الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ
فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ
لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن
تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي
لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا
الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن
وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا
الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ (22)
قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا
لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ
عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأعراف: 19 -
24]·
وتتجلَّى حقيقة الثواب والعقاب من خلال حوار الله سبحانه وتعالى مع الشيطان، بقوله تعالى:
{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ
قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ(10) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ
قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ
يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ
أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن
طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا
فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ
يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ(15) قَالَ فَبِمَا
أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم
مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ
وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ
(17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ
لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ (18)} [الأعراف: 10 - 18]·
وكذا حوار الناس مع الناس؛ مبرزاً الجشع الإنساني، بقوله تعالى: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ
فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ
نَفَراً } [الكهف: 34]·
ويتميز الحوار في القرآن الكريم عن غيره من الحوار بالعديد من الخصائص، منها: مخاطبته
للعقل والوجدان، وقوة الحوار ووضوحه وبساطته واستخدام أقرب الطرق وأسهلها للإقناع،
وتكرار الحوارات، والحرص على هداية الناس، وإرشاده لاستخدام العقل، واشتماله على
آداب الحوار، وتنوع الحوار / خالد محمد المغامسي 7002م، الحوار: آدابه وتطبيقاته
في التربية الإسلامية، مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، ص3، 8241هـ، ص ص: 38-29·
المصدر: http://www.aldaawah.com/?p=8778