اللغة العربية في المعاهد السياحية بين الوظيفية والتقنية

فؤاد بوعلي
1 ـ قـبـل الـبـــــدء :
عندما ينبري أحد الدارسين لتحليل وضعية اللغة العربية داخل المنظومة التربوية فإنه سيجد نفسه أمام ظاهرة / قضية محاطة بسجف من التناقض : تناقض بين ما هو مسطر في النصوص القانونية و الخطابات الرسمية من مبادئ و أحكام تعلي من شأن العربية ، و بين ما نشهده في الواقع التربوي من تهميش و احتقار لها على صعيد الممارسة و التطبيق .

فمن الثابت أن للغة الضاد مكانة هامة داخل البناء النظري المنظم للإدارة المغربية ، حيث تزخر النصوص التشريعية بالعديد من الفصول و البنود المؤكدة على أهمية العربية كلغة وحدة و هوية و تواصل على الصعيدين الشعبي و المؤسساتي . إذ تقر الوثيقة الأساسية للدولة (الدستور) منذ الديباجة أن لغة المغرب الرسمية هي العربـية ، كما أن العديد من المراسيم و المقررات التنظيمية قد منحتها وضع لغة التعامل الأولى داخل الإدارة المغربية . زيادة على كل هذا نجد لها حضورا مميزا في جل أشكال التخاطب الإعلامي و السياسي ، حيث تحظى بأهمية متوارثة داخل منابر الصحافة و الإذاعة ، دون أن نغفل وضعها داخل النقاشات السياسية . إذ ظلت النخبة الحزبية ، على اختلاف ألوانها و أطيافها ، تنادي بضرورة الاهتمام بلغة العرب باعتبارها لغة هوية و قومية ، كما تحيل على ذلك أدبيات المكونات السياسية و خطاباتها المتتالية .

كل هذه الحقائق المكتوبة و المقيلة تثبت المكانة التي تحظى بها العربية على الصعيد النظري ، لكنها على الصعيد التربوي ـ العملي تقابل بتصور آخر : تصور المجافاة و التهميش ، بل المحاربة أحيانا ، مما يعطيها صورة لغة تاريخ و ماض نتبرك بذكره ، و لغة متاحف و أساطير نستعملها عند المحاجاة . أما اعتبـارها لغة علـم و تقنـية و سوق و إنتاج فذاك ما تحاول العديد من الدوائر طمسه ، و الإبانة عن عجز لغة الصحراء و القوافل عن مسايرة عالم الأنترنيت و البورصة . فبعيدا عن الخطابات الرسمية و الشعارات المغناة باسم الهوية أو الدين ، نجد حضور العربية داخل تعليمنا باهتا ، بحيث لا تؤدي الدور المنوط بها كلغة قومية ، كغيرها من اللغات القومية في كل دول العالم ، و لا أدل على ذلك من وضعها الحالي داخل التكوين المهني / التقني الذي يهتم بتخريج اليد العاملة المتخصصة في المجالات الاقتصادية و الاجتماعية المختلفة .

و يركز هذا العرض الوصفي ـ التحليلي على مقاربة واقع العربية داخل التعليم المهني ، من خلال نموذج معين هو التكوين السياحي ، مع ما تحمله ظروف التواصل بين الطالب و المكوِن من عقبات و إكراهات تعيق عملية التعلم بشروطه الأولية ، ثم نعقب على ذلك بتحديد لأهم مبادئ وظيفية العربية داخل القطاع السياحي و التي تعد قيودا تضبط محاولات التنظير و التعريب . لكن قبل مناقشة هذه المعطيات سنحاول في البدء إعطاء نبذة موجزة عن التكوين السياحي من خلال الأهداف المسطرة من قبل لوزارة الوصية .
2 ـ الـتـعـليـم الـسـياحي و مـعـيار الجودة :أي تكوين لأي طـالـب ؟[/COLOR]

حظي التكوين السياحي بأهمية ما فتئت تتزايد من طرف الدوائر الوصية على القطاع ، نظرا لدوره في إعداد الطاقة البشرية المؤهلة و المتخصصة في الميدان ، و بغية تحسين الخدمات داخل المؤسسات السياحية و الفندقية . و قد انصب الاهتمام على هذا الصنف مذ أصبح القطاع السياحي عنصرا أساسيا في السياسة الحكومية باعتباره محركا للتنمية الاقتصادية و عاملا حاسما في تحقيق التوازنات المالية . و يكفي أن نلقي نظرة على الاتفاقية ـ الإطار 2001 ـ 2010 التي وقعتها الحكومة مع الاتحاد العام لمقاولات المغرب لنجد الفصل الثالث عشر يؤكد على ضرورة الاهتمام بالتكوين السياحي من خلال تقوية الشعب و التخصصات و زيادة عدد المتدربين المستفيدين من هذا التكويـن و تشجيع التكوين المستمر1. و يأتي تركيز المسؤولين على التكوين لأن الفعل السياحي لا يمكنه أن يؤدي دوره الاقتصادي و الثقافي إلا إذا كان القائمون على إدارته يحملون من المهارات التقنية و الحمولة المعرفية ما يتيح لهم الإجادة و تقديم المنتوج المغربي على أجمل صورة . لهذا عملت الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال على إنشاء مؤسسات للتكوين السياحي و الفندقي في جل جهات المغرب ، و خاصة المناطق المعروفة بنشاطها السياحي مثل أغادير و طنجة و فاس و مراكش ...إذ منذ 1950 ، حين ظهرت للوجود أول مدرسة فندقية بالرباط ، توالى إنشاء المؤسسات التي تتوزع على ثلاثة مستويات : عالي و تقني و تأهيل . و هذا يبرز أهمية هذا التكوين الذي يعرف تطورا متسارعا نحو الدقة و التخصص التقنيين . و قد ساهم في هذا التطور الحركية التي يعرفها القطاع على الصعيدين المحلي و العالمي ، بعد أن أصبحت السياحة صناعة بلا دخان تحتاج إلى مهارات و كفاءات مهنية في ميادين متنوعة لا تزيد مع الوقت إلا تفريعا و تشعبا . و لهذا نلاحظ حتى على مستوى التكوين بعض الاختلاف في البرامج الدراسية بين المدارس و المعاهد ، نظرا للارتباط العضوي بين هذا الصنف الدراسي و عالم السوق و المال . إضافة إلى كل هذا ، إن دخول المغرب في عمليات شـراكة مع العديد من الـدول و المنظمات الدولية ، خاصة مع المجموعة الأوربية ، قد جعل التعليم يأخذ بعدا دوليا ، حيث أضحت البرامج المعتمدة في العديد من المعاهد و المراكز هي نفسها المتبناة من قبل العديد من مؤسسات التكوين في فرنسا أو بلجيكا ...أو غيرها من دول العالم المتقدم . و برفع الوزارة الوصية لشعار الجودة قد أقر بأهمية التكوين الجيد في إنتاج أطر جيدة على الشكل التالي :

جـــــودة الــتــكـويــن = جــــــودة الـخــدمـــات

لذا فكل خلل أو نقص يصيب القطاع السياحي لا بد أن تجد له أصلا في العملية التربوية . إذن ، فرهان كل تأهيل سياحي هو بناء تكوين فعال ، مرن ، و متجدد ، أي ليس منغلقا على برنامج متوارث منذ زمن طويل بل يلائم حاجيات القطاع المتبلورة ، و ذلك حتى نضمن أمرين متلازمين :

ـ أولا : ضمان يد مؤهلة لسد جميع الثغرات داخل سوق العمل ، و الرهان على خدمات جيدة داخل القطاع السياحي ، مع ما يرتبط بذلك من تحسين لصورة المغرب باعتباره منتوجا سياحيا .

ـ ثانيا : ضمان العمل لخريجي المعاهد السياحية ، لأن تكوينهم مرتبط أشد الارتباط بحركية وحاجيات القطاع ، و هذا يعطي نفسا قويا و أملا متجددا لدى الطلبة المتدربين . كما يساعد هيئة التأطير على الاهتمام بالبحث العلمي المرتبط بمجال الفعل السياحي . و لتحقيق هذه الأهداف سنت الوزارة برنامجا تدريسيا يتوزع على ثلاثة مجالات :

أ ـ مجال التكوين العام : يتضمن مواد الثقافة العامة من لغات (عربية / فرنسية / إنجليزية / إسبانية / ألمانية) ، و جغرافيا سياحية و اقتصاد و تشريع و إعلاميات ...

ب ـ مجال التعليم التقني : يحوي المواد المرتبطة بشكل مباشر بتخصص الفندقة : وقاية عامة ، و تكنولوجيا المطبخ ، و تكنولوجيا المطعم ، و الإيواء ، و المشروبات .

ج ـ مجال التعليم التطبيقي :تدخل فيه الدروس التطبيقية البيانية في المطبخ و المطعم و الإيواء و الطوابق. من خلال هذه الخطاطة يظهر أن الهدف الأساسي من البرنامج التدريسي هو إعطاء الطالب قدرا كبيرا من المعارف العامة (لغويا/قانونيا/جغرافيا) ، إلى جانب إتقان المهارات المهنية التي هي الأصل و الأساس في هذا المجموع .
3 ـ واقـع اللـغـة الـعـربـية في الـتعلـيم السـياحي : عن أي عربية نتحدث ؟ 

قد يبدو الحديث عن اللغة العربية داخل التكوين المهني أمرا جديدا في الدراسات التربوية . فإذا كانت المقالات و التحاليل التي تتناول واقع لغة الضاد داخل التعليم العمومي متعددة و كثيرة ، خاصة مع النقاشات المثارة حول الميثاق الوطني للتربية و التكوين و سبل أجرأته ، فإنه نادرا ما يحظى التكوين المهني عموما باهتمام مماثل ، و كأن عالم المهن و التقنيات يحكمه منطق آخر ، غير منطق التربية و التأهيل و إنما منطق السوق و الحاجة . لذلك لابد أن يكون تناولنا مبررا بالإجابة عن سؤال مركزي : لماذا الحديث عن العربية في التكوين السياحي ؟ أو بالأصح : هل للعربية وجود ما داخل هذا التكوين ؟ و إذا كان فعن أي عربية نتحدث ؟...

قبل الإجابة عن هذه الإشكالات لابد من الإشارة إلى ملاحظتين اثنين :

ـ الملاحظة الأولى : المتأمل في السياحة في المغرب و في دول العالم الثالث ، يخلص إلى مسلمة مركزية هي غياب فلسفة واضحة مؤطرة للقطاع . بحيث ارتبطت السياحة في أذهان المسؤولين و الدوائر الوصية ، على اختلاف انتماءاتهم السياسية ، بالبعد الاقتصادي أساسا . و إذا كان للعامل الثقافي من دور فإنه لا يعدو خدمة الأول . و هذا ما نستشفه من خلال توظيف التراث و التقاليد و العادات الأصلية المرتبطة بالذاكرة الوطنية في جلب السياح و إثارتهم ، حيث يعد هذا هو المجال الوحيد لحضور الثقافة داخل القطاع ، أي أن المعادلة المتحكمة فيه هي : 

الــسـيـــاحـــــة = عــمــلــة صـعــبــة 

و ما كان خارج هذا المنطق النفعي الربحي يعد ترفا من القول ، و يكفي للتمثيل لذلك أن نتصفح الاتفاق ـ الإطار السابق الذكر بين الحكومة و أرباب العمل المعنونة بـ " السياحة : رؤية ، تحدي و إرادة ". فمن أصل الثلاثة و الثلاثين فصلا لا نجد للجانب الثقافي أي ذكر ، و هذا حال جميع المشاريع السياحية . لكن أليس من المعقول أن نسائل أنفسنا عن المنتوج السياحي "المغرب" الذي نقدمه للزوار و نقوم بإشهاره في كل بقاع الأرض : هل نقدمه كما هو بحضارته و ذاكرته ، أم كما يريده السائح ؟ أي هل نبرز له ذاتنا كما هي أم ذاتنا كما يريدها هو حسب رغباته و كما يفصلها على مقاسه المختار ؟

في حقيقة الأمر إذا كان الحديث عن التغريب و الغزو الفكري يأخذ أبعادا متعددة في العديد من الميادين ، فإنه في الميدان السياحي يأخذ الشكل الأكثر وضوحا و جلاء ، حيث تقوم المؤسسات الفندقية بتلبية طلبات السائح كيفما كان نوعها ، دون استحضار الأبعاد الحضارية للشعب المغربي و المنبثقة من هويته الإسلامية . و لا نقدم أنفسنا كنسخة مشوهة عن أصل منحرف نستخدم فيه كل الوسائل الممكنة واقعيا دون استحضار ثوابتنا الحضارية .

ـ الملاحظة الثانية : اعتمادا على هذا المنطق النفعي الذي يحكم القطاع بأكمله ، يطغى على العملية التكوينية البعد المهني المحض بعيدا عن كل ضوابط أو حدود خلقية أو حضارية ، ما دام الهدف المركزي هو تأهيل الطالب لتلبية رغبات السائح دون التساؤل عن موقعها داخل الهوية المغربية . بمعنى أن الحاضر داخل التكوين السياحي هو المهنة و المهارة التقنية ، و الغائب هو الفلسفة المحددة لحركية القطاع .

انطلاقا من هاتين الملاحظتين نكتشف أن وضع العربية داخل المنظومة التربوية المعتمدة في معاهد التكنولوجيا الفندقية و السياحية لن يكون إلا مظهرا آخر للمنطق الربحي / السوقي ، و عليه لن يكون للغة الضاد إلا وضعا ثانويا ، ما دامت لغة المال و الأعمال ليست هي لغة حضارتنا و هويتنا . و يتضح ذلك بالشكل الملموس حين نستحضر المعطيات التالية الواصفة لواقع العربية داخل المدارس الفندقية و السياحية :

1 ـ الغياب شبه الكلي للعربية باعتبارها لغة تواصل و تدريس . فباستثناء مادة اللغة العربية المحجم دورها الوظيفي ، فإن جميع المواد الملقنة سواء في التعليم العام أو التقني أو التطبيقي تقدم بلغة أجنبية ، خاصة اللغة الفرنسية التي تعد بحق اللغة الرسمية للتدريس داخل المعاهد السياحية . و إذا كانت اللغـة عالـما معرفـيا و شعوريا ، و حمولة من المبادئ و الأفكار ، فما هي يا ترى هذه الحمولة التي نقدمها للطالب السياحي ؟ إنها بكل بساطة حمولة من أسس الثقافة الغربية ظاهرها المنفعة المادية و جوهرها تهميش كل الثقافات و اللغات المحلية التي لا تدور في فلك المركز.

2 ـ من الناحية الإجرائية تعامل العربية باعتبارها مادة ثانوية . بحيث لا تخصص لها إلا ساعة واحدة في الأسبوع ، إضافة إلى أن المعامل في الامتحان الدوري أو النهائي لا يتعدى واحدا ، مع ما يتبع ذلك من تهميش لها و احتقارها سواء عند الطلبة أو في برامج الهيئة التدريسية / التربوية .

3 ـ نفس الأمر نجده عند تناولنا للبرامج المقررة في مادة اللغة العربية على صعيد معاهد التكنولوجيا الفندقية و السياحية . حيث نجد أنفسنا أمام دعوة واضحة لجعل هذه المادة عبارة عن ديكور يزين فسيفساء التكوين السياحي . 

حيث نلاحظ أن هذه المواد مأخوذة من كتب أو مراجع سبق لوزارة التعليم أن تخلت عنها ، أي أنها متقادمة و لم تخضع لأي تجديد أو تغيير داخل المعاهد السياحية ، عكس ما يحدث في مقررات المواد الأخرى (التقنية ) التي عد التجديد ملازما لها . و إذا وضعنا في اعتبارنا أن الشرط الأساسي لولوج مؤسسات التكوين السياحي أن يكون المترشح من مستوى أدناه السنة الثالثة ثانوي ، سنخلص إلى أن غالبية الطلبة قد سبق لهم دراسة هذه المواضيع ، مما يجعل المقرر بأكمله تكرار و إعادة لما سبق تلقينه ، و يبين بالملموس أن هذه المادة قد أدرجت بشكل مرتجل و بدون استراتيجية تربوية أو تعليمية ب ـ الجانب المضموني:يرتبط بالمواضيع المقترحة للتدريس التي نجدها بعيدة كل البعد عن ميدان السياحة . فإذا اقتنعنا بأن الطالب عندما يأتي من التعليم العمومي إلى التكوين السياحي المهني يضع نصب عينيه الحصول على كفاءة مهنية في الميدان ، نظريا و تطبيقيا ، و على حمولة معرفية مرتبطة به . و هذا ما توفره مختلف المواد المقررة ، حيث يقوم التعليم التقني بتهيىء الطالب لولوج عالم الشغل وفق مستجدات المجال ، في حين تبقى وظيفة التعليم العام إعطاء المتدرب أسس التواصل اللغوي و الثقافي داخل مجال السياحة بما يفيده في سوق العمل ، و هذا ما تقوم به مواد : الفرنسية و الإنجليزية و الإسبانية و الألمانية ، حيث توظف اللغة هنا لخدمة الهدف العملي المهني مما يمنحها طابعا وظيفيا . مما يحفز الطلبة على الاهتمام و يساعد الهيئة التربوية على البحث و متابعة جديد القطاع السياحي محليا و عالميا . لكن في مادة اللغة العربية نجد المضامين المتناولة لا علاقة لها بالميدان مما يعطي انطباعا بأنها أقحمت عنوة داخل هذا المجموع دون سابق تخطيط للحفاظ على صورة التكوين ومصداقيته داخل بلد عربي . أما محاور التربية الوطنية ، إن كانت تفيد في بلورة الفهم القانوني العام ، فإنها تقدم ببساطة تجاوزها مستوى الطلبة المتدربين ، كما أن الأحرى أن تعطى للطالب أبجديات قانونية ترتبط بمجال تخصصهم و عملهم .

و هكذا تبقى العربية خارج المجال السياحي موادا و برمجة و تواصلا ، تغرد بنشيد ابن المقفع و الجـاحظ و علماء السلف ، بعيدا عن مكنونات الإنسان المعاصر ، بمعنى أننا نتحدث داخل التكوين السياحي عن عربية النقاشات "الدون كيشوتية" التي لا ترى الواقع من خلال تطوراته ، و لكن من خلال جموده و إعادة إنتاجه . 

لكن كيف يمكننا العمل على تطوير لغة الضاد داخل العملية التكوينية المرتبطة برنامجا و هدفا بالقطاع السياحي ؟ و بعبارة أخرى : كيف يمكن تحديد مواصفات اللغة العربية الوظيفية داخل ميدان السياحة ؟

4 ـ البحث عن نموذج وظيفي للعربية داخل التكوين السياحي :

انطلاقا من المعطيات / المعوقات السابقة الذكر ، و التي تواجه كل مكون أو باحث داخل الميدان ، نخلص إلى أن وجود العربية داخل التكوين السياحي ليس إلا عملية تزيينية تخفي هول التغريب الممارس في الواقع العملي . إذ إن البناء النظري المؤسس للعملية التربوية بأكملها يلح على حضور الثقافة العربية داخل أي تكوين تشرف عليه الدولة ، كأحد مظاهر العمل بمقتضيات النص الدستوري . لذا كان هذا الحضور الباهت الذي ، إن كان يفسر في جانب منه وضع العربية في سياسات الدوائر المسؤولة التي يحكمها منطق التغريب و المنفعة ، فإنه في جانب ثان يوضح أن إقحام لغة الضاد كان مرتجلا و لم يكن مبنيا على معطيات بيداغوجية تربوية . 

و من أجل بلورة فهم جديد لدور العربية و للخروج من شرنقة الواقع التربوي بكل مثالبه و معوقاته ، لا بد من صياغة منهاج لغوي يعترف للغة الضاد بدورها الوظيفي ـ التخصصي من خلال تطويعها للاستجابة لمتطلبات المهنة و إدماجها في نسيج التكوين السياحي . و يكفينا استدلالا على ذلك اتساع العربية في نقل العلوم الأجنبية و ترجمتها و تعريب مصطلحاتها في أوج الحضارة الإسلامية، أي في قرون الترجمة ، و إن اختلف السياق الحضاري بين الحاجيات القديمة و الحديثة ، لكنها تشترك في الإبانة عن قدرة العربية استيعاب الواقع بكل مفاصله إذا منحت حقها من التقدير و الاهتمام 2. 

و في هذا الإطار يدخل طرحنا بضرورة السمو بالعربية إلى مصاف اللغات الوظيفية . فما هي مبادئ الوظيفية التي تجعل اللغة معبرة عن تقنية القطاع السياحي ؟ و ما هي الحلول المقترحة للربط بين لغة الهوية و الحياة العملية ؟ ثم هل نحصر اهتمامنا في ترجمة الاصطلاحات القطاعية أم أن الأمر يتطلب تحريرا للقدرة التعبيرية العربية داخل قطاع يعد محرك التنمية في جل دول العالم ؟

فـبعيدا عن الحلول التربوية التي تخص منهاج التعليم العام و المهني ، و التي عبر عنها في شكلها المبدئي الميثاق الوطني للتربية و التكوين ، و التي تستحضر الأهداف البيداغوجية المتوخاة ، نعتقد أن للسانيين الدور الأسمى في التنظير للغة تقنية تستجيب لطفرات الميدان السياحي بشكل لا يتـنافى مع نظام العربـية أصواتا و تركيبا و دلالة . و هذا لا يتأتى إلا بالاعتراف بأننا أمام معجم خاص أهم ميزاته هو أنه معجم " منقول " ، أي ليس منتوجا طبيعيا لثقافة العرب بكل تمظهراتها الاجتماعية و الحضارية ، و إنما هو اقتباس فرضه الواقع الثقافي للأمة الموسوم بالسلوك التبعي و الانسياقي . فباعتبار السياحة "انتقال الإنسان من بلد إلى آخر غير موطنه الأصلي لمدة لا تقل عن أربع و عشرين ساعة و لا تقل عن سنة لأية أغراض غير الربح أو امتهان حرفة معينة "3 ، حسب تعريف المنظمة العالمية للسياحة ، فإنها قد برزت إلى الوجود كفعل إنساني عقب التطورات الاقتصادية و الاجتماعية للغرب المتقدم ، خاصة بعد تحديد أوقات العمل و ظهور ما غدا ينعت بالوقت الثالث و العطل الأسبوعية و السنوية . أي أن أصل الفعل السياحي هو الآخر الأوروبي ، و في إطار عولمة الأذواق و التصرفات أصبح أحد مكونات الحياة المعاصرة لكل شعوب المعمور . لذا فالحديث عن لغة سياحية قطاعية عربية يظل رهينا بمدى تطويع لغة الضاد لمنتوجات و مبتكرات الآخر حتى يغدو التواصل بها أمرا متاحا في ميدان كل ما فيه مغَرَب .

و إذا حصرنا عملنا في الجانب الداخلي على حد تعبير الفهري(85) 4 ، يمكن إجمال الإشكالات التي تعترض تفعيل وظيفة وظيفية العربية داخل الميدان السياحي في ثلاثة : معرفي و معجمي و مرجعي ، تقابلها مبادئ مؤسسة و مقيدة للطابع التقني للغة الضاد .

مـبـادئ اللـغـة الـوظـيـفـيـة :

1 ـ مبدأ الاكتساب اللغوي : إذا كانت اللغة في أصل وجودها " أداة تعبيرية تساعد على نقل المعلومات ، و كل لغة تحدد بنـحوها ، أي نسق قواعد صوتية و صرفية و تركيبية و دلالية منتجة ، و معجمها ، أي المخزون المفرداتي الذي تستحضره قواعد نحوية و معرفية نشيطة "5 ، فإن أهم أهداف التكـوين السياحي هو تنميـة (و ليس خلق) القدرة اللغوية عند المتدرب تساعده في التواصل داخل فضاء الفندقة . و هذا يفترض وجود منهاج تعليمي واضح قائم حسب هوكي Hawkeyعلى احترام الخطوات التالية 6 :

ـ نـوع اللـغـة الـتي يـريـد الـدارسـون تـعـلـمـهـا

ـ الــوصــف الـتـفـصـيـلـي للـحـاجــــــات

ـ احتيــاجات المهارات و الوظائف و الأشكال اللغوية المطلوبة 
ـ تـحـديـد مـعـالـم الـخـطـة الـدراسـيـة للـبرنامج

و إذا توخينا أجرأة هذا التصور سنجد أن تنمية الرصيد المعرفي و المعجمي عند المتعلم يفترض أن تكون المواضيع المقترحة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالميدان السياحي و تخصصاته . من ذلك ما يتعلق ـ على سبيل المثال ـ بالأسس الفكرية أو الاقتصادية أو الجغرافية للفعل السياحي ، كما يلزم الاهتمام بمكونات المنتوج السياحي بالدخول في صلب التخصص التقني للمتدربين بالحديث عن أصول الفندقة و فن الخدمة و أصناف الطبخ من خلال نصوص توضيحية مستقاة من واقع العمل داخل الفنادق و المطاعم الحديثة ، و لم لا تقديم دروس بيانية عن الشعب و التخصصات باللغة العربية ( مطعم / إيواء / مطبخ / استقبال / إرشاد....) . لكن قبل الوصول إلى هذا المستوى ينبغي أن تكون المادة الدراسية قد تم تهييئها و تحديدها من طرف اللسانيين و الباحثين عن طريق خلق معاجم متخصصة و الكتابة في مختلف المجالات السياحية حتى نكون أمام ثروة نصية و مفرداتية يمكن استغلالها في العملية التربوية . لكن الواقع أن الحديث عن هذه المجالات لا يتم إلا باللغة الأجنبية ، الفرنسية تحديدا ، أو ضمن ميادين علمية لا تفي بموسوعية القطاع السياحي (اقتصاد أو جغرافيا أو ثقافة ...). لذا يظل مشوار التعريب طويلا و شاقا .

2 ـ مبدأ الاتساع المعجمي : من أهم الركائز المعتبرة في وظيفية اللغة داخل القطاع السياحي هي اتساع دائرته المفرداتية . فمن المتعارف عليه أن السـياحة ميدان تتقاطع فيه خيوط مجـاليـة عديدة من اقتصـاد و اجتماع و ثقافة و سياسة ... مما خلق تعددا دراسيا في شعبها و تخصصاتها : مطبخ ، إيواء ، مطعم ، مهرجانات ، استقبال ، إرشاد ... بشكل موسوعي انفردت به عن باقي القطاعات الاجتماعية و المعرفية . و هذا يخلق تعددا معجميا من حيث المادة المفرداتية المتداولة مما يجعل من الصعوبة حصر قائمتها أو الحديث عن معجم سياحي شامل . هذا بالإضافة إلى أن المجال السياحي يعرف تطورات متسارعة من حيث الدقة و التخصص المهنيين مما يجعل الإبداعية المعجمية نشاطا مستمرا دون توقف ، على غرار باقي المجالات التقنية . لذا من الصعب الاقتصار على المكتوب ، بل ينبغي متابعة واقع السلوك السياحي و تطوراته ، و هو أمر لم تعتده المعاجم العربية .

3 ـ مبدأ المرجعية المهنية : " المرجعية المهنية هي وثيقة تحدد الكفاءات المتوقعة عند المتدربين ، فهي تحدد بكيفية دقيقة المعارف و المهارات التي يجب تحصيلها ، و مستوى المستلزمات المطلوبة ، و المعارف العملية و المعارف المستعملة أو الموظفة "7 . فالذي يميز التكوين المهني عموما ، و السياحي على وجه الخصوص ، هو أنه لا يقدم معارف نظرية فحسب ، بل يضيف إليها مهارات تقنية تعتبر جوهره و أساسه . و ذلك على الصورة التالية :

قـدرة لـغويـة + كفـايـة معـرفـية + مهارة تـقنـية إطـار سيـاحي نمـوذجـي

حيث ينبغي أن يحترم في بناء الإطار السياحي المستقبلي انشغالاته المهنية حتى تبقى اللغة ملازمة لواقع المهنة ، و ذلك من خلال جرد الأنشطة التي يزاولها الطالب داخل المقاولة مما يجعل حامل الدبلوم مؤهلا لولوج عالم الفندقة و السياحة .
و باستحضار هذه المبادئ داخل العملية التنظيرية و التكوينية نكون قد أطرنا العربية بصورة تدمجها داخل نسيج التكوين السياحي و الفندقي بدل جعلها لغة ماضوية لنقاشات بعيدة عن اهتمامات الطالب و حاجيات الميدان . 

و في واقع الأمر ، إن وضع العربية داخل التكوين السياحي لا يقتصر على الجانب الإجرائي فحسب ، أو الجانب الأكاديمي فقط ، بل يتعلق بالبعد الفلسفي الذي يؤطر سياسة الدولة داخل القطاع و المبنية على مبدأين : مبدأ التغريب و مبدأ الربح المادي . لذا فكل تناول لقضية التكوين ينبغي أن تكون على ضوء هذين المبدأين المؤسسين للسياحة في المغرب . و بفتحنا لهذا النقاش نكون قد بدأنا بفتح أبواب موصدة داخل التكوين المهني السياحي ، و التـي قوبلت باللامبالاة من طرف كل الأطراف مهنية كانت أو سياسية . لذا راكم هذا المجال العديد من المشاكل التي انتقلت إلى أزمات قد تصيب الميدان كله بالشلل . و بالرغم من مجموعة من المحاولات الإنقاذية التي قام بها بعض الباحثين فإنها تظل خجولة و منعزلة و لم تحض بعد بالقبول و المساندة من قبل الدوائر الوصية .




الهوامش :



ACCORD CADRE 2001 – 2010. MARRAKECH 10/01/20011 ـ 



2 ـ انظر : دراسات في فقه اللغة : صبحي الصالح ـ ص320 ـ الطبعة العاشرة 1983م ـ دار العلم للملايين بيروت . 



3 ـ قانون السياحة بالمغرب : محمد بقالي ـ ص 4 ـ شركة بابل ـ الرباط 1997. 



4 ـ اللسانيات و اللغة العربية : عبد القادر الفاسي الفهري ـ 2/194 ـ الطبعة الأولى ـ دار توبقال للنشر 1985. 



5 ـ نفسه : 2/192.



6 ـ نقلا عن : المنهجية المتبعة لإعداد برنامج اللغة الوظيفية : ذ. رشيد ولادة ـ مديرية التكوين و التعاون ـ وزارة السياحة 2002 . 7 ـ منظور اللغة الوظيفية وفق منهجية العمل بالمرجعية المهنية : ذ رشيد ولادة ـ مداخلة في الملتقى الثاني لأساتذة اللغة العربية
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك