الحوار سبيل للدّعوة واللّقاء

محمد حسين فضل الله

إنَّ النّاس في طبيعة العلاقة فيما بينهم، يحتاجون إلى أن يتحاور بعضهم مع بعض في كلِّ الأمور؛ ففي البيت، قد يحتاجُ الأب أو الأمُّ إلى إجراء حوارٍ أو جدال مع الأولاد حول كثيرٍ من القضايا الّتي تخصُّ البيت بشكل عامّ، أو الّتي تخصُّ الأولاد في مستقبلهم، أو الأبوين في حاجاتهما من أولادهما، وقد يحتاج النّاس الّذين يعيشون في داخل عائلة كبيرة، أن يتناقشوا في الأمور الّتي تخصُّ العائلة، والّتي يكون لكلّ واحد منهم فيها وجهة نظر تختلف عن وجهة نظر الآخر، وهكذا عندما ندخل إلى المجتمع في علاقاته الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، باعتبار أنّ النَّاس يختلفون في وجهات نظرهم في الأمور الّتي تمسُّ حياتهم وعلاقاتهم مع بعضهم البعض.

فقضيّة الجدال إذاً، هي أمر طبيعيّ في حياة الإنسان، من أجل التّفاهم مع الآخر، أو من أجل تأكيد فكرته لدى الآخر، عندما يكون هناك نوع من أنواع الاختلاف في الرّأي. وقد عبَّر الله سبحانه وتعالى عن مسألة طبيعة الجدل في الإنسان في قوله: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}[1]، باعتبار أنَّ الإنسان هو المخلوق الوحيد المتحرّك في أفكاره، والمتنوّع في تجاربه، ما يجعله يخوض الجدل أو الحوار مع الآخر لتأكيد فكرته.

وقد أراد الله سبحانه وتعالى للإنسان الدّاعية، كما أراد لنبيّه(ص) ولكلّ مسلم يتحمَّل مسؤوليّة الدّعوة إلى الله سبحانه وتعالى، أن يجادل الآخرين بالّتي هي أحسن، فقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[2]، {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[3]. فنحن نعرف أننا نختلف مع أهل الكتاب في الكثير من تفاصيل العقيدة، حيث إنهم في تنوّعاتهم، قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة، وقالوا إنَّ المسيح هو ابن الله، وقالوا إنَّ المسيح هو الله.

وهكذا بالنّسبة إلى اليهود، عندما قالوا عزير ابن الله، إضافةً إلى الكثير مما يختلف فيه المسلمون مع أهل الكتاب، فأهل الكتاب يرون أنّ السيّد المسيح قتل وصلب، وأنّ الله أراد أن يفدي خطايا الناس، فتجسَّد ذلك في السيّد المسيح، وتحمَّل الآلام بجسده، وقالوا إنّ السيّد المسيح هو الله، وهو التجسيد لله سبحانه وتعالى، وهذا ما لا نقول به وما ينفيه القرآن، ومع ذلك، هناك عنصر لقاء بيننا وبين أهل الكتاب، فهم يقولون بالوحدانيّة، أي يؤمنون بالله الواحد، وإن كانوا يختلفون معنا في طبيعة الله، وهم يقولون إنّ الله تجسَّد بالسيّد المسيح، ونحن لا نقول ذلك، ويقولون أيضاً بالثّالوث مثلاً، الأب والابن والرّوح القدس، ولكنَّهم يختمون ذلك بقولهم إلهاً واحداً. ولذا، نرى أنهم يقولون في صلاتهم: باسم الأب والابن والرّوح القدس إلهاً واحداً. فإذاً، هم يؤمنون بوحدانيّة الله، وإن كانوا يختلفون معنا في خصوصيّة الصفة الإلهيّة في هذا المجال.

لهذا، أراد لنا القرآن الكريم أن نتحدَّث معهم، وأن نركِّز في حديثنا معهم على مواقع اللّقاء، وهذا ما ورد في قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}؛ كلمة تمثِّل مواقع اللّقاء بيننا وبينكم في الخطِّ العام، {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا}[4]، باعتبار أنّكم أيضاً تعبدون الله ولا تشركون به شيئاً، لأنّ القرآن الكريم لم يعتبر أهل الكتاب من اليهود والنصارى مشركين. وهذا ما عبَّر الله عنه في سورة البيّنة: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ}[5]، فقد اعتبر أهل الكتاب فريقاً والمشركين فريقاً آخر. {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ}[6]، فلا يكون الإنسان ربّاً للإنسان الآخر، وهذا ما عبَّر عنه أيضاً في هذه الآية: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، أي إلا بالطّريقة الفضلى الطيّبة التي تفتح عقولهم وقلوبهم، {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}، أمّا الظالمون من أهل الكتاب، مثل اليهود الّذين كانوا يعادون المسلمين، أو الّذين احتلّوا فلسطين، فهؤلاء ظالمون، ونتعامل معهم كما نتعامل مع الظّالمين، ونحن نعرف أنّ الظّالمين يلوِّحون بالقوّة ضدّ المظلومين، ولا يدخلون في حوار عقلانيّ موضوعيّ في هذا المجال.

{وَقُولُوا}، وهنا يبيّن طريقة الحوار معهم، {آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ}، نحن نؤمن بالّذي أنزل إلينا وهو القرآن، ونؤمن بالّذي أنزل إليكم وهو التّوراة والإنجيل، {وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ}، فنحن نؤمن بالله الواحد كما تؤمنون بالله الواحد، {وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[7]، وديننا هو دين الإسلام، ونحن نسلِّم كلّ أمورنا لله، فما يأمرنا الله به نعمله، وما ينهانا عنه نتركه، ولا نتمرَّد عليه في شيء من ذلك كلّه.

وهذه القاعدة هي القاعدة الإسلاميّة العامّة للحوار، وهي أنّنا إذا أردنا أن نحاور أيّ فريق من النّاس، سواء كان الحوار حواراً عائلياً، أو حواراً اجتماعياً، أو سياسياً، أو دينياً، فينبغي أن يكون التركيز على نقاط اللّقاء التي تجمع بيننا وبين من نحاورهم، على خلاف الطّريقة الموجودة عند الناس في دائرة التخلّف وزرع الأحقاد، فالآن، هناك الكثير من النّاس عندما يريدون أن يتحاوروا، يبدأون بالتّركيز على الخلافات المذهبيّة وغيرها. لا! فالمفروض أن نقول: نحن نؤمن بالله الواحد، وأنتم تؤمنون بالله الواحد، لأنّ أوّل أصل من أصول الدّين هو التوحيد، ونؤمن بالنبوّة، فنقول أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمَّداً رسول الله، ونؤمن أيضاً باليوم الآخر، كذلك، نؤمن بأنّ القرآن هو كتاب الله، وأنّ الكعبة قبلتنا، ونصلّي الصّلوات الخمس، وإن اختلفنا في بعض الجوانب في الصّلاة، ولكنّنا جميعاً نؤمن بالصّلاة، ونصوم شهر رمضان، ونؤمن بالزّكاة، ونؤمن بالجهاد، وبالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.

عليك أن تأتي أوّلاً بالأشياء الّتي يلتقي فيها السنّة والشّيعة، ثم بعد ذلك تقول: نحن نختلف مثلاً في مسألة الخلافة، فنحن نقول إنّ الخلافة لعليّ، وأنتم تقولون إنّ الخلافة لأبي بكر، دعونا نرجع الأمر إلى الله ورسوله، {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}[8]. لذلك، علينا أن نركِّز من الأساس على مواقع اللّقاء؛ ما هي الأشياء الّتي نلتقي فيها مع بعضنا البعض؟ وما هي الأرض المشتركة الّتي نقف عليها؟ فهذا يقرّبنا إلى بعضنا البعض، وأن نعتبر أنفسنا أنّنا فريق واحد في كثير من الأشياء، ولكن عندنا خلافات مثلما يختلف أهل السنّة بعضهم مع بعض، ألا يوجد في السنّة حنفي وشافعي وحنبلي ومالكي؟! وعند الشّيعة، هناك شيعة اثنا عشريّة، وشيعة زيديّة، وشيعة إسماعيليّة، وما إلى ذلك.

هذا لا يمنع أننا كلّنا شيعة، وأنّ أولئك كلّهم سنّة، وأن هناك أشياء يلتقي عليها هذا الفريق وذاك بين بعضهم البعض، وأنّنا نلتقي مع الفريقين نفسهما على قاعدة واحدة. أن نتعلّم التّركيز على مواقع اللّقاء أوّلاً، قبل أن نركّز على مواقع الخلاف فيما بيننا، وهذا أيضاً نحتاجه حتّى في أوضاعنا السياسيّة أو بعض الأوضاع الدينيّة. الآن، نحن نلاحظ بعض المتخلّفين عندنا مثلاً، فهذا يقلِّد المرجع الفلاني، وذاك يقلِّد مرجعاً آخر، هذا يعادي ذاك، وذاك يعادي هذا... لا، أنت مسلم وذاك مسلم، أنت شيعي وذاك شيعي، أنت تصلّي وتصوم وهو كذلك، وكون الشّخص يقلّد مرجعاً، مثل مَنْ يذهب إلى طبيب بينما يذهب البعض إلى طبيب آخر.

لكنّ العصبيّة تحكّمت بالمجتمع. ومع الأسف، حتى النّاس الذين يعلنون أنهم إسلاميون وملتزمون بالإسلام، عندهم تخلّف، وعندهم ذهنيّة مقفلة غير الذهنية المفتوحة التي أرادها الله تعالى للإنسان، فالله تعالى يقول: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}، وكم بيننا وبين أهل الكتاب من فروق؟! ومع ذلك، يدعونا القرآن الكريم إلى أن نركّز على الكلمة السّواء معهم، {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}. وهكذا في القضايا السياسيّة، عندما يختلف حزب مع حزب آخر، فالاختلاف أمرٌ طبيعيّ، ولكن علينا أن نتفاهم في ما اختلفنا فيه، بعد أن نتّفق على ما توافقنا عليه. هذا هو الّذي يبني المجتمعات، وهذا هو الّذي يقرِّب المجتمعات من بعضها البعض، وخصوصاً بين المسلمين، ونحن نلاحظ أنّنا عندما ندرس ما يتّفق عليه المسلمون السنّة والشّيعة مع بعضهم البعض، نرى أنهم يتّفقون بنسبة تقرب من ثمانين في المائة في هذا المجال.

وهذا ما نتعلّمه من أمير المؤمنين(ع). الآن، ما هو الخلاف بيننا وبين السنّة؟ أليس حول موضوع حقّ الإمام عليّ(ع) في الخلافة؟ أليس هذا الّذي نختلف فيه؟ ما رأيكم أنّ الإمام علياً الذي أُخذ حقّه، تعاون مع كلّ الخلفاء، وأعطاهم النّصح والمشورة، وأعطاهم أيضاً التّعاون في كلّ واقع المسلمين، وقال: "لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليّ خاصة"[9]، أن أظلم أنا فلا بأس، على أن لا يُظلَم المسلمون.

ولذلك، علينا أن نتعلَّم من الإمام عليّ(ع)، وهو رائد الوحدة الإسلاميّة، لأنّه أعطى المثل والنموذج الأعلى في هذا المجال، عندما لاحظ مصلحة المسلمين، أن نتعامل مع مشاكل اليوم كما تعامل المسلمون الأوَّلون مع مشاكل مماثلة، وخصوصاً طريقة تعامل الإمام(ع) مع المسلمين، وذلك في ظلّ تهديدات الروم والفرس والمجوس بعد وفاة الرّسول(ص) بالهجوم على البلاد الإسلاميّة، أن نحاول ألا نختلف مع بعضنا البعض، بل أن نلتقي على ما اتَّفقنا عليه، لأنّ الاختلاف في مثل هذه الظّروف يعني سقوط الإسلام.

وهكذا، عندما نجد أنّ المستكبرين في العالم كلّه، مثل أميركا وغير أميركا، والكفرة الآخرين أيضاً، يريدون أن يسقطوا الإسلام في عقيدته وشريعته وفي ثرواته وأوطانه، ونحن نختلف في ما بيننا؛ هذا سني يكفِّر الشيعي، وشيعي يكفّر السني، وهذا يلعن وهذا يسبّ وهذا كذا، فإنّ الأعداء سوف يضحكون علينا، ويسخرون منا، وسوف يهيّئون الأجواء حتّى يمزّقونا ويفرّقونا عن بعضنا البعض. ولا زال عندنا بعض المشايخ من مشايخ الشيعة ومشايخ السنّة، ليس عندهم عمل إلا أن يمزّقوا وحدة المسلمين. نحن دائماً نقول: ليس معنى الوحدة الإسلاميّة أنّ السني يصبح شيعيّاً، أو الشيعي يصبح سنيّاً، ولكن هناك أشياء نتّفق فيها؛ هناك القرآن، الإسلام، وعلينا أن نتوحَّد بالإسلام، وعندما نختلف في تفسير هذه الآية أو تلك، أو نختلف في حكم الصّلاة، فعلينا إرجاع الأمور إلى الله والرّسول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}، فما دمنا مسلمين، نرجع إلى كتاب الله وسنَّة نبيّه، ونقرأ القرآن، ونرى ما هي الآية التي تؤيِّد وجهة النّظر هذه، ثم نقرأ أحاديث النبيّ(ص).

هذا هو خطّ الوعي الإسلاميّ الّذي يحفظ للمسلمين مواقعهم. ونحن نعتبر أنّ كلّ من يعمل على إثارة العصبيّات المذهبيّة بين المسلمين، سواء بين السنّة والشيعة، أو بين الشيعة أنفسهم، أو بين السنّة أنفسهم، يخون الإسلام، لأنّ هذا يضعف الإسلام، ونحن في معركة عالميّة.

أميركا الآن عندما تشنُّ حرباً، تدّعي أنها ضدَّ الإرهاب، إنما هي في الواقع تشنّ حرباً ضدّ الإسلام، ولذا، فهي لا تتدخّل إلا في البلاد الإسلاميّة. هذه النقطة يجب أن نتفهَّمها، حتى نستطيع أن نحفظ واقعنا الإسلامي على المستوى الثقافي، وعلى المستويات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، لأنّ المستكبرين في حلفهم مع اليهود وغيرهم، عملوا على التّخطيط لإسقاط الإسلام.

* محاضرة


[1] (الكهف: 54).

[2] (النحل: 125).

[3] (العنكبوت: 46).

[4] (آل عمران: 64).

[5] (البيّنة: 1).

[6] (آل عمران: 64).

[7] (العنكبوت: 46).

[8] (النساء: 59).

[9] نهج البلاغة، خطب الإمام علي، ج 1، ص 125.

المصدر: http://arabic.bayynat.org/ArticlePage.aspx?id=11156

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك